كاتب الموضوع :
redroses309
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
الفصـــــــــل الرابـــــــــع
حاولت باريسا اقناع نفسها بأن تركز كل اهتمامها على العمل الذي جاءت من أجله ، و أن لا تنسى مويا. و لكن الأمر لم يكن سهلا ، فتمددت في سريرها واضعة يدها على رأسها و مفكرة بحالها ، فبدا لها أن كل ما يجري حولها هو مجرد تصرفات غير منطقية.
لقد نعتت مويا الرجل بالنذل و الانتهازي ، إلا أن هذا الوصف لا ينطبق على لوك. و حسب وجهة نظر باريسا ، فإن المرأة التي لا تنجذب إلى لوك لا يمكن إلا أن تكون عمياء أو بلهاء.
شعرت بتأنيب الضمير ، مسكين ديفيد ، فهي لم تكن جدية في علاقتها معه على الاطلاق ، فقد كانت تعرف أنه يأمل في أن يتزوجها في النهاية ، و حتى هذه اللحظة ، لم تحاول أن تزعجه بإيقاظه من حلمه ، و لكي لا تخسر صديقا يمكن الاعتماد عليه و تشعر معه بالأمان ، فهي لم تخبره خلال سهرة يوم السبت بأنها مسافرة إلى إيطاليا ، الأمر الذي اشعرها بأنها لم تكن صادقة معه.
ثم نهضت من سريرها و توجهت إلى الحمام ، عسى أن حماما باردا يساعدها على إراحة بالها. فإذا ما استطاعت أن تقضي الفترة المتفق عليها و هي بوعيها التام ، قد تنجح في الوصول إلى تحليل مناسب لشخصية لوك.
دخلت باريسا الحمام و صدمت عندما أحست نفسها ، و كأنها في مرآة عملاقة ، فرأت صورتها تنعكس على المرايا الموجودة في الداخل ، ثم لفت نظرها حمام الجاكوزي المستدير و المحاط بحوض من النباتات الأستوائية. فخشيت الأستحمام في هذا المكان خوفا من هذه النباتات ، و عوضا عن ذلك أخذت حماما سريعا تحت الدوش الملاصق للجاكوزي.
و بسرعة قفلت عائدة إلى غرفة نومها. لقد بدت لها ضخامة الحمام غريبة جدا ، و لكنها عادت و أدركت أنها الحمام المقابل الذي أشار إليه لوك بيده ، على الفور استدركت أنها قد تكون استعملت حمام لوك الخاص.
نظرت إلى حقيبتها ، فلاحظت أن شخصا ما قد عبث بها ، و لكنها لم تفاجأ نظرا لما صادفته من أمور غريبة في هذا البيت. ففتحت الخزانة و صدمت عندما رأت ثيابها القليلة معلقة فيها بشكل منظم. لقد كانت قد احضرت معها فستانين ، و في الواقع ، إن كل ما تملكه فستانان رسميان فقط ، فتناولت فستان المخمل الأزرق الغامق ، و هو الأقل جمالا بين الأثنين.
و بخفة كبيرة ، جلست على السرير و وضعت جوربا حريريا في ساقيها الطويلتين ، ثم نهضت و ارتدت الفستان المخملي و توجهت إلى المرآة لتهندم الفستان.
إنه ليس سيئا ، قالت في نفسها و هي تنظر إلى صورتها المنعكسة في المرآة. لقد كان فستانا طويلا و من النوع المحتشم الذي تصل كماه إلى رسغيها.
جلست على مقعد طاولة التجميل و شرعت في وضع أقل قدر ممكن من الزينة على وجهها المتعب. فوضعت بعض الكريم المرطب و قليلا من الظل الأزرق فوق عينيها و بعض الكحل الغامقة على رموشها ، و أنهت زينتها بوضعها قليلا من البودرة الحمراء على خديها لإضفاء بعض اللون ، ثم سرحت شعرها الطويل و ردته إلى الخلف. و أخيرا وضعت أحمر شفاه على شفتيها و رشت عطرها المفضل على رقبتها ، و هو عطر قدمته لها مويا كهدية في ذكرى مولدها.
تنهدت باريسا و حالة من العجز تسيطر عليها ، فهي لم يسبق لها أن شعرت بهذا القدر من الوحدة في حياتها ، و شعرت بأنها لن تتمكن من النجاح في مهمتها ، فنظرت إلى صورتها المنعكسة في المرآة ، و شعرت بأنها تنظر إلى إمرأة غريبة.ط
كانت معتادة على اليقظة في حياتها لدرجة أنها أصبحت تعتقد أنها معجونة بطينة من الحذر ، و لكن ماذا لو كان في طينتها جزء من التهور الذي ورثته عن والديها؟ إنها شيء ترفض باريسا تصديقه. و لكن هل وجودها في بلد أجنبي برفقة رجل لا تثق به و بالكاد تعرفه و تدعي أنها خطيبته يعتبر تصرف إمرأة حذرة؟ قالت باريسا متسائلة بمرارة.
ثم هزت كتفيها و وقفت ، لأن الأجابة عن هذا السؤال سهلة جدا ، فهي قامت بهذا التصرف لأنه لم يكن أمامها سوى خيارين ، إما أن تأتي إلى إيطاليا ، و إما أن تقبل بتدمير حياة أعز صديقاتها ، و هي ما كانت لتقبل بحدوث هذا الأمر. إن مويا هي السبب الرئيسي لوجودها هنا و عليها أن تحاول تخطي مدة إقامتها بنجاح في هذا المكان من أجلها ، فالأمر يستحق عناء العيش مع لوك ، إذا كان يعني ذلك أن مويا سوف تتزوج من سيمون و تريح تفكيرها.
التفتت ثانية إلى الخزانة ، فأخذت منها حذاءها ذا الكعب العالي و انتعلته ، لقد أصبحت الآن جاهزة لأي شيئ ، قالت ذلك بعزم و هي تنظر في المرآة للمرة الأخيرة ، ثم توجهت نحو الباب. لقد قررت أن تنزل إلى الصالة و تستكشف ما يجري ، قبل أن تفسح المجال للوك بالعودة ثانية إلى غرفتها.
دخلت باريسا الرواق و فوجئت عندما رأت لوك يقترب نحوها. لقد كان رائعا ببذلة السهرة السوداء التي كان يرتديها و يرتدي تحتها قميصا حريريا أبيض منسجما مع لون بشرته البرونزي ، فشعرت بأن قلبها قد زاد من سرعة خفقاته و وجنتاها قد توردتا في الوقت الذي كان ينظر فيه إلى شعرها نزولا حتى فستانها المخملي الأزرق. فأحنت رموشها أملا في إخفاء تأثير نظرته الذي بدا واضحا على وجهها. لقد أصبحت جاهزة لكل شيء ، قالت في نفسها ، كل شيء عدا جاذبية لوك دي ماغي التي لا تقاوم.
"آه ، لقد اصبحت جاهزة. كنت في طريقي لاصطحابك."
قال لوك ذلك برقة و هو لا يبعد سوى مسافة قليلة عنها.
فوضع اصابعه على ذقنها ثم رفع رأسها و تأمل وجهها فالتقت عيناه البراقتان بعينيها و أضاف بحساسية بالغة: "إنك فعلا ليدي. ليدي أنيقة جدا."
قالت متعلثمة: "آه ، حسنا ، أشكرك..."
كان يتأملها بسكون و كأنه يحاول أن يستعمل قوة شخصيته ليجعلها طوع يديه. فاستعملت كل ما تملك من إرادة لتتراجع إلى الوراء ثم قالت: "هلا نزلنا إلى الصالة ، فأمك في إنتظارنا."
قال مبتسما: "يا لك من جبانة." ثم مشى بقربها محاولا أن يبقى في مشيته خلفها و لو بخطوة واحدة ، الأمر الذي جعلها تشعر بالإرتباك.
إن العشاء هو عمل لا ينتهي ، حسب رأي باريسا التي تحدق بصحنها المليء بالتورتة ، فهي لن تتمكن من إنهاء ما فيه بعد أن شربت عدة أكواب من عصير الفاكهة الطبيعية ، و أكلت صحنا كبيرا من السباغتي. بالنسبة للمحادثة التي دارت على المائدة ، فقد كانت رسمية ، رغم محاولاتها الحثيثة لم تستطع أن تتصرف بطريقة طبيعية مع لوك ، و سبب ذلك حسب تفسير باريسا هو كرهها له و لما يمثل ، و لكن في صميمها كانت تشعر بعكس ذلك. لقد وجدت صعوبة في أن تكون طبيعية لأنها كانت تتصرف معه بحذر شديد و بطريقة لم تختبرها و لم تعتد عليها من قبل. لقد قاومت المشاعر الغريبة التي كانت تسيطر عليها مما أدى إلى تصرفها الحذر في محاولة منها للدفاع عن نفسها.
سألت السيدة دي ماغي: "إن الزواج في العيد الكبير شيء رائع ، أليس كذلك يا باريسا؟"
"لا أعتقد ذلك." أجابت باريسا بحدة لأنها لم تستطع أن تجيبها بـ "كلا". لقد كانت سعادة السيدة العجوز بخطبة ابنها واضحة جدا ، و لو كانت الظروف مختلفة لكانت حماة رائعة بالنسبة إلى باريسا ، و لكن باريسا لم تكن ناجحة في متابعة دورها كخطيبة محبة. كان للغنى الواضح لسيد هذا البيت ، و الضخامة الباهرة لغرفة الطعام تأثير كبير على تفكير باريسا التي لم تستطع أن تبعد عن رأسها فكرة أن سكان هذا البيت محتالون. لا بد أن والدة لوك تعرف جيدا من أين يحصل ابنها على هذا المال ، و مع هذا تبدو فخورة به كأي أم أخرى. إن الخدم و الطعام الفاخر و كل ما في هذا البيت يدفعون ثمنه من مال أتى بالنصب و الأحتيال. رمقت باريسا بعينيها لوك و أخذت تفكر. كيف يمكنها أن تنجذب إلى رجل تعرف بينها و بين نفسها أنه خارج عن القانون؟ و هنا لم تستطع إلا أن تعترف بأنها منجذبة بشكل كبير إلى هذا الرجل.
منتديات ليلاس
ركزت باريسا بصرها على شعر لوك الأسود و هي في حيرة من أمرها ، فلم تستطع أن تفهم ما يجري لها. لقد كانت تجد نفسها منجذبة إليه ، رغم إن كل الصفات التي تكرهها في الرجال موجودة فيه.
كان لوك يبدو هادئا و مبتسما على المائدة ، غلى أن أدلت باريسا بأحد تعليقاتها اللاذعة فتعكر مزاجه و توقف عن تمثيل دور الخطيب المحب.
بعد ذلك ، تبادل مع والدته بضع عبارات باللغة الإيطالية لم تستطع أن تفهم منها شيئا ، ثم دخل في سكوت عميق كاد أن يشكل نهاية لصبر باريسا.
لقد كانت تلك فكرته المجنونة ، و كان عليه أن يعرف أنه لن يستطيع بذلك أن يخدع والدته أو أي شخص آخر ، قالت باريسا في نفسها و تمنت لو أنها تستطيع أن تنهض و تخرج من هذا المكان في الحال.
رفع لوك رأسه و نظر مباشرة إلى والدته ثم قال: "عذرا يا أمي ، فأنا أريد أن أتكلم مع باريسا على إنفراد."
و لدهشة باريسا ، نهض لوك و مشى حول الطاولة ثم أمسك بذراعها و قال: "فلنذهب إلى مكتبي."
نظرت باريسا إلى أمه و ابتسمت ابتسامة عصبية في الوقت الذي كانت تخرج فيه من الباب و يد لوك ممسكة بمرفقها.
"لم فعلت هذا؟" سألته باريسا بغضب بعد أن أصبحا في الرواق.
قال لوك: "أريد أن أتحدث معك. أرجوك ، لا تجادلي." ثم فتح أحد ابواب الرواق الواسع و اخلها إلى غرفة مكتب مليئة بالكتب.
"إجلسي." قالها آمرا و هو يشير إلى أريكة قرب المدفأة الرخامية الأنيقة.
أشعل لوك المدفأة ، فأخذت النار تتراقص و تتأجج في الظلمة ثم توجه نحو مصباح المكتب و أضاءه ، و مع هذا بقيت الغرفة خافتة الإضاءة فأخذ لهيب النار يرسل ظلالا تنعكس على الحائط و على لوك فأخفت تعابير وجهه.
بدا لباريسا أن لوك يحاول عدم إظهار وجهه ، فراقبته و هو يجلس خلف طاولة المكتب بطريقة أوحت لها و كأنه يدير جلسة مجلس إدارة. ثم رأت أصابعه و هي تلتقط سكينا لفتح الملفات فعبث بها ثم أعادها إلى مكانها. بعد ذلك التقط بعض الأوراق الموجودة أمامه ثم خلطها ، و بما أنها تعرف عاداته جيدا ، تأكدت أنه غاضب.
سألت باريسا بفظاظة: "حسنا ، ما هذا الشيء المهم الذي بسببه منعتني من إنهاء طعامي؟" ثم عم السكون المكان.
على أي حال ، فهي لم تكن تريد تلك الحلوى.
"لم يسبق لك أن تصادقت مع رجل ، أليس كذلك؟" سألها بعجرفة ، ثم رفع رأسه و سلط بصره عليها.
"ماذا؟" لم تستطع باريسا أن تصدق أذنيها ، يسحبها من غرفة الطعام إلى هنا لكي يسألها هذا السؤال؟ ففتحت فاها و توسعت عيناها على وقع المفاجأة.
سألت متمتمة و هي تهز برأسها: "هل أنت مجنون؟"
"كلا ، و حتى الآن لم تجيبي عن سؤالي يا باريسا."
قالت بسخط شديد: "و لن أجيب عن هذا السؤال المبهم."
"لا تتكلمي بهذه الطريقة أمامي." قال لوك ذلك بحزم ، ثم تلاشى عصيان باريسا بعد أن لاحظت بخوف شديد التصميم البادي على وجهه العابس. ثم تابع كلامه قائلا: "و لكن هذه المرة سأسامحك ، فلك الحق في أن تخافي مني ، إنك لست مضطرة للإجابة عن سؤالي. لقد كانت أمي على حق ، إذ إني استطيع أن أرى الإجابة على وجنتيك." و حاول أن يضع يده على ذراعها ليمنعها من الوقوف.
"أمك؟!" قالتها مستغربة فهي لم تكن تعرف عما يتكلم.
"بالضبط ، يا باريسا." ثم وضع يده على اليد التي تضع فيها الخاتم فشعرت بالذنب عندما تذكرت الإحراج الذي سببته له في محل الصائغ.
"كنا قد اتفقنا على صفقة ، و حتى الآن كان تمثيلك للدور غير مقنع و لا يمكن أن ينطلي على أحد. لقد أعربت أمي خلال تناول العشاء ، عن سعادتها لأنها أحست بأنك فتاة محافظة ، لقد كانت على حق ، أليس كذلك؟"
قالت باريسا باقتناع: "نعم هذا صحيح ، مع أن هذا الأمر لا يعنيك."
أيعتقدني بلهاء؟ قالت باريسا في نفسها.
إن هذا الرجل ماكر و عليها أن لا تنسى ذلك.
"لا أملك أية نية لأناقشك في هذا الموضوع الآن يا باريسا ، و لكن من الأفضل لنا أن نتفاهم على أمر أو أمرين قبل أن نقوم بأية خطوة أخرى."
"نتفاهم؟!" قالت و الابتسامة الساخرة ترتسم على وجهها: "لا تضحك ، فأنت لا تعرف معنى هذه الكلمة."
قال غاضبا: "حسنا هذا يكفي." ثم أمسكها بعد أن كانت قد وقفت.
قالت صارخة: "دعني!"
قال آمرا: "إسكتي. إذا كنت تريدينني أن ألتزم بالجزء الذي يختص بي من الصفقة و أعطيك الصور فعليك أن تتصرفي بطريقة أفضل من التي تصرفت بها حتى الآن. و كبداية لذلك عليك أن تتوقفي عن سخريتك. إن القرار يعود لك ، فهل أنت مستعدة لبذل بعض الجهد في تمثيل دورك كخطيبة محبة؟ أم إنك تفضلين إلغاء الصفقة و تحمل نتائج كل ما سيصيب صديقتك من عواقب وخيمة؟"
"كلا ، أريد الصور." لم يكن أمام باريسا أي خيار آخر ، و كان يعلم ذلك ، كما أنها لم تكن تريد أن تخذل مويا. "و لكن ما الذي تعنيه بالضبط؟ أيجب علي أن أظل جالسة بقربك؟"
"لا تخافي يا باريسا ، أعدك بأن لا أقوم بأي تصرف إلا بموافقتك ، و بعد ما حصل بيننا الآن ، لا أعتقد إننا سنجد صعوبة في إقناع مئات البشر ، بمن فيهم أمي ، بأننا ثنائي مغرم."
بعد ذلك تلاشت غمامة الغضب التي سيطرت على لوك لبعض الوقت و حل محلها الهدوء و الرقة.
"إن سبب إحضارك إلى هنا هو إنني أريد..."
قالت السيدة دي ماغي مقاطعة لوك: "هذا أفضل. لقد أصبحتما الآن صديقين ، أليس كذلك؟" نظرت باريسا بدهشة غلى السيدة دي ماغي التي تابعت كلامها: "لا بأس ، لا بأس ، فأنا أعرف تصرفات الشباب. إن ولدي لوك سوف يبذل كل جهده لإسعادك ، فهو رجل ناضج."
نظرت باريسا إلى لوك و لم تستطع أن تمنع الابتسامة من أن ترتسم على شفتها ، لقد بدا لها لوك غير مرتاح و مرتبك.
لا بد إنها المرة الأولى التي يشعر فيها بذلك دون شك.
في اليوم التالي استيقظت باريسا على صوت قرع الباب فداعبت أشعة الشمس عينيها و هي تفتحهما.
قالت باريسا: "أدخل." لا بد و أن الخادمة تحضر قهوة الصباح.
قال لوك ضاحكا: "إنك تبدين مبتهجة ، لا بد و إنك تحبين وقت الصباح."
رفعت باريسا الملاءة ثم نظرت إلى وجهه الوسيم.
"أهذا أنت؟! كنت أعتقد أن الخادمة هي من تدق الباب."
"إنه لمن دواعي سروري أن أحضر لك القهوة." و بهدوء شديد وضع الصينية على الطاولة المجاورة لسريرها و سكب القهوة ، ثم ناولها فنجانا.
"أشكرك." قالتها برقة بعد أن احمر وجهها على وقع هذه المفاجأة.
"إنك تبدين رائعة حين تحمرين من الخجل." قال لوك ذلك مغازلا مما زاد من خجلها. ثم ضحك و أومأ لها قائلا: "لا تقلقي. اشربي قهوتك الآن ،؟ ثم رافقيني إلى الأسفل بعد نصف ساعة. أريد أن اصطحبك إلى الخارج تجنبا لضجة ترتيب البيت."
قالت مستغربة: "ضجة ترتيب؟!" فحسبما لاحظت ، كان كل شيء في منزله يسير كعقارب الساعة.
"لقد وصل متعهد الحفلة و بدأ التحضير للسهرة. و يقوم الخدم بترتيب غرف النوم ، و من الأفضل لنا أن نخرج من هذا المكان." قال لوك هذا الكلام ثم خرج من الغرفة.
في استطاعة لوك أن يكون مضيفا رائعا ، قالت باريسا في نفسها و هي تستذكر ما حدث في الليلة الماضية. فبعد أن انضمت إليهما أمه في المكتب ، تلاشى التوتر الذي كان يعم الغرفة و شرب الثلاثة القهوة و تناولوا كعكا بالشوكولا ، كان للغة السيدة دي ماغي الركيكة و لحماسها لخطوبتهما الأثر الكبير في تلطيف أجواء السهرة ، لدرجة إنه بعد أن خرجت السيدة دي ماغي من الغرفة مقبلة الأثنين ، قضيا ساعة رائعة في الدردشة بأمور تتعلق "ببافاروتي" و "دومنيغو" ، و هما مغنيا الأوبرا المفضلان بالنسبة إلى لوك ، لأنه كان عاشقا لموسيقى الأوبرا مثل معظم الإيطاليين. بعد هذا الحديث رافقها لوك صعودا إلى الطابق العلوي و تمنى لها ليلة هادئة ، و قال: "إنها هدنة يا باريسا ، ليوم واحد فقط." و هكذا وافقت باريسا على هذه الهدنة.
قررت باريسا أن تخرج مع لوك لتستمتع بنهارها متناسية سبب وجودها في إيطاليا ، فالتقطت معطفها و نظرت في المرآة للمرة الأخيرة ثم خرجت من غرفتها.
كان ذلك النهار يوما مميزا جدا. فقد كانت الشمس ترسل أشعتها الدافئة مبشرة باقتراب فصل الصيف ، فتنتشر أشعتها الذهبية عبر المروج.
قاد لوك سيارته الفيراري عبر الطرق الريفية المتعرجة بخبرة كبيرة ، ثم ترجلا من السيارة و وقفا على وهدة و أعجبا بجمال المناظر الخلابة.
كانت أصوات الأمواج المتكسرة على الشاطئ و اصوات طيور النورس المحلقة فوق البحر تتقاطع مع بعضها البعض فتؤلف لحنا موسيقيا.
بعد الظهر تركا الوهدة نزولا في إتجاه بورتوفينو.
"إن هذا الوقت هو أفضل أوقات السنة حسب رأيي." قال لوك ذلك و هو يساعدها على الخروج من السيارة.
سألت باريسا: "ألا تعتقد أن الصيف أفضل؟"
"كلا ، ففي فصل الصيف يكون هذا المكان مكتظا بالسياح و يكون المرفأ مزدحما بالأجانب ، أما الآن فلا يوجد في المنطقة سوى السكان المحليين." و بينما هما يتكلمان اقترب صبي لا يزيد عمره عن العشر سنوات من لوك.
"عذرا عذرا." قال الصبي موجها كلامه إلى لوك.
حمل لوك الولد و أرجحه بين ذراعيه ثم عاد و أنزله أرضا برفق شديد.
راقبت باريسا الأثنين باندهاش ثم زادت دهشتها عندما لاحظت أن الصبي بذراع واحدة. إنه أمر محزن حقا. و لكن مع هذا كانت الابتسامة لا تفارق وجهه.
لم تستطع باريسا أن تفهم شيئا من الحديث الذي دار بينهما باللغة الإيطالية ، كما لم تفهم السبب الذي من أجله أعطى لوك الولد المال. أمسك لوك باريسا و شرح لها الأمر.
"إن باولو صديقي، و أنا أدفع له المال لأنه ينظف زورقي. كنت أنوي أن آخذك لرؤيته و لكنني جائع الآن."
قالت باريسا ممازحة: "لا تريد أن تأخذني لأنه لا يمكن لأي شيء أن يحول بينك و بين الطعام."
قال لوك برقة: "في إمكانك أن تفعلي ذلك ساعة تشائين و في أي وقت."
قالت باريسا بعد أن أخجلها لوك بإطرائه: "حسنا ، فلنأكل."
"ما زلت جبانة." قال لوك و هو يرفع يدها و قربها من فمه ليقبلها ، ثم نظر إلى أصبعها و تابع: "أين خاتمك؟"
"لقد تركته في غرفة النوم ، فقد أردت أن استمتع بهذا اليوم بشخصيتي الحقيقية ، كما أن الخاتم هو مجرد وسيلة لتكملة تمثيلية هذه الليلة." قالت باريسا ذلك و هي متأكدة من أن لوك سيتفهم الأمر.
قال بغموض: "إذا كان هذا ما تريدين ، فلا بأس." فنظرت إليه و لكنه أشاح بوجهه عنها ، فشعرت باريسا لوهلة بأنها جرحت شعوره و لكنها عادت و استبعدت الفكرة بعد أن عاد للكلام.
"إنه مطعمي المفضل." قال لوك و هو يقودها إلى مقهى صغير قرب البحر من النوع الإيطالي النموذجي حيث رحب مدير المقهى بـ لوك على إنه صديق قديم.
لم تذكر باريسا إنها اكلت وجبة في السابق و استمتعت بها إلى هذا القدر ، كما إنها لم تكن تملك أية فكرة عن الطعام الذي تناولته إلى أن أخبرها لوك بأنها قد أكلت كبدا.
قالت مستغربة: "و لكنني أكره الكبد." و لكنها ما لبثت أن انفجرت بالضحك بعدما أشار لوك إلى صحنها الفارغ.
"إن ذلك واضح يا حلوتي."
و غادرا المطعم متجهين إلى السيارة.
بعد أن جلست باريسا في السيارة ، نظر لوك إليها بجدية محدقا بعينيها.
"أتعرفين ما يعجبني فيك؟"
"ماذا؟" سألت و عيناها الزرقاوان تتأملان بريق عينيه.
"يعجبني فيك أنك لا تسمحين لأي شيء بأن يعكر صفو سعادتك. فقد هددتك لكي تأتي إلى إيطاليا ، و كان في إمكانك أن تجعلي هذا اليوم رهيبا ، و بدل ذلك جعلته سعيدا ، فقد استمتعت بكل دقيقة فيه ، و لا أظن إنه يوجد بين معارفي من استطيع أن اسعد بوقتي معهم كما سعدت معك."
حاولت باريسا أن لا تركز على نبرة صوته الجدية و بريق عينيه المتأجج خوفا من الانجذاب إليه.
"من الواضح إنك لا تقابل النوع المناسب من البشر." قالت له ذلك برقة في محاولة منها لكسر هذه الجدية المفاجأة ، ثم عدلت جلستها و أمسكت حزام الأمان ، فأخذه من يدها و أحكمه حولها.
"ربما إنك على حق يا حلوتي ، و لكن في إمكانك أن تحكمي بنفسك هذه الليلة." ثم أدار محرك السيارة منطلقا و مضيفا: "سوف يحضر الحفلة كل أفراد عائلتي تقريبا و مجموعة كبيرة من الأصدقاء."
لم تجب باريسا على ما قاله ، فقد ذكرها كلامه بسبب مجيئها إلى إيطاليا ، الأمر الذي سبب لها إنزعاجا. لقد كانت قد تناست طبعه الحاد بعد اليوم السعيد الذي قضياه معا ، أما الآن ففكرة السهرة التي تنتظرهما هذه الليلة تسبب لها ضيقا.
******************
يتبع....
|