كاتب الموضوع :
Al Garibah
المنتدى :
الارشيف
الفصل الثاني / قراراتٌ خاطفـة !
تفاجأ أبي كثيراً عندما استشرته في خطبتي من ابن خالتي ، فنصحني بالتمهل ، واكتفى بقوله " يجب أن أرى ذلك الشاب أولاً ! " ،، لم تعلق أمي على حديثنا ، فقد كانت مستمعةً فقط ، وكنت أتطلع إلى وجهها من حينٍ لآخر ، فلربما استوحيت ُ منه بعضاً مما يجول بصدرها ، لكن تعابيرها كانت غامضة ولم تسفر محاولاتي عن أي شيء !
مضى الوقت ووالدي مستمتع بجلوسي معه وبحديثي عن نفسي وعن سنواتي الثلاثة الماضية التي عشتها بعيداً عن نظره ،، وحين مرت بيننا لحظة صمتٍ مطبقة ،بدا فيها وكأنه متردد في ما سيطرحه ، فاجئني بقوله :
-لينا .. هل تقضين اجازتك معي ؟
سألته بدهشة :
-أنا سأقضيها معك ومع والدتي بالفعل !
قال :
-لا .. فأنا سأعود لفرنسا كما تعلمين .. وحقيقةً ،، أريدك أن تقضي معي بعض الوقت هناك !
قلت باستنكار :
-لا يمكن .. لماذا جئت إذاً ان كنت تنوي العودة بهذه السرعة ؟؟
قال بجدية :
- كان يجب أن أراكِ .. وأطمئن على أحوالك أنتِ ووالدتك ..
- وتريدني ان اذهب معك ايضاً ؟؟ أبي أنت تعلم أنني لا أستطيــع أن ..
قاطعني برجاء :
-لينا!! لم أطلب منك أن تمكثي معي ، أو تسافري للأبد ،، إنما قصدت أن أصحبكِ في إجازة لأسبوع أو اثنين .. دعيني أرافقك لبعض الوقت مثل والدتك .. اعتبريها هدية نجاحك أو كما تشائين .. فما رأيك ؟
حركت رأسي بحيرة ، فقال بإصرار :
-فلتوافقي رجااءً .... أين ذهبت والدتك ؟؟ أنا متأكدٌ أنها لن تمانع أيضاً ..
قلت :
-وماذا سأفعل بشأن الخطبة ؟
قال :
-إن وافقت على السفر ،، فسيكون أمامك حوالي اسبوعين لتقرري فيهما بشأنها ..
قلت وكأنني أخاطب نفسي :
-اممم .. صدقاً لم أرد أن تغادر مجدداً ،،، ولكن فكرة السفر تروقني ، خاصةً أنني سأرى كيف قضيت كل هذا الوقت وحدك بالخارج .. وأيضاً ....اجازتي ستكون مملة جداً هنا إن قضيتها على نفس هذه الحال ..اذاٌ أظن أنه ، لا مانع من التغيير ..
قال بابتسامة واسعة :
-اذن .. ماذا تنتظرين .. فلتخبري والدتك بالامر ...
اسرعت انادي والدتي وأنا أشعر بالحماس ، وبعد محاولاتٍ عدة جربناها لاقناعها بعد أن رفضت ، وافقت بشرط أن أعطي جوابي لخالتي قبل السفر ،، لانها ستعود هي الاخرى للخارج في وقت قريب .. فيما كنت قد قررت أن أعطي نفسي فرصة أخيرة للتفكير قبل أن أرفض هذا الخاطب المجهول !
وأخيراً ... جاءت خالتي هذه المرة لزيارتنا ومعها عُمر ، كنت انتظر قدومها بفضول ، وكذلك والدتي .. ولكن على عكسها فقد كان القلق والتوتر هما من يسيران هذا الفضول عندي!
حين وصلت خالتي ، لم أستطع أن أستقبلها كالعادة ، بل ترددت وتركتي والدتي هي من تستقبلها ، وللأسف اتخذوا مقر جلوسهم في صالة المنزل ، كنت أسمع صوته يصل لغرفتي ،
وصوت والدتي وهي ترحب به بحفاوة بالغة .. بينما كنت متوترة جداً ، كما لم أتوقع من نفسي !!! خرجت بعد دقائق بعد أن سحبت نفساً عميقاً من الهواء ، وعندما دلفت للصالة ، توقفت احاديثهم فاعتراني خجلٌ مضاعَفْ .. توقفتُ قليلاً أنظر لوجه خالتي ، وأنحي نظري قليلاً الى الجالس بجانبها ،... إنه فعلاً هنا !! نظرة واحدة كانت تكفي ، اقتربت بعدها من والدتي وجلست بجانبها وأنا ألقي التحية بصوتٍ خافت ،،
تحدثت خالتي :
-لينا .. كيف حالك ؟؟
قلت وأنا أتجنب النظر الى جانبها :
-أنا بخير .. كيف حالكم أنتم ؟
قالت :
-في افضل حال .. هذا عمر ..هل تعرفت عليه ؟
قلت بابتسامة :
-نعم ..
قال بصوتٍ ثابت :
-كيف حالك ِ ؟
أجبته وانا احاول تجنب النظر لوجهه :
-بخير ..
قالت والدتي :
-اجلبي بعض العصير يا عزيزتي
حمدت الله أن صرفتني أمي ولو لقليلٍ من الوقت ،، لا أدري لم شعرت بالاحراج هكذا ، رغم أنني تعاملت مع كثيرٍ من الزملاء اثناء دراستي ، ربما الموقف صعب لأنها المرة الاولى التي التقيه ، وبسبب موضوع الخطبة هذا ... وضعت العصير في الأكواب بشرود ..
كابنٍ لخالتي ،، لم أتوقع أن يكون هكذا .. لا يشبهها البتة ، بل من يراه قد يظن أنه ليس من هذه المنطقة ، ربما يظنونه أجنبياً بعينيه الرماديتين و بنيته العريضة و... ضربت جبهتي برأسي ، كيف وصلت لتفكيري الى هذه النقطة .. يجب علي أن أنتظر حتى أستشف شخصه كاملاً .. إنني حقاً حمقاء .. !! هكذا رددت في نفسي وأنا أحمل صينية العصير للردهة ..
توقفت قليلاً أنظر للصالة الخالية إلا منه .. اقتربت من مكان جلوسه لأضع الصينية على الطاولة القصيرة ، وسألت بارتباك :
-أين ذهبوا ؟؟
رفعت رأسي قليلاً ، فمن الأدب أن أنظر اليه على الأقل حين أحادثه ،، لكنني صدمت حين رأيت نظراته قد تركزت علي مسبقاً ،، قال بابتسامة :
-لقد صعدوا للأعلى !
كان يشير بإصبعه نحو الدرج .. حين كان استيعابي بطيئاً وأنا أعلم أنه يتفحصني ،، كان علي أن أهدأ ، ولكنني اعلم تماماً أنني ارتبك حين يتفحصني احدهم بنظراته هكذا سواء كان هو أو غيره ،، قلت بعجلة وأنا ألتفت نحو الدرج :
-سأذهب لأرى أين ذهبوا !
قال بسرعة :
-انتظري ..
التفتت بدهشة لنداءه الغير متوقع ، فقال مستدركاً :
-كما تعلمين .. لقد فعلوا هذا عمداً
قلت ببلاهة :
-ماذا ؟
قال بابتسامة واثقة :
-لكي نتعرف على بعضنا اكثر ..
كان صريحاً وواثقاً جداً ..... ربااه !
كيف سأتصرف الآن !
تحركت بارتباك وانا اقول :
-اذن سآخذ العصير لهما ..
قال :
-اذا أرادتاه فستأتيان لأخذه !.... فلنخرج قليلاً .. ما رأيك؟
أنهى جملته الأخيرة وهو يهب واقفاً وينظر إلي بتساؤل منتظراً إجابتي ..
قلت بتلعثم :
-لكنني .. لن ... يجب أن أعلم والدتي ..
قال بابتسامة متسعة :
-لا تقلقي ..فلديها فكرة عن الموضوع ..
قلت لا شعورياً :
-ربااه ... إنها مكيدة !
وضعت يدي على فمي وأنا لا أصدق ما نطقت به للتوّ ، ولكن ما أحرجني فعلاً منذ دخوله منزلنا ، هي تلك الضحكة التي أطلقها .. اغلقت عيني بإحراج شديد ، أحاول استيعاب هذا الموقف الصعب ..
قال :
-دقيقتان فقط بالخارج .. الجو جميل هذه الايام ..
تحركت نحو الباب الذي فتحه وأنا أهمس :
-أجل !
سرت من خلفه ،، وخام علينا الصمت .. لم يقطعه إلا بعد أن تجاوزنا المنزل ببضعة أمتار :
-لم تتح لي فرصةُ لتهنئتك على نتيجتك من قبل ..
قلت :
-آه .. شكراً ..
قال :
-من المؤكد أنه كان عاماً صعباً ..
قلت :
-نعم ..
عاد الصمت لبعض الوقت ، كنت أسير بعده بخطوة أو اثنتين ، فمن يرانا لا يستطيع الجزم بأننا رفيقين .. وأظن أن اليوم هو أكثر الايام احراجاً في حياتي .. قال بعد أن التفتنا للعودة للمنزل :
-لينا .. مهما كان قرارك بشأن موضوعنا .. تأكدي بأنني لن أرغب بأي شيء لا تريدينه ..
صمتت .. لم أستطع فهم ما يقصده ، ولكن ربما سمع عن نيتي في اكمال دراستي بتلك الجامعة أو شيءٍ كهذا .. عاد ليقول :
-وأيضاً .. أنت ابنة خالتي .. ولن يؤثر قرارك على قرابتنا ابداً ..
ظننت انني يجب أن أتفوه بأي شيء ، فاكتفيت بموافقته :
-حسناً ..
وعدنا للمنزل ... كانت بقية السهرة هادئة ، لم يتبادل معي أي حديثٍ بعدها إلا عن طريق والدتي أو والدته .. وبعد أن غادرا عاتبت والدتي على ذلك الموقف الذي وضعتاني فيه ، ولكنها حين سألتني عن رأيي به ، لم أستطع اجابتها ، وطلبت المزيد من الوقت .. ولكنني في الحقيقة كنت قلقة من أنني قد أكون أعجبت به حقاً .. فحيرتي قد قلّت وأشعر بأنني سأكون غبيةً إن رفضته ، فهو .. مهذب .. ووسيم .. و فيه الصفات التي تحلم بها كل فتاة ،، غير أن افضل ما في الأمر أنه ابن خالتي .. لذا فقد كان الأمر يروقني يوماً عن يوم ..!
وعندما التقيت والدي للمرة الثالثة ، كانت تنقصني موافقته قبل أن أخبر خالتي بموافقتي على عمر .. كان أبي سعيداً من أجلي ، ولكنه أصر على رؤية عمر ، فرتبت والدتي مع خالتي التي فرحت كثيراً بموافقتي ، موعداً لاعلان الخطبة حيث يحضرها والدي وبعضٌ من أفراد عائلتي القريبين منّا .. لم ألتق عمر قبل الموعد ، ولم أكن أرغب بذلك .. كانت الفترة قصيرة للغاية كي أفعل فيها أي شيء أو أجهز أي شيء .. ولكن عندما حان يوم الحفل ،، كانت أمي قد رتبت لي كل شيء من فستانٍ و زينةٍ وغيرهما ، وخالتي أيضاً جلبت لي بعض الهدايا ..
كان الحفل هاادئاً لا يسمى حفلاً ، ولكنه اعلانٌ للخطبة بمعنىً أصح ، حضر فيه والدي مع عمتيّ و ابنتا خالٍ متوفٍ لي .. كنت مع قريباتي وكأننا في زيارةٍ عادية ، بينما اتخذ والدي مجلسه خارج المنزل مع عمر حيث جلسا على بعض المقاعد الخشبية في الهواء الطلق ..
كنت سعيدة غير مصدقة لكل ما يحدث ..إنهائي لدراستي ، ثم كون هذه حفل خطبتي .. لقد تغيرت العديد من الامور !! .. وكذلك كانت والدتي ، سعيدةً جداً .. تخيلت حينها لو أنني رفضتُ ابنة خالتي .. كنت لأكون غبية !
مر الوقت ، و ذهبت لأجلس مع والدي وعمر ، محاولةً أن أسيطر على ارتباكي اليوم ، وأنضج بتفكيري قليلاً .. جلست بجانب والدي متجنبةً النظر مطولاً إلى عمر ، و كنت مرتدية فستاناً ذهبياً بسيطاً ، من الحرير ، مطرزاً بالابيض الشفاف ، اشتراه لي والدي من فرنسا ولم يهدني إياه إلا بالأمس ، اقترب من أذني هامساً :
-حمداً لله أن هديتي ناسبتكِ !
ابتسمت وقلت له بنفس الهمس :
-نعم.. كيف أبدو فيه ؟؟
قال :
-تبدين رائعة ..
التفتت بسرعة لعمر ، وأنا مصدومة من والدي الذي نطقها بصوت مرتفع .. فرأيت ابتسامته تتسع وهو يراقبني بنظراته ..
ضحك والدي وقال :
-إذن ..أظنني سأغادر الآن ..
رفعت رأسي إليه برجاء بعد أن نهض :
-فلتبق قليلاً ..لم أجلس معك ..
قال وهو يمسح على رأسي :
-لا بأس ..مباركٌ يا عزيزتي .. أتمنى لكما السعادة من كل قلبي ..
وصافح عمر قبل أن يخرج من البوابة برفقته ، فشبكت يديّ ببعضهما بارتباك وأنا أرى الأخير عائداً الى حيث أجلس ، وتفاجأت به يجلس في مكان والدي ، فابتعدت قليلاً لأخف من توتري ..
قال :
-والدك رجلٌ رائعٌ بالفعل ..
ابتسمت وقلت :
-أجل !
قال :
-أنا سعيدٌ لأنك وافقت ِ
رفعت رأسي أنظر اليه بنظرة خاطفة ، وارخيتها مجدداً حين اصطدمت بنظراته الثابتة
قال :
-فلترفعي عينيك قليلاً ..
قلت :
-ماذا ؟
قال ضاحكاً :
-لا تستطيعين رفعهما لدقيقة كاملة .. ما بكِ ؟
ارخيتهما اكثر بخجل حارق:
-أنا ...
صمتتُ..ولا اعرف حقاً ماذا كنت سأقول ، ولكن لم لا يفهم أنني محرجة ، فهذا ثاني لقاء لنا !!
قال :
-لا بأس .. كنت أمازحك فحسب ..
شعرت بأنني حقاً حمقاء بصمتي هكذا ، حاولت أن أقول شيئاً :
-هل .. هل تريد عصيراً ؟؟
لم يجب ..بل شعرت بيده تلتف حول يدي ، وبدا كأن قلبي يرتج بعنف بداخلي .. وعلمت أنني سٍأعاني من جرأته هذه حتى يحين موعد الزواج ......!!
قال :
-لا .. لا أريد .. فقط ابق هنا قليلاً ..
حاولت أن أسحب يدي ، لكنني شعرت وكأنها قد شلت فلم أستطع حتى مجرد تحريكها ..
قلت بمحاولة :
-إذن فلندخل .. الجو بارد هنا ..
التف بجانبه قليلاً ونظر إلى الفستان الذي أرتديه ، حيث كانت أكمامه قصيرة نوعاً ما .. وخلع معطف بذلته ومده الي ،، ظلت يداه معلقتان قليلاً في الهواء ،، وعندما استوعبت الأمر ومددت يدي لآخذه منه بحرج ، كان قد قام ليضعه على كتفيّ .. قلت وصوتي بالكاد خرج :
-شكراً لك..
لم أكن أشعر بالبرد ، ولكن يبدو أنه يبذل جهده كي لا أتهرب منه ..
واخيراً وبعد وقتٍ طويلٍ مر ببطىء !! انتهى اليوم بسلام ، غادر مع خالتي تاركين لي هديةً أخيرة قمت بفتحها مع والدتي حيث كانت عبارةً عن خاتمٍ وسلسالٍ من الذهب الأبيض .. ولم أستطع النوم في هذه الليلة ..فكلما حاولت أن أنام حاصرتني صورة عمر من كل جانب ! وانتهى بي المطاف نائمةً على مكتبي وانا احاول ان اشغل وقتي في شيءٍ سوى التفكير ..من دون جدوى!
|