الجزء الثالث عشر
أُمسِيَات البَنَادِق !,
وجود أناس كُثُر خارجين عن القانون او ثائرين على الحكومات يجعل ليالي العراق الجريح تنزف من وابل البنادق وتئِن لأصوات الجرحى المقاومين والعُزَل ., تلك الأصوات تُخبر اهل العراق انها ليست بخير فلا ينام لهم طرف وتُصبح القلوب وجله مُتَرقِبه للمصير ., قرعٌ عَجِل على باب العائلة ونظرات خاطفة لبعضهم البعض .,
" لاتفتح " ام خديجه توجه كلامها لماجد الذي همّ بالذهاب
ماجد : " لا تقلقي " وذهب الى الباب الخارجي ليرى الطارق
تأخر ماجد فلحِقه هشام واذا بعصام مع زوجته وولده وزوجة أنور وبناتها الأربع
هشام "أين أنور؟! "
لم يجيبه احد ., وجه نظره الى زوجة أنور :" مع المقاومه "
ماجد :" لا تخبروا امي"
دخل الجميع بدون أنور ., وبدون كثرة الأسئله علمت الأم وخديجه أين مقر أنور ., طالما كان هذا الشاب مقاوماً وجريئاً ولا يخاف من المُضِي في سبيل الحق ., مرت على العراق طوائف لم تُعرف اهدافها ولا رِجالاتُها وتلك من علامات الساعه كثره اللغط والهرج ويقتل الرجل لا يُعلَم مالسبب ., هناك مقاومه ضد الاحتلال ومقامه ضد الحكومه وهناك الكثير من الطوائف الأخرى التي تتناحر فيما بينها فالسنه والرافضيه على خلاف دائم والأكراد يريدون نصيباً من الحكم لتعويض ماسبق من امتهان - على حد قولهم - ., فكانت البنادق موجه للمدني من كل اتجاه فهو كبش الفداء ليتراجع الطرف الأخر الذي لن يهتم لأمر هذا المدني المسكين ., أصبح الشعب يُخفي مذهبه ويغير اسمه او اسماء ابناءه وبناته حتى لا يُضَحَى بهم باسم الفِداء لِأجل السلام والطمأنينه وكأن الإسلام فَرَقَ بيننا بالأسماء ! يالسذاجتهم ., سُحقاً على هكذا رجال !
صلوات تتلوها ابتهالات ., لِيحفظ الله تلك النفوس البريئه المُسلِمه من كل أذى ., صوت دويٍ هائل ليس بالبعيد ., صرخات الأطفال وقرع قلوب الأمهات وعيون الأباء التائِه وعلامات الاستفهام المتطايره " من أيِ مصدر ذاك ! " ., بدأت ستائر الليل تنقشِع ويظهر بصيص الصباح بعصافيره الحائره أَتُغرد لبدء يومٍ جديد ام تنعي كل حبيبٍ فقيد ., خرج ماجد ليستطلع الأمر ., "لا جديد في حَيِنّا ., لا دماء ولا أثر لشئ "
تبعه عصام :" سنسري لبيتنا إذن ., نرتاح وينام الصغار"
خرج عصام وعائلته وعائلة أنور مشياً على الأقدام فالمنازل قريبه ., فيرى الصغار أثار المداهمات والقطع المتناثره على الطرقات ., وتمتلئ الأزقه شيئاً فشيئاً بالدماء مع الاقتراب بمنزلهم .,
" أين منزلنا أبي " تتكلم الطفله الصغيره ابنة عصام
" ليس لدينا منزل من الآن " تغرورق عينا عصام
فعلاً لم يتبقى منزل مجرد بقايا لمنزلٍ كان منزل ., فمنزلهم والمنزل الذي بجانبهم وشارع منازل الجيران اصبح حطام ., الى اين تأوي تلك العائلات العراقيه ؟ اين سينام الأطفال ؟ وكيف ستنستر النساء ؟ أسئله يجب على كل من حمل السلاح ان يجيب عليها ., ما الهدف من تشتيت المسلمين إن كنتم مسلمين ! ماالتوجه الذي تسيرون عليه لِتُحَقِقُوا السلام ! السلام هو الخيمه الأم التي تحمي أبناء الوطن ويأوون إليها وينامون في كنفها ., لم يكن السلام يوماً تقليص الشعب الى طائفه واحده او مذهب واحد .,
طُرِق الباب من جديد مع اختلاف نغمة الطرق فالأولى كانت على عجل اما الاخرى فبتثاقل عَلّ الزمن يتثاقل مع الطرقات .,
" اهلاً " هشام
" سننام عندكم " عصام
هكذا حال الحروب تَجمَع العائله كلها في منزل واحد ., فيتلاحم الجميع ., وتتكدس الفتيات في غرفه واحده ., والصبيه يلعبون بكره واحده ., ليتنا نكون سوية في السراء والضراء ., ليتنا نحمل هم رجل واحد ., ليت أبناءَنا بقلوب مجتمعه ., لكن بدون حرب., بدون ضحايا .,
من جهة اخرى بعيده عن الحرب لكن قلوب اهلها مع من بالحرب ., وصل عبدالعزيز من رحلته مُحَمَلاً بالهدايا للصغيرات ., فقد جلب لهن حقائب للمدرسه بألوان زاهيه ., اخذت ريانه من يد عمها الحقيبه ذات الزهرات الحمراء ., أما سهى فأخذت الحقيبه ذات الأشجار الخضراء .,
"ليتك احضرت لي حقيبه ذات أزهار بدل حقيبه الصبيه هذه " سهى بامتعاض
"سهى قولي شكراً لِأبيك " سحر تزجرها
"شكراً" خرجت من فمها فقط
ريانه :" خذي الحقيبه فجميعها تعجبني "
عبدالعزيز :" لا ريانه دعيها انا من يقرر وانا من يختار ., وعليها ان تشكر الله لا ان تتذمر "
خرجت سهى الى غرفتها وقد تركت حقيبتها أرضاً
سلمى تتحدث لِأبيها " أبي لقد احرجتها "
عبدالعزيز :" لم اضربها حتى تنحرج مع انها أساءت الأدب "
جلس الجميع على وجبة العشاء الا سهى ., انتهت ريانه من عشاءها سريعاً وصعدت الى اعلى ., ذهبت الى سهى : "خذي حقيبتي فأنا اعجبتني ذات الأشجار اكثر من هذه"
سهى :" لا اريدها ., لدي الكثير"
ريانه :" لا عليك خذيها فحقيبه طعامي لونها اخضر ستتماشى مع حقيبتك"
اخذت سهى الحقيبه الحمراء ووضعت كتبها بداخلها دون تردد ., ثم التفتت الى ريانه وابتسمت
في الصباح بينما كان السائق يُقل الفتيات مع سحر الى مدارسهن ., انتبهت سحر الى الحقائب المتبادله ., وايقنت مدى تلقي ريانه تربيه صالحه من منهل خَيِر ., وضعت يدها على على يد ريانه التي تجلس بجانبها ونبست : " اتمنى لكِ السعاده"
عند منتصف النهاء ., مكالمه عاجله الى مدرسه سحر أدت الى استئذان سحر وذهابها بصحبه اخيها الى المشفى ., هرولت عبر ممرات المشفى البيضاء خلال اسوداد ماهو آتي لها ., فتحت باب الغرفه التي كانت مليئة بالأجهزه رغم كِبَرِها .,الأنابيب والمضخات تأن بصوتها المزعج مع دقات القلب ., والمِلائات البيضاء مركونه على جانب الغرفه تحسباً لأمر ما ., هناك سرير شاغر لا يوجد به احد مُرَتب بانتظار قادم ., والسرير الاخر في نهاية الغرفه يقطن به حبيب الروح بل حبيب الكل ., العم عبدالعزيز ., كان برفقته صديق له هو من اوصله للمشفى ., " ماذا حدث؟" اخو سحر
الصديق :" لا شي فقط سقط من على الكرسي اثناء تجاذبنا اطراف الحديث "
سحر:" وماذا اخبروك الأطباء ؟!"
الصديق :" جلطه دماغيه ., اعتذر سأنصرف الان واعوده بوقت لاحق "
امسكت سحر يد عبدالعزيز فشاركت الحقن والمضخات ملامسة جسده ., تنهار الدموع تِبَاعاً على خديها الى يديه ., " لا حول ولا قوة الا بالله " كلمات التصبر سكنت في جوفها ., رأت كل حدث جميل بينهما امام عينيها ., والتفتت الى هذا الرجل الصالح بلحيته القصيره السوداء تتخللها شعيرات بيضاء ., ذاك المُحيا السمح ماباله يركن بلاحراك على اجهزة لا حول لها ., كيف يعقل ان جسدا يهز الارض بمشيته يخلد في الفراش ., تلك مشيئة الرحيم وهذا هو القدر المحتوم ., تحسست صدره وتذكرت بناتها الثلاث كيف سيرون ابيهم ممداً بلاحراك !
دخل ابو سليمان وام سليمان بصحبة أسامه الى الغرفه ., كانت الغرفه رطبه من أنفاس سحر ودموعها .,
هرعت ام سليمان الى ابنها ووقف اسامه على طرف سرير عبدالعزيز ., الا الجد فلم يصارع دموعه بل تركها تتوالى واخذ يمسحها بطرف شماغه ., يااه ويل قلبي عند بكاء كبار السن ., فعندما يبكي الشاب يُظهرقوة مابداخله لكن عندما يبكي الشيوخ ترى مدى ضعفهم ووهنهم امام الظروف ., يُفكر ابو سليمان ليتني انا الرجل الهرم بدلاً عنه فلديه فتيات بحاجته اما انا فقد كبرت ., ثم يستدرك تلك رغبة الله فاللهم لا اعتراض على حكمك أمنت بالله ., عندما يعجز الوالد عن تقديم المساعده الى ابنه ذاك يدعى العجز الأعظم فلا عجز يضاهيه ولا قهر يوازيه .,
"خيراً ان شاء الله ., لنتفائل بالخير" اسامه يحاول جبر الخواطر
لم يُعِره احداً كان انتباهاً فكلٌ له تقديره للأمور
دخل الطبيب الى الغرفه واراد اطلاعهم على الأمر :" ياجماعه لنتوكل على الله ., فعبدالعزيز يشعر بكم الان فلا تزيدوا حالته سوءاً ., ادعوا له بالشفاء القريب ., فهو بحاجة ايديكم وليس دموعكم "
" مالخبر!؟" تلعثم الجد مئة مره قبل قولها وبلع ريقه الف مره خلال قولها ومازال ممسكاً طرف شماغه بيده
الدكتور:" اصيب بجلطه دماغيه ., وليس هناك سبب واضح ., فهي تصيب من تلقى خبراً محزناً او الانسان العادي الذي يسير بالشارع ., وسيكون على الأجهزه حتى مشيئة الله"
تلك الكلمات كانت كالسهم الواحد المصوب على اربعة قلوب ., ردت سحر :" أي مُخَلَد!"
الدكتور:" يؤسِفُني ذلك ., لكن نعم مخلد "
الساعه الواحدة ظهراً ., خرجت الفتيات من المدرسه الى السياره فلم يجدنها .,
" سلمى من هنا " اسامه يلوح لهم
اسرعت الفتيات اليه ., " اين السائق " ., "لم انت من يقلنا " ., "اين امي "
اسامه :" عبدالعزيز تَعِبَ قليلاً وساصحبكن اليه "
" ابي " ., " ماذا!" ., "اين هو" ., "عمي !"
دخلت الفتيات سريعاً الى بوابة المستشفى ., ودخلوا على ابيهن ليروه بحاله كئيبه جداً ., التففن عليه هن الأربعه وبدأ البكاء خفيفاً الى ان اصبح عالياً ., امسكتهن سحر:" انه يسمعنا فلا داعي لازعاجه"
سهى :" أيسمعنا فعلا ! ., أبي اعتذرعن ماقلته لك ., لم اقصد والله ., لقد كان اختيارك جميل ., سامحني ارجوك " كانت تعتقد سلمى انها السبب في ذلك فبكت بكاءاً يأن ولم تقوى رجلاها على الوقوف فجلست تحت السرير ممسكه برداءه الابيض ., اما ريانه فلم تُزِل حقيبتها الخضراء من على كتيفيها ., مسحت جبينه برفق وتكلمت بصمت" اعلم انني اثقلت عليك ., لكني سأصلي كل ليله كي يرجع عمي الى اسرته" ., كانت كل فتاه تتذكر بماذا اغضبته وتُلقي بالوم على نفسها .,
كانت الاحوال داخل الغرفه من وقع الخبر تراجيديه ., وكذلك الحال في الطرف الأخر عند اهل العراق الجريح ., اختلفت الأقدار والألم واحد ., اختلفت البِقاع والأنين واحد .,
يا خالق يا ربّ أدم شمس الأمان ولا تدعها تموت ., وسنعيش حُباً و شغفاً حتى تسمرّ جباهنا ., اكشف عنا ليالي الوحشه والغربه واللاملاذ الى مكان دافئ لِنُذيب جليد قلوبنا الحائره .,
آمين