كاتب الموضوع :
redroses309
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
الفصـــــــــل الثـــــــــــامـن
توقفت السيارة قرب الباب السندياني المزدوج لمنزل باريسا التي نظرت بطرف عينيها إلى لوك فوجدته مسندا رأسه إلى المقعد و مغمضا عينيه ، و ضوء السيارة الخافت يرسل ظلالا رمادية على تقاسيم وجهه. تساءلت لبرهة إذا ما كانت كدمة الرأس التي تعرض لها قد آذته أكثر مما اعترف به. في هذه اللحظات حرك رموشه و فتح عينيه ، فبدا أنهما لا تستطيعان التركيز و لكنه استطاع أن يعتدل في جلسته على المقعد.
استدار برأسه نحوها و كان على وشك الخروج من السيارة ليفتح لها الباب ثم قال: "اعذريني ، فلن أستطيع أن أخرج من السيارة ، و لكن السائق سوف يفتح لك الباب و يعود إليك عند الساعة العاشرة صباحا. سوف ألتقيك في المستشفى ، ثم نبلغ أمي معا الأخبار الطيبة."
"حسنا ، حسنا ، هذا جيد."
"باريسا." ناداها و هو يمسك بيدها قبل أن ترفع ساقيها للخروج من السيارة و تابع: "لا تغيري رأيك. سوف أكون في إنتظارك غدا صباحا. إن اتفاقنا لا زال ساري المفعول. أليس كذلك؟"
"نعم ، نعم."
يبدو أن هناك شيئا غريبا حصل له إذ أنه كان يتلفظ بكلماته بصعوبة. ترجلت باريسا من السيارة و نظرت أليه.
قال آمرا بلطف: "أدخلي المنزل."
مشت و صعدت الدرج و دخلت البيت ثم أغلقت الباب الثقيل وراءها ، و تابعت سيرها بإرهاق عبر الرواق فرأت صور أجدادها تبتسم لها ، و شعرت لوهلة بأنها تضحك عليها فهزت رأسها لتبديد هذه الخاطرة المخفية و أسرعت في تسلق الدرج.
توقفت عند الحمام القديم الملاصق لغرفة نومها و أعتلت السرير ، لأنها لم تكن تريد أي شيء سوى النوم.
و لكن الأمر لم يكن سهلا ، فهل هي حقا وافقت على الزواج من لوك يوم الخميس؟ إنها تعلم أن الأمر منطقي من الناحية المادية ، و لكن ماذا عن الناحية العاطفية؟ فهل تستطيع العيش معه لمدة اسبوعين دون إثارة الألم الذي عانت منه بسببه؟ و هل تملك قوة الإرادة ، أو حتى القدرة على تمثيل الدور الذي طلب منها أن تلعبه؟ مليون سؤال كان يجول في خاطرها ، و لكنها كانت عاجزة عن الإجابة عنها.
فكرت باريسا و هي تتململ في سريرها بأن الأمر ليس سوى مزحة ، قد يتصل بها لوك يوم غد و يخبرها بأن الأمر قد إنتهى ، و لكنها لم تتمنى كثيرا أن يحصل هذا الأمر. كان قد طلب منها أن تستعمل عقلها و تفكر بالأمر من الناحية العملية فترى حسنات عرضه واضحة. صحيح أنها تشعر بالأسف على حال والدته و تشعر بنوع من المسؤلية لأنها ساهمت في إقناع السيدة العجوز بأنها خطيبة إبنها ، و صحيح أن ديدي سوف تفرح بزواجها من لوك ، و لكن ماذا سيقول الناس؟ سيقولون أن باريسا هاردكورت بلمونت تزوجت من أجل المال... و هنا ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهها.
إن في تاريخ عائلة باريسا زيجات كثيرة مدبرة ، و بلا شك أن معظمها كان من أجل المال ، و لكن لماذا تحبط معنوياتها كلما فكرت بالأمر؟
إن الحب للأغبياء فقط ، هذا ما لقنها إياه لوك دي ماغي بذاك الدرس القاسي. لقد تذكرت الآن أول مرة فتح فيها لوك موضوع سفرها معه إلى إيطاليا و قال وقتذاك أنه لا ينوي الزواج مطلقا ، و لكنه لم يمانع بأن يخطب ليجعل والدته سعيدة ، و ربما أن هذا هو ضمان باريسا الوحيد. إنه رجل أعمال ديناميكي ، فمن بداية متواضعة في المخابز ، استطاع أن يبني امبراطورية شاسعة. لقد نال كل ما كان يبتغي دون أن يفكر بالناس الآخرين. فكم من الناس قد استغل و ازاحهم من طريقه بمن فيهم هي؟ قالت باريسا في نفسها متسائلة.
ربما أنها تحتقر هذا الرجل ، فالخمسة أيام التي انتظرتها في لندن من أجل اتصاله هي من أصعب المراحل التي مرت في حياتها. لقد كانت تحاول أن تخدع نفسها باقناعها بأنه يحبها ، لسبب بسيط و هو أنها تحبه ، و لكنها قرأت في اليوم الأخير ذلك المقال الصحفي ، فأدركت أنه قد كذب عليها ، و عندها أدركت أيضا أن الرجل المجرم الذي كانت تنوي الزواج منه أصبح غريبا عنها. لقد سمحت باريسا لرجل يتلاعب بها و يحاول الانتقام منها على تلك الإهانة التي حدثت منذ سنوات. و عندما أدركت مدى سذاجتها أقسمت على أن لا تسمح لأي رجل بأن يستغبيها ثانية.
هل يمكنها أن تكون قاسية و مستهزئة مثل لوك؟ نعم...
فسوف تأخذ ماله ، قالت في نفسها بتصميم مرير. و لم لا؟ فمن يستحق هذا الأمر أكثر منها؟ لقد اشترى لقبها و هذا ما جعلها تفكر في الأمر جديا. صحيح أنها كانت تتذمر من هذا البيت القديم ، و لكنها كانت تحبه ، و لم تكن تستطيع أن تتصور نفسها تعيش في أي مكان آخر غيره. إن ذكريات طفولتها في الركض في هكتارات السرايا الخمسة الخضراء و لعب الغميضة في غرف المنزل المتعددة ، و الإنزلاق على الدرابزين ، كلها ذكريات لم تكن تستطيع نسيانها. لكن من الآن فصاعدا و لبقية حياتها عليها أن تتقبل الحقيقة التي لا تستطيع نكرانها ، و هي أن لوك قد اشترى اللقب و بذلك أصبح لوردا.
إنها تستحق المال الذي سوف يعطيها إياه. و من الناحية القانونية ، في حال أصبحت زوجة لوك ، و لو بالأسم و لمدة قصيرة ، سوف يبقى وضعها الاجتماعي هو ذاته ، وسوف تبقى ليدي ، و بذلك لن يكون من الضروري أن تخبر أقاربها و أصدقاءها بأنها باعت اللقب. ربما هي جبانة نوعا ما ، و لكنها لا تستهوي فكرة أن يعرف كل الناس مشاكلها المادية. إن الأمر الذي يريحها هو أن هذه الصفقة تؤمن لديدي و جو راتبا تقاعديا مقبولا لبقية حياتهما.
بقيت باريسا ساهرة طويلا حتى استطاعت النوم أخيرا ، حلمت برجل طويل برونزي السحنة ذي عينين سوداوين و نظرة ماكرة مستهزئه.
استيقظت باريسا في الصباح التالي و هي مقتنعة تماما بأن كل ما حدث بالأمس كان مجرد حلم ، لا بل كابوس. لقد عاد لوك و ظهر ثانية في حياتها معلنا للملأ أنها خطيبته. ما من شك لدى باريسا بمدى اهتمامه بها... و لكن لماذا كانت غبية لدرجة أن تقبل بمخططه المجنون بالزواج منها حتى و لو لأسبوعين فقط؟ كيف ستخدع ديدي؟ و كيف ستضع خاتمه في اصبعها؟ لكنها لم تكن تملك أية إجابة عن هذه الأسئلة.
لم تكن باريسا تحبه... و كانت رحلتها معه إلى إيطاليا مجرد غباء مع أنه لم يكن لها أي خيار في ذلك الوقت. و لكن هذين الأسبوعين اللذين ستكون زوجته فيهما في لندن ، سيكونان علاقة أفلاطونية صرفة في مقابل ثروة... من المؤكد إن قبولها أمر منطقي.
تأوهت من الصداع الذي شعرت به ، و لم يساعد فنجان القهوة الذي أحضرته لها ديدي في التخفيف من الألم.
"من الأفضل أن تنهضي يا آنسة باريسا ، إذ يوجد رجل في إنتظارك في الطابق السفلي ، و يريدك أن تريه البيت!"
قالت متمتمة: "ماذا؟ من؟" ثم أبعدت الملاءة عنها و نهضت من السرير و شربت فنجان قهوتها دفعة واحدة.
"إنه السيد سمايث ، و هو مهندس معماري ، و قد أرسله السيد لوك ليكشف على البيت و يقرر ما يستطيع عمله ، أليس الأمر رائعا؟"
"أجل عظيم!" تأوهت باريسا بعد أن لاحظت فداحة الأمر الذي وافقت عليه. إن لوك لا يضيع أي وقت. و من الواضح أنه باشر في تنفيذ ما اتفق عليه قبل أن تغير رأيها ، و بالكاد كان لديها وقت لتغتسل و ترتدي ثوبها الجلدي قبل وصول سيارة الليموزين لنقلها إلى المستشفى.
ترجلت باريسا من السيارة قرب المدخل الرئيسي للمستشفى و قبل أن تضع حقيبة يدها في كتفها كان لوك قد شبك ذراعه بذراعها.
"هذا جيد ، لقد وصلت أخيرا. إن أمي ستكون سعيدة." ثم استدرك و قال لها: "صباح الخير." و رافقها إلى الداخل.
"صباح الخير." قالتها متهكمة و هي تنظر بطرف عينها إلى وجهه الوسيم الذي لا زال يبدو شاحبا بسبب قلقه على والدته ، أو ربما بسبب فكرة الزواج و لو لوقت قصير ، فهو ليس من النوع الذي يفضل الزواج كما ذكر أكثر من مرة.
منتديات ليلاس
دخلا المصعد برفقة فتاتين ترتديان معطفين ابيضين ، و لم تستطيعا إبعاد نظرهما عن لوك. ابتسمت باريسا بصمت ، فهي تعرف أن لوك من النوع الذي يجتذب النساء كما يجتذب العسل النحل.
رافقها لوك إلى الغرفة الخاصة في الطابق الثاني و كل تفكيرها منصب على شكل السيدة المستلقية في سريرها. و لكنها فوجئت عندما رأت السيدة دي ماغي لم تعد قوية البنية كما رأتها منذ شهرين. كيف يمكن لانسان أن يتغير بهذا القدر في مثل هذه المدة القصيرة؟ تساءلت باريسا في نفسها و هي تضغط على أحاسيسها للابتسام بعد أن اقتربت من سرير المريضة.
"مرحبا سيدة دي ماغي ، كيف حالك؟" ثم انحنت و قبلت خدها ذا الجلد الجاف.
ابتسمت السيدة العجوز و أدمعت عيناها السوداوان الشبيهتان بعيني لوك.
"باريسا ، يسعدني أنك هنا و أنك سوف تتزوجين لوك ، أنا سعيدة جدا..."
وقف لوك إلى الجانب الآخر للسرير و تفكيره منصب على أمه ، فارتسمت ابتسامة دافئة مليئة بالحب على وجهه.
"يجب أن لا تتكلمي كثيرا يا أمي و لا تنفعلي ، إنها أوامر الأطباء." ثم انحنى مقبلا جبينها و ممسكا بيدها الضعيفة بيده الضخمة ، ثم جلس بجانب والدته على السرير ، و تبادل معها النظرات لبضع لحظات.
شعرت باريسا و كأنها دخيلة ، فجلست بهدوء على مقعد قريب من السرير ، و أخذت تحدق بيديها الموضوعتين على حجرها ، لقد شعرت بتأنيب الضمير عندما رأت الخاتم البراق الضخم في اصبعها. في السابق ، عندما كانت تعتقد أنه من المجوهرات المزيفة لم تكن تعيره أي اهتمام ، أما الآن و بعد أن عرفت قيمته فقد أصبحت تحرص عليه. لم يكن لديها أي شك في أن ما قاله لوك عنه صحيح ، فهو من الماس النادر و النفيس ، لا بد أنها كانت عمياء لأنها لم تلاحظ قيمته الحقيقية. كان عليها أن تدرك ليلة الحفلة أن لوك يمكن أن يخدع عائلته بخطيبة مزيفة و لكنه لا يمكن أن يخدعهم بخاتم مزيف. و لكن ماذا عن الزواج المزيف؟ إن ما تقوم به هي و لوك غير صائب.
عضت باريسا على شفتها السفلى و فكرت بأن السيدة العجوز تستحق أن تعرف الحقيقة.
بعد نصف ساعة تقريبا ، و عندما هما بالرحيل ، لم تكن باريسا تحتاج إلى طبيب ليقول لها إن الزيارة قد أبلت حسنا على السيدة دي ماغي ، فقد كانت تبتسم و علامة الرضى واضحة على وجهها.
استدار لوك حول السرير و لف ذراعه حول كتف باريسا التي أجفلت ، و لكنها لم تبعده مراعاة لمشاعر السيدة العجوز. بعد خروجهما من غرفة والدته ، أمسك يديها و كأنه يشكرها. و خرجت من المستشفى برفقة لوك الممسك بيدها.
توقف لوك قرب السيارة و فتح لها الباب الخلفي ثم أعتق يدها أخيرا.
"أنا آسف لعدم مرافقتي لك ، و لكن السائق سوف يوصلك إلى البيت ، سوف أرسل لك السيارة يوم الخميس صباحا ، و لكني سوف أتصل بك قبل ذلك و أعطيك التفاصيل."
"لوك ، أنا لست متأكدة من..." لقد تضاعف الخوف الذي أحست به باريسا بخصوص الصفقة ، بعد أن شعرت بأنها ربما تكون قد تسرعت في الموافقة ، و لكن لوك لم يفسح لها في المجال لتغيير رأيها و ساعدها على دخول السيارة قبل أن تنهي كلامها.
"لقد فات الآوان الآن لتغيير رأيك يا باريسا."
يوم الخميس ، شعرت باريسا بأنها مراهقة ساذجة بالمقارنة مع لوك الناضج. إن ما تقوم به مجرد غباء و لكنه في الوقت نفسه صفقة تجارية رابحة. لم تكن باريسا تشعر بأية رهبة مما تقدم عليه ، فعلى كل حال سوف يكون زواجها صوريا ، و تنتهي مراسمه بسرعة ، و لكن ما سبب الرجفة التي في ساقيها؟
وقفت باريسا أمام الموظف في مكتب تسجيل الزواج ، فلم تركز على ما كان يقول ، و لكن بعد أن لكزتها ديدي بكوعها ، عادت إلى وعيها لتقول: "قبلت." ثم نظرت بغير اكتراث إلى الخاتم الذهبي الذي وضعه لوك في اصبعها.
قال بصوت خافت: "أصبحت الآن زوجتي."
و هكذا ، انتهت مراسم الزواج و توجه الجميع إلى فندق الريتز حيث تناولوا الطعام ، ثم دخلت باريسا و ديدي إلى غرفة التجميل في الفندق.
"إنك تبدين جميلة يا باريسا ، سوف تكونين إمرأة سعيدة ، ثقي بمربيتك ، لقد تحدثت مطولا مع لوك في ذاك اليوم قبل وصولك إلى البيت و عرفت أنه يحبك كثيرا." ثم لمعت عينا العجوز و هي تنظر إلى باريسا الخجلى و تابعت: "الآن لم يعد هناك ما يقلق ، فهناك الكثير من النساء اللواتي يتسرعن في علاقتهن ، إني أتفهم الأمر ، فقد لاحظت في الشهرين الماضيين أن تفكيرك مشغول برجل ما ، و لكن بعدما رأيت لوك عرفت كل شيء ، و الآن سيكون كل شيء على ما يرام."
لا عجب إذا أن ديدي كانت متحمسة لزواجها ، اتصل بالسرايا بالأمس و تحدث بإيجاز مع باريسا ، و لكنه أطال في الحديث مع ديدي التي ما انفكت عن حث باريسا على التوجه إلى برايتون لشراء ما يلزمها ، فأذعنت للأمر.
تنهدت باريسا بمرارة ، إذ كيف يمكنها أن تخدع السيدة العجوز؟ لقد كانت ديدي و زوجها جو الشاهدين على زواجها و كانا الضيفين الوحيدين ، في الحقيقة أنهما كانا من الدوافع الأساسية التي حثت باريسا على قبول عرض لوك. لقد اعتنى بها هذان الزوجان طيلة حياتها ، و صار يحق لهما أن يحصلا على ما يساعدهما على العيش في شيخوختهما. في السابق كان يقلقها هذا الأمر كلما فكرت به ، أما الآن فقد حلت المشكلة. و حتى لو حصل لباريسا ضرر ما خلال الأسبوعين القادمين فإن راحة بالها بضمان شيخوخة الشخصين الوحيدين اللذين تهتم لأمرهما في هذا العالم تكفيها. و هكذا ، خرجت من غرفة التجميل و ذراعها مشبوكة بذراع ديدي.
ركز لوك بصره على وجه باريسا الجميل و هو يقترب منها. ثم وقف بقربها و لف ذراعه بتملك حول كتفها.
"لقد سارت الأمور على ما يرام ، أليس كذلك يا حلوتي؟"
رفعت باريسا رأسها و نظرت إليه ، فرأت بريق الانتصار واضحا في عينيه.
"أجل." أجابت باريسا بإقتضاب ثم تبعت الثنائي العجوز إلى خارج الفندق في إتجاه سيارة الأجرة و سيارة الليموزين المنتظرتين في الباحة ، و هي تعض شفتها بغضب و تتساءل عن معنى نظرته الساخرة.
تنفست باريسا الصعداء و هي تودع ديدي و جو اللذين استقلا سيارة الأجرة متوجهين إلى سرايا هاردكورت. أما هي فقد توجهت إلى سيارة الليموزين حيث أمسك لوك بيدها و ساعدها على ركوب السيارة ، ثم جلس بقربها.
قال لوك: "لقد أصبحنا بمفردنا أخيرا." ثم أمسك بيدها فرأى الخاتم الذهبي في اصبعها و تابع كلامه: "لم أكن أتصور أنني في يوم من الأيام سوف أضع خاتما ذهبيا في اصبع أية إمرأة." ثم ابتسم ابتسامة ساخرة و أضاف: "الماس ، ربما ، أما هذا..." ثم رفع يدها و قبلها.
سحبت باريسا يدها من يده و أبعدت عينيها عن عينيه ، ثم فتحت حقيبتها الصغيرة و أخذت منها خاتم الخطوبة الذي كانت تعتبره مزيفا و وضعته في اصبعها. و بطريقة ما ذكرها الخاتم الماسي الضخم بالسبب الحقيقي لهذه الزيجة و هو السبب الذي ستحاول أن لا تنساه.
"هل أخبرتك كم تبدين جميلة؟ إنك عروس رائعة ، و أنا رجل محظوظ لأنني فزت بزوجة ممتازة مثلك." إلا أن الغضب المستتر في نبرة صوته لم يخف على باريسا ، التي كانت تعلم جيدا أنه لم يكن يرغب أبدا في الزواج.
"إنني شريكة عمل فقط." قالت باريسا مصححة كلامه ، ثم حاولت توسيع المسافة التي تفصل بينهما و تابعت: "أليس من المفترض أن نكون في المستشفى الآن؟" ثم وضعت باقة الورد أمامها و كأنها درع و أضافت: "اعتقد أن والدتك سوف تحب هذه الورود." كانت باريسا مصممة على المسافة بينهما ، و كانت مصممة أكثر على إبقاء العلاقة بينهما خلال الأسبوعين القادمين باردة و هادئة.
لم تستغرق الرحلة وقتا طويلا عبر لندن إلى المستشفى ، و عندما وصلا إلى غرفة السيدة دي ماغي الخاصة ، فوجئت باريسا بمنظر والدته التي بدت هزيلة أكثر مما كانت تبدو عليه منذ يومين ، فقدمت باقة الورود إلى العجوز ، و فكرت بأن زواجها من لوك يستحق العناء لأنه جعل السعادة تظهر جلية في عيني السيدة العجوز المتعبتين.
"كم أنا سعيدة بكما. الآن صرت أعرف أن هناك إنسانا يحبك و يعتني بك يا ولدي ، و صار في إمكاني أن أموت مرتاحة." قالت العجوز ذلك و عيناهاتغصان بالدموع.
"لا تقولي هذا يا أمي ، سوف تكونين بخير ، و سوف نقيم لك حفلة كبيرة في إيطاليا." قال لوك مواسيا ثم قضى الدقائق التالية و هو يمازحها.
و لكن بعد أن دخلت الممرضة و طلبت منهما المغادرة بسبب تحضير السيدة دي ماغي للعملية الجراحية ، اختفت الابتسامة فجأة عن وجه لوك.
كانت غرفة الإنتظار مكانا تعيسا جدا بالنسبة إلى لوك الذي أشفقت عليه باريسا فجلست قبالته.
نظر لوك إليها بعينين باردتين ثم مد يده إلى جيب قميصه و أخرج منه ظرفا طويلا و رماه على الطاولة التي تفصل بينهما.
"من الأفضل أن تقرأي هذا ثم توقعيه ، اعتقد أنك ستجدين كل شيء منظما."
قالت باريسا و هي تنظر إليه بإستغراب: "الآن؟" فأمه لا تزال موجودة في غرفة العمليات ، و هو يحدثها في شأن الصفقة مما أدى إلى تلاشي شفقة باريسا عليه.
"إننا شركاء عمل فقط هذا ما سبق و قلته يا باريسا ، و ها هو اتفاقنا أمامك ، اقرأيه و من ثم وقعيه."
التقطت باريسا الأوراق و شرعت بقراءتها ، ثم لهثت عندما رأت المخصص المالي المذكور. لقد بدا كرمه واضحا. و لكن لمَ لم يجعلها هذا الأمر سعيدة؟ إن كل ما أحست به هو احتقارها لنفسها... لقد نزلت إلى مستواه حيث أن لكل شيء ثمنا ، و دون أن تفكر بما تقوم به قالت: "هل يمكن أن تعطيني قلمك؟"
مد يده و ناولها قلما ذهبيا أنيقا ، و دون أن تنطق ببنت شفة وقعت العقد و اعادته إليه ، إن محاولتها في أن تكون قاسية و مستهزئة لم تكن سهلة كما تصورت...
قضيا كل فترة بعد الظهر حتى المساء دون أن يتبادلا أية كلمة ، و لم يكن يغير جو الجلسة سوى فنجاني القهوة اللذين كانت تحضرهما الممرضة من وقت إلى آخر ، و بقيا على هذه الحال حتى الساعة الثامنة حيث حضر الطبيب و أبلغهما بأن العملية كانت ناجحة.
أخذ لوك بيد باريسا و تبعا الممرضة التي كانت ترشدهما إلى غرفة العناية الفائقة ، حيث وجدا والدته مستغرقة في النوم ، و خراطيم كثيرة متدلية منها ، إلا أن لونها كان يبدو أفضل نوعا ما.
قالت باريسا: "سوف تكون بخير يا لوك."
"أجل اعتقد أنها ستكون كذلك الآن..." ثم تنهد و تابع: "شكرا لك يا باريسا."
و هكذا ، عادا أدراجهما فاستقلا السيارة من مدخل المستشفى إلى مدخل الفندق. بينما كان لوك يرافق باريسا إلى الداخل لفت انتباهها بهو المدخل المريح و الأنيق الذي كانت تفترش أرضه سجادة سميكة.
وقفت باريسا جانبا بينما كان لوك يأخذ المفتاح من موظف الاستعلامات و يتحدث معه بإقتضاب ثم استدار نحوها.
"لقد نقل السائق أغراضك إلى الفندق. هل ترغبين في تناول العشاء هنا أم في جناحنا؟"
قالت باريسا دون تفكير: "أنا لا أشعر بالجوع." و كم تمنت لو لم تجبه بالنفي ، لأن لوك أخذ بذراعها و توجه بها نحو المصعد.
صعدا الطوابق العليا بصمت ثم فتح باب المصعد و رافقها لوك عبر رواق واسع حتى وصل إلى أحد الأبواب ففتحه و وضع يده على ظهرها حاثا إياها على الدخول.
فتح الباب مباشرة على غرفة جلوس كبيرة تفترشها سجادة سميكة و تشتعل فيها مدفأة أنيقة ، و تتألف مفروشاتها من أريكتين مريحتين تتوسطهما طاولة منخفضة ، بالإضافة إلى جهاز تلفزيون و لمبتين نقالتين و طاولة مكتب صغيرة وضع عليها جهاز هاتف.
"إن غرف النوم من هنا." أشار إلى الرواق و تابع: "في إمكانك أن تتفحصي المكان لاحقا. أما الآن فأنا أحتاج إلى حمام و كوب عصير بارد. حضري لي واحد من فضلك و اطلبي طبقا أو سندويشات ، أي شيء تختارينه." و دون أن ينتظر ردها اختفى عبر الرواق.
تنفست باريسا الصعداء و هي تستذكر قوله: "غرف النوم." بصيغة الجمع. الآن لم يعد أمامها ما تخشاه و هذا الأمر سوف يسهل بقاءها مع لوك خلال الأسبوعين القادمين. توجهت باريسا إلى المطبخ التابع للجناح فأخذت كوبين و ملأتهما بأحد أنواع العصير مع الثلج.
أخذت باريسا الكوب الأقل إمتلاءا ثم عادت إلى وسط الغرفة و جلست على الأريكة المريحة ، و بدأت بتناول شرابها. بعد ذلك وضعت كوبها جانبا ثم التقطت سماعة الهاتف و طلبت بعض السندويشات و قهوة.
عادت و تناولت كوبها ، فأخذت منه رشفة و تأملت الغرفة الأنيقة. من السهل على الإنسان أن يعتاد على هذا النمط من الحياة ، قالت في نفسها، و بعد أن تتخطى فترة الأسبوعين القادمين سوف يكون في إمكانها أن تعيش مثل هذه الحياة ، لكن التفكير في ذلك لم يجعلها سعيدة بالقدر الذي كانت تتوقعه.
لم تكن تواقة للثروة على الإطلاق ، فقد كانت تستمتع بعملها ، و كانت سعيدة في حياتها طالما أنها تستطيع تسيير أمورها. و لكن ماذا حدث لطبيعتها المرنة؟ و كيف وافقت على عرض لوك؟ لم يسعها إلا الأعتراف بأن الجشع هو الذي أوصلها إلى هنا ، و هو شعور لا تحسد عليه. لكن هذا الأعتراف أتى بعد فوات الآوان ، فقد وافقت.
تململت باريسا على أريكتها ، و لكن ما لبثت أفكارها أن قوطعت بصوت لوك الجهوري.
"هذا كوبي على ما أعتقد؟" قال و هو يقف في مواجهتها ، فأحنى جسده الضخم لألتقاط الكوب.
تأملته و هي مندهشة ، و كانت على وشك أن تتكلم ، لكن من حسن الحظ أن قرع الباب ، و أعلن وصول الخادم بالعشاء.
لم تلمس باريسا الطعام ، مع أنها لم تكن قد أكلت أي شيء طيلة النهار. لكنها نهضت عن أريكتها و استغربت عندما رأت لوك ينهض عن أيضا عن الأريكة المقابلة لها.
قالت باريسا بتصميم متفادية النظر إلى عينيه: "أنا متعبة ، لقد كان نهارا طويلا. أعتقد أنني سأخلد إلى النوم."
عبرت باريسا الغرفة حافية القدمين ، و بسبب ضعفها و سرعة تأثرها ، عبرت الرواق دون أن تنظر إليه ، ثم دخلت الباب الأول. اتسعت عيناها من الدهشة فالغرفة لم تكن غرفة نوم ، بل غرفة مكتب على الأرجح. لقد كانت مجهزة بكمبيوتر و فاكس و هاتف موضوعين على طاولة ضخمة.
فتراجعت إلى الوراء ثم توجهت إلى الباب الثاني ففتحته.
كانت غرفة نوم كبيرة يتوسطها سرير ملوكي مزدوج تحيط به أربعة أعمدة و تتدلى على جانبيه ستائر مخملية زرقاء و ذهبية. كانت حقيبتها موضوعة قرب طاولة التجميل المنمقة فتنفست الصعداء ، إذ لا بد أن هذه هي غرفتها.
دخلت حمام الغرفة ، فأخذت حماما سريعا و جففت جسدها ، ثم لبست ثياب النوم ، بعد ذلك خرجت من الحمام إلى غرفة النوم ثم توقفت مصعوقة.
توقفت مسمرة في مكانها فاغرة فاها من أثر الصدمة. فقد رأت لوك واقفا قرب السرير و عيناه تتفحصانها.
"إنك رائعة جدا ، يا أجمل العرائس."
قالت باريسا صارخة و هي تبلع ريقها بصعوبة من الصدمة: "ماذا تظن نفسك فاعلا؟ إن هذه غرفتي." التقت عينا باريسا بعينيه و أجفلت عندما أحست بنواياه الواضحة تجاهها.
قال لوك و هو يقترب منها: "إنها غرفتنا يا باريسا."
"إنس الأمر يا لوك." قالت باريسا محذرة إياه و متراجعة إلى الخلف ، ثم تابعت: "لقد قلت غرف النوم بصيغة الجمع... و قلت إنك لن تلزمني بأي شيء... إن ما تقوم به هو صفقة لمدة أسبوعين... من أجل أمك... لقد كذبت..."
"كلا ، لم أكذب ، فهناك غرفتا نوم أستعمل واحدة منهما كغرفة مكتب ، فأنا أستأجر هذا الجناح على هذا الأساس. أما بالنسبة للباقي فأنت وافقت على أن تكوني زوجتي و لمدة محددة ، و هذا يشمل كل ما يعنيه الزواج." قال لوك ذلك و هو يقترب منها.
مدت باريسا ذراعيها محاولة إبعاده عنها.
"كلا ، كلا." قالت صارخة و شعرها ينسدل على كتفيها.
"لا تكوني حمقاء يا باريسا. هل كنت تتوقعين مني أن أدفع ثروة في مقابل لا شيء؟ و اعلمي أنت أغلى إمرأة ملكتها."
يملكني؟ أبدا ، قالت في نفسها. و لكن بينما كان عقلها يصرخ لا ، كانت هي في الوقت نفسه تنهار تحت تأثير الصدمة.
********************************
يتبع...
|