كاتب الموضوع :
HOPE LIGHT
المنتدى :
الارشيف
(2)
|+*| الضوء الثاني في درب الكلمات |*+|
صباح الخامس والعشرين من نوفمبر ... ((عدنا للخلف قليلاً ))
في مثل ذلك اليوم الذي يرفع راية الحزن , ليرفرف في سماء وطن قطع جزء منه , على يد عدو همه المال لا غير ....
وفي ذلك البرد الجاف والقارص... يقف في مواجهته رجال أقوياء... وبيد كل منهم بندقية... كانوا في إحدى تلك المناطق النائية... بعيداً عن العمران والمناطق السكنية... وفي هذا الجو حيث لا يرى من وجوههم سوى أعينهم التي تخرج من خلف اللثام...
عند انتهائهم من بعض التدريبات... ابتعد اثنان منهما عن البقية... وألقى أحدهما ببندقيته التي لم تهجر يده في الآونة الأخيرة على الأرض بقوة... وأخذ ينفث الهواء من رئتيه بضيقٍ شديد...
ومن ثم قال بغضب يغلف كلمات وجهه الذي اختفت معظم ملامحه وراء ذقنه و شاربه الكثيفين ذوات اللون الأسود...
_:" إلى متى سوف أضل هكذا؟!. تدريب... تدريب... متى سوف نشارك في إحدى المهام؟.. متى ؟!. "
و ألقى بنظرة إلى ورائه بحركة سريعة... لتعكس عينيه صورة شخص ذا ذقن أسود طويل وشارب خفيف... كان الهدوء سمته...
_:" صبراً يا صديقي... صبراً... ذهب الكثير و لم يبق إلا القليل..."
فرد عليه بنفس درجة الصوت...
_:" لقد نفذ الصبر مني يا سالم... لقد نفذ... لم أعد أقوى على فراق أمي وأختي أكثر من ذلك... لم أعد..."
قال جملته هذه وعيناه تنذران بدمع مرير... اقترب سالم من صاحبه... و أسند يده على كتف صاحبه... وقال...
_:" كن قويا يا خالد... ولا تكن ضعيفاً... فعملنا هذا لا يقبل الضعفاء... ومن ثم لقد سمعت بأن المهمة القادمة سوف تكون على مجال أوسع... أي أنها كبيرة جدا... هذا يعني بأنهم سوف يحتاجون إلى أشخاص كثر لتنفيذها... ومن أنسب مني ومنك لهذه المهمة!.. نحن قد مضى على انضمامنا عام كامل... فتفاءل يا رجل... قريباً ستفرج... وبإذن الله سنلحق بالعدو الغاشم خسائر كبيرة... وسوف ترى أمك و أختك الصغيرة... "
سكت قليلاً ثم أردف :" لهذا تمالك أعصابك ...وإياك إن رأيتك في هذه الحالة مرة أخرى... مفهوم!.."
وقطب حاجبيه... ووجه أصبعه ناحية خالد... فأخذ الأخير نفساً عميقاً... وأخرجه بزفرة قوية...
ثم قال... :" إن شاء الله... لكن أرجو أن يكون كلامك هذا صحيحاً..."
هز سالم رأسه بالإيجاب مطمئناً... و خط ابتسامة على شفتيه... وقال... :"سوف يحصل... سوف يحصل ونعمل ما لم تستطع الأمة عمله..."
** * **
السابعة والنصف من ذلك المساء ...
_:"هيا مابكما توقفتما؟!."
نظرت الفتاتان إلى السيارة القابعة أمام بيتنا فقالت بتول... :"لا أريد الدخول!.."
فتحت عينيّ قدر استطاعتي مستغرباً... :" ماذا؟!. ماذا قلت؟!."
_:"لا أريد الدخول... لقد أتت..."
فردت ريم قائلة... :" ولا أنا كذلك... إنها مزعجة بحديثها وليس لديها موضوع غير أين وصلتم بالدراسة... وكأنها لا تعرف... أو تأتي لتتباهى بما اشترت وباعت... لن أدخل..."
نظرت بدوري إلى السيارة، ثم إليها وقلت:" إلى متى لا تريدين رؤيتها؟!. إنها أمك وليس لك غيرها في الدنيا..."
أعادت النظر إليّ والدموع بدأت تغزو عينيها... أرادت أن تنطق بكلمة ما... لكنني صددتها... :"حسناً... إنني آسف... اذهبا من الباب الخلفي... وانتظرا في المطبخ لحين أن أناديكما..."
دخلنا من الباب الرئيسي، وهما انطلقتا عبر الممر على يمينه، حيث الباب الخلفي في نهايته... وأنا دخلت إلى ردهة البيت، كنت أنزع معطفي لأعلقه على حاملة الثياب عند الباب، فقد توقفت الأمطار... وأصبح الجو أكثر برودة... جاءني صوت والدي يحدث عمتي بغضب... لأول مرةٍ أراه يتحدث معها بهذه الطريقة...
_:"اسمعيني جيداً... إن أقدمت على مثل هذه الخطوة فسأخبر زوجك بالحقيقة... وإن نطقت مرةً أخرى بأن بتول ليست... ... يا إلهي إنك ستقتليني بأفعالك هذه... لابد وأنه أصاب عقلك شيء... لأول مرةً في حياتي أرى إمرأة تقر بجريمتها المشينة ولكن تقول بأن السبب هو هذه الفقيرة.. ابنتك يا سارة أمانة لديّ... أفهمتي..."
_:"إنني من ائتمنك عليها... فأرجوك لا تتدخل بشؤوننا الخاصة!.."
_:"وأي شؤون تلك؟!. ها.. .. أخبريني أي شؤون؟!. لقد ربيتها أنا مذ كانت طفلة... وساعدتك على إخفاء حقيقتها... ومسحت بكرامتي في الأرض من أجل أن أسترك أنت، وأسترها... مالذي تقولينه الآن... شؤون خاصة... ألم تفكري بتلك الشؤون عندما ذهبت إلى... "
هنا لم أستطع الوقوف على قدمي أكثر... شلتني الصدمة تماماً عن فعل أي شيء... حتى عن السمع والكلام... نظرت حولي بعد برهة لأرى إن كان هناك أحدٌ سمع ما سمعت أم أنني الوحيد... أريد أن أسأل أحدهم هل هي الحقيقة أم لا؟!. مؤكد لا...
وأنا وسط الذهول والتعجب والحيرة... خرجت عمتي من الصالة كانت مسرعة ومباشرة إلى الباب الخارجي... وبعدها أبي الذي وقف ينظر إليّ هو الآخر في ذهول تام... وسأل:" هل سمعت ما قلته؟!."
أطرقت برأسي خجلاً مما فعلت... لقد كنت أستمع إلى حديثٍ بين أبي وعمتي... لم يكن عليّ أن أسمعه... فأعاد أبي سؤاله زاجراً... :"هل سمعت حديثي مع عمتك؟!."
خرج الصوت من حنجرتي مرتجفاً :"نعم... لكن... "
لم يجعلني أفيق من تساؤلاتي فقال بصوتٍ منخفض وهو يقترب مني... :"لا تخبر أحداً... كنا أنا وأمك وعمتك الذين نعرف الحقيقة... والآن أنت معنا... أرجوك يا أحمد لا تخبر أحداً... وخصوصاً بتول... فإنها ستفقد كل شيء بمعرفتها لهذا الشيء... أرجوك بني..."
لم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة... فأومأت برأسي واتجهت إلى غرفتي في الأعلى... لا أعلم كيف حملتني قدمي إلى هناك... جلت في الغرفة أبحث بين جنباتها عن الحقيقة المرة... أبحث عن شيء يبطل صحة ماسمعت... لكن ليس هناك شيء غير المرارة... كنت أحادث نفسي بصوتٍ منخفض... :" مستحيل ........ لا أصدق ما سمعته ....... أمعقول......... أمعقول.... أن بتول ....... ليس.... ليس لديها أب...... وهي .........استغفر الله .......استغفر الله ...."
لم أتحمل أكثر من ذلك، فألقيت بنفسي على السرير وغلفت وجهي بكلتى يدي المرتعشتين...
*** ***
اتسعت حدقتا عينيها لما دخلت كلمات زوجها إلى مسمعها .... وبتعجب غلف كلماتها ... أجابت...:
_:" أجنت أختك... إنها في الخامسة عشر !.. "
أخذ يحك كلتى يديه ببعضهما البعض... ومن ثم شيئا فشيئا غمس رأسه فيما بينهما...
_:"لا أعرف ماذا أفعل!.. ... أنا لا سلطة لي على بتول... "
بسرعة البرق جلست بجواره على السرير ... وقالت ...
_:"كيف لا سلطة لك على بتول... إنها ابنتنا... نحن أهلها... نحن ربيناها مذ كان عمرها أشهرٌ قليلة... هي التي ليس لها سلطة و لا حقوق على بتول... الآن بعد كل تلك السنين تذكرت أن لها ابنة... مستحيل لن نسمح لها بأن تدفن بتول بالحياة... إنها فقط تريد أن تنتقم من أفعالها بأي وسيلة... فهي تلومها على أخطاء لم ترتكبها..."
فقال لها وقد أفلت أعصابه من مكانها... وانفجر البركان الخامد في داخله...
_:"كفى يا غيداء... أرجوك..."
وسكت لثوان ينظر إليها بغضب:" كفى... أتضنين أنني أريد أن أزوجها هذه الزيجة..."
وعاد للسكوت مرةً أخرى ومن ثم أردف...:" أنا لا أريد ذلك... لكن... لكن....
و أفرغ غضبه بضربةٍ بقبضة يده على السرير... وأكمل... :" القانون يعطيها الحق... إنها لم تعطني الوصاية عليها... آآآه لو أجد ذلك الحقير الآن... فربما كان أرحم منها على بتول..."
أغمضت السيدة غيداء عينيها... و انطلقت من فمها تنهيدة... ومن ثم قالت...
_:"يا لهى من مسكينة... سوف تعيش الشقاء و البأس و لم تزل صغيرة غضة العود..."
*** ***
على مائدة العشاء ... اجتمعت العائلة كعادتها ... لكن هناك شيء مفقود ....ألا وهو روح المرح و الابتسامة الصافية .... فالهدوء فرض نفسه عليهم ...كضيف ثقيل ...
دنت بتول برأسها ناحية غدير الجالسة بجوارها , وبصوت بالكاد يسمع قالت ...
_:" ماالذي دهى خالي وأمك؟.. و كذلك أحمد؟!. لم ينطقوا بكلمة واحدة حتى الآن... و الأطباق أمامهم لم تلمس؟!. "
بصوت خافت ردت عليها غدير ...
_:" علمي علمُك... أنا أيضاً مستغربة من هذا الأمر... "
أخذت بتول نفسا عميقا، و اعتدلت من جلستها... و مررت عينيها على خالها وزوجته ومن ثم أحمد... وأخيراً إلى ريم التي كانت منهمكة في طعامها، وبصوت تجمعت به الشجاعة والتوتر، قالت ...
_:"ماذا هناك؟!.. لم أنتم صامتون هكذا ؟!! "
رفع الثلاثة رؤوسهم المنكسة... و أخذ يلقي كل منهم نظرته على الآخر... بابتسامة صفراء باهتة... قالت السيدة غيداء...
_:" لا شيء!.. لا يوجد شيء يا حبيبتي... "
قبل أن تفتح بتول فمها لترد عليها ... جاءها صوت الخال... المكبل بأغلال الأحزان...
_:" بل هناك شيء يا بتول..."
وسكت ثوانٍ قليلة ثم أردف... :" شيء يخصك..."
حركت السيدة غيداء رأسها بسرعة ووجهته ناحية زوجها, وهي تضع يدها على يده الممتدة على المائدة... وقالت برجاء...
_:" كلا يا أبا أحمد... لا تقل لها... ليس الوقت مناسباً... "
أخذ الجميع ينظر إليهما باستغراب...
بصعوبة إلتفت ناحية زوجته... وقال لها بعينين حزينتين... متألمتين... :
_:" لا فائدة من التأخير... لا بد بأن نخبرها الآن... "
بتول المتعجبة مما تراه و تسمعه ممن تعتبرهما كـ والديها... قالت بصوت ينم عن الاستغراب...
_:" ماذا هناك يا أبي... ما الذي يجري ؟!! "
بدأ الخوف يتسلل إلى قلبها ... كمحاولة أخيرة قالت أم أحمد...
_:" أرجوك لا تقل لها... "
وشدت من قبضة يدها على يده... فـألقى عليها نظرة أخيرة... ومن ثم إلتفت ناحية بتول... التي تعيش على جمر متقد هذه اللحظة ...
_:" بنيتي!.. لقد أتت أمك اليوم... وقد أخبرتني بأنك...بأنك........ "
هنا أبت الكلمات أن تخرج من فمه, لكنه ضغط على نفسه... وأجبرها على الخروج من حنجرته... :" إنها تنوي تزويجك... "
لا إراديا خرج من فمها صوتٌ يمتلكه الذعر والخوف... : "ماذا ؟!! "
قالتها بأعلى طبقة من صوتها... في حين أن البقية الصدمة قد ألجمت لسانهم... إلا أحمد فقد كان يعلم... فلم تهتز شعرة من رأسه عندما سمع كلمات والده ...
فجاءها صوت أبا أحمد مطمئناً لكنه قلق:" بنيتي! أنا لا أريد أن يحصل هذا الأمر... لكن..."
وقفت بسرعة... لدرجة أن الكرسي قد اختل توازنه و هوى على الأرض... وقالت بصوت حائر تائه بين كلمات خالها الأخيرة...
_:" أبي ما الذي قلته منذ قليل ؟!. إنني لم أفهم كلمة مما قلت!!. "
فعقلها من شدة الصدمة... يعيش في حالة نكران... وعدم تصديق... كان الموقف ليس سهلا على أبا أحمد...
أخذ نفسا عميقا... تبعه بزفرة ساخنة... تعكس ما في داخله من غضب...
_:" إنها السبب!.. أمك هي التي حكمت عليك بهذا الحكم... بأن تتزوجي برجل عجوز..."
فكانت الصدمة أقوى هذه المرة... كالصاعقة التي أصابتها... لم تعد تقوى على النطق ...
لم تعد تستطع أن تمسك أنفاسها المتسارعة... بدأ العالم من حولها يدور... ويدور... حتى احتلت الظلمة مصدر الصورة...
هب الجميع إليها... و ارتسم الخوف يداً تشد قبضتها على قلوبهم...
إلا أحمد... الذي بقى على حاله... ساكناً... لا ينطق ولا يتحرك...
*** ***
كانت أصوات الصراخ تعلو وتعلو كنت أسمع صوته، ومن ثم صوتها... أحسست بأنه يود لو يمزقها أو أن يقتلها... فهي ليست بإنسان بل جماد... وحتى الجماد بدأ يشعر ويتألم... حتى الجماد يفهم ويئن...
جاءني صوت خالي وهو يصرخ بها عالياً ...:"انظري ماذا فعلت بها؟!. انظري... إنها ممددة على الفراش بسببك... بسبب تصرفاتك غير المسؤولة..."
عمن يتحدث خالي، فأنا لا أستطيع الحراك لأرى من هي الممدة... يا إلهي مالذي أصابني... إنها أنا الممدة... ولابد أنها أم... آآآه أجمل كلمة في العالم لا أستطيع قولها أمي... لم هذه التأففات منك؟!. لم تصرخين على خالي؟!. وهو الذي رباني واعتنى بي...
_:" ماذا بك تصرخ في وجهي هكذا ؟.. أنا لم أخطأ بل فعلت ما هو لمصلحتها... ومن ثم انتظر قليلاً... ألهذا السبب اتصلت بي وقلت أن هناك موضوعا مهماً؟!. أتظن أن لا عمل لي أقوم به... أنا إمرأة مشغولة... ليس لي وقت لأدلل هذه الفتاة..."
هل أنا مجرد فتاة في حياتك؟!. لا يمكن أن أكون ابنتك... لابد أن يكون لي أمٌ أخرى غيرك أنت... أين أنت ياأبي؟! أين أنت؟!. لم تركتني مع امرأة ليس بقلبها الرحمة؟!.
أحسست بخالي من صوته الذي زاد من حدته... بأنه قد وصل لمرحلةٍ من الغضب لا يمكنه كتم غضبه أكثر من ذلك...
_:"اسمعي يا سارة!.. اسمعيني جيداً... أنا لم يعد يهمني شيء... بتول هي ابنتي... فأنا من ربيتها وكذلك غيداء... ولن نسمح لك بأن ترميها هكذا... و تدمرينها..."
_:" مصطفى لا تهددني... فأنا لا أتهدد..."
خرجت من بين أنفاس خالي زفرة قوية... وتلاه صوته الحاد...
_:"أرى أن شوكتك قد قويت، بعد زواجك من ذلك المخادع..."
دوى صوت والدتي في الغرفة... لا بل في المنزل كله... وأنا مازلت لا أستطيع الحراك ولا التكلم... أريد أن أصرخ و أقل لهما كفى... أريد أن أخرجهما من هنا... فأنا لم أعد أحتمل... ودموعي المنسكبة بصمت خلف اللحاف لا يراها سوى المعبود الأوحد...
_:"كفى يا مصطفى إلى هنا ويكفي... لقد تماديت كثيراً... سعيد أشرف منك ومن أمثالك حتى..."
لم أسمع بعدها سوى صوت لطمة... قطعت الصراخ والأحاديث... تركت خلفها صمت مطبق إلا من صدى تلك اللطمة... وأنفاس ثائرة... و نبرة صوت مشبعة بغضب...
_:"أتجرئين على أن تقولي هذا الكلام في وجهي؟.. ألآن ذلك المخادع... ذلك الذي باع ضميره من أجل المال... أصبح أحسن مني... مني أنا أخوك الذي رباك..."
وساد الصمت قليلاً وكأن خالي يريد أن يسمع منها جواباً... هنا أردت النهوض لكنني لم أستطع جسدي لا يحملني...
_:" أنا المخطأ... نعم أنا المخطأ... كان يجب أن أقتلك منذ زمن... عندما جئتني تتوسلين بأن أنقذك من ذلك العار الذي لطخت به سمعتنا... ... أغربي عن وجهي قبل... قبل أن أرتكب بك جريمة... أخرجي..."
عن أي عارٍ يتكلم خالي؟!. سمعت صوت الباب ينفتح بقوة... وبمن بعده بثوانٍ سمعته يغلق بهدوء... عرفت بأن خالي خرج من غرفتي... صرخت أناديه... بل همست فصوتي لم يعد يريد أن يسمعهم نبراته... أرجوك خالي عد... أرجوك لا تتركني وحدي أصارع الأفكار... أجبني خالي ما هو العار الذي جلبته أمي...
*** ***
بضربات قبضة يده التي كادت تثقب الجدار المسكين... أخذ يقول بغضب لم يهجره...
_:" أنا المخطأ ليتني لم أقل شيئا... و لم أخبرها بأمر الزواج... لماذا فعلت هذا ,لماذا؟! "
وضعت يدها على كتفه و بصوت حان قالت ...
_:"لا تلم نفسك يا مصطفى... فأنت لم يكن بيدك خيار آخر... "
التفت ناحية زوجته ... وقال:" لماذا تفعل بي سارة هكذا؟!. مالذي فعلته أنا لأستحق كل هذا؟ .. أنا في حياتي لم أسئ إليها بشيء... رغم الأخطاء التي ارتكبتها... إلا أنني عفوت عنها... وسامحتها.... لأنني كنت ألوم نفسي على أخطائها... فأنا الذي ربيتها بعد وفات والديّ .... ظننت أن الخطأ خطئي... بأنني لم أحسن تربيتها..."
قاطعته بقولها: ...
_:"كفى يا عزيزي... لا تلم نفسك على جرم لم تفعله... أنت أديت واجبك وزيادة ... لكن سارة .... سارة هي المخطئة... هي الجاحدة... هي أساس المصائب كلها... هي اللئيمة التي تمردت..."
بقلة حيلة واستسلام قال :...
_:"ماذا سنفعل الآن... كيف سنحل هذه المشكلة؟!."
*** ***
بقيت تحت الغطاء أبكي بألم وحسرة... فمستقبلي قد ضاع للأبد... كنت أتمنى النهوض والذهاب إليها أتوسلها بأن تقتلني لترتاح هي... أتوسلها بأن لا تلقي بي كقلمٍ انتهى حبره... أتوسلها بأن تتركني فأذهب بعيداً عن حياتها...
وأخيراً استطعت أن أمسك دموعي وأعيدها إلى مضجعها... أحسست بأن الأبواب تغلق عليّ من كل جانب... ويحاصرني الظلام... وتضيق الدنيا لتصبح زجاجةً صغيرة... نهضت من فراشي إلى حيث الجناح الممتلأ بالعطف و الحنان و الدفء و الأمان...
وقفت أمام الباب أقرع الباب... قرعته مرةً وإثنتين وثلاث... انتظرت ذلك الصوت الذي يشعرني بالأمان...
فأتاني صوتٌ مبحوح... لم أعتد سماعه من هذه الأوتار...
_:" من هناك؟! "
بصوت شابه البكاء... أجبت:" أنا بتول..."
بقيت أنتظر رده... لكن انتظاري طال... ولم يردني أي جواب...
فسألت:" هل يمكنني الدخول يا أحمد؟!. "
جاءني أخيراً رده... :"كلا فأنا متعب وأريد النوم... "
فوجئت من رده ... فليس من عادته أن يمنعني من الدخول... مهما كان مشغولاً... كان لا يمنعني من الدخول و التحدث إليه...
قلت بصوتٍ يرجوه ويتوسله:"أحمد أرجوك لبضع دقائق... يجب أن أكلمك... فأنا أود ان أكلمك لأشعر بالراحة قليلاً... أرجوك... أريد أن أتكلم معك..."
جاءني صوته ولم أتوقع بأن يكون كذلك... جاءني صوته يصرخ عليّ...
_:"قلت لك بأني متعب وأريد النوم... فاغربي عني..."
كان هذا رده الذي أكمل عليّ مسلسل الأحزان و الآلام لهذا اليوم الأسود... فصدمات لا تنتهي ... و الجرح لا يجد من يداويه... هوت من عينيّ دموعاً غزيرة... ومن هول ماسمعت ومنه هو بالذات لم أكن أتوقع أن يردني بهذه الطريقة أبداً... مالذي يحدث؟!. لم الجميع اليوم متوتراً ؟!.. كانت عيناي تبحلقان في الباب...
فهذا ليس أحمد الذي أعرفه... أحمد الطيب العطوف... الحنون المتسامح... الذي يبرأ الجروح... واليوم يدمي عليّ الجراح... أحمد ذلك الملاك الذي يمسح على رأسي يطمئنني... اليوم يزجرني... ليس هو... ليس أحمد من كلمني... ليس هو...
*** ***
في ذلك اليوم لم تذق عيني طعم النوم... فقد مزقت وردتي بيدي هاتين... فتلطخت يديّ بدمائها... كم يدمي قلبي... و يعذبني هذا الحال...
لماذا ؟!. لماذا ؟!. لم أعد أقوى على الكتابة؟!. فدمعي ينسكب كسيول... أريد أن أكبت حتى أرتاح من هذا الذي يجثو على صدري ويخنقني...
أنا آسف... أنا آسف ياوردتي... يا أطهر وردةً عرفتها... ما فعلته كان رغماً عني... رغما عني...
نهضت من مكاني علي أجد مهرباً منه... من ذلك الحزن الذي بدأ يخنقي ومن تلك الحقيقة التي أرقت نومي...
كم رغبة في تلك الليلة بأن أقرع الباب... وتفتحه... فأضمها بين ذراعيّ المتعطشة لها... بين روحي التي تود أن تضمها في وسط جوفي... وأمدها بالحب و الحنان الذي سلبته منها أمها... و أدمل جرحها... لكن يدي تعلقت بين الأرض والسماء... وهي على بعد بضعة إنشات عن هذا الباب...
وها هو صوت نحيبها يقطع أوصالي... يقطع أحشائي مئة قطعه... و يفجر مقلتي لتنزف دمعاً حارقاً... لماذا أيها العقل اللعين تجبرت عليّ... و فرضت أمرك عليّ... ءأصبحت دكتاتورياً... القلب يريد و العقل يأبى...
هذا عنوان حالي في هذه اللحظة القاتلة... أود أن أفتح الباب وأطفئ لهيب أنينها... أود لو أدخل إليها وأربت على ظهرها... أود لو أضمها إلى قلبي فأكفكف دمع قلبها...
قاطع معاناتي وصراعي الداخلي الذي شتتني صوت أختي غدير المقبلة ناحيتي... أو بالأحرى ناحية بتول... لتطمئن عليها...
رفعت أحد حاجبيها الرفيعين وقالت بصوت يعكس التعجب الذي رسمت علاماته على محياها...
_:"ماذا بك واقفاً هكذا؟!. "
سؤالها المباشر هذا قابلته برد أبله... فأنا لم يعد فكري ملك لي... فباتت الكلمات التي خرجت من حنجرتها طلاسم تريد أن تنفك عن بعضها البعض...
_:" آآآآ !... " قلتها كالأبله...
مما زاد حيرتها و تعجبها, فقالت مستفسرة... :"ماذا بك يا أخي , يبدو وجهك شاحبا ؟!. "
ما بها هذه الطلاسم لا تنفك شفرتها؟!. صرخة دوت في داخلي... وعجزي عن الفهم و الرد ... جعلني أختار الانسحاب...
_:"يجب أن أذهب الآن... عن إذنك..."
فمشيت .... بل هرولت هرباً من عيني أختي الكبرى التي تحمل ألف سؤال... ولا أملك لهم أي جواب..."
|+*| التدقيق | سيهاتي الهوى |*+|
(( فكرة وإعداد: ضوء الأمل و شجرة الكرز ))
|+*| بقلم | ضوء الأمل |*+|
|+*| الورقة الثالثة من غصن الحرية بين أحضان القلم |*+|
|