كاتب الموضوع :
HOPE LIGHT
المنتدى :
الارشيف
|+*| الضوء الرابع في درب الكلمات |*+|
الخميس: السادسة والربع من مساء السابع والعشرين من نوفمبر... / في مخيم التدريب...
كنت أجلس منفرداً عن البقية، أنظر إلى صور عائلتي التي تركتها قبل فترة طويلة، بسبب الأوضاع السياسية في البلاد... حين سمعت صوت صديقي العزيز يقتحم أذني...:" إلى ماذا تنظر ياخالد؟ "
بسرعة البرق أعدت ما في يدي إلى جيب بنطالي و قلت بصوت أحاول فيه أن أخفف معه من توتري... :"لا شيء... لا شيء..."
جلس بجواري وأنا مازلت مذعوراً من قدومه إليّ فجأة... وضع يده على كتفي, يحاول أن يمدني بقليل من القوة والطمأنينة، ثم قال بصوت هادئ...
_:"لا داعي لتخفي الصور عني, فأنا كذلك أحتفظ بصور لصغيرتي..."
لم ينه جملته حتى وضع يده في جيب بنطاله, و انتشل شيئاً منها...
_:" انظر إنها ابنتي الصغيرة... البارحة أكملت عامها الأول..."
أحسست بشيء ما يسري في داخلي، وكأن إحساس الأبوة قد راودني أنا الآخر... تلاشى الخوف من قلبي وحل مكانه التعاطف مع صديقي العزيز الذي بدأت معه هذا المشوار...
_:"إنها جميلة حقاً..."
قلت جملتي وأنا أرغم شفتيّ على الابتسام... حتى أخفف عن صاحبي, الذي غطّى وجهه الحزن... وبنبرة صوتٍ هزه الحزن, قال:
_:"لم أرها عندما ولدت... بسبب سفري خلف لقمة العيش... ولم أرها الآن بسبب أولئك السفاحين..."
وأخذ يمسح بإصبعه على صورة صغيرته ذات الابتسامة الصافية و العينين الصغيرتين اللتين تلمعان فرحا... أخذ يحبس دموعه المتربصة له... فوضعت يدي على فخذه أمده بما أنا محتاجٌ إليه أكثر منه... و قلت بصوت متحمس أخفي خلفه الكثير من الآلام...
_:"لا تحزن يا سالم... هنا سوف نستطيع أن نحقق ما لم تستطع أمتنا أن تفعله..."
وجعلت شفتيّ تبتسمان حتى أُؤكد له كلامي...
فرد عليّ سالم الابتسامة بابتسامة باهتة... فالجرح الذي في قلبه عاود النزف... حاولت أن أوقفه بأي طريقة أملكها... :"غداً اجتماعنا مع القائد جمال... ربما لديه مهمة تستحق كل هذا التعب.."
ولكن هذه المعلومة لم تؤثر به بأي شكل من الأشكال... سوى أنه هز رأسه قائلاً... :" ليكن الله في العون... دائماً ما يأتينا بأخبار مخيبة للآمال..."
| +* +* +* +* |
اتصلت به عدة مرات ولكن هاتفه لا زال مغلقاً... توجهت سيراً على الأقدام إلى منزلهم الذي لا يبعد كثيراً عن منزلنا... وبعد أن ضغطت على زر الجرس ردت عليّ أخته حوراء...
_:"نعم... من هناك؟!."
_:"هل وسام هنا؟!."
فأجابتني... :"لا... لقد خرج قبل فترة... من أنت؟!."
تساءلت قليلاً مع نفسي هل يمكنها أن تعطيني عنوان السيد سلمان أم لا؟!. سألتها وأنا أتحرق شوقاً لمعرفة جوابها... وجاءني الجواب بعد أن ترددت قليلاً في إعطائي العنوان... :"نعم، أعرفه... لكن من أنت!.."
لم أجبها خوفاً من عدم معرفتها بي... بل قلت... :" ألا تعلمين إن كان قد ذهب إليهم أم لا؟!."
_:"ربما... لأني سمعته يتحدث مع أحدهم عن العم سلمان..."
_:" أعطني العنوان لو سمحتِ!.."
_:" ليس قبل أن تقول لي من أنت؟!."
نظرت إلى الشارع خلفي... وأنا أتساءل هل ستعرفني أم لا؟!. وما يهمني أن عرفتني!.. إني لم أرها أبداً في حياتي... ولم نلتق في مكان واحد...
جاءني صوتها عبر السماعة متسائلاً... :"ألا زلت موجوداً يا هذا؟!."
_:" نعم... إني أحمد ابن خالك!.."
ساد الصمت عليها... أحسست بأن صمتها هو الاستغراب... والتعجب... أسرعت أقطع عليها ذلك الصمت... :"هل ستعطيني العنوان أم لا؟!."
_:" حسناً... هل يمكنك الانتظار لدقائق ريثما أحظر دفتر والدي؟.."
_:"نعم، لكن أسرعي أرجوك... فالأمر طارئ..."
غابت لدقائق معدودات... ومن ثم رأيت الباب الخارجي يفتح... وتظهر فتاة صغيرة من خلفه... كانت تشبه لحد كبير بتول ابنة عمتي... حملقت بها متعجباً لذلك الشبه... طأطأت رأسها خجلاً وألقت التحية بصوت منخفض... رددت عليها سريعاً وسألتها عن العنوان...
_:"هل وجدته؟!."
مدت يدها لي بورقة بيضاء صغيرة... :"تفضل هذا هو العنوان..."
أخذت الورقة منها... ونظرت إلى ما دون عليها وأنا فرح بما حصلت عليه... وازددت فرحاً عندما رأيت أن منزل السيد سلمان لا يبعد كثيراً ... فهو في المنطقة المجاورة... رفعت نظري إليها... شكرتها على ذلك... وانصرفت سريعاً دون أن أنتظر منها أي جواب...
| +* +* +* +* |
كنت أقف أمام منزل العم سلمان... أخطو تارة ناحية اليمين بضع خطوات... وتارة ناحية الشمال... أحاول بأن أجد حلاً أو أي شيء يناسب الموقف الذي أنا فيه... إنها أخت لي... حتى وإن لم يكن أبوها أبي... فهي تضل أختي... خرجنا من بين الأحشاء نفسها... حملتنا نفس الأم... وأرضعتنا نفسـ... لا، لا أعتقد بأن أمي أرضعتها... لو فعلت لما تركتها عند خالي وزوجته... لو فعلت لما استطاعت أن تترك من تعبت لأجلها... لكن كيف سأتحدث مع العم سلمان... إنه رجل طيب... وأنا فتى أحمق... لا أعرف التصرف في مواقف صعبة... لو أنك يا أحمد وافقتني وأتيت معي!...
لم أعرف كيف أتصرف!.. لم أجد أي تصرف جيد في هذه البقعة أو تلك!.. سوى الظلام لم أجد أي شيء... سوى ضياع صبية صغيرة لم أجد شيئاً آخر...
فجأة اقتحم صوت طبلة أذنيّ... :"هل أنهيت المهمة بسلام؟!."
نظرت إلى مصدر ذلك الصوت... ووقفت مدهوشاً في مكاني... ابتسم صاحبه لي بارتياح... فقلت بعد أن نظرت حولي كمن أفاق من حلم عجيب...
_:"ماالذي أتى بك؟!."
أشار إلى سيارة الأجرة التي كانت خلفه... وقال مستهزئاً... :" أتيت بسيارتي الخاصة..."
أجبرت نفسي على الابتسام... وربما شعرت برغبة بالضحك لكني اكتفيت بابتسامة متعبة... فقال لي... :"أخبرني ماالذي حدث؟!."
_:"لاشيء منذ نصف ساعة وأنا واقف هنا... أحاول فعل شيء ولكن لا أستطيع... أخشى من ـ ارتكاب خطأ يوقعنا جميعاً في هاوية العم سلمان..."
_:"سأخبرك بشيء... أمك في منزلنا... وأخشى أن تجبر بتول على الذهاب معها..."
أجبته مقاطعاً... :"لن يحدث... فأبوك سيمنعها..."
رفع رأسه ينظر إلى ظلام السماء ولمعان نجومها... ثم وجه نظراته إليّ... :"لن يقدر... فأبي لا يملك الوصاية... إنما فقط رعاها مذ كانت طفلة في المهد... أما أمك التي يطلق عليها لقب عمتي... كأنها كانت تحسب حساب هذا اليوم... فلم تعطه الوصاية... حتى وإن أعطته... فلها الحق اليوم بأن تلغي ذلك..."
رأيت في نبرة صوته خوفٌا وهلعا... يبدو أنه يخشى على أختي أكثر مما أنا أخشى عليها... له الحق في ذلك... فهي تربت معهم وليس معي... لم أعرف أن لي أختا إلا منذ أيام فقط... ولم أشعر بحنان الأخوة تجاه أحد سوى حوراء... قطع عليّ تفكيري ثانية...
_:"مابك هكذا ساكناً!.. ألن تدخل إلى السيد سلمان تحدثه؟!."
هززت رأسي... وعقبت بقولي... :" لا... فأخشى أن يحدث ما لا تحمد عقباه..."
_:"إنني واثق منك... إنك أصبحت شاباً يعتمد عليك... خوفك على أختك لن يجعلك ترتكب أي حماقة تودي بها..."
فكرت قليلاً... ثم استرسلت... :"ماذا يمكن أن يحدث لها؟!. إنها صغيرة كيف لها أن ترتبط برجل يكبر أبي بأعوام عدة... رجل أبناؤه في سن الزواج... وصغيرته في سن بتول... آآآه يا أحمد الأمر يؤرقني كثيراً... لم أعرف للنوم طعما في الأيام الأخيرة..."
ابتسم لي ابتسامة باهته تحمل معها آلاماً وآهات... وبعد ثانية من الصمت... :"أ و تعتقد أنني عرفت السبيل للنوم؟.. إن كنت لم تعرف للنوم طعما... فأنا لم أعرف له سبيلا ... لم أستطع حتى أن أريح دماغي من التفكير... إنني لم أحصل على دقائق من النوم..."
_:"لماذا يا أحمد؟!. السهر يضرّ صحتك..."
تلعثمت الحروف بين شفتيه... :"لأن... لأن... لا لشيء... نعم... لا لشيء..."
شعرت بأنه يخفي خلف حروفه المبهمة فقرات ممتلئة بالحديث... وأشياء لم أكتشفها... سألته... :"أيهمك أمر أختي بتول لهذه الدرجة؟.."
نظر إليّ... نظرات عميقة... نظرات رأيت بها عالماً غريباً... عالماً لا أعرف عنه أي شيء... عالماً من المشاعر المكبوتة... والمقيدة... رأيت مشاعر قابعة خلف قضبان صمت...
أحسست برغبة في أن أعانقه أخفف عنه الألم... كما كانت تفعل حوراء حينما تراني حزيناً أو ترى أحداً يقبع في همه... لكنه أسرع بابعاد عينيه عني... واستدار ليوليني ظهره... نكس رأسه وقال... :"إنها أغلى من الأخت بالنسبة لي..."
خرج مع صوته حزن عميق... وجراح خلفتها الأيام... اقتربت منه وربت على كتفه... لم يتحرك ولم يصدر أي صوت يدل على الحياة في جسده الضخم...
_:"ألا تود العودة إلى بيتكم..."
هنا رفع رأسه ونظر إليّ... لازالت ابتسامته تنير شيئاً من وجهه... أخذ نفساً عميقاً ومن ثم قال... :" هيا سآخذك إلى منزلك ومن ثم أعود إلى منزلنا..."
_:"لا لن أذهب إلى منزلنا... إنك قلت بأن أمي عندكم... أريد أن أذهب معك..."
رفع حاجبيه متعجباً من طلبي... فقلت له... :"لا تتعجب ياأخي... أو ليس من حقي أن أتعرف على عائلتي التي لم أرها في حياتي..."
اتسعت ابتسامته... وتعدلت ملامح وجهه... وحلت علامات من الراحة النفسية عليه... أشار لي حتى أركب السيارة التي تنتظرنا... هممت إليها وهو فعل ذات الشيء... لم نتحرك سوى بضع خطوات حتى توقف هو... التفت إليه... :"مابك توقفت؟!."
أجاب مسرعاً... :"أريد أن أطلب منك طلباً..."
_:"اطلب ماشئت... فأنت الآن بمثابة أخي..."
نظر إلى الأرض... ومن ثم إليّ... :"شكراً لك ياوسام... إن طلبي هو..."
رأيت التردد في كلماته... فقلت له مشجعاً... :"إن ما تطلبه سيكون أمراً عليّ... قل ولا تخجل..."
قال بعد أن ازدرد ريقه... :"إن أخذت أمك بتول... وزوجتها للسيد سلمان... أرجوك أن تعتني بها... إنها... بحاجة لمن يستمع لها... وأنا... وأنا انتهى دوري في حياتها... وجاء دورك أنت... أنت أخوها الذي يستطيع أن يقترب منها دون أن يؤذيها... أرجوك يا وسام... ألا تتركها بمفردها مهما حصل..."
كلماته هذه حركت فيني روح الأخوة... أشعلت في داخلي رغبة جامحة في رؤية بتول... ومعانقتها والوقوف بجانبها... قلت له... :" إني أحفظها في عيني... وأمانة في عنقي... ومذ عرفتها أصبحت جزءاً مني... لهذا سوف أذهب معك... أريد أن أرى أختي التي حرمت منها..."
| +* +* +* +* |
موقف صعب... مستحيل ما أراه و أسمعه... مستحيل... ربما هو حلم... نعم حلم!.. أمي لم تزرنا... ولم ترغمني على الزواج من شخص لم أره من قبل... وبعمر خالي... خالي!.. لم ينطق بالكلام الذي نطق به منذ قليل... لم يعرض زواج أحمد بي... نعم أنه حلم!.. كلا ليس حلماً... بل هو كابوس... كابوس مزعج... فليوقظني أحدكم أرجوكم... أرجوكم...
_:"سوف أتصل الآن بأحمد وأطلب منه المجيء..."
جاءني صوت أمي ليوقظني أو بالأحرى يصدمني بالواقع... و أن كل الذي يحصل ليس حلماً بل واقعي المؤلم الذي لا مفر منه... أخذت تقول لخالي :" كفى يا مصطفى لقد صبرت عليك كثيرا... هيا بتول!.. تعالي سوف نذهب... "
أمسكت بيدي وأخذت تجرني... كأنني دابة... لكن خالي لم يقف متفرجاً بل صرخ بها قائلا...:" سارة توقفي... لن تخرج بتول من هذا البيت أبداً... و الآن سيحضر أحمد... وينتهي كل شيء... لن تكون لك كلمة على بتول أبداً... "
ردت عليه أمي بنفس الحدة التي كلمها بها خالي , لكنه لم يعرها بالاً بل أخذ يضغط على أزرار هاتفه النقال بسرعة ....
| +* +* +* +* |
رن هاتفي... فانتفض معه قلبي... كأنه ينذرني من القادم... أخرجت هاتفي النقال من جبي... و تعينت الرقم... لأجده أبي... شل أصبعي و ظل متعلقاً بين السماء والأرض... لم أقدر على ضغط ذلك الزر ... إلى أن قال لي وسام الجالس بجواري...:" ماذا بك؟ ألن ترد على الهاتف؟.. "
قلت له بعد أن ازدرت ريقي بصعوبة... :" بلى سأرد... "
و ضغطت أخيراً على ذلك الزر أخضر اللون... وقلت بصوت بالكاد يسمع... :" نعم أبي..."
لم يرد عليّ... و لم يلقِ السلام حتى... بل قال على عجل... :" أين أنت يا أحمد؟.. "
أخذت أفكر بماذا أرد عليه!.. لا أعرف لماذا قلبي مقبوض هكذا؟.. وجاءني صوته من جديد و هو يقول...:" ماذا بك يا أحمد لا ترد , قل لي أين أنت؟.."
رددت عليه بكلمات مبعثرة... :" أنا ... كنت ... أنا ... في ... "
قاطعنا صوت وسام و هو يسأل...:" أين بيتكم؟.."
وجاءني من الخط صوت أبي وهو يقول...:" أأنت قادم إلى المنزل؟.. هذا جيد... نحن في انتظارك..."
أغلق الخط قبل أن أرد عليه... وتركني في دوامة من الأسئلة... بل هو إعصار يفتك بجمجمتي... أنقذني منه وسام الذي كان يحدق بي باستغراب... :"ماذا بك يا أحمد تغير لون وجهك عندما تكلمت بالهاتف... أهناك مشكلة؟.. "
| +* +* +* +* |
_:"الآن سوف يحضر أحمد... و سينتهي كل شيء ..."
قالها خالي... و هو مصوب عينيه ناحية أمي التي كانت كالبركان في أي لحظة تهدد بالانفجار....
دنا مني خالي بخطى واسعة... ومسح على شعري وبابتسامة واسعة قال...:"كل شيء سيكون على خير ما يرام... فلا تقلقي ياصغيرتي..."
قتلت أمي تلك اللحظة التي تعبق بالحب و الحنان الأبوي... لقد سحبت بيد خالي بعيداً عن رأسي... و أخذت تقول بصوت عالٍ...:" كفى!.. لقد اكتفيت من هذه المسرحية السخيفة... هيا يا بتول!.. هيا..."
وعادت تجرني جراً... وأنا كا الدمية بين يديها لا أنطق و لا أسمع و لا أتحرك... مستسلمة لها بكل جوارحي...
قبل أن تمسك بمقبض الباب... تحرك الباب... ليكشف عن أحمد... و صبي يصغرني بعامٍ أو عامين... لم أره من قبل... تشابكت عيني بعين أحمد... فرأيت الدهشة مرسومة عليهما... دخل طبلة أذني صوت خالي وهو يقول... : " الحمد لله أنك وصلت..."
وأقبل ناحية أحمد... و وضع يده على كتف أحمد... و قال...:"بني أريد أن أطلب منك طلباً واحداَ ... طلباً سينهي هذه المهزلة... بني أحمد أنا أعلم كم أنت تعز بتول... و هي كذلك تعزك كثيراً و تحترمك... لهذا يا بني لماذا لا تتزوج بها؟.. "
مباشرة رفعت رأسي ناحية أحمد... لأتعين ردت فعله... و ليتني لم أفعل....
| +* +* +* +* |
ماذا أسمع؟.. أحقاً الذي دخل سمعي؟.. أحقا أبي يريد مني أن أتزوج بتول؟..
لا ... مستحيل ... مستحيل ... جاء صوت أبي من جديد لقطع الشك باليقين...:"ها بني ما رأيك؟.. بزواجك من بتول؟.."
ماذا يا أبي؟ كيف ترض لي بأن أتزوج بــــ ؟.. أستغفر الله... أستغفر الله... أحسست بشيء يسحب قميصي من الخلف... فألتفت ناحيته... و وجهي يعكس الدهشة و عدم التصديق التي بداخلي ... وجدت وسام ... و يده ممسكة بقميصي... همس لي قائلا...:" هكذا سننقذها... فوافق!.. "
هجم على مسمعي صوت عمتي المشحون بالضيق...:" ألن تنتهي هذه المهزلة؟.. فقد اكتفيت مما سمعت و رأيت... وأنت يا وسام أين كنت؟.. "
أقترب منها وسام... و بوجه يرسم الرجاء... قال..:" أمي أرجوك!.. أرجوك أتركي بتول و شأنها... أنها لا تريد أن تتزوج برجل أكبر منك و من أبي أيضا... فأر..."
بترت جملته بصراخها...:" ما هذا الكلام؟.. من سمم أفكارك أنت أيضا؟.. أهو أحمد الذي سمم أفكارك... لماذا يظنني الجميع بأني أنا الظالمة هنا؟.. لماذا لا تفكرون بأني أنا الوحيدة التي أفكر بمصلحة بتول؟.. هي ستعيش في رخاء و هناء لبقية عمرها بزواجها هذا... أنا أفكر بمصلحتها فافهموا!.. "
وجهت بصري ناحية بتول... فوجدتها مطأطئة رأسها... و ساكنة بلا حراك... المسكينة هي في موقف أكبر منها... موقف لا تحسد عليه... حقاً أريد مساعدتك... فلا أستطيع أن أراك تتألمين... لا أستطيع... لكن... لكن ماضيك.... ماضي أمك....
_:" أترينني أحمقاً... أم لا أفهم؟!. كل هذه التخطيطات لمصلحتك... بالتأكيد أنت تطمعين بمال هذا العجوز... أنا متأكد من ذلك... فأنت أختي... تربيتي أنا...لكن للأسف ذهب تعبي فيك هباءً منثوراً... إني أعرفك أكثر مما أعرف نفسي..."
ألتفت عليّ بسرعة... و بصوت عالٍ صرخ في وجهي...:" ما قرارك يا أحمد؟.. قله وأنه الأمر ..."
كل الأعين أخذت تحدق بي... ماعداها هي... لازالت منكسة برأسها... إنهم يصعبون المهمة عليّ... آآآآآآآآآآآآآآآآآه... ماذا أقول؟.. و ماذا أفعل؟...
هجم من جديد صوت أبي على مسمعي و هو يقول...:" أحمد قل ما هو قرارك؟.."
فسرت رعشة في جسدي .... تبع ذلك صوت وسام وهو يقول...:" وافق يا أحمد!.. وافق... "
يا الهي أشعر بضيق في التنفس... أنظارهم تخنقني... هربت بعيني بعيداً عن أعينهم التي تشد الخناق على عنقي...
فربت صوت أمي الحاني على سمعي... وهي تقول...:" بني رد علينا وأرحنا... "
أخيراً رددت و لا أعرف كيف قلتها... و كيف تحرك لساني لينسجها للعلن... نطق لساني بها من غير تفكير... من غير شعور أو إحساس ينبض...:" لا أستطيع ..."
نعم قلتها و قلبي في داخلي يصرخ بأعلى صوته لا... وألف لا كذلك...
رفعت رأسي لتصطدم عيني بعينيها المفتوحتين على مصراعيهما... فهربت منهما... لم أقدر أن أتحمل النظر إليهما... يا الله لم أتخيل يوماً بأني أنا الذي سيجرحها... أنا الذي سيخذلها... ياالله... لم كل هذا العذاب؟!.
_:" ماذا؟!. لكن لماذا لا تستطيع... بتول!.. أحمد... إنها بتول التي تحرص عليها... و تحبها..." كان هذا صوت أبي المصدوم من ردي...
بجهد جهيد رددت عليه قائلا : " أحبها... أحبها... كأخت... لكن... لكن..."
بتر جملتي صوت قادم من خلفي... و هو يقول...:" سارة... سارة..."
ألتفت الجميع إلى ما وراء الباب , ليجدوا زوج عمتي واقف على عتبة الباب... وفي قسمات وجهه الذهول... ركضت ناحيته عمتي... وهي تسأله...:" ماذا هناك؟.. "
قرب شفتيه من أذنيها ....
| +* +* +* +* |
_:" مستحيل ما تقول؟.. " قالتها و عيناها يكادان يخرجان من محجريها...
هز رأسه ومن ثم قال :" بلى يا سارة أنها الحقيقة... سلمان الآن بات في السجن..."
_:"لكن كيف؟!. و لماذا؟.. "
_:" الذي فهمته بأنه متورط بقضية اختلاس... هذا كل الذي أعرفه... لهذا أنا يجب أن أذهب الآن لأرى الأوضاع... وأنت كذلك يجب أن تذهبي للبيت..."
_:" و بتول؟!.. "
_:"ماذا بها؟!. "
_:"ألن نأخذها؟!."
قال لها وهو يهزأ بالأوضاع من حوله...:" وما نفعها الآن إذا كان سلمان في السجن؟!."
ترددت...:" لكن..."
فقاطعها بقوله... :" سارة أنت هنا منذ ساعة , وكما أرى أنها ليست في يدك... إنهم متعلقون بها... فدعيها معهم... ريثما نرى ما الذي سيحل بسلمان... هيا بنا!.. هيا... صحيح ما الذي يفعله وسام هنا؟!. "
هزت رأسها و قالت...:"لا أعلم... "
أخذ يمشي ناحية سيارته الفاخرة و هو يقول لها... :" حسنا... هيا فلنذهب ونادي وسام كذلك..."
ألتفتت إلى خلفها... لتجد أعينهم مصوبة ناحيتها... و علامات الاستفهام مرسومة عليها...
كان واضح وضوح الشمس الصدمة و عدم التصديق على قسمات وجهها الجامد... لكنها سرعان ما نفضتها من وجهها... و نشرت الصقيع على تعابير وجهها... و نادت وسام...:" وسام هيا فالنذهب..."
ألتفتت وسام ناحية أحمد... و أخذ يحدق به... لكن أحمد ظل منكساً بصره ناحية الأرض...
بصوت حاد قالت...:" هيا يا وسام!.. فلنذهب..."
أنصاع لندائها و أقبل ناحيتها... و عيون الجميع... ما عدا بتول و أحمد... تتبعهما...
| +* +* +* +* |
الخامسة وعشرة دقائق من عصر يوم الثامن والعشرين من نوفمبر...
لم أذق طعم النوم ليلة البارحة , و متى ذقته ؟ لم أنم قريرة العين مذ بدأت هذه المشكلة... آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه لكن ليلة البارحة كانت مختلفة... طعنت فيّ في الصميم... أحمد... أحمد لايحبني... تخلى عني... لَم أتألم قدرما تألمت لما سمعت رده ذاك... أنت الذي كنت البلسم الشافي لأحزاني... أصبحت الآن السكين التي تسبب آلآمي و أحزاني... لا أعلم أأفرح لأن أمي لم تأخذني معها أم أبكي على الشخص الذي سكن قلبي و باعني...
لا أعلم ... آآآآآآآآآآآآآآآآآه أشعر بحرقة في صدري... و بضيق يكتنز نفسي... يا الله!.. لا أعلم لمن أشتكي!.. لمن أتكلم؟.. حتى أزيح هذا الذي يثقل على صدري... كنت أنت المصغي لأحزاني... كنت أنت القلب الكبير الذي يمتص أحزاني و آهاتي... بت الآن أنت الذي أطلق كلمة آآآآآآآآآآآآآآآه من شفتي...
لمن ألجئ أمي و أبي يكفيهما الذي جاءهما بسببي, غدير المسكينة لقد ورطتها بما فيه الكفاية... ريم!.. إنها تكرهني الآن.... آآآآآآآآآآآآآآآآآه لمن أشكو!!.. لمن أتكلم؟..
أكاد أختنق ... أختنق...
تعالى صوت رنين الهاتف... اقتربت منه بخطى متثاقلة... رفعت السماعة... ليردني صوت صديقتي العزيزة هدى... :" السلام عليكم و رحمة الله و بركاته... "
قلت لها بصوت أعياه البكاء...:" و عليكم..." و لم أقو على إكمالها فدموعي انهمرت لتقاطع كلامي...
قالت هدى بخوف غلف صوتها... :" ماذا بك يا بتول... لماذا تبكين؟!. "
من بين شهقاتي و آهاتي قلت... :" أنا... أنا مختنقة... مختنقة أريد أن أتنفس... أتنفس... "
بصوت شخص فطر قلبه لما سمع...:" عزيزتي ماذا بك؟.. ما الذي جرى؟!."
قلت لها بصوت ملهوف للخلاص...:" أريد أن أتكلم... أريد حضنا يستقبلني... كل ما حولي ينهار... أنا نفسي أنهار... لم أعد أحتمل... لم أعد أحتمل... "
قالت هدى... :" بتول أنا قادمة إليكم... ثوانٍ وسأكون بجانبك... "
قلت لها ممانعة... :" كلا ... أنا سآتي إليك... فأنا أريد أن أخرج من هذا المنزل... أريد أن أتنفس ..."
فأجابتني هدى بنبرة حزن وحنان... :" حسنا عزيزتي... سأنتظرك... "
أغلقت سماعة الهاتف بيد... و باليد الأخرى سحبت حجابي الذي يفترش سريري... ووضعته على رأسي... هرولت ناحية الباب... فأنا لم أعد أقدر التحمل أكثر من ذلك... أريد أن أتنفس... أخرج كل الذي في صدري... فتحت الباب على عجل... خرجت لكن اصطدمت بشيء ضخم جعل توازني يختل... وكدت أهوي إلى الأرض... إلا أن يداً انتشلتني... و سحبتني... لأصتدم بنفس ذلك الجسد الضخم... رفعت رأسي إلى أعلى... لتفتح على مصراعيهما لهول ما رأت... إنه هو ... هو ...
دخل طبلة أذني صوته... و هو يقول...:" أأنت بخير؟.. "
سحبت جسدي من بين يديه... و أبعدت أنظاري عن وجهه... لأجيبه...:" نعم بخير "
وشرعت بالمشي بعيداً عنه... لكن صوته استوقفني...
_:" بتول!.. لحظة... "
رددت عليه قائلة... :" ماذا تريد ؟.. "
أخذ صوت خطواته يقترب مني... و كذلك نبض قلبي الصارخ بأعلى صوته قائلا... [[ أرجوك دعني و حالي... كفى جراحاً... كفى!..]]
توقف أخيراً... كما يبدو بأنه ورائي مباشرة... فصوت أنفاسه يشق أذني...
قال بعد طول انتظار...:" بتول ... أنا... أنا... أنا آسف لما جرى البارحة... لكن... أنت... تعلمين ... أأني... وأنت..."
كانت كلماته المتقطعة... المبعثرة مصدراً آخر لعذابي... فبترت جملته لأنهي عذابي و عذابه في البحث عن تبرير يغفر له... فقلت له بعد أن التهمت الهواء التهاماً...:" لا داعي لأن تعتذر و لا لأن تبرر رفضك الزواج بي... أتعلم لماذا؟.. سوف أقول لك لماذا... البارحة الجميع أخذ يخطط مصيري دون أن يطلبوا مني رأي... لو سئلت البارحة هذا السؤال... سؤال إذا كنت أقبل أزواج بك... أتعلم ماذا سوف أجيبه..."
قلبي ينبض بكلمة لا تقولي... و كبريائي يحرضني على قولها... فقد أهنت بما فيه الكفاية... فاخترت وضع قلبي أسفل قدمي والدعس عليه... فقد استمعت له كثيراً... ولم يأتنِي منه إلا الألم و الحزن و الدموع... أكملت جملتي... :"... لقلت لهم بأني لا أريد الزواج بك... فأنت بمثابة أخ لي... و لا أرى فيك إلا صورة الأخ لا غير..."
لم أرد أن أسمع المزيد... و لا أن أقول المزيد... فدمعي يتربص لي... وأنا لا أريد لها تنهار أمامه...
أخذت أتقدم مبتعدة عنه بخطى واسعة... ولم أسمع منه شيئاً... و لم أرَ شيئاً... بالتأكيد لن يقول أو يفعل شيئاً... فها أنا أعتقه مني... الآن بالتأكيد يرقص فرحاً لأنه تخلص من همي... نعم تخلص مني...
شعرت بشيء دافئ ينساب على خدي... فرفعت يدي لأتحسسه... لأجد أنه دمعتي قد أنسكبت... لترثي حالي... رفعت يدي الأخرى لأمسك بمقبض الباب... وأتحرر لأتنشق هواءً عليلاً... لكن صوت أمي حال دون ذلك...
_:" بتول .."
التفت إلى يميني لأجدها واقفة أمام باب المطبخ... و حاجباها مرفوعان إلى الأعلى...
بسرعة أنزلت رأسي لم أرد أن ترى الدمع الذي في عيني... فرددت عليها بصوت جاهدة في سبيل أن يظهر للعلن طبيعيا...
_:" نعم أمي..."
فسألتني...:" إلى أين أنت ذاهبة؟!. "
_:" إلى هدى... "
فعادت تسأل...:" في هذا الوقت!.. لماذا؟!. "
ارتبكت لم أعرف ماذا أقول لها... فأخذت أتلعثم في كلامي... :" آآآ.. لأنه... لأنه... الواجب... نعم هناك مسألة صعبة لم أعرف كيف أحلها... لهذا سأذهب لهدى لكي تساعدني في حلها ..."
لأول مرة أكذب عليك ياأمي... فسامحيني أرجوك...:" حسنا... اذهبي لكن تعالي قبل صلاة المغرب... مفهوم!.. "
_:" حسنا أمي... عن إذنك..."
همست بحنان...:" إذنك معك حبيبتي... "
أخيراً غلفت يدي بالمقبض... و فتحت الباب... لأخرج خارج هذا البيت الذي يجمعني به... لأتحرر منه... لأتحرر منك يا أحمد... نعم أريد التحرر من حبك الذي في قلبي...
| +* +* +* +* |
لا أعلم كيف أعبر عن مشاعري... أهي فرح؟.. حزن؟... لا أعلم كيف؟... أيجب أن أفرح لأنها ليست متضايقة لأني لم أقبل الزواج بها... أم أحزن لأنها لا تبادلني نفس المشاعر التي كانت تنمو في قلبي... ولازالت تنمو لتكبر... لا أعلم أشعر بحيرة و ضياع... عاصفة المشاعر التي في داخلي ستفتك بي... آآآآآآآآآآآآه يا بتول!.. ماذا يجري لي بسببك... ماذا يجري لي؟!..
عيناها كانت تحكي الكثير... لكني لم أفهم ما قالت... نعم لم أفهمها كما كنت أفعل دوماً... كانت نظرتها لي كنظرة شخص يفارق أهله... يفارق أحبته... ولن يلتقي بهم مجدداً... لكنها ستعود... فهي لن تبتعد كثيراً عن المنزل... فمنزل هدى صديقتها خلف منزلنا... وهي دائماً تذهب أو تأتي هي إلينا... المكان آمن إذن...
لكن نظرتها تلك إليّ وإلى أمي نظرة غريبة!.. لماذا سمحت لها بالخروج ياأمي؟!. لماذا لم أرافقها إلى هناك؟!. لا... إنها ستعود... ستعود لنا... بل تعود لي أنا وحدي... سيحفظها الله في عينه التي لاتنام...
| +* +* +* +* |
دخلت إلى الغرفة التي أعياها الزمن... و خط عليها شقوقه و غباره... و كساها باللون الأسود... دخلت و نيران الغضب تشتعل في عيني... قلت بصوت شحذته بالضيق و عدم التصديق... :" كيف هذا؟ هذا غير معقول!.. غير معقول!.. "
و هويت بقبضتي يدي على الجدار المتداعي...
جاءني صوت سالم محاولاً أن يخفف من حدة غضبي... :" ماذا بك يا رجل؟!. أهدأ قليلاً..."
التفتُ ناحيته بسرعة البرق... و انفجرت عليه قائلاً... :" كيف أهدأ؟.. ألم تسمع ذلك المجنون ماذا قال؟!. و نحن الذين كنا نحسبه سوف يعيد حقوقنا لنا... يبدو بأنه يريد أن يزيد الأمر سوءاً... "
اقترب مني سالم... و أسند يده على كتفي... و قال... :" خالد!.. ألم تسمع ما قال؟.. قال بأن الخونة مختبئون هناك... لهذا لا بد أن نباغتهم..."
من شدة غضبي مما سمعت من سالم... بحركة سريعة أبعدت يده عن كتفي... و صرخت به... :" ما هذا الكلام يا سالم؟!.. أنسيت أن هناك أناسا أبرياء في تلك المدينة؟!. ما ذنبهم؟!. قل لي ماذنبهم؟!.."
قال سالم... بعد أن أدخل في رئتيه الأكسجين... وأخرجه منها بقوة... :" لن يتأذوا... فنحن سنهاجم على مناطق تقوقع العدو بها... و ليس على منازل السكان... ماذا بك؟!. كأنك لم تسمع شيئاً من الاجتماع... "
صوبت سبابتي ناحية سالم... و زمجرت عليه قائلاً...:" أنت الذي يبدو بأن جمال هذا غسل مخك بكلامه... "
هنا فقد سالم رباطة جأشه... وأخذ يصرخ بوجهي قائلاً... :" خالد... أتظن أنك الوحيد الذي يريد أن ينتهي هذا؟.. جميع من في هذه الغرفة يريد ذلك... و الطريقة الوحيدة لتحقيق الآمان من جديد هو هذه الهجمة... بهذه الطريقة سنقضي على هؤلاء الخونة... و سنعود لمن أحببنا... لقد انتظرنا بما فيه الكفاية... و حان وقت الحصاد... فلا تسمح لأفكارك الغبية هذه بأن تردعك عن الوصول إلى النصر... و رؤية من نحب... هذه هي الفرصة يا صاحبي لنقضي على بؤرة الفساد... و نحضن أحبتنا... هذه هي الفرصة!.. "
أمسك بيدي... و غلفها بيده الأخرى... و رسم ابتسامة عريضة و هو يقول... :" سوف نرى أحبتنا من جديد..."
لم أعرف ماذا أقول... أو ماذا أفعل... فأنا مشتاق لأمي و أختي من ناحية... و من ناحية أخرى ربما سيتضرر أبرياء بهذا الهجوم... لكن... لكن ربما لن يصيبهم شيء... نعم... مستحيل أن يؤذوا الأبرياء... يا الله ماذا أفعل؟..
هجم على مسامعنا صوت أحدهم و هو ينادي قائلا... :" يا أنتم القائد يريدكم في الساحة فوراً... "
و اختفى بلمح البصر... ليتركنا أنا و سالم نتبادل نظرات التعجب و الاستغراب... يا ترى ماذا يريد بنا القائد؟!.
ذهبنا إلى حيث اجتمع البقية... وبعد المقدمات المعتادة... أخذ يخطو بخطى واسعة ذهباً وإياباً أمامنا... ونحن منتصبون كلوح شامخ مغروس في الأرض... أخذ يقول بصوت يهز الجبال كما تهتز نفسي الآن...
_:" أيها الرجال!.. لقد زكاكم قادتكم لدي... لهذا اخترتكم لهذه المهمة... إنها مهمة ستحدد مصير الخطة القادمة... باختصار هي التي سوف تحدد نجاح أو فشل هجومنا... لن أطيل عليكم وسوف أخبركم ما هي هذه المهمة... المهمة عبارة عن حملة تقصي... جس نبض العدو... ما أقصده أنكم أيها الرجال... ستنتشرون في أنحاء مدينة الأمير... و تراقبون الأجواء.. إذا كان العدو يشعر بشيء... يحس بشيء... أم أنهم لازالوا نائمين... لهذا بعد ساعة تقريباً أريد كل رجل منكم أن يستلم أحد مناطق مدينة الأمير... و في الغد تعودون إلى هنا في نفس هذا الوقت و تقدموا لي تقريراً مفصلاً عما رأى...
لكن قبل أن تذهبوا هناك بعض المحظورات التي يجب أن أقولها لكم... ممنوع منعاً باتاً أن تستخدموا هواتف نقالة أو أي وسيلة اتصال... و أيضا ممنوع عليكم مقابلة بعضكم البعض... وكذلك أي احتكاك بالآخرين ممنوع كذلك... أي باختصار كأنكم أجساد بلا أرواح... أجساد لا تسمع لا ترى و لا تتكلم... هل هذا مفهوم؟!. "
ردوا عليه دفعة واحدة... :" مفهوم سيدي..."
إلا أنا الذي أطبقت شفتي ولم أنطق بكلمة... كيف أفهم ما يقوله هذا المعتوه؟!. يريدنا أن نهجم على منطقة إسكانية... منطقة مليئة بالأطفال وكبار السن... مدارس ومستشفى...
رسم ابتسامة رضا على شفتيه اللتين يعتليهما شارب كثيف... وأردف قائلاً :" جيد... وكذلك إن أتت إليكم أوامر بالقيام بتغيير هذه الخطة... فنفذوا الأوامر... ومن يرفض سيكون عقابه أليماً... هيا اذهبوا و استعدوا للمهمة... انصراف..."
علت نبرة صوته بكلمته الأخيرة... وانصرف الجميع... أيحسبنا حمقى أم ماذا؟!. ابتسامة الرضا هذه دليل على سخريته منا... يأخذنا اليوم إلى هناك لمراقبة الأوضاع... وفي الغد يضرب ضربته ويأمرنا بالتفجير والقتل... هذه سياستهم دوماً... وإن عصينا أوامره... كانت حياة أهلنا بين يديه...
| +* +* +* +* |
بصوت حمل المواساة والتعاطف قلت لبتول التي أحطتها بيدي و جعلتها تزور حضني لعلها تلتمس بعض الهدوء... : " اهدئي عزيزتي... بتول اهدئي!.. اسمعي لربما الذي تشعرين به ليس حباً... ربما إعجاب... أو أمر عابر..."
ردت علي بصوت أعياه البكاء... :" كلا إنه حب... أتعلمين لماذا يا هدى؟!. لأنه إذا كان إعجاباً... أو أمراً عابراً لما آلمني كما يؤلمني الآن... " و عادت تبكي بحرقة ...
لم أجد كلاماً يشفي ألمها... لم أجد سوى أن أضمها أكثر ناحية صدري... تعالى صوت الأذان في أرجاء المنزل... رفعت رأسها بعيداً عن صدري... و التفتت ناحية الساعة المعلقة على الجدار... و شهقت... ومن ثم قالت... :" أنها الساعة السابعة... يا الله لقد تأخرت!.. "
قامت بسرعة... وأخذت تمسح دموعها السخية التي تأبى التوقف... و أخذت تصرخ بهسترية... :" توقفي عن النزول... توقفي... توقفي..."
قمت من على السرير... و طوقتها بكلتى يدي... و دفعتها ناحية حضني... و أنا أقول لها... :" عزيزتي لا بأس... كل شيء سيكون على ما يرام... فقط لا تتعبي نفسك... اهدئي..."
كانت تبكي... تبكي بحرقة و لوعة... كم آلمني رؤية أعز صديقاتي بهذا الحال... لو كنت مكانها لجننت... كان الله في عونها... ظللنا على هذا الحال لبضع دقائق... حينها بدأت حدة بكائها تقل... حتى توقفت... أبعدتها عن حضني... لأرى وجهها الذي أصبح أحمر كالدم من كثرة البكاء... قالت بصوت أقرب منه إلى الهمس... :" يجب أن أذهب... "
قلت لها... :" ابقي قليلاً... وأنا سأكلم..."
قاطعتني بقولها... :" كلا!.. يجب أن أذهب فقد قلت لأمي بأني سأعود قبل أذان المغرب... وها هو الأذان... لقد تأخرت سلفاً... "
قلت لها... :" لكن..."
عادت لتبتر جملتي... :" شكرا لك هدى على كل شيء... و عذرا على الإزعاج..."
رفعت يدي و وضعتها على كتفها... بابتسامة باهتة قلت لها... :" لا عليك... المهم أنك بخير..."
بابتسامة صفراء لم تدم على شفتيها أجابتني... :" الحمد لله... أشعر بأني أفضل... مع السلامة أراك غدا... "
_:" سوف أذهب معك... "
أشارت لي بلا , ومن ثم قالت... :" كلا لا داعي... أنت يجب أن تصلي ومن ثم أن تحضري العشاء لأبيك... لقد أخرتك بما فيه الكفاية... ومن ثم منزلنا ليس بعيداً... "
_:" لكن بتول..."
كالعادة قاطعتني بقبلة طبعتها على خدي الأيسر... تبعته قائلة... :" مع السلامة... "
| +* +* +* +* |
خرجت من بيت هدى... كان الظلام قد بدأ ينشر عباءته على السماء الزرقاء... وأضواء الطرقات تضيء الواحدة تلو الآخرى... ظننت أن بكلامي مع أحدهم سيخف هذا الألم... هذا الوجع الذي في صدري... لكنه لم يخف... و لم يركد... لازلت أنزف في داخلي و بغزارة... أخذت أمضي ناحية منزل خالي بقدمين متثاقلتين... لا تريدان أن تدخلا لمنزل أنت ساكنه يا أحمد...
خرجت من البوابة الرئيسية لمنزل هدى ... وأنا مطأطئة رأسي ناحية الأرض... و دمعي على حاله لا يود فراقي... أخذت أمشي وأنا مكسورة الجناح... دخل إلى مسمعي صوت أحدهم و هو يقول... :" أهذه أنت بتول؟!."
التفت إلى خلفي... لأجد أبا هدى واقفاً... بعد جهد جهيد أجبته... :"نعم... هذه أنا ياعم!.. "
رد ليسألني... :" أتبكين؟!. "
هززت رأسي... و تبعته بكلماتي... :" كلا يا عمي أنا لا أبكي..." لكن دموعي خذلتني ...لتكشف عن كذبتي...
اقترب مني... وأمسك بذقني... و رفعه... وأخذ يتعين وجهي الذي أعياه الحزن... ورسم لوحته عليه... ثم قال... :" صغيرتي!.. ما الذي جرى لك؟!. "
سحبت ذقني من يده... و هربت بوجهي في الجهة المعاكسة له ... لأقول...:" لا شيء... لاشيء مطلقاً..."
قال... :" أتكذبين عليّ يابتول!.. هذا الوجه يؤكد أن هناك شيئاً... وشيئاً كبيراً أيضاً..."
حاولت إلى آخر نفس أن أقنعه بأن ليس بي شيئا... :" عمي أنا لا أشكو من شيء... هذا لأني تعبة قليلا... عن إذنك يجب أن أذهب إلى المنزل... فقد تأخرت..."
والتفتت إلى الوراء وفي نيتي المضي ناحية المنزل... لكنه منعني بقوله... :" لا و الله لن تذهبي لوحدك و في هذا الوقت... وأنت في هذه الحالة... أنا سأوصلك... "
يالها من ورطة... حاولت أن أتملص منه... :"عماه!.. لا داعي إن بيتنا قريب... "
_:" لقد حلفت ياعزيزتي... فلا تجعليني أنكث به..."
لم أجد مفراَ من أن يذهب معي... فوافقت مجبرة... رغم أني في هذه اللحظة لا أريد أن أرى و لا أسمع أحدا... أخذنا نمشي معاً... على خطين متزاويين... شرع بالقول :" ألن تخبريني بالذي جرى لك؟!. "
أكدت له بقولي... :" قلت لك يا عمي انه مجرد تعب لا غير... "
_:" و التعب يجعل وجهك بهذا الحال... و يجعلك تبكين؟!. "
ازدرت ريقي... و أخذت أهز رأسي بإشارة معناها نعم... فجأة توقف... وأخذ يتطلع إلى السماء , وأنا بجانبه أتفرج عليه باستغراب...
_:" أتعلمين يا بتول بأنك فتاة طيبة... و حنونة... عطوفة... وذكية..."
ثم أنزل رأسه... ليصوب عينيه ناحيتي... وكانت عيناه مصبوغتين بنظرة لم أرها في عينيه قط... وأكمل قائلاً...
_:" وجميلة... و لكن للأسف الناس لا يقدرون جمالك... و لا حتى أخلاقك..."
أخذ يسترسل بكلامه... وأنا أحدق به باستغراب... لا كلامه و لا نظراته تعجبني... أخذ يقترب مني... وأنا أخطو إلى الخلف... هو يدنو... و أنا أبتعد... حتى قطع طريقي الجدار الذي اصطدم بظهري... فقدت جميع حواسي بعدها... لم أعد أسمع... ولم أفهم مايدور من حولي... أشياء كثيرة عقلي لم يستسغها أبداً... ولم أشعر بنفسي إلا وأنا في مكان آخر... في وسط مكان أجهله تماماً... في مكان لفة الظلام والعتمة... عالم آخر... عالم أرحم بكثير من عالم الدنيا هذا... فيه النسيان أسهل بكثير...
سأرحل... ولن أعود... أنا اليوم راحلة بلا عودة!...
| +* +* +* +* |
|+*| التدقيق | سيهاتي الهوى |*+|
|+*| بقلم | HOPE LIGHT |*+|
|+*| الورقة الخامسة من غصن الحرية ستكون بين أحضان القلم |*+|
|