كاتب الموضوع :
redroses309
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
الفصـــــــــل الثـالث
دخلت باريسا الشقة بعد أن فتحت بابها بواسطة المفتاح الذي زودتها به مويا ، كانت شقة صغيرة في منطقة كينسنغتون ثم توجهت مباشرة إلى الهاتف و طلبت سيارة أجرة لتقلها إلى محطة السكة الحديدية. لقد استطاعت أن تخدع لوك دي ماغي و تجعله يعتقد بأنها تسكن مع مويا في نفس الشقة في لندن. بهذه الطريقة استطاعت تضليل لوك عن مكان سكناها الحقيقي في حال حدوث ما يريب. كانت مويا تنوي ترك شقتها للسكنى مع والدها في نورفوك ثم تعود بعد الزواج لتستقر في ساسيكس. و في حال استطاعت باريسا الصمود في الأيام القليلة القادمة و استعادت الصور فإن كل شيء سيسير على ما يرام. لقد استغرقها الأمر بضع دقائق لتوضب حقيبتها ، ثم كتبت ملاحظة لمويا مؤكدة لها فيها أن كل شيء يسير على ما يرام. و مخبرة إياها بأن تتوقع عودتها عشية يوم الأحد ، ثم غادرت الشقة.
منتديات ليلاس
بعد ثلاث ساعات تقريبا تنهدت باريسا تنهيدة أرتياح بعد أن وصلت إلى قصر هاردكورت، فترجلت من السيارة و دفعت الأجرة للسائق ، ثم دخلت إلى القصر عبر بوابة المدخل الضخمة.
صعدت باريسا الدرج إلى البيت و رمت حقيبتها على الطاولة.
قالت بصوت عال: "ديدي ، عزيزتي لقد عدت."
و على الفور حضرت سيدة حانية الظهر ذات شعر رمادي قادمة من الفناء الخلفي للمنزل.
"لا داعي للصراخ ، فأنا لست صماء يا طفلتي."
ضحكت باريسا بصوت عال و ضمت المرأة الواهنة: "أنا آسفة يا ديدي، و لكني سعيدة بعودتي إلى البيت."
"و لكنك لم تتغيبي سوى ليلة واحدة. إن من غير العدل أن تمكث إمرأة جميلة و شابة مثلك نفسها في الريف. كان عليك أن تقضي وقتا أطول في لندن و تتمتعي بوقتك ، أما أنا و جو فبخير و لا ينقصنا أي شيء."
"أعرف ذلك يا ديدي و وفري علي هذه المحاضرة ، فلدي موعد عشاء مع ديفيد هذه الليلة و سوف أعود إلى لندن يوم غد ، فأتغيب بضعة أيام في إجازة. لقد أستجيبت أمنيتك ، فهل أنت راضية الآن؟"
"بالتأكيد ، و لكن ما هذا؟" ثم أمسكت يد باريسا و نظرت إلى الخاتم الضخم ، فارتبكت و سحبت يدها.
"إنه لا شيء ، لقد أشتريته للتسلية."
"آه للتسلية! إن على فتاة جميلة مثلك أن تتزوج و بذلك يشتري لها زوجها المجوهرات ، فأنا لا أستطيع أن أصدق أن ديفيد براون يستطيع أن يؤمن لك متطلباتك."
"أرجوك يا ديدي ، لا تبدأي بهذا الآن." لم يكن ديفيد مناسبا للزواج من باريسا حسب وجهة نظر مدبرة منزلها.
قالت ديدي: "كوني عاقلة. سوف أذهب لصنع بعض الشاي."
راقبت باريسا ديدي و هي تختفي خلف الدرج. لقد كانت تعي تماما كلام ديدي. كان ديفيد في الثلاثين من عمره و يقيم مع والدته في منطقة باتل و كانت باريسا قد بدأت بالخروج معه منذ عام تقريبا ، في بعض الأحيان كانا يتواعدان على العشاء و في أحيان أخرى كانا يزوران مسرح برايتون و لكن مرة واحدة في الشهر ، و كان كلاهما يهتم بفرقة الكشافة. لقد كان ديفيد طويلا و حسن الطلعة... لا بل وسيما ، فأعجبت باريسا به لكونه محدثا جيدا و صديقا مخلصا ، كما أنه لم يكن من النوع المتصنع.
ركضت باريسا بخفة متسلقة الدرج. من يعلم ما الذي ستقوله ديدي إذا ما عرفت الحقيقة! قالت باريسا في نفسها ، فما الذي ستقوله إذا ما عرفت أنها مسافرة إلى إيطاليا برفقة نذل؟ و لكنها عادت و تمنت أن لا تتمكن من معرفة ما حصل ، فنزعت الخاتم من اصبعها و رمته في حقيبتها. كانت ديدي مدبرة المنزل ، و لكنها كانت بمثابة أم بالنسبة لباريسا ، فبعد وفاة والديها تم تعيين محامي العائلة و جدتها وصيين عليها. و عندما توفيت جدتها بعد بضعة شهور من وفاة والديها تنازل المحامي بسعادة عن وصاية باريسا و عهد بها إلى ديدي لترعاها ، إن باريسا تحبها كثيرا و لا يمكن أن تفعل ما يؤذي مشاعرها.
تقطب حاجبا باريسا علامة القلق ، و هي تصعد الدرج الداخلي و حاولت أن تتفادى في مشيتها السجادة الممزقة التي تفترشه. فإذا لم يتوصل محاميها إلى حل عاجل ، يصبح القصر عند ذلك معرضا للسقوط فوق رأسها ، قالت باريسا بينها و بين نفسها ، و لكن في حال حصل ذلك ما الذي سيحل بديدي و جو؟
كانت باريسا تحب عملها كمدرسة رياضة ، لكن راتبها لم يكن كافيا لا لترميم القصر المتداعي و لا لتغطية مصاريف ساكنيه. كان السيد جارفيس المحامي عجوزا لطيفا ، و لكن تمنت لو أنه أجل أمر مصارحتها بحقيقة وضعها المالي السيء حتى وقت آخر.
إن تلك المسؤلية كبيرة على عاتق باريسا ، خاصة أنها آخر شخص حي من عائلة هاردكورت ، و آخر قيم على القصر و على الثنائي العجوز الذي يشاركها مسكنها.
لاحقا ، و بعد مشاركة العشاء مع ديفيد في فندق صغير في منطقة هايلشام، ودعها برقة ، مما أشعرها بالدفء و الطمأنينة. ثم عادت إلى بيتها فبدلت ثيابها و اعتلت سريرها و غطت نفسها بعدد من الأغطية. لقد علمتها التجارب أن الدفء أمر يجب المحافظة عليه خاصة أنها مقيمة في بيت معطل التدفئة و رياح شباط (فبراير) تعصف فيه من كل الجهات.
أغمضت باريسا عينيها فارتسمت في مخيلتها صورة ذلك الرجل صاحب الشعر الغامق و العينين السوداوين. أرتعشت باريسا و لكن ليس من البرد. لقد تساءلت عما يفعله لوك في هذا الوقت ، فتذكرت مارغوت ماي ، كانت على يقين بما يفعله لوك فحاولت أن تقنع نفسها بأنها سعيدة بذلك ، لأن من شأن هذا الأمر أن يسهل عليها مهمتها في الأيام القليلة القادمة.
وقفت باريسا على الرصيف ، فتاة طويله ممشوقة القد ، ذات شعر أشقر متدل على ظهرها و مربوط بربطة شعر زرقاء اللون منسجمة مع لون عينيها الزرقاوين اللامعتين و متناسبة مع كنزتها و معطفها الذي كان يلف جسدها الجميل بواسطة حزام منسجم مع ثيابها. و كانت تنتعل حذاء ذا لون بيج و نعل مسطح و تحمل حقيبة متناسقة الألوان مع باقي ثيابها. أما بجانبها فقد كانت تضع حقيبة قديمة و لكن من الجلد الجيد.
حركت باريسا قدميها لتدفئ نفسها و لتخفف من توترها في نفس الوقت. كانت قد إقترحت في الليلة الماضية على مويا أن تحاول و لآخر مرة أن تسترضي لوك دي ماغي لكي يعطيها الصور ، و لكن صديقتها رفضت حتى فكرة رؤية الرجل. و لكن بعد أن عادت مويا للنحيب تخلت باريسا عن الفكرة ، الأمر الذي أدى إلى وقوفها في إنتظار لوك على هذا الرصيف.
نظرت باريسا إلى الساعة الذهبية اللون التي تطوق معصمها ، غنها الساعة العاشرة و خمس دقائق ، لقد تأخر. ثم لمحت الخاتم المتلألئ في إصبعها ، فلاحظت أنه كبير لدرجة إنه لم يسمح للقفازات بأن تدخل يدها مما أدى إلى تجمدها من البرد.
"هل أنت معجبة بخاتمك يا باريسا؟" قال ذلك الصوت الرنان الذي أجفلها.
استدرات باريسا محدقة فنظرت إلى ذلك الوجه الوسيم ، إنه وجه لوك دي ماغي الذي أمسك بذراعها ، فما كان منها إلا أن تراجعت في إتجاه الطريق.
"حاذري يا باريسا." ثم شدها في إتجاهه ، ثم تابع كلامه: "لا أريد أن أخسرك الآن ، على الأقل ليس قبل إنهاء دورك في الصفقة."
قالت بغضب: "لقد تأخرت." و هي تحملق به و تحاول أن تكبت مشاعرها. حتى أنها عجزت عن ملاحظة سيارته التي ركنها على مسافة أمتار قليلة منها!
ارتسمت ابتسامة صغيرة على فمه و قال: "هل اشتقت إلي؟" ثم رفع أحد حاجبيه متهكما و أمسك بيدها و حمل بيده الأخرى حقيبتها.
لقد استنفذت باريسا كل رقتها و كل خياراتها ، فبعد أن أمسك بيدها الصغيرة الباردة التي تدفأت تحت ضغط أصابعه الطويلة ما كان في إمكانها إلا أن تتبعه بوداعة.
رمقت باريسا خلسة الرجل السائر إلى جانبها و الذي كان ينظر مباشرة إلى الأمام ، فبدا شكل وجهه الوسيم و كأنه قد من الصوان. كان يرتدي معطفا يبرز كتفيه العريضتين و كان نسيم الصباح يلفح ربطة عنقه فترتد على وجهه ، أما شعره الأسود و عيناه السوداوان و لون بشرته البرونزي و مشيته المهرولة ، و حتى ثيابه كل هذه الأشياء كانت توحي بأنه رجل إيطالي خالص. و هنا تذكرت الشائعات التي تتعلق بارتباطات هذه العائلة مع عصابات المافيا.
لقد كان مجرد خزعبلات من الطالبات ، قالت باريسا محاولة طمأنة نفسها ، و لكنها عندما وقفت قرب سيارة الليموزين السوداء مراقبة السائق و هو يضع الحقائب في صندوق السيارة ، عادت و شككت في الأمر.
قال لوك باقتضاب: "اصعدي غلى السيارة." ففعلت.
بعد مضي ساعة تقريبا ، و بينما كانت تصعد سلم الطائرة ، ازدادت شكوكها. فلقد إستطاع لوك ان يعبر و إياها الجمارك و كل مكاتب خروج مطار غاتويك حتى صعود الطائرة دون أن ينطق ببنت شفة.
دخلت باريسا الطائرة و نظرت حولها ، فشعرت بتقلص في معدتها.
تقدم رجل يرتدي بزة غامقة اللون من باريسا و قال: "هل لك أن تعطيني معطفك؟" فما كان من باريسا إلا أن حلت الحزام و خلعت المعطف و أعطته للرجل.
قال الرجل: "سوف تقلع الطائرة بعد خمس دقائق ، إجلسي من فضلك." ثم رافقها بكل أدب فمشى معها عبر ممر مفروش بالسجاد الأخضر مارة بقرب أريكتين جلديتين و بجوارهما مقعدان و طاولة قهوة مذهبة الإطار و جميعها منسجمة الألوان ، ثم تابعا المسير حتى وصلا إلى صف من المقاعد في مؤخرة الطائرة ، فجلست فاغرة فاها و فاتحة عينيها من الدهشة. لا بد أنها طائرة خاصة ، لا أكثر و لا أقل.
رفعت باريسا رأسها فوجدت لوك واقفا قربها ، فهز كتفيه العريضتين فاقترب رئيس التشريفات و تناول المعطف منه ثم جلس على المقعد الملاصق لمقعد باريسا.
سألت باريسا: "لمن هذه الطائرة؟."
"إنها من أملاك الشركة بالطبع. أربطي حزامك الآن يا باريسا." ثم ساعدها على ربط الحزام.
أشاحت باريسا برأسها ، و نظرت من الشباك إلى خارج الطائرة. الشركة! آه يا إلهي! قالت باريسا بينها و بين نفسها بعجز ، هل هذا أسم آخر للمافيا؟ و ما الذي تعرفه عن هذا الرجل؟ فلا يوجد أي صاحب مطعم مهما علا دخله ، يستطيع أن يتبختر في سيارة ليموزين مع سائق خاص أو أن يستعمل طائرة خاصة. ربما أن لوك استطاع توفير و دفع ثمن المطعم عن طريق خبرته الطويلة في عالم الاحتيال. لقد أيقنت على أنه عضو أو على الأفل يملك إرتباطات مع عصابات الإجرام المنظمة. فما الذي تعرفه عن لوك دي ماغي؟ لقد التقت بالرجل ثلاث مرات فقط خلال عشر سنوات. ما الذي ورطها في هذا المأزق؟
نظرت باريسا إلى الأسفل ، لاحظت أن حزامها يهتز فمد ذراعه الطويلة ليعيد تثبيته ، الأمر الذي أشعرها بالخوف.
و بسرعة التصقت بالشباك في الوقت الذي بدأت فيه أصابعه بإحكام الحزام. لقد تحول خوفها إلى حالة من الذعر و لمتعد تستطيع أن تركز تفكيرها على أي أمر ، فحاولت حبس أنفاسها في الوقت الذي كانت تحلق فيه الطائرة في السماء ، لقد بدأ قلبها بالخفقان فتشبثت بالمسكات المخصصة للأيدي التي تبدل لونها من شدة ضغط قبضتها عليها.
في هذه اللحظات مد لوك يده الضخمة الدافئة و وضعها عليها ، و شدت هي على لحمه القاسي. لم تهتم باريسا بما تقوم به من تصرفات فهي تكره الطيران.
قال مستهزئا: "أتخاف باريسا المتهورة من الطيران؟"
"كلا ، أنا لا أخاف من الطيران." أجابت كاذبة ثم تابعت و هي تكز أسنانها: "و لكن أكره الاقلاع و الهبوط ، كما أني لست متهورة."
أدار لوك رأسه في إتجاه باريسا و عيناه تلمعان ثم قال: "لست متهورة؟ غنك موجودة في هذه الطائرة و مخطوبة إلى رجل بالكاد تعرفينه و لا تعرفين الجهة التي تتوجهين إليها..." ثم ابتسم و كشر عن أسنانه البيضاء فتمنت لو أنها تستطيع لكمه ، و تابع: "إن كل ما تقومين به يدفع إلى الإعتقاد بأنك متهورة."
لقد كان كلامه صحيحا ، فتضايقت منه لهذا السبب. إن الصفة الوحيدة التي تفاخر بأنها تمتلكها هي كونها إمرأة هادئة عقلانية ناضجة ، إلا أن صدقها الغريزي يدفعها إلى الأعتراف بأنها تصرفت بطريقة متهورة في الأيام القليلة الماضية. و لكن بما أن سعادة مويا على المحك لم يكن لديها خيار! و بهدوء ، رفعت يدها عن يده ، ثم نظرت إلى الأسفل فحلت الحزام و حاولت أن تتفادى نظراته الساخرة.
قال ساخرا: "لن أعود و أربطه لك يا باريسا." و لكنه ما لبث أن فك حزامه هو أيضا و مد رجليه إلى الأمام.
استدارت باريسا و عيناها تلمعان من الغضب. لقد أصبحت تشعر بالغثيان كلما رأته. كان يمد ذراعيه الطويلتين فوق رأسه، فبدا مثل نمر متوحش ، في هذه اللحظات حضر مدير التشريفات.
"هل ترغب السيدة بالقهوة أم الفطور؟"
"قهوة فقط ، من فضلك." ثم وقف لوك و قال: "أحضر لي من ما عندك ، من فضلك يا جاكس." مد لوك يده القوية إلى باريسا قائلا: "ما بك يا باريسا؟ لم لا تحاولين أن تريحي نفسك؟ فسوف يكون لدينا أشياء كثيرة لنقوم بها على الأرض فيما بعد و في كل المجالات."
تجاهلت باريسا يد لوك الممدودة و وقفت على رجليها فارتسمت على فمه المثير ابتسامة ساخرة كرد فعل على ما قامت به دون أن يعلق على هذا التصرف ، ثم توجه إلى الأريكة الملاصقة لطاولة القهوة و جلس عليها.
"ماذا تعني بقولك في كل المجالات؟" سألته باريسا بتحفظ ثم توجهت إلى الأريكة المواجهة لطاولة القهوة و جلست عليها. كانت عيناه السوداوان تحدقان بها و هي في طريقها إلى الأريكة فأخذ يتفحصها من أعلى شعرها إلى أخمص قدميها.
"إننا بصدد صفقة أنا و أنت فقط ، سوف أقضي يومين مع والدتك ثم تسلمني صور مويا." لقد كانت مصرة على إعادة تذكيره بمستوى علاقتهما و ذلك لكي تحد من الخوف الذي كان يعتريها.
في هذه الأثناء حضر مدير التشريفات حاملا صينية فوضعها على الطاولة ثم وضع فنجان من القهوة الساخن أمام باريسا ،أما بالنسبة إلى لوك فقد وضع أمامه صحنا كبيرا من البيض و اللحم ، نظر لوك إلى الصحن ثم عاد و نظر إلى باريسا فاصطدمت عيناه بعينيها.
"إنك على حق يا باريسا ، فلقد عنيت بقولي في كل المجالات أن علينا أن نظهر على أننا مقربان من بعضنا البعض بشكل لا يجلب الشك لأحد."
تيبست يدا باريسا على الفنجان و ذهبت في تخيلاتها إلى البعيد ، ارتعشت باريسا من هذا التفكير ، فتوردت وجنتاها.
"أنا لا أعني بالشكل الذي تفكرين به بالمعنى المحافظ."
قال ذلك ساخرا و هو يقرأ ما يجول في رأسها: "لأن أمي إمرأة ذكية و شديدة الملاحظة فسوف تتوقع مني أن أكون عارفا لعائلتك و لتاريخها و لكل هذه الأشياء يا ليدي باريسا." ثم التقط شوكة و سكينا و أضاف: "ربما سأفتح شهيتك إذا ما شاهدتني آكل أمامك." ثم ركز اهتمامه على الطعام الموجود على الطاولة و شرع في الأكل.
تنفست باريسا بعمق محاولة تذكير نفسها بأنها إمرأة ناضجة و ليست مراهقة بلهاء مشغولة بالأفكار الشاذة. لقد بدا لها طلب لوك منطقيا.
"حسنا ، أود أن أخبرك أولا بأنني لست ليدي." و على وقع كلام باريسا شرع لوك بالضحك.
قال لوك ضاحكا: "شكرا أنك قلت هذا ، فلو أن رجلا ما قال ذلك لما توانيت عن صفعه."
"أنا لا أقصد ذلك بالمعنى الذي فهمته أنت. لقد كان والدي لورد سرايا هاردكورت، و قد زال اللقب بزوال السرايا. بعد وفاة والدي بستة أشهر توفيت جدتي تاركة طفلة تعتبر آخر عضو من السلالة ، و هكذا أسماني البعض بشكل آلي ليدي هاردكورت بلمونت ، إلا إن هذا اللقب لا ينطبق علي."
"ألأنك أصبحت تعيشين في لندن الآن؟ كم كان عمرك عندما توفي والدك؟"
"أربعة عشر عاما."
"أي قبل أن ألتقيك."
"أجل."
"و كيف ماتا؟"
"لقد كان والدي سائق سباق ناشئ عندما ألتقى بوالدتي. بعد ذلك جرب سباق الزوارق ثم أنتقل إلى رياضة الناطيد ، و قد فقدا بينما كانا يعبران المحيط الأطلنطي بواسطة المنطاد. هل أنت راض الآن؟"
لم تكن باريسا تحب التحدث في موضوع وفاة والديها فبدت منهارة تماما. لقد كانوا عائلة سعيدة و شعرت بالضياع بعد رحيلهما ، و في شهورها الأخيرة قامت جدتها بتذكيرها بأنها الوريث الوحيد ، و بتعريفها على مسؤلياتها بصفتها آخر حي من تلك السلالة ، و بعد ذلك بفترة قصيرة توفيت جدتها. قضت باريسا شهورا طويلة في البكاء ، و قد بذل جو و ديدي كل ما في وسعهما لمواساتها و التخفيف عنها ، و لكن لا يوجد أحد يستطيع مواساة الإنسان مثل عائلته ، و مع مرور السنين خفت معاناتها و لكنها ما زالت تشعر بالألم و الوحدة.
"هل ستحذين حذوهم؟"
"كلا ، لا أريد ذلك." لقد أحبت باريسا والديها كثيرا و قد قضت معظم حياتها و هي تحاول كبح الناحية المتهورة في شخصيتها.
"حسنا ، لا تغضبي. من الذي أعتنى بك بعد فقدك لوالديك و لجدتك؟"
نظرت باريسا إلى الطرف الآخر من الطاولة و دهشت عندما رأت لمعان التأثر في عينيه السوداوين.
"محامي العائلة ، فقد أنتهيت من دراستي المدرسية و من ثم دخلت الجامعة ، و أنا الآن أعلم الرياضة في مدرسة خاصة في منطقة ساسيكس جنوبي لندن." و هكذا أنتهت باريسا من إخباره قصة حياتها فقد أخبرته الحقيقة ، و لكن ليس كل الحقيقة.
"و الآن ، ماذا عنك؟ أعرف أن لديك أما و ابنة عم أسمها تينا ، و أعرف أنك تبتز بعض الناس ، فحصلت على ما يكفي لشراء مطعم و ربما تقيم أرتباطات مريبة لامتلاكك مثل هذه الطائرة. هل أنا في حاجة على معرفة المزيد عنك؟"
شعرت باريسا لوهلة بأنها تمادت في كلامها فتغيرت تعابير وجهه إلى حالة قريبة من الغضب. و سلط عينيه السوداوين على وجهها فبدتا قاسيتين كالجليد ، ثم راقبته و هو يضغط بأصابعه على السكين التي كانت في يده ، إلا أن المجهود الرهيب الذي قام به استطاع الحد من غضبه فتمالك أعصابه و اتكأ على مقعده.
"لا ، أعتقد أنك لم تعرفي بعد أي شيء يا باريسا ، أعذريني الآن فلدي عمل." ثم التقط حقيبته من على جانب مقعده و دفع بالصحن و الفنجان من على الطاولة و وضع حقيبته عليها ثم فتحها.
بعد ذلك سحب بعض الأوراق و بدأ بقراءتها متجاهلا باريسا.
في هذه الأثناء حاولت باريسا اقناع نفسها بأنها سعيدة لكونه تركها و شأنها ، فأحنت رأسها على الأريكة و تظاهرت بالنوم ، لقد مضت عليها ثلاثة أيام و هي تعيش حالة من التوتر العصبي. و شعرت أن رموشها قد ارتخت. إن آخر فكرة تجول في بالها الآن هي عدم نكرانه لنشاطاته الاحتيالية...
لقد أجبرها على مرافقته في هذه الرحلة إلى إيطاليا لأنها ما كانت لتحتمل النظر إلى وجهها إذا ما سمحت للوك بأن يدمر حياة مويا ، فقد كان عليها تقبل فكرة الدفاع عن صديقتها في كل الأوقات.
تململت باريسا في أريكتها المريحة متنهدة. فمسدت وجهها و حاولت تجاهل الأصوات التي سببها عمله ، ثم تثاءبت و فتحت عينيها فشعرت لبرهة بأنها تائهة.
"إننا على وشك الوصول إلى وجهتنا يا باريسا."
تبا! لقد كان رأسها مستلقيا على كتفه ، وقفت باريسا و وجهها متورد من الخجل فنظرت إلى لوك الذي كان يجلس إلى جانبها ، فلاحظت أنه يراقبها بمتعة و على وجهه علامة رفضت الأعتراف بها.
"أنا آسفة... كان عليك أن توقظني... " قالت باريسا ذلك متعلثمة من الاحراج.
"لا بأس. لقد حاولت إيقاظك... و لكني كنت مسرورا بذلك." ثم أضاف برقة: "من سوء الحظ أننا سوف نهبط بعد خمس دقائق."
وقفت باريسا منتصبة من على أريكتها و توجهت إلى المقعد الذي كانت تجلس عليه عند بدء الرحلة و ربطت حزامها دون أن تعيد النظر إليه. لقد كان عليها التصرف بطريقة مختلفة بدل الاعتذار.
مرة ثانية ، عادت باريسا تكز أسنانها لأنه عاد و جلس بقربها مرة أخرى. فأغمضت عينيها و حاولت إبقاء يديها مثبتتين في حجرها ، لقد حاولت أن تقنع نفسها بعدم الاستسلام إلى الارهاب الذي سيمارسه عليها و هما على الأرض ، ثم فتحت عينيها.
"آه ، البحر!" تنهدت باريسا متعجبة و هي تركز كل اهتمامها على المنظر الذي تشاهده من النافذة فالتقطت ذراع لوك بيديها الأثنتين!
"مطار جنوى. إنه منظر بحري." قال لوك ذلك بهدوء ثم تابع: "لا يوجد هناك ما يقلق."
التقت عينا باريسا الخائفتان بعينيه اللتين جعلاها تضيع في سبر أعماقهما و تنسى ما يدور حولها لعدة دقائق.
بعد ذلك ، اتكأ لوك على مقعده ، و فك حزامه بهدوء.
"ما كان يحق لك أن تقوم بذلك... أن صفقتنا هي صفقة عمل لا أكثر و لا أقل."
"هكذا إذن يا باريسا ، و لكن عليك أن تعترفي بأنني نجحت في ذلك لأنك لم تلحظي هبوط الطائرة."
نظرت باريسا إلى خارج الطائرة ، لقد كان على حق.
حدقت به بغضب شديد ثم فكت حزامها و حملت حقيبة يدها من على الأرض ، و بعد أن تأكدت من أنه سبقها في مشيته ، نهضت من على مقعدها. في هذه اللحظات أحضر لها مدير التشريفات المعطف و ساعدها على ارتدائه ، كانت ما تزال ترتجف في الوقت الذي كانت تتبع فيه لوك بوداعة و هما ينزلان سلم الطائرة.
بدا لباريسا أن ضابط الجمارك يعرف لوك جيدا و ذلك من خلال تبادلهما الحديث باللغة الإيطالية في الوقت الذي كانت تقف فيه باريسا بثبات و جواز السفر في يدها. لم تفهم باريسا كلمة مما كانا يقولانه ، باستثناء فيدانزاتا ، أي خطيبتي ، و هنا نظر الضابط إليها و ابتسم ابتسامة ودودة ، فعرفت أنه يهنئها فردت له ابتسامة خفيفة و نطقت بالكلمة الإيطالية الوحيدة التي تعرفها: "غراتزي."
نظر لوك إلى باريسا مبتسما و قال متهكما: "أنك تستطيعين التكلم بلغتي يا حلوتي." ثم أمسك بيدها و خرجا من المطار حيث كانت سيارة حمراء تنتظرهما.
تفحصت باريسا السيارة ذات العجلات المنخفضة بدقة. إن معلوماتها قليلة جدا عن السيارات و لكنها عرفت أن هذه السيارة الرائعة هي فيراري، و حسب معلوماتها فأن هذا النوع من السيارات ليس بالرخيص. و هنا عادت باريسا مرة ثانية لتؤكد لنفسها أن هذا الرجل محتال كبير ، و اعتبرت أن البضعة آلاف التي طلبها لوك ثمنا للصور هي مجرد نقطة في بحر هذا الرجل الذي يتنقل بطائرة خاصة و يمتلك مثل هذه السيارة. إن هذا كله ثمرة الابتزاز. راقبت باريسا رفيقها و هو يفتح لها باب السيارة بكل أدب و احترام و فكرت بأنه ربما لم يكن يرغب في المال بل بقضاء بعض الوقت مع مويا. فبصفته رجل عصابات لا يتمتع بأي أخلاق و لا يبالي بالطريقة التي يجذب بها النساء.
"اصعدي." قالها آمرا ، ثم نظر في عينيها القلقتين و أردف قائلا: "سوف تكونين في أمان ، فأنا سائق بارع." لم تشك باريسا في ما قاله ، فرجل متعجرف و عديم الرحمة مثله لديه الإمكانيات المتوحشة التي تسمح له بأن يقوم بكل ما يريد و على أكمل وجه ، لقد كانت متأكدة من ذلك.
أرتعشت باريسا و هي تركب السيارة فلقد كانت فاقدة لكل طاقتها ، فأحكمت ربط حزام الأمان و نظرت بطريقة مرتابة إلى لوك الذي كان يجلس إلى مقعد القيادة.
"هل تعيش والدتك في جنوى.؟" سألته بأدب و هي مصممة على أن تتخطى الثماني و الأربعين ساعة المقبلة بأقل قدر من المشاكل. فما همها أن يكون محتالا و ما همها أن يكون رجل عصابات ، فكلما قلت معرفتها به كان أفضل لها.
"أحيانا ، و لكنني أمتلك فيلا على شاطئ منطقة بورتوفينو ، و هو المكان الذي سيقام فيه الحفلة."
"كم هذا جميل ، لقد سبق لي أن سمعت بهذا المكان ، ألم يسكن ريكس هاريسون في هذه المنطقة فيما مضى؟"
سالته باريسا ذلك محاولة أن تتحدث بطريقة إجتماعية معه.
"أعتقد ذلك." ثم نظر إليها نظرة جانبية و أضاف: "و لكنك لست مضطرة أن تبدأي بالتمثيل منذ الآن يا باريسا ، وفري جهدك حتى وقت استقبال والدتي."
هذا صحيح ، يالك من نذل ، قالت باريسا في نفسها فالوقت لم يحن بعد لأكون مؤدبة... و هكذا قضت بقية الرحلة و هي تنظر إلى الطبيعة من نافذة السيارة ، أخيرا و بعد الخروج من المدينة الرابضة على سفح جبل ، ظهر لها الشاطئ الصخري فأعجبت بجماله و بجمال البحر الأبيض المتوسط ذي اللون الأزرق اللازوردي.
لشدة الدفء الذي كان يعبق في السيارة شعرت باريسا بأن هذا اليوم هو مجرد يوم صيفي. كانت الشمس ترسل أشعتها الذهبية و السماء زرقاء اللون خالية من الغيوم ، فلم تعرف أن الفصل هو فصل الربيع سوى عندما رأت البراعم الندية التي كانت تنمو على الأشجار المنتشرة على جانبي الطريق. انعطفت السيارة إلى اليسار بين عمودين صخريين يعلوهما رأس أسد منحوت ، ثم تابعت طريقها صعودا عبر طريق تحيط بجانبيه أشجار الصنوبر الخضراء.
فجأة عادت أشعة الشمس و دخلت السيارة فلم تستطع باريسا أن تتمالك نفسها لشدة دهشتها عندما رأت أجمل فيلا وقعت عليها عيناها على قمة تلك الوهدة.
أوقف لوك السيارة ثم نظر إليها. لقد كان لمعان ماكر يشع من عينيه في الوقت الذي كانت فيه ابتسامة صبيانية ترتسم على وجهه: "أأعجبك منزلي؟"
لا بد أن الأمر هو مجرد نكتة أو خيال ، فلم تستطع إلا أن ترد على ابتسامته بالمثل. قالت بذهول: "إني لا أصدق ما أرى."
لقد كان بناء ضخما ذا شكل دائري و لون زهري و شبابيك ذات قناطر. أما الطابق الأول فقد كانت شرفته التي تزنر البناء مزودة بدرابزين حديدي فخم و منمق و تحتها صف آخر من الشبابيك المقنطرة, كان البناء يشبه منارة ذات بوابة كبيرة تعلوها قنطرة ضخمة. أما أكثر ما يلفت النظر فهو سطح المبنى الذي كانت تتوسطه غرفة دائرية الشكل تعلوها قبة نحاسية اللون.
"إن المبنى يبدو و كأنه كعكة حلوى ضخمة." قالت ذلك ضاحكة ثم تابعت: "لا أستطيع أن أصدق أن انسانا يستطيع بناء منزل كهذا."
"و لا أنا صدقت ذلك عندما رأيته للمرة الأولى. لقد قام أحد نجوم موسيقى الروك بتصميم الفيلا و بنائها في فترة الستينات ، أما الغرفة المستديرة فهي مرصد فلكي ، يبدو أنه كان يهوى النجوم بصفته واحدا منها. لقد اشتريته لأنه واقع على قطعة أرض كبيرة و كنت أنوي هدمه و بناء منزل بتصميم آخر مكانه و لكن بطريقة ما ، عدت و أعجبت بالبناء فأبقيته كما هو ، إنه تصرف غريب و لكن هذا لا يعني أبدا أني غريب الأطوار... لكن..." ثم حرك كتفيه على الطريقة الإيطالية و ابتسم.
كانت باريسا لا تزال تتمتم في الوقت الذي كان فيه لوك يساعدها على الترجل من السيارة ، ثم شبك مرفقه بمرفقها و رافقها صعودا عبر الدرج الرخامي في إتجاه الباب الضخم ، و قبل أن يصلا غلى آخر درجة فتح الباب على مصراعيه ، و ظهرت منه سيدة مهيبة ذات شعر أبيض و فتحت ذراعيها إلى أقصى درجة ، فما كان من لوك إلا أن ترك يد باريسا و تقدم معانقا إياها.
أخذت باريسا تراقب المتعانقين فقد كانت أمه سيدة عجوز طويلة و ضخمة الجسم ، من الواضح إذن أن هذه هي أمه المريضة ، قالت في نفسها و تابعت مراقبتها.
"باريسا ، حبيبتي ، اسمحي لي أن أعرفك على أمي."
دهشت باريسا عندما سمعت كلمة حبيبتي ففتحت فاها و لكنها عادت و أقفلته بسرعة. ثم صعدت الدرجة الأخيرة و تقدمت مادة يدها إلى السيدة العجوز.
قالت برقة: "كيف حالك؟" لكن السيدة العجوز أبعدت يدها و دون أن تعي باريسا ما يجري حولها ، وجدت نفسها مغمورة بذراعي السيدة العجوز.
"لا داعي للشكليات يا طفلتي ، فأنت ستكونين بمثابة إبنة لي." قالت العجوز ذلك ثم قبلت باريسا على الوجنتين قبل أن ترفع عنها ذراعيها. نظرت باريسا في عيني السيدة العجوز متأثرة بعد أن رأتهما مغرورقتين بالدموع...
"تعالا ، تعالا فلندخل..."
لم تدر باريسا ما يحدث لها ، فبعد دقائق قليلة وجدت نفسها تخلع معطفها و تجلس قرب لوك على كنبة مريحة و في غرفة جميلة.
قالت العجوز: "فلنتناول كأسا من شراب الورد لهذه المناسبة."
هزت باريسا رأسها في محاولة منها لاستيعاب ما يجري حولها ، ثم شدت أصابعها و أصغت لكلامه في الوقت الذي كانت فيه عيناها تحدقان بعينيه.
"لا تنسي سبب وجودك هنا ، فسوف أجعلك تدفعين الثمن إذا ما أحزنت أمي."
أرتعد جسد باريسا على وقع تهديد لوك الذي نطق به بصوت هامس ، ثم نظرت غليه نظرة ارتياب و حاولت للحظات قليلة أن تتناسى أنه عدوها.
سألته باريسا: "ماذا تعني؟"
"لن أسمح لك بأن تخذلي أمي بهزة من رأسك الجميل و عليك أن تأخذي منها كوب الشراب و تبتسمي ."
لقد كان لوك مخطئا في تفسير رد فعلها فهي لم تكره والدته ، و لكن الآن ليس الوقت المناسب للجدل. أدارت باريسا رأسها و ابتسمت للسيدة العجوز ثم قالت برقة: "نعم أني متشوقة لشرب شيء ما."
في هذه اللحظات ، ظهر شاب يرتدي بزة سوداء حاملا كؤوس كرستالية أنيقة ، فوضعها على الطاولة قرب السيدة العجوز. التقط الشاب الزجاجة ثم فتحها.
قال لوك و هو يتناول الكوب: "باريسا خطيبتي العزيزة هل لنا أن نتحد اتحادا أبديا." و لكن من بريق عينيه عرفت أنه لاحظ حقيقة شعورها و أنه يستمتع بما يقوم به.
و بشجاعة كبيرة ، رفعت باريسا كأسها و أخذت منه رشفة. لقد تقبلت تهاني أمه بمزيج من اللغتين الإيطالية و الإنكليزية و من ثم منحتهما مباركتها بروعة خاتم الخطوبة في الوقت الذي كانت تنظر فيه باريسا إلى عيني لوك اليقظتين تراقبان أقل خطأ.
تنفست باريسا الصعداء عندما قالت السيدة دي ماغي مقترحة: "لا بد و أنك متعبة ، فلقد كانت رحلة طويلة ، سوف يرشدك لوك إلى غرفتك و سوف نعود و نتحدث لاحقا هذه الليلة قبل أن تصل الشلة."
في طريقها إلى غرفة النوم ، نظرت باريسا إلى لوك بعينين غاضبتين و قالت مستهزئة: "أهذه أمك المسكينة و المريضة؟ يا لك من كاذب ، فهي إمرأة مسترجلة و لكنها تتظاهر بالرقة." لقد حاولت باريسا أن تخفي خوفها ببعض الغضب فقد سمعت السيدة دي ماغي تستعمل كلمة الشلة ، أليس هذا أسما آخر للمافيا؟
"اسكتي و اتبعيني." أمرها بذلك و هو يصعد الدرج الرخامي.
لقد عاد لاستعمال تلك الكلمة: اتبعيني ، قالت باريسا في نفسها غاضبة ، لكنها لا تملك أي خيار آخر سوى تنفيذ ما قاله. كيف قامت بتوريط نفسها في هذا المأزق؟ إنها لا تصدق ما يجري لها. لا بد و أنها ورثت بعض التهور من عائلة هاردكورت. لقد كانت طوال كل السنوات الماضية تحاول اقناع نفسها بأنها لا تتصرف بطيش كما تصرف والدها ، و لكنها ليست واثقة الآن من نجاح محاولاتها.
"هذه غرفتك. أتمنى أن تشعري بالراحة هنا. إذا ما احتجت إلى أي شيء اقرعي الجرس الموجود قرب سريرك ، سوف أكون في الغرفة المجاورة."
ظل لوك ثابتا مكانه ، فنظرت إليه و هي متضايقة من فكرة أن يكون حائطا واحدا يفصل بينهما.
أجابت بطريقة رسمية: "سأكون مرتاحة ، أشكرك." فنجحت في إظهار ما تريد. تأملت باريسا الغرفة ، لقد كانت منمقة باللونين الأبيض و الوردي بطريقة أنثوية ، فبدت رائعة. كان السرير من الطراز الملوكي تعلوه ملايات بيضاء ناصعة و زهرية فاتحة. و كان يوجد كنبة صغيرة قرب المدفأة و بعض التحف. باختصار ، كانت غرفة نوم أنيقة.
في هذه الأثناء مد لوك يده و وضعها على كتفها فشدت أعصابها استعدادا للدفاع عن نفسها ، فهي لم تكن تعرف أن لوك قريب منها لهذه الدرجة.
قال مشيرا بيده الأخرى: "الحمام عند ذاك الباب."
قالت باريسا: "أشكرك." متمنية خروجه من الغرفة.
"إنك مهذبة ، مع أنه منذ أقل من خمس دقائق كنت تنعتينني بالكاذب. تذكري عقاب مثل هذا الكلام يا باريسا."
كان يجدر بها أن تعرف أن تعليقها على أمه ما كان ليمر دون رد فعل منه.
"لقد سبق و حذرتك ، و لكن يبدو أنه عليك تلقي بعض الدروس لتتعلمي كيفية التصرف على أنك خطيبتي."
أمسك يدها بقوة ، فحاولت دفعه.
"حقا يا لوك ، لا تتصرف بطريق صبيانية." إلا أن لوك لم يكترث لمحاولتها في إبعاده عنها ، فصرخت بشدة: "دعني... يا لك من وحش! لا تلمسني!" جلس على كرسي و عيناه تتفحصان وجهها في نظرة توحي بأنهما تأمرانها بالهدوء حسب تفسير باريسا المذعورة. "لقد سبق أن قلت لي أنك لن تضايقين ، لقد وعدتني." قالت ذلك و هي تعض على شفتيها.
"حسنا ، و لكني غيرت رأيي ، و لم لا أغيره؟"
نظرت إليه بدهشة ، فهو لا يمزح ، بل يعني ما يقول.
"أنت مبتز و محتال و ربما كنت عضوا في عصابات المافيا. فمن أين لك لتشتري المطعم و تستأجر الطائرة و تمتلك سيارة فيراري و هذا المكان؟"
و لدهشة باريسا انفجر بالضحك. و قال بتعجب: "المافيا؟ باريسا إنك تضحكينني..."
لم تلاحظ باريسا ما يضحك فقالت: "حتى أن أمك قالت الشلة ، أتعتقدني بلهاء."
توقف لوك عن الضحك و ضاقت عيناه و ارتسمت على وجهه علامة جد ثم التقط أنفاسه و عدل جلسته و نظر إلى باريسا المرتجفة من شعرها إلى أخمص قدميها و كأنه يراها للمرة الأولى ، ثم مرر يده على شعره الكثيف و مسح جبهته و نظر إليها ثانية.
"و ماذا لو قلت لك إنني لست مبتزا."
"لو لم تكن كذلك لما كنت أنا هنا." أجابت باريسا مستهزئة ثم نظرت إليه فرأت على وجهه علامات الدهشة.
"هذا صحيح." ثم نهض و إتجه نحو الباب فوضع يده على المسكة و استدار قائلا: "إن غلطتي يا باريسا إنني وعدتك بعدم لمسك. نحن نتناول العشاء عند الساعة الثامنة و النصف. و بالمناسبة ، استعملت والدتي كلمة الشلة لأن لغتها الإنكليزية ضعيفة و ليس لأي سبب آخر." ثم خرج من الغرفة و أقفل خلفه الباب بهدوء.
حدقت باريسا بالباب لبعض الوقت و هي عاجزة عن تفسير تصرف لوك. لقد أصبح هذا الرجل يشكل لغزا محيرا بالنسبة لها ، فتارة يتقرب منها بطريقة عاطفية ، و بعد دقيقة واحدة يقول أن ما فعله كان غلطة و يتبدل مزاجه فيصبح مهذبا و مضيافا و كريما. كم تمنت باريسا أن تمتلك تلك القدرة على تغيير المشاعر و الأحاسيس في لحظة واحدة مثله.
لسبب ما شعرت باريسا بأن ما من سبب يمنعها من أن تحب إنسانا من نوع لوك دي ماغي. فهو رجل في السابعة و الثلاثين من عمره ، و له عالمه الخاص ، و هو عالم تستطيع أن تعرف بعض صفاته ، ربما أمه أخطأت خطأ لغويا فلم تستعمل الكلمة المناسبة! و لكن لوك لم ينكر كونه عضوا في المافيا. ارتعشت باريسا ثم اعترفت بأن هذا الأمر يفوق قدرتها على الاستيعاب.
لقد كانت تعيش حياة ريفية هادئة في شرق ساسيكس و تزور لندن في رحلة دورية لحضور المسرح أو مشاهدة استعراض ما. و مع أنها كانت دائما مفلسة كانت مقتنعة بحياتها. فبعد وفاة والديها و جدتها تركت لتتولى حياتها على مسؤليتها الخاصة. و بالرغم من أنها كانت تعتبر على الصعيد المحلي من العائلات الأرستقراطية لم تكن تختلط مع هذه العائلات ، و كانت اختلاطاتها على الصعيد الاجتماعي محدودة جدا. أما أصدقائها الحقيقيون ، مثل مويا و ديدي و قلة أخرى ، فقد كانوا أوفياء لها. أما بالنسبة للأصدقاء الذكور فلديها ديفيد و مع أن صداقة ديفيد لم تكن قوية و لم تكن جدية في علاقتها معه فقد كانت تشعر بأنه يلائمها ، فهو إنسان لطيف و غير معقد... يا ليتها كانت معه الآن.
لوك هو نوع الرجال الذين لا يمكن وصفهم إلا بالمعقدين. و لكن مع هذا كانت تحيط به هالة من القوة و الطاقة التي لا علاقة لها بجسده ، بل بشخصيته.
أطرقت باريسا مفكرة في وضعها الحرج ، فما كان يجدر بها المجيء إلى إيطاليا... لقد كانت غلطة كبيرة ، فقد كان يجدر بها اقناع مويا بأن تبلغ الشرطة التي عليها أن تتصرف مع لوك دي ماغي على طريفته. و لسبب لا تستطيع فهمه كانت نظرة واحدة من عيني لوك السوداوين ، كفيلة بأن تحولها إلى مراهقة طائشة مع أنها كانت تعرف أنه مبتز.
و هنا عادت و تذكرت عيني صديقتها الباكية و وجهها الخائف. لم يكن هناك أدنى شك بالنسبة إلى باريسا في أن الرجل خارج عن القانون. و لكن لم تعاني من هذا الانجذاب الغامض إليه؟ إن الأمر مجرد جنون. لقد أقنعها منطقها بأن هذا الرجل إنسان حقير.
تنهدت لحالها و كم تمنت لو أنها كانت موجودة مع ديفيد الآن في إنكلترا ، فعلى الأقل ديفيد إنسان من النوع الذي تستطيع مجادلته و اقناعه ، لأنه غير معقد و هادئ. بينما لوك ، لا تستطيع أن تفعل معه هذا الأمر.
*********************
يتبع....
|