كاتب الموضوع :
سندس7
المنتدى :
القصص المكتمله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أو صوت آلة الكابتشينو وهي تستعد لأن تقذف حممها في قاع كوب من الورق المقوى.
كنت قد سألت النادل عن مكان أغسل فيه يدي على الأقل، فأجابني بأنه هناك مغسلا في الطرف القصي من المقهى، فتحسن مظهري قليلا ، ثم عدت إلى حيث كانت تجلس، ومع أنني كنت من أشد المعارضين لأن يلتقي شاب وفتاة ليجلسا متقابلين ويتبادلان الكلمات الهادئة والابتسامات ، لأني كنت أعتقد بأن بها قدر كبير من التصنع والانحدار برقي الحديث حتى يصل إلى أن يحكي أحدهم كيف عضه الكلب عندما كان في الصف الثالث، وهي تجلس أمامه مبتسمة دون أن تستوعب ما يقوله. وبالرغم من هذا الاعتقاد لدي، إلا أنها وككل مرة كانت تحطم مبادئي وثوابتي التي أعتبرها أساسية للعيش في هذه الدنيا، وتربك أفكاري ونظرياتي فأعيش حياة عشوائية أخشى أن تودي بي في النهاية.
كانت كذلك منذ أول لقاء معها بعد أشهر من انتقالها إلى منزل الساحرة ، وكنت حزينا وقتها لأنها لم تنتقل للدراسة في مدرستنا، وكان هذا طبيعيا فمدرستنا المتهالكة التي تفتقر معظم فصولها للأبواب، أو حتى النوافذ، وقد نقشت جميع حيطانها بالذكريات ، كانت باختصار كأحد مباني ستالينغراد بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن تناسب أبدا ابنة الحسب والنسب، فكان لها حافلة خاصة تنقلها يوميا إلى مدرسة بعيدة ذات سمعة محترمة، وهكذا ، كان قد تعذر عليَ أن أقترب منها في ذلك الوقت.
كنت عائدا من المدرسة منهكا، وألقيت بنفسي على الفراش حتى دون أن أبدل ملابسي، عندما سمعت دقات على الباب فنادتني أمي وهي تطلب مني أن أفتح الباب ولكنني تكاسلت وتجاهلت النداء فسمعت أمي تتجه نحو الباب وهي تتمتم بكلمات غاضبة، ثم سمعتها تتحدث مع أحدهم ثم تعاود لتنادي علي بصوت وبإلحاح هذه المرة، فتحاملت على نفسي واتجهت نحو الباب وأنا أقول لأمي ، بأن تتركني لشأني، لأنني مجهد وفجأة انزاحت أمي عن فرجة الباب لتظهر من خلفها قمر مرتبكة وكأنها تحس بأنها ورطت نفسها في موقف لم تتوقعه،استمعت لشرح أمي بأن الحافلة قد أنزلت قمر اليوم أمام البيت ولكنها لم تجد أحدا فيه وأنها لم تستطع فتح الباب،خانتني الكلمات فهززت رأسي موافقا وتبعتها، عندها تخليت عن أحد أهم مبادئي في الحياة، تخليت عن سطوة العقل والتفكير لأبرز قوتي الجسدية وكانت النتيجة مريعة، بقيت دقائق وأنا أدفع إلى الأمام وهي تراقبني باستغراب وفشلت، حتى جاء ابن أخيها الصغير من مدرسته ، نظر نحوي وأنا أضاعف جهدي بالدفع، ثم طلب مني أن أتنحى ثم جذب المقبض الرئيسي ومقبض آخر صغير لم ألحظه و جذب الباب إلى الخلف فانفتح الباب ، وقفت عندها مشدوها، لم أنبس ببنت شفة، ثم نظرت نحوها، كانت على شفتيها ابتسامة خفية خشت أن ألحظها فقالت وهي تحاول أن يبدوا كلامها طبيعيا ( يبدو أن ابن أخي أذكى مما كنت أتوقع) كانت تقول هذا للتخفيف عني ، لم يحتج الأمر إلى ذكاء، بل أنا الذي كنت أغبى مما توقعت، وانتهى الموقف بأن شكرتني على هذه المساعدة العظيمة التي قدمتها ، ربما لأني جعلتها تبتسم أكثر مما حاولت فتح الباب. ربما وهي جالسة وحدها كانت تتذكر هذا الموقف، جذبت الكرسي وجلست أمامها ونظرت إليها مباشرة ، هربت بنظرها وراحت تنظر إلى كوب الكاباتشينو وقد أمسكته بيدها وراحت تحركه في حركة دائرية، ثم سألتني ( هل مازلت تسكن في نفس الحي؟) فقلت لها ( طبعا، لسنا ممن يهوون التنقل)، كنت مازلت أتابع لعبة الكلمات الخفية وقد لاحظت آثار إجابتي على ملامحها للحظات قبل أن تسأل ((هل مازال الحي كما هو؟)) فقلت لها وأنا أعاني من سؤالها ( لم يتغير شيء سوى منزلكم)، فسألت ( ما به؟)، قلت لها( لقد استعاد لقبه القديم منزل الساحرة)، كنت أنا من ذكر لها هذه القصة فساد الصمت بعدها لحظات، فعدت أسترجع فيها ذكرياتي.
بعد تلك الحادثة بأيام ، جاء دوري لأتخلى عن مبدأٍ ثان من مبادئي، وهو أن ابتعد عن الجنس اللطيف لأنه غالبا ما يسبب المشاكل للرجل، ربما كان هذا الحكم قاسيا ، ولكنه كان نابعا من مشاهداتي، كنت أرى رجالا كانوا كبارا في نظري ثم حطمهم الحب فحولهم إلى مجرد ماكينة لا تعرف سوى أن تمجد من تحب، كنت أراهم متعلقون بأشياء كنت أراها سخيفة ، لمجرد أنه لمسها من أحبوه، أو قال لهم بأنها تعجبه، وكنت أراهم يقعون بالمشاكل حتى أن أحد أصدقائي رأيته يضرب أمام عيني وأمام كل الناس وتهان كرامته دون أن يستطيع أن يرد، وعندما سألته عن ذلك قال بأنه لا يرضى أن يرد عليهم لأنهم إخوتها، وهو لن يؤذي شيئا له صلة بها، ولكن مع ذلك فقد أغراني أحد أصدقائي بأن اذهب معه إلى مدرستها، وأن أحدثها، لأنه قال لي وهو الخبير بأنهن يكن أكثر استجابة بعيدا عن عيون الأهل، وجدت نفسي أصدقه ، وصلنا بعد ساعة من المشي إلى المدرسة، كنت أمني نفسي فيها بكل شيء، إلا أننا عندما اقتربنا من بوابة المدرسة ظهرت فجأة سيارة شرطة تتجه نحونا مباشرة، وجدت نفسي أركض وأركض وأن أسمع أصوات تأمرني بالتوقف، لم أعد أذكر كم من الوقت ركضت، ولكني لازلت أذكر أنها من المرات القليلة التي تكون فيها واجهة منزلنا الكئيبة مصدر سرور وراحة عندما لاحت لي من بعيد.
قلت لها متسائلا( هل مازلتم تملكون ذلك البيت؟) ، هزت رأسها بالنفي وقالت( لقد باعه أخي بعد فترة من رحيلنا)،
عدت لأسأل سؤالي الأول ( أين رحلتم؟)، كان يدفعني الفضول لأن أعرف كم كانت بعيدة عني، فذكرت لي اسم مدينة بعيدة جدا ربما تحتاج إلى طائرة للوصول إليها، وأنا الذي أبحث في هذه المدينة، أملا في أن تكون قد انتقلت إليها ولكن ها هي الصدفة تجمعنا من جديد، كان هذا دأبنا في كل مرة أسعى نحوها ابحث عنها،وفي النهاية تكون الصدفة هي من تجمعنا ، وكذلك حدث في أول مرة ألتقي بها، بغض النظر عن قصة البوابة المفجعة، كان ذلك قبل شهر من رحيلها، وكان الحدث هو المسابقة السنوية بين مدارس الثانوية في المنطقة، والتي تسعى جميع المدارس فيها إلى التنافس للحصول على لقبها، وكان من الغريب جدا أن مدرستنا المتشردة كما كانوا يطلقون عليها ، كان لها الكسب الأعلى في هذه المسابقة، وكان الترتيب الأول حكرا لها منذ سنين، وهو أمر عرفت بعد سنين أخرى بأنه حير خبراء التعليم ، وأنهم فسروه بعد فترة بأنه ربما كان المستوى الاجتماعي المتدني لأغلب الطلاب كان دافعا لإثبات النفس، لكني اعتقد بأنه لم يكن هذا السبب الوحيد، ولكن بسبب الحرية التي كانت تتمتع بها المدرسة، والتي ساعدت في تحرير عقولنا حتى ولو كانت حرية فجة، لم نكن نسير كالآلات كباقي المدارس، وكان بإمكاننا التعبير عن اعتراضنا وقت نشاء، وكان من الطبيعي أن أقود أنا فريق مدرستنا بسبب عقيدتي الفكرية،
وكانت المراسم الأخرى التي نسمع عنها في المدارس الأخرى هي التشجيعات والوعد بالجوائز الضخمة، والاستعدادات، بينما كانت مراسمنا مختلفة جدا، كان المدير يدخل إلى الفصول قبل يوم من المسابقة، وهو يمسك عصاه ويلوح بها ويختار من نصحه المعلمون باختيارهم، وذلك بأن يضرب على ظهره ثم يجتمع بنا ويهددنا بأننا إن لم نفز ككل مرة، فإنه سينتظرنا مصير أسود.
في تلك السنة تعطلت سيارة مديرنا في منتصف الطريق وكان علينا أن نكمل مشيا إلى مكان المسابقة... يتبع
أن نكمل مشيا إلى مكان المسابقة، بينما كانت المدارس قد خصصت حافلة خاصة لطلبتها، كانت مفاجأتي كبيرة عندما وجدت قمر في فريق مدرستها، مما زاد إصراري لان أنفي أمامها صفة الغباء التي ظهرت بها في أول مرة، وهمس صديقي في أذني ذلك الذي رافقني عندما ذهبت إلى مدرستها بأنهم يسمونها في مدرستها بالأنيقة لشدة اهتمامها بملابسها وشكلها، وبدأت المسابقة، وكالمعتاد استلمت مدرستنا المبادرة وكنت أنا في أوج تألقي دون أن أفوت ملاحظة أنها لم تجب على أي سؤال، عاد صديقي ليهمس في أذني بأنها ليست بذلك الذكاء الكبير، ولكن إدارة المدرسة أصرت على ضمها للفريق تملقا لأخيها الذي كان يحب أخته الصغيرة حبا كبيرا، انتهت المسابقة التي سحقنا فيها كل منافسينا ووصل أخيرا مديرنا واستلم الكأس بشاربه الكث ولحيته التي نسي أن يحلقها في ذلك اليوم المهم، ومعطفه الذي صار علامة مميزة له، وسط حسد المدراء الآخرين.
في ذلك اليوم التقينا، لم أعد أذكر إن كانت المبادرة أم أنا، ولكن لابد أن كلا منا كانت له أسبابه لكي يلتقي بالآخر، تحدثنا طويل، حكت لي عن عائلتها، كيف أنها تعيش مع أخيها الوحيد بعد وفاة والديها وكيف أن منزل الساحرة ما هو إلا إرث للعائلة وقرر أخوها العيش فيه لإدارة أعماله في المدينة،اندهشت لمعرفتي بتفاصيل المنزل، حكيت لها عن قصة الساحرة وعن عائلتي المكونة من ستة إخوة، تعمدت أن أصف تواضع حالتي المادية رغم أنها لم تكن خافية عليها، كنا نبني معا صرحا هشا من الصداقة بانتظار أن ينهار تحت وطأة دقات القلوب، كانت قريبة جدا مني دون أن أفقد طعم الاستحالة التي أصر صديقي على تذكيري بها عند رجوعنا من المسابقة، ومع ذلك ففي ذلك اليوم، كنت قد خرقت مبدأ ثالثا من مبادئي وهو أنني يجب ألا أتعلق بشيء، فالتعلق بالشيء هو بداية لخسارته، وفعلا بدت ملامح تلك الخسارة تظهر مع تماسك صرح الصداقة، ربما التقينا بعد ذلك اللقاء مرتين أو ثلاثة، تحدثنا فيها عن طموحنا وأحلامنا، عرفت من شخصيتها الكثير، كانت واحدة من النساء القلائل اللائي ينطبق عليهن وصف امرأة تحترق من الداخل، كانت تفتقر إلى الحسد، الغيرة، حب التفاخر، الانجراف، أو حتى العاطفة المتهورة، هذه الصفات التي يجب أن يكون في المرأة عدد منها، إن لم يكن كلها، كان حزنها ألمها خيباتها تعتمل في دواخل نفسها دون أن تظهر على محياها اللهم إلا تلك النظرة الحائرة من عينيها، أخذت تفكيري كله لدرجة أنني ظننت أنه من حقها أن تعرف ما بي، وأخيرا جاءت النهاية بكلمات ألقتها عليَ أمي بأن قالت لي (إن هذه الفتاة هي بنت عز ) وطلبي مني أن أبتعد عنها حتى لا أسبب المشاكل للعائلة، عندها ارتفع أمامي ذلك الحاجز الهائل ، لم أفهم ماهيته آنذاك، ولكن فيما بعد فهمت بأنه يعرف باختلاف المستوى الاجتماعي الطبقي وعرفت أيضا أن نصيحة أمي كانت في مكانها، صحيح أنها لم تدرس علم الاجتماع ولكنها بالتأكيد درست الحياة.
12:00
لم يعد هناك المزيد ليقال، عرفت عندها أن وقت الرحيل قد حان، وأحست هي بذلك أيضا فأخبرتني بأنها تأخرت وأن عليها الذهاب، كان شبح الفراق يخيم من جديد، وعادت ذاكرتي إلى ذلك اليوم، كان مشهد النهاية تماما كمشهد البداية، أخرج من بيتي فأجد عمالا كثر ينقلون أثاث المنزل ويأخذون كل شيء، وقفت مشدوها أراقبهم ، لم أصدق نفسي، وحاولت طمأنة نفسي بأن هؤلاء الأثرياء يحبون تجديد أثاثهم ، ولكن رصاصة الرحمة كانت حديث أمي مع جارتها والتي كانت تخبرها بأن هؤلاء الجيران الأثرياء الغريبي الأطوار سيرحلون مجددا، وفي المساء رأيت قمر وهي تصعد إلى السيارة ، لا أدري لماذا أحسست حينها بأنها أجمل من أي وقت مضى، وبحسرة كبيرة وقفت أشاهد السيارة وهي تنطلق مبتعدة لا تلوي على شيء، كان من المفترض أن تكون هذه نهاية القصة وانه بمرور الزمن سأخرج من فترة المراهقة وأنس كل شيء، وهذا ما حدث ، ولكن طوال السنين الخمسة ، كانت تعود ذكراها بشكل مفاجئ، اعترف بأن معظم ملامحها قد تلاشت من ذاكرتي ولكنني كنت أشعر بالنشوة في قلبي لمجرد تذكر اسمها، أو بعض الأحداث التي جمعتنا سويا، وأتوه أحيانا وأنا أفكر واضعا افتراضات كثيرة كأنها مشاريع أمنيات، ماذا لو كنت غنيا، أو ماذا لو كانت فقيرة، هذه الافتراضات التي أدت بي في النهاية وبشكل عكسي إلى كره المال بدلا من السعي وراءه للتعويض عن عقدة النقص.
12:10
كنا قد اقتربنا من المكان الذي التقينا فيه...... يتبع
|