9- لن أغفر لك أبدآ
كان الجميع في الأمسية التي سبقت أمسية الحفلة جالسين
يرتشفون القهوة . الطالبان بيتر ولانس يتبادلان الحديث بعيدآ عن
بيري والعمة غلوريا , المستغرقين في حديث طويل وشانا تجلس
باسترخاء في الكرسي الهزًاز غارقة في أفكارها .
وكانت منذ أن لمست من بيري شفقته قد لاذت الى تحفظ
بارد أشبه بعباءة تحميها من الألم ترتديها كلما وجدت نفسها مع
بيري وحيدين ... وكان بيري من جهته قد لاذ إلى كبريائه وراح
يعاملها بفتور وما هي إلا ساعات على عودتها من المستشفى حتى
أصبحا لا يتبادلان الحديث إل في الحالات الضرورية . وقد حارت
العمة في أمرهما فاستجوبت شانا التي لم تتردد في قول الحقيقة .
- بيري يشفق علي وأنا أرفض منه الشفقة . أذا بقيت باردة
متحفظة معه فسيعرف سريعآ انني لا أتوسل لأحظى ببعض لطفه أو
عطفه . وبما أنه يشفق علي فقد اتخذت قرارآ بأن أعامله ببرود أثناء
إقامتي في مزرعته . أنا آسفة عمتي الا أن لي كرامتي فافهمي رجاء ,
فمن الصعب على فتاة كانت تملك حب رجل وحياته أن تصبح
موضع شفقته .
غضبت العمة عندما سمعت كلماتها هذه فخرجت عن طورها :
- الشفقة ! أوه لا يا عزيزتي ! أنا على يقين من وقوعك في خطأ
-122-
فادح .
وقتذاك أوشكت العمة على الإجهاش بالبكاء فتأسفت شانا
لأنها لم تقل لها ما قالته لباقة . ولكن الاوان فات للتراجع .
- لقد كان لطيفآ معي إلى درجة الرقة , كما لاحظت بل إنه لم
يعاتبني على ما فعلته وقد لاحظت شفقته عدة مرات فيما بعد
خاصة في تعابير وجهه .. وأعرف أنني على حق عمتي فلا
تجادليني .
تنهدت العمة بعمق , ثم قالت وكأنها تحدث نفسها :
- حسنآ .. لم آخذ هذا الامر في حسباني .
ولكن شانا لم تتأكد من كلامها . أما العمة فقطعت كلامها
بحدة وكأنما خافت أن تفهم ابنة اخيها ما يجول في خلدها ثم
تابعت :
- لم أرَ ما يشبه الشفقة في تصرفاته عزيزتي شانا إنما لماذا
تتصورين الأمر على هذه الصورة ؟ انه متعاطف معك ليس إلا .
- هل عليً برأيك أن أستأنس بشفقته ؟
لم تفهم عمتها معنى ان تتلقى الشفقة عوضآ عن الحب الضائع
الى الأبد . كذلك , ربما كان لها عذر في ما تقول وها هي الآن
تتحدث الى بيري , وتنظر الى شانا بين حين وآخر .. وكأن
تأكيدات ابنة اخيها لها تدور في رأسها غير أن هذه النظرات
تغيظها .. فوقفت ووجهت نظرتها الى المجموعة كلها قائلة:
- أخالني سأخلد إلى فراشي فهلا عذرتموني ؟
نظر اليها بيري عندما وقفت :
- أمتعبة أنت ؟
وشملت نظراته ذراعيها المتورمتين من جراء حروق الشمس
التي لا ترحم , فهزت شانا رأسها :
-123-
- اجل بيري .. أحس بالتعب فعلآ .
وخالته يعبس ولكن مهما كانت مشاعره , فالعطف يغلب عليه .
فليحتفظ بعطفه لنفسه . ارتفع رأسها , ونظرت مباشرة الى عينيه,
وفمها متوتر بتعجرف , فضاقت عيناه فيما أطبقت يده المستلقية
على الكرسي بشدة .
- إلى الفراش إذن . أرجو أن تشعري بأنك أفضل حالآ في
الصباح .
ثم التفت الى عمتها ليقول شيئآ . فعلمت شانا أنه يتصرف
بتكبر ولكنها السبب فلِمَ ترتجف شفتاها وتجتاحها موجة من
الاشفاق على النفس ؟
تركتهم دون أن تتوجه إلى فراشها , بل تسللت الى الحديقة
بهدوء تريد أن تنفرد بنفسها بعيدآ عن الناظرين في الشرفة .. نادتها
دالية ظليلة إليها , فجلست على مقعد حجري تناهى إليها الأصوات
من بعيد .. أصوات بعض عمال بيري الجالسين خارج منازلهم ..
أحست بعدو مسرع أعقبه ركض على قدميها ربما صاحبه سنجاب
صغير يجري ليؤمن طعامه .. جلست جامدة تنظر حولها , تأمل أن
تشاهد عينيه السوداوين الامعتين ولكنه كان قد اختفى دون ان
يترك أثرآ . اتكأت الى الوراء تحدق الى غصون الأشجار وأوراقها
فشاهدت كوكب الجنوب فوق رأسها يلمع وكأنه مزاييك متلألئ
في كبد السماء المخملية القاتمة ذات اللون الاحمر الشديد
الاسوداد .. ثم لم تلبث أن سمعت صوتآ آخر ... لا بل وقع أقدام
واثقة ظلت تقترب وتقترب فارتدت إلى الوراء رغم علمها أنها لم
تكن بعيدة عن الرؤية .
- ألم تقولي إنك ذاهبة الى النوم , بينما كل ما تريدينه بعض
العزلة ثانية .
-124-
وكان في صوته الحاد النبرات اتهامآ , فاستوت على مقعدها ,
وقد انزعجت منه لأنه راقبها عندما قصدت الحديقة . كان يقف
تحت الدالية طويلآ مستقيم القامة يضع احدى يديه في جيب
سرواله , والأخرى يسندها الى دعامة الدالية . كان حدود الجبل
القابع وحيدآ يبدو واضحآ خلفه , أما القمم فتاهت في بساط قطني
أبيض منخفض ..
أجل وجدت هذه الحديقة مؤنسة منعش هواؤها . فلم يطب
لي الإيواء إلى فراشي باكرآ .
- وهل اكتشفت هذا بعد ان تركتنا ؟
ابتلعت ريقها بصعوبة , لتريح الالم الذي أحست به يطبق على
حنجرتها .
- أجل .. أعتقد أنني أدركت هذا بعد تركي لكم .
تجهم وجهه .. وتقدم خطوتان غير أنه لم يحاول احتلال
المكان المجاور لها على المقعد . ثم قال بنبرة حادة قاطعة :
- وكأنك بت متيمة بصحبة نفسك أكثر من العادة .
- قد يجد المرء في كثير من الأحيان البهجة في الخلوة .
- وفيما تفكرين حين تكونين وحيدة هكذا ؟
لاحظت أن البرودة التي ما زالت صوته قد بدأت بالتلاشي ,
وهذا ما لا تريده ذلك أنها تعني العودة الى وضع تتمنى تجنبه ..
وضع تكون فيه عرضة لشفقته .. ولكن الغريب أنها في الوقت ذاته
كانت تتوق الى رقته ولطفه وابتسامته .
صمتت تحاول التملص من الحقيقة إلا أنها لاحظت أن بيري
فقد صبره أثناء هذا الصمت .
- أفكر في أشياء كثيرة , إنما أحاول بشكل رئيسي ..إراحة
تفكيري .. والمرء يستطيع إيجاد الراحة حيث الهدوء والسكينة ,
-125-
والقرب من الطبيعة .
- لقد اصبحت متعلقة بهذا المكان , أليس كذلك شانا ؟
رغم انبثاق الكلمات من شفتيه بنعومة وهمس إلا أنها رأت
إنذارآ ما مما مسَ كرامتها وجعل قسماتها تتغير . اعترفت بقدر ما
استطاعت من صراحة :
- يعجبني .. إنها بلاد مخيفة , غير أن لها جمالآ وجاذبية
فريدين .
كانت مهذبة عفوية الكلام , ليس في كلامها ذرة حماس أو
مواربة كذلك .
رفعت رأسها الى السماء , فنسيت وجود بيري لحظات .. في
تلك اللحظة انسلَ القمر من بين الغيوم البيضاء التي تحيط بقمم
الجبل , فأضاف نوره الفضي أنوارآ الى انوار النجوم .. كانت مجرة
درب التبانة تبتعد مسافرة الى ما لا نهاية , مع مجموعة لا تنتهي
من اللآلئ اللامعة في كبد السماء . وكانت الاراضي الممتدة
هاجعة تحت هذه الأنوار .. والصوت الوحيد الذي كان يتحرك في
الهواء هو همس اشجار الصنوبر قرب السفوح البعيدة .
تقدم بيري فوقف على مقربة منها . عندما التفتت إلى وجهه
راحت شفتاه تتحركان بطريقة غريبة . ولكن ما من صوت كان
يتناهى الى أذنيها . أحست بتوتر , كانت قد عرفت مثيله منذ قدومها
إلى هذه البلاد إلا أن هذا التوتر في هذه اللحظات كان أقوى
وأشد .. ولا بد انه احس بهذا .. فتوقف .. وتكلم .. يسألها :
- رغم ميلك الشديد للعزلة .. أتمانعين إن جلست معك ؟
اهو رجاء ؟ ما هذه الكلمات الغريبة ! لا .. هذا مستحيل كيف
خطرت لها هذه الفكرة ؟
- إنها داليتك .
-126-
قالت هذه الكلمات برقة تدفعها قوة غريبة من الود لم تستطع
كبحها للتخفيف من توتر كرامتها . إنه ضعفها هو الذي يجعلها
تتوق إلى هدنة قصيرة .. قبل ان يلجأ كل منهما , في ضوء النهار,
الى الرسميات .
- طبعآ يمكنك الجلوس .
- شكرآ لك .
احتل الفراغ الملاصق لها , وأخذ يحدق بكآبة إلى الجبال وقد
ران الصمت عليه وعلى شانا أيضآ بشكل طبيعي . غير أن صمتهما
هذا ركز التوتر أكثر , حتى أصبح حيآ نشيطآ جاعلآ كل منهما يتمنى
لو يحطم الآخر هذا الصمت الذي لم يقطعه سوى صراخ ابن آوى
المرعب الآتي من البعيد . تحركت شانا لا إراديآ قليلآ نحو رفيقها ,
وقد ارتجفت .. وقالت هامسة :
- كائن ما سيقتل قريبآ هناك .
وصمت الدغل صمتآ لا رحمة فيه بل قسوة كبيرة .
- إنه قانون الغلبة للأقوى . سيقتل كائن ما ليبقى الاخر حيآ .
أكان يفكر في أعداد القطعان الكبيرة التي يطلقها في هذه
الأقفار ؟ ولكن تربية المواشي لسوقها الى الذبح عمل قائم على قدم
وساق , دون التفكير في أن هذه الحيوانات المسكينة لا تستطيع
فعل شيئ إزاء مصيرها .. نطقت بأفكارها , دون قصد , فأمعن فيها
بيري النظر ثم قال :
- إنها الضرورة مرة أخرى شانا .. غير أن حيواناتنا تبقى
مطمئنة هنا حتى نرسلها الى قطارات شحن المواشي . وعملنا هذا
لا يشبه أبدآ المزارع الصناعية التي تربي المواشي داخل جدران
مغلقة .
ابتسمت تهز رأسها :
-127-
- أعرف هذا .. كانت فكرة ليس إلا فأنا اكره مجرد التفكير في
أن كائنآ ما سيقتل .
- .. اذكر هذا ..
وصمت .. إلا أنها سرعان ما عرفت إلى أين ارتدت ذاكرته
فقالت له :
- إنما حالة كلبتي تحسنت .
فالتفت اليها بحدة يسأل :
- ألم تستدع الحاجة إلى أن يقتلها البيطري ؟
هزت رأسها :
- أجرى لها البيطري عملية جراحية قامت على أثرها سليمة
قوية وقد عاشت بعد ذلك ثلاث سنوات أخرى حتى ماتت بسلام
وهي نائمة أما سبب موتها فالهرم .
- حسنآ ! أذرفت تلك الدموع كلها على لا شيء ؟
ضحكت بنعومة :
- لقد مررت بعذاب من أجلها !
أذكر هذا . كان ذلك قبل ثلاث أيام من ...
صمت فجأة إلا ان شيئآ أبعد من سيطرتها جعلها تنهي جملته :
- .. قبل أن نودع بعضآ بعضآ . أجل بيري .. اذكر هذا جيدآ ..
بكيت وبكيت حتى بدأت تفقد صبرك معي ..
- لا شانا .. لم أفقد صبري معك ! ولكنني قلقت عليك من
المرض ..
صمت ثانية إنما فجأة كما فعل في المرة الأولى . فقد
تحرك شيء ما في حنجرته . فتمنت شانا لو أن الحديث لم يأخذ
هذا المجرى .. المؤلم ذلك أن التأثير بدأ جليآ عليه كما هو جلي
عليها فقالت :
-128-
-فنغير الموضوع بيري .
- لقد وعدتك برحلة الى البحيرات , لذلك يجب فعل شيء
حيال الأمر .
استرخى الوضع بينهما بشكل ظاهر :
- ما ألطفك بيري .. إنما هل سنبقى هناك فترة قصيرة كما
ذكرت .
ابتسم :
- طبعآ .. فسترغبين وعمتك في رؤية المناظر الساحرة
والشلالات المتدفقة .
دام حديثهما ما يزيد عن ربع ساعة وكلاهما يكره أن ينتهي
الحديث , وكلاهما يكره العودة الى المنزل .
ران صمت طويل لم تقطعه الا همسات الاشجار وحفيف
أوراقها .
قال بيري أخيرآ :
- ربما من الأفضل أن نتحرك من هنا .
ووقف . هب نسيم ناعم من جهة الجبال لاعب شعره برقة ..
فاضربت شانا لروعة منظره وأغمضت عينيها لئلا ترى فتنته
وجاذبيته , غير أن قلبها كان يعصف بها ويتوسل بصمت : ابق بعد
بيري .. ارجوك ابق بعد !
ماهذا الجنون ؟
حاولت تنحية هذا الجنون عن أفكارها فهبت تقف بسرعة
ولكنها في تسرعها هذا لوت كاحلها , وقبل أن تتمكن من موازنة
نفسها كان بيري قد التقطها . حاولت بضعف أن تنسحب غير أن
ذراعيه اشتدتا . وقال لها آمرآ :
- استرخي .
-129-
أرخت عضلاتها المشدودة بطاعة عمياء وماهي إلا لحظة حتى
ارتد رأسها الى الوراء بعد أن أمسك بيري شعرها وشده بلطف .
كان لطيفآ ناعمآ وهو عينيها فوجنتيها .
- أذن .. ما زلت تحبينني على الرغم من المعاملة التي عاملتني
بها مؤخرآ .
وأعقب عبارته تلك عناق آخر فآخر وطفقت تشعر مع كل عناق
بأحاسيسها تشتد حرارة وشغفآ .
تمتمت باحتجاج :
- بيري .. أرجوك !
سألها مازحآ :
- أرجوك ماذا ؟ أتسألينني المزيد ؟
اجتاحتها عاصفة من الحياء , فردت في محاولة لإظهار
الحشمة :
- بالطبع لا ! كنت أطلب .. أن تتركني .
رفع حاجبيه وقد التمع المرح في عينيه :
- لكنك , لا تحاولين التخلص . فهل أنت متأكدة من أنك
تريدين مني أن أتركك .
إنه آخر ماتريده ومع ذلك قالت مضطربة:
- طبعآ .. أنا واثقة ..
- كاذبة !
وشدها مجددآ .. وكان في عناقه شوق ولهفة وتجاوب ..
فارتفعت ذراعاها إليه تتعلق به بينما توهج وجهها الساحر
إشراقآ وسعادة . ولكن ذكرى قاسية أتتها من زاوية سخيفة : ذكرى
فتاة اسمها سندي . لا .. إنها صورة فحسب فلا أهمية للفتاة أبدآ ,
لأن بيري لم يحبها يومآ .. إنها هي .. شانا .. حبه الوحيد ,
-130-