كاتب الموضوع :
HOPE LIGHT
المنتدى :
الارشيف
|+*| الورقة الثالثة عشرة من غصن الحرية |*+|
عندما تمتلئ أيامنا بالآلام... تمضي بطيئة مثقلة بالهموم...
الأحد... الرابع من شهر مايو...
كنت قد عدت أخيراً إلى منزلي برفقة كوثر وابننا علي... بعد أيام عصيبة قضيتها في مدرسة وادي الحرية...
ألقيت بجسدي على أول كنبة صادفتني... وأنا أقول لعلي...:"لا أريد سماع أي ضوضاء..."
زم شفتيه متذمراً... لكن نظرةً واحدة مني أجبرته على الصمت والمضي إلى غرفته... لكنه يبقى مزعجاً في كل حركة يمضي بها...
حالما أغلقت عيني لأريحهما... سمعت صوت كوثر المتسائلة...:"ما بك حبيبي؟!."
أشرت لها بالاقتراب والجلوس بجانبي... لكنها بقت في مكانها لفترة قصيرة قبل أن تأتي وتسألني ثانية...:"ما بك؟!. لأول مرة أراك منهك هكذا..."
_:"العمل هذه المرة متعب جداً..."
قالت بهدوء...:"لا تحاول الفرار هذه المرة..."
ضحكت قبل أن أقول لها...:"لا يمكن أن يخفى عنك شيء أبداً..."
_:"ياسين يأبى التحدث بشيء... وأبي وعلي كذلك... ليس عندي غيرك لأجبره على الحديث..."
ابتسمت وأنا أجرها خلفي إلى الغرفة... وهي تقول بإصرار...:"لن أتركك حتى تخبرني الحقيقة..."
دخلنا الغرفة لأغلق الباب خلفنا... وقد كانت تقف في وسط الغرفة متكتفة... وعلى وجهها علامات الإصرار والتحدي...
قلت لها بكل برود... :" أريد أن أنام لبضع ساعات فقط... فأنا لم أنم طيلة الأيام الفائتة... إلا واقفاً..."
رفعت حاجبيها وهي تشاهدني أندس تحت اللحاف... لكن بمجرد أن مددت جسدي... حتى أحسست بكفيها تمسكانني بقوة... لترفعني من السرير قائلة...:"هل ستنام بهذه القذارة التي على جسدك؟!.."
نظرت إلى ثيابي المتسخة... فقلت لها باستهبال... :" أوه أشكرك حبيبتي... اخلعيها عني إن سمحت بذلك..."
دون أن تتكلم فتحت لي أزرار القميص... فخلعته... وعدت للسرير ثانية...لكن هذه المرة أمسكتني قبل أن أعود للسرير... ودفعتني ناحية الحمام بكل ما أوتيت من قوة... نظرت إليها بإنهاك...:"أرجوك بعد أن أرتاح..."
هزت رأسها بعدم الموافقة... فاستسلمت لها...
أردت الدخول للحمام لكن هناك شيء خطر في ذهني... فالتفت إليها وأنا أقول...:"لن أستحم قبل أن تنفذي طلبي..."
نظرت إلي بغضب وقالت...:"لن أنفذ طلباتك قبل أن تستحم..."
اتجهت للسرير قائلاً...:"حسناً... لن أستحم..."
صرخت عليّ...:"يا إلهي... ماذا تريد الآن؟!.."
ابتسمت وأنا أرى علامات الهزيمة في وجهها...:"أريد قبلاتي..."
عقدت حاجبيها وهي تقول باشمئزاز...:"ماذا؟!. ماذا تريد؟!.."
_:"أريد قبلاتي..."
قالت بصوت أشبه بالهمس وهي تصر على أسنانها...:" ليس قبل أن تستحم... وتزيل عنك آثار القذارة والعرق..."
رفعت لها حاجبي وأنا أقول...:"كلا... الآن أريد قبلاتي... هيا..."
أخيراً استسلمت وهي تتقدم لتسلمني قبلاتي التي اشتقتها...
| +* +* +* +* +*|
ماذا يخفي أبي؟؟!...
في تلك الأثناء كنت أهيم بغرفتي بحثاً عن حل... فأنا أصبحت حبيسة اليأس الذي سيطر عليّ منذ تلك الليلة... عندما ذهبت للمستشفى لأطمئن على أحمد... لكن يا للأسف!.. ليتني لم أذهب وأرَ من لا أحب بقربه... كانت تتشبث بيده كما يتشبث الغريق بطوق النجاة... آلمني كثيراً ذلك المنظر مزقني أشلاء كثيرة...
دخل أبي في تلك اللحظة التي كنت سأترك دمعتي تهرب مني... لكن بدخوله سيطرت عليها... :"مساء الخير حبيبتي..."
_:"مساء الخير... أبي..."
نظر إليّ وكأنه يشعر بي... سألته مباشرة...:"ما الأمر أبي؟!... هل أطلب منهم تجهيز العشاء؟.."
هز رأسه رافضاً... ثم قال...:"لقد علمت من السائق أنك ذهبت للمستشفى يوم الخميس!.. فلماذا كنت ذاهبة لمكان كهذا؟!.."
ازدردت ريقي وأنا أحاول أن أجد عذراً أعتذر به... فأبي قد حذرني مراراً إن كان لي اتصال بعائلة صديقتي القديمة... ولا أدري ما السبب الذي يخفيه...
صرخ بوجهي وهو يسأل...:"أخبريني يا هدى!.. إلى من كنت ذاهبة؟!."
_:"أبي أرجوك!.. إنني لم أرتكب إثما..."
رفع حاجبه وهو يسأل ثانية...:"أجيبي دون أن تتملصي من السؤال!.. إلى من كنت ذاهبة؟!."
أنزلت رأسي قبل أن أجيب... :"لقد ذهبت لعيادة أحمد... فهو قد أصيب من قبل الإرهابيين كما أعتقد..."
ظل في صمته لفترة لا تتعدى الدقائق... ثم قال...:"ولم لم تستأذني مني؟!."
أخذت نفساً عميقاً قبل قولي...:"كنت أعلم أنك لن تقبل بذلك... أتمنى ولو مرة واحدة أن تخبرني سبب رفضك لاستمرار علاقتي بهم..."
رأيت حينها الشر في عينيه... عينيّ أبي الحنون يتطاير منها الشرر!... أمرٌ أخافني كثيراً...
تقدم مني ليمسك ذراعي بقوة... وهو يقول بصوت لم أسمعه من قبل منه... :"إن رأيتك تذهبين إلى منزلهم... أو تتصلين بهم... ستندمين على فعلتك... لأنك سترين وجهي الآخر..."
ثم دفعني باتجاه الحائط... وخرج من الغرفة... شعرت بألم شديد في ذراعي... لقد تغير أبي كثيراً من بعد حادثة بتول... يا ترى ما الذي يخفيه أبي؟!. ما هو السر؟!.
| +* +* +* +* +* |
في منزل غاب عنه الفرح!...
الساعة الثامنة والنصف ليلاً... من ذات اليوم!...
كنت جالسة في غرفتي أبكي أيامي الحزينة السابقة... وأبحث بينها عن ساعة سعيدة قد مرت عليّ... لكنها كانت ساعات قديمة... قد ترك الزمن عليها غباراً كثيفاً... لقد كانت السعادة في طي النسيان...
رافقتني السعادة منذ الطفولة حتى أول عامين من زواجي... وكل ذلك بسبب مشكلتي التي أعاني منها... لم يترك إسماعيل شيئاً إلا وقد فعله من أجل إسعادي في تلك الفترة... والآن قد تركني وحيدة في هذا المنزل الموحش... باحثاً عن السعادة خارجه...
وأنا الغبية!... أحاول جاهداً حل مشكلتي بمفردي... صابرةٌ على فراقه وابتعاده عني... حتى أجد حلاً يساعدني!... ويعيد لمنزلنا هذا السعادة والحيوية كما كنا سابقاً...
في الآونة الأخيرة كلما حاولت الاتصال به... لا يجيبني!... وحتى أنه بدأ يتغيب عن البيت أياماً متتالية... وعندما أسأله يتعذر بالشركة والمهمات الملقاة على كتفه... وفي داخلي شكٌ قوي بأن في الأمر امرأةٌ غيري!... لكن من هي؟!.. ومن تكون؟!.. ولماذا يفعل إسماعيل بي هكذا؟!.. أود سؤاله لكني أخشى ثوران بركانه الهادئ...
لو لم يكن يحبني لما جلس في الأسفل ينتظر مني الحديث معه... فسأكتفي بإعادته لحياتنا... سأعيده لمنزلي وحجري...
| +* +* +* +* +* |
الزمن لا يمكن تغييره...
كنت جالساً في صالة منزلي الواسع... والذي أشبه بالقصر الكبير... قصراً يتمنى كل إنسان العيش فيه... لكن أنا الوحيد الذي أكره العيش هنا... وأتمنى لو أن الموت يأخذني من هنا...
ولكن ما الفائدة؟.. فأنا من اختار هذه الحياة الكئيبة من أجل والديّ... والنهاية... أنني وصلت لمرحلة لا أطيق فيها رؤية هذه المسكينة التي تبكي الليل مع النهار منذ ثلاثة أيام وأكثر...
لا أستطيع إسعادها وتلبية رغباتها... ما العمل؟!.. إنها تظن الآن بأنني أكره العيش معها لأنها عقيمة!!!... لكن ليس الأمر كذلك... فأنا لم أعرف معنى الحياة معها... لكنني حاولت أن أحب الحياة بوجودها!... حتى لا تظلم معي...
كانت في بداية حياتها مرحة... متألقة... مبتهجة دوماً... وكانت حياتنا تمشي بكل سهولة ويسر... لمدة عامين فقط!!..
فحينما اشتاقت لطفل يلهو في أحشائها عزفت عن الحياة... وهجرت كل شيء... وظلت تدور في المستشفيات والعيادات بحثاً عن حل لها... ولكن للأسف... لا يوجد...
جعلني هوسها بالأطفال أكره وجودي في المنزل... فهي دوماً تلح عليّ أن نسافر إلى مكان بعيد من أجل إيجاد حلول أخرى جديدة... ووافقتُ ذات مرة... وذهبت معها... ولكن لا يوجد شيء!!!... الحل بيد الله تعالى...
كم مرة أخبرتها أنني راضٍ بقضاء الله وقدره... ولكنها دمرت كل شيء بنته في قلبي لها... جعلت قلبي يهجرها... ليبحث عن إنسانة أخرى تشيد لها قصوراً فخمة في قلبي... كنت كالنحل الذي يقطف من كل بستان زهرة... والقط الذي يلهو في كل منزل مع هرة شقراء كانت أم سمراء...
فقط لأبحث عن تلك التي تنسيني الدنيا وما فيها من متعة... عن أثنى تسكنني وأسكنها... فوجدتها أخيراً...
ولكن إلهي ما ذنب من ارتبطت بها أمام الناس؟؟.. أن تعيش حياتها تعيسة بسبب حبها لي ولطفل يسليها... إنها الآن تخطت الثلاثين من عمرها... ولا أعتقد بأن هناك احتمالاً واحداً أن تنجب... إلهي سامحني على كل ذنب اقترفته في حقها... وفي حق غيرها...
لقد كان أبي ووالدها مخطئان... فأنا رفضت كثيراً الارتباط بها ولكن والدي أبى الإصغاء لي أو حتى فهم احتياجاتي... فكانت هذه النتيجة بأن ظلمتها معي...
منذ ثلاثة أيام وأنا أحاول مقابلتها ولكنها ترفض... رغم اتصالاتها المتكررة لي في ذلك اليوم... إلا أنها ترفض مقابلتي رغم مكوثي في المنزل منذ تلك اللحظة... سأذهب إليها لأتحدث معها...
طرقت الباب ولم تجب... وحينما ألححت بالطرق... فتحته لي... نظرت إليها فكانت عيناها متورمتين من كثرة البكاء... فتكلمت مباشرة....:" إلى متى ستبقين هكذا؟!!... أرجوك ارحمي حالك..."
أجابتني من بين شهقاتها...:" لماذا أرحم نفسي؟!.. فأنت لا تدري عني ولا عما يحدث لي... لقد تعبت من الحياة معك... دوماً تتجاهلني لتمارس الرذيلة... تمارس الرذيلة والحرام ولديك ما هو حلال ومباح!!!!... أرجوك أنت من يجب أن ترحم حالي... إسماعيل!... لقد وجدت أحدهم يعرف حلاً للعقم الذي أعاني منه!... فلم لا تعود لي كما كنت سابقاً؟!.."
أمسكتها من كفها لأجلسها على الكنبة التي تتوسط الغرفة... :" اسمعي جيداً!!!... لقد سأمت من جنونك بالطفل... لقد كبرنا كثيراً ليكون لنا طفلاً... انظري إلى البياض الذي يتخلل شعري... و انظري لنفسك جيداً... لقد تخطيتي الثلاثين من عمرك... فكيف تريدين أن تنجبي؟!.. هل تودين أن تموتي في أثناء المخاض؟!!!... وتتركين لي طفلاً يحتاج للرعاية والمتابعة... إنني سأقول لك كلمة قلتها قبل سبعة عشرة سنة أو أكثر... إنني قبلت بك كما أنت... تنجبين أو لا تنجبين هذا ما كان قد كتبه الله لي... حقاً أنني لم أتزوجك لأني أحبك... لكني أحببتك... أحببتك! لأنك مرحة ومبتهجة في الحياة..."
تطلعت في وجهي وسألتني...:" وما الذي تغير الآن؟!... هل كرهتني؟!..."
أخذت نفساً لأجيبها بكل صعوبة...:" وماذا تتوقعين أنه قد تغير؟؟... لقد تغيرتِ كثيراً يا فرح!... تغيرت بك أشياء كثيرة... كنت شابةً مرحة طموحة... سعيدة ومبتهجة... ولكن فكرة الطفل والأبناء غيرتك كثيراً... أصبحت تبكين كل يوم... و تشتكين من عدم إنجابك للأطفال... و... وقلت بأنه يمكن أن يكون بي عيباً ما... وذهبت معك للطبيب وأجريت جميع الفحوصات المطلوبة... كنت في داخلي كأي رجل... يغضب ويستنكر ويرفض... فقط لأنه قيل عنه ما قد قلته أنت لي...."
صمت لثوانٍ قليلة... ثم أكملت...:" لكن لأجلك أنت... ولأجل حبي لك... وافقت على ما كنت تريدين... ولكن للأسف... بقيت تذهبين من طبيب لآخر... ومن عيادة لأخرى... إنني أعلم كم أن الفتيات يحبون أن ينجبن الأطفال لدافع الأمومة... ولكن لم أتوقع أنكِ ستضحين بحبي لك من أجل دوافعك..."
_:" إسماعيل!!!.. ماذا تعني؟!!.. بــــ... بأني أضحي بحبك؟!..."
نهضت لأبتعد عنها... فأنا لا أحب رؤية خيبة الأمل على وجهها البريء... كم كنت أعشق النظر إليه... وقد أفصحت لها عن ذلك... :" فرح!... كنت في بداية علاقتنا التقليدية تلك... أتقبلك كزوجة... وبعدها أصبحت أحبك... وأعشقك بجنون... كنت أهوى الجلوس أمامك والنظر في وجهك البريء ذو الملامح الصغيرة الجذابة... كنت تجذبينني بابتسامك وضحكاتك التي تثير عواطفي و أحاسيسي..."
التفت إليها وأنا أحاول تذكر ذلك الوجه... بل كنت أتأمل لو أنها تكون تلك الفتاة الصغيرة التي تزوجتها سابقاً... سكت قليلاً لعل الحلم يصبح حقيقة... :" أتدرين!... أنني أتمنى لو تعود تلك الأيام لأجلس تحت جناحيك وأتغزل بجمالك... لكن للأسف... للأسف يا زوجتي العزيزة لقد جعلتني أكره وجودي في هذا المنزل... وبالأخص في هذه الغرفة..."
وأشرت إلى باب غرفتنا التي جمعت كل ذكريات حبي لها... :" لقد هجرتِ غرفتنا هذه لتكوني في غرفة منفردة لك وحدك من أجل علاجات كثيرة كنت تتبعينها... كانت تلك خرافات وليست بعلاجات... وتبعتي كلام المشعوذات اللاتي كنت تقولين عنهن مؤمنات... يعطونك عوذة أو بخوراً من نوعٍ شرقيٍ... ذو رائحةٍ منتنة... وتفرحين بكل ما كنت تفعلين... دون أن تنتبهي أن ما كنت تفعلينه مكروه وحرام... كل ذلك كان من خطط أمك أو عمتي التي كنت دوماً أرى في عينها الكره لك... وكنت تعتقدين بأنها تحب لك الخير..."
نهضت لتقترب مني لكني أوقفتها مكملاً حديثي... :" اجلسي مكانك يا فرح!... دوماً حذرتك من الاستماع للنسوة... وخصوصاً عمتي يا ابنة العم!!... ألا تعلمين بأنها كانت تخطط لتوقع بك في شباكها... لتزوجني من ابنتها... هذه هي عمتنا التي كانت منذ الصغر تغار منك لأنها تريد أن تكون أملاك أبي لأحفادها... كنا صغاراً وتغار منك... فكيف بها وأنت زوجتي؟؟.. لقد تعبت وأنا أنصحك كثيراً... كنت أنتظر الفرح التي أحببتها أن تعود لتتزين لي وتتبرج لي!... لتبهرني وتشل تفكيري عن كل شيء... عن كل شيء إلا هي!!!... لكن لم أجد سوى ابتعادك عني تطبيقاً لوصايا المشعوذة التي تقول لك لا تمارسي الحب مدة أسبوع أو شهر... وانثري عبق الهند في أرجاء الغرفة... واسقي زوجك كأساً من ماء البصل... وأكلي رأس ثوم... و أشياء غريبة وكريهة كذلك..."
أطرقت برأسها تبكي... فقلت لها متأسفاً...:" لقد أضعت الكثير من الأيام التي كان لابد لها أن تكون جميلة... أضعت عليّ الكثير من الذكريات... وجعلتني أهرب منك... كنت!... كنت في كل مرة أ... ... أخونك أو... حتى أهرب منك إلى أخرى... أعود إليك متأملاً أن تكوني قد عدت كما السابق... ولكن للأسف!!!... كنت أجدك قد انغمست أكثر في خرافات العجائز والمشعوذات... لماذا يا فرح؟!.. لقد هدمت كل الذكريات الجميلة التي كانت بيننا بتصرفاتك تلك... أضعت كل شيء كنا سنفعله سوياً... جعلتني... جعلتني ماذا؟!... فأنا متيقن بأني لا أكرهك... ولكني لا أحبك في الوقت ذاته!!!.. لم يعد في قلبي حبٌ لك... أصبحت عندي كأي فتاة ألقاها في الشارع... فتاة عادية تعيش في منزلي كأي فرد من الخدم والوصيفات اللاتي يعشن هنا..."
شهقت وهي تقول... :"ولكني كنت أفعل كل هذا من أجلك!!... كنت أعتقد بأنك تريد ولداً يحمل اسمك..."
_:" فرح!... قلتها لك من قبل... كل ما أتمناه هو عيشي في ظل حبك أنت!... كنت أود لو أعيش في قلبك... وأكون لك وحدك وتكوني لي وحدي!!!... ولكن انظري إلى أين أوصلتنا... ومن ثم كنت أتوقع بأن إيمانك بالله كبير... فهو من كتب لنا أن نجتمع سوياً دون أبناء..."
رأيتها تنهار على الكنبة باكية... اقتربت لأمسح على رأسها بحنان...:" اعذريني لأنني كلمتك بهذه الطريقة... لكن!... هذه هي الحقيقة... كنت أود لو سنحت لي الفرصة أن أتحدث معك هكذا قبل سنين طويلة... ولكن للأسف... لم تجعلِ لي فرصة واحدة..."
رفعت رأسها لتنظر ناحيتي... ودموعها تنهمر على الأرض... :" أنا من يجب أن تعتذر... أنا من عليها الاعتذار... إنني حمقاء... لم أستمع لأي كلمة كنت تنصحني بها... كنت أضن بأن عمتي تحبني... ولكنها هي من كانت تأخذني لتلك الأماكن اللعينة..."
_:" ماذا ينفع كل هذا الآن؟!!..."
أمسكت بياقة سترتي بين أناملها... لتقرب وجهها لصدري... وتنظر لعيني برجاء... :" لنفتح صفحات جديدة... لنبدأ حياتنا من جديد... إنني أحبك!!... بل أعشقك بجنون يا إسماعيل!!!... أرجوك لا تتركني أبقى حبيسة الزمن اللعين..."
أمسكت بكفيها لأبعدهما عني... قبلت جبينها بألم... فأنا لا أدري ماذا أقول لها... لا أريد جرح مشاعرها أكثر... ولا أريد أذيتها كذلك... أما هي فنظرت ليديّ باستغراب... وفي مقلتيها الدموع رقراقة... :" لماذا؟!.. هل يعني أنك لم تعد تريدني؟!.."
أغمضت عيني واستدرت... أريد الهرب من دموعها... أريد الهرب من آلامها التي سأتسبب بها... لكنها سببت لي الكثير من الألم... وأنا أقف بين الباب وفرح... أخرجت صوتي بهدوء...:" إن الزمن لا يمكن تغييره يا فرح!!... لقد كنت أتمنى أن لا أخسرك في يوم كهذا!!!... لكن!... أصبح لي حياة أخرى أريد أن أعيشها... فرح!.. لقد وجدت ما قد منعتني منه أنت وأمك وعمتي... وجدت السعادة!... وجدت الحب!... وجدت كل شيء أريده!... لكن لا تضني في يومٍ ما أني أعني بما أريد هو الأبناء... لا!!!... لا يا فرح... إنني كنت أريد قلباً يضمني إليه بحب وحنان... دفءٍ وأمانٍ... وجدت ذلك القلب الذي سيأويني..."
أحسست بحزنها ينغرس في فؤادي... وآلامي تهرب من أعماقي لأعماقها... وصلت إلى الباب وأمسكت بدفته... :"تأكدي بأنني كنت أحبك!!!..."
أغلقت الباب لأنزل درجات السلم سريعاً... حينما وصلت للباب الرئيسي... سمعت صوت باب جناحنا يفتح... لتخرج هي تجري باكية... أسرعت بخروجي فأنا لم أعد أستطيع المكوث بين جدران حزنها... سمعت صرختها خلف جدران المنزل ركبت سيارتي لأخرج من المنزل تاركاً فرح يرافقها الألم!!...
| +* +* +* +* +* |
_:"مساء الخير أيها القائد!..."
نظر إليّ وابتسامة حزن بالية على محياه... :"مساء الخير... كيف حالك يا علي؟!."
كانت جملته مصاحبة لإشارة منه لي بالجلوس... جلست وأنا أجيب...:"بخير... وأنتم ما هي أحوالكم؟!.."
_:"جميعنا بخير... لكن ذلك الزعيم يؤرق راحتي..."
ابتسمت في صمتي... ليسألني...:"ما هي أخبار أحمد؟!.. هل استيقظ من غيبوبته؟!.."
_:" تستطيع قول ذلك... أخرج من غرفة العناية الفائقة... بعد أن استيقظ... ليطربنا بشتى أنواع الشتائم والكلمات الطيبة... وأعطاه الطبيب دواء منوم... ليعود لرشده قليلاً... لكنه لازال تحت تأثير المنوم... أنت تعلم فإصابته كانت خطيرة... والنتيجة مؤلمة لأي رجل..."
أنزل القائد حسين رأسه بأسف... :"ليعينه الله على ما ابتلاه... سأحاول زيارته في أقرب وقت ممكن..."
_:"أفضل أن تزوروه في المنزل... فهو الآن في حالة صدمة..."
في هذه اللحظة دخل أحد الشباب المرافقين لنا... بعد أن ألقى تحيتنا المعتادة...:"مساء الخير أيها القائد..."
ففي شبكتنا لا توجد رسميات طائلة...
_:"هل أحضرتموه؟!."
أجاب الشاب...:"نعم إنه في انتظارك في الغرفة المجاورة..."
أشار لي القائد بأن أرافقه إلى زعيم الإرهابيين... وعلامات من الرضا القليل على وجه القائد... لابد أنه عثر على خيط ما...
دخلنا الغرفة المجاورة... لأرى ذلك الزعيم الذي طالما رغبت برؤيته مكتفاً ومطأطأ الرأس... لكن للأسف الشديد كان لا يزال يتمتع بروحه القوية...
صرخ به القائد...:"كيف حال زعيم المجرمين اليوم؟!!.."
ابتسم الزعيم ابتسامة مكر ودهاء... قبل أن يجيب بــ...:"حالي أفضل من حالك اليوم مئة مرة..."
جملته تلك جعلت القائد حسين يشد أعصابه قليلاً... حتى لا يضربه ويتحقق ما يرمي إليه الزعيم... رأيت القائد يمسك بأوراق بين يديه وهو يقرأ ما بها من كلمات...:" إنني أرى أن لك تاريخاً عريقاً هنا..."
قهقه ذلك اللعين بصوت تشمئز له الأنفس... وقال...:"تاريخي أحمر... وتاريخك أبيض... أهذا ما تقولون أيها العرب؟!."
استغربت من هذه اللكنة الغريبة التي تلفظ بها... إن زعيم الإرهابيين هنا عربيّ الأصل... وهذا لكنته غريبة قليلاً... نظرت إلى القائد حسين الذي لم تخفَ عليه هذه اللكنة في لسان هذا الرجل الذي يجلس على الكرسي أمامنا... تقدم القائد بخطوات ثابتة خفيفة... حتى وصل إلى جانب الرجل... وانحنى إلى جانب أذنه اليمنى... ليهمس فيها...:"لقد كنت رجلاً شجاعاً... سيطرت على الكثير من المناطق العربية... وقتلت الكثير منا... ودمرت بيوتنا... فتاريخك أسود أكثر مما هو أحمر... لكنك ستموت بعد أن تقر لي بمكان أسرانا..."
حاول الزعيم أن يضرب القائد بقدمه لكن قدميه ويديه مقيدتان إلى الكرسي... فلم يستطع أن يحرك سوى رأسه بغضب شديد... ويصرخ...:"لن تقتلني!.. فأنت لا تجرأ على ذلك..."
كنت أنظر إلى تلك المناقشة الحادة... لكن القائد تمالك أعصابه أكثر وأكثر... فكلما صرخ الزعيم كان دليلاً قاطعاً على ضعفه... فيبدو أنه بات ليلتين من أسوء الليالي في حياته...
كانت ابتسامة الراحة تعلو وجه القائد... حين قال...:"أنت لست جمال يا هذا... أنت السيد جون... الملقب بـالحصن المنيع... الذي أتى من بلاده ليرفع علم النصر على أرضنا الطيبة... ولكن يبدو أننا سنرفع علم بلادنا على جثتك..."
كانت عين الزعيم... أو السيد جون تبرق بالغضب والتوتر... فها قد كشف القائد شخصيته الحقيقة... وقد كان يخدعنا بأنه هو جمال زعيمهم والرأس الداهية للإرهابيين... خاصة وأنه يملك بشرة سمراء وشعرٌ أسود... يخفي حقيقته...
كنا سعداء جداً بأننا أمسكناه... لأننا إن أمسكناه يعني أنه أمامنا رأس واحد للإطاحة به... لكن للأسف... يبدو أنه لازال أمامنا طريق طويلة...
_:"هيا!... تكلم وأخبرني أين أجد جمال؟.. والأهم نريد أسرانا... وهم أحياء!.."
كان هذا صوت القائد... الذي جعل فرائص السيد جون تهتز خوفاً... فها هو الآن سيخاف من أن يموت... لأنه يعلم بأن أهميته أصبحت في الحضيض... لأنه أصبح تلميذاً صغيراً لدى جمال الداهية...
_:"لقد قلت لك لا أدري... لا أدري..."
تكلم القائد بصوت ثابت أكثر... وصبور أكثر مما كان عليه قبل يومين... :"حسناً... حسناً... لا تخبرني أين هم... لكني أود معرفة أساليب الضيافة لديكم لأبناء وطني..."
ارتعدت فرائص السيد جون قليلاً قبل أن ينطق...:" ماذا تقصد؟!. أي ضيافة تعني؟..."
لكن القائد لم يستسلم... كما هو في كل مرة... نظر إليّ وهو يقول...:"إذن!.. سأترك الذراع اليمنى لي ليعلمك كيف هو أسلوب الحديث معنا..."
خرج ليتركني والسيد جون.. مع صلاح الشاب الذي رافقنا إلى هنا...
تقدم صلاح من جون... وقبض بكفه على قبضة كفه الأخرى... لأسمع فرقعة أصابعه... عرفت من حركة صلاح هذه أنه تهديد لجون...
يبدو أن جون ليس حصناً منيعاً كما يقولون... فها نحن دخلنا الحصن... وهاهو صاحب الحصن بين يدينا يرتجف كالجرو الصغير... لكن تفآجأت حينما رأيت صلاح يصرخ بجون... لدرجة أنني ارتعدت من مكاني بسبب سهياني... نظرت لصلاح وجون في آن واحدة... كنت أرى صلاحًا لأول مرة بهذا الوجه الغاضب... أما جون فكان يعقد حاجبيه وهو يصر على أسنانه خوفاً من أن ينطق بكلمة تفشي أسرارهم...
لكن لكمة قوية من كف صلاح أردته والكرسي أرضاً... حالما سقط حتى خرجت الدماء من أنفه... صدمت... لأول مرة أرى شخصاً يعذب من أجل أن ينطق بحرف... فقد كنت أهرب من غرف التعذيب رغم قلتها بيننا...
كانت تأوهات جون تمزق قلبي... لكنه إرهابيّ يستحق أكثر من ذلك... إننا مسلمون وهذا لا يجوز... تقدمت لكي أتحدث مع صلاح... لكنه صرخ بجون ثانية وهو يسأله...:"تحدث وأخبرني أين نجد أسرانا... أيها المجرم الخبيث..."
وركله على معدته... حينها تكلمت...:"صلاح!... هذا لا يجوز يا صلاح... ارحم أسيرك... ليرحموا أسرانا..."
رفع صلاح حاجبيه وهو يسألني...:"ماذا؟!.. هل تعتقد بأنهم يرحمون أسرانا؟!.. ألم تدخل لتلك الغرفة التي كانوا يعذبون أسرانا بها... إنها ملطخة بالدماء... صبغت حوائطها بدماء أبنائنا... ألم تخبره يا جون؟! ألم تخبره ياجون عن بطولاتك على نسائنا وبناتنا... ..."
كان صلاح يدور حول جسد جون الملقى على الأرض... كما يحوم الأسد حول فريسته... ثم دنا منه ليمسكه من ياقته ويقول...:"أخبره كم فتاة قتلت صباها بيديك؟!!. وأخبره كم طفلاً مزقت؟!.. وكم شيخاً كسرت؟!.. وكم جندياً عذبت؟!.. كل هذا وتقول لي ارحم أسيرك!!!... أي أسير سيرحمون؟... هل هو ضيف لديهم ليكرموا ضيافته؟!.. ... تحدث أيها اللعين!..."
ركله مرة أخرى على معدته... كلامه ذاك أثر في قلبي ليتحجر رويداً رويداً...
هذه الركلة كانت كفيلة بأن تجعل جون ينطق أخيراً... لكن بماذا؟!.. :"لا لم أفعل لم أفعل شيئاً..."
لكن صلاح لم يهنأ له الوقوف هكذا... بل اتجه ناحية الباب ليصرخ بالحارس الذي خلفه... :"أعطني علبة السجائر التي معك..."
هنا ارتعدت فرائصي من الخوف... فكيف بجون؟!..
| +* +* +* +* +*|
إنها أنباء لا تسر البعض منا...
قصر جمال... الساعة العاشرة والربع مساءً...
_:"ألم تقل بأنه حصنٌ لا يتخطاه أحد؟!.."
اهتز الرجل الواقف أمام جمال وهو يقول مرتعشاً وبلكنة غربية... :"سيدي اعذرني... فهو في بلادنا لا يتخطاه أحد... وسوره عالٍ جداً... لكن يبدو أنكم أنتم العرب لديكم عقولٌ داهية..."
ضرب جمال الطاولة التي أمامه بكل قوته... وهو يقول غاضباً...:"إنكم بلهاء... بلهاء... ها هم رجال الشبكة يدخلون المقر... وسيعرفون حتماً أين هم الأسرى... وسيحررونهم... وفوق ذلك كله... سيصلون إلى هنا لا محالة..."
عاد الرجل للارتعاش قبل أن يقول...:"كيف هذا وقصركم محاط بالحرس!!... وأفضل أجهزة حماية موجودة حول قصر سيادتكم؟؟؟!!"
نظر إلى الرجل باحتقار قبل أن يقول...:"انصرف... ودبر أمر نقل السجناء بأي طريق ولأي مكان..."
خرج الرجل بسرعة هائلة من خوفه... ودون أن ينطق بأي كلمة تذكر...
دخلت في هذه اللحظة فتاة في مقتبل العمر... تمشي بثبات ناحية جمال... كانت عيناها تبرق بريقاً واضحاً... :"مساء الخير..."
نظر إليها جمال...:"مساء الخير عزيزتي... كيف حالك اليوم؟!.."
أجابته بعد أن طبعت قبلة على خده...:"إنني بخير... وأنت؟!."
أجاب بامتعاض...:" إنني بخير... بخير..."
دون أي اهتمام سألت...:"لا أرى إسماعيل هنا اليوم... هل حدث خطب ما يا عم؟!.."
كانت يد جمال ترتجف وكأس شرابه بيده... لا يدري كيف يتصرف أو حتى ماذا يمكنه أن يفعل... تساءلت بدر البدور ماذا أصاب هذا الرجل الذي تراه اليوم بحالة غريبة جداً... سألته...:"ما بك يا عم؟!..."
نظر إليها جمال بعد أن وضع الكأس على الطاولة... اقترب منها وهو يعيد تقليب ذاكرته رأساً على عقب... ليصل إلى اليوم الذي وصلت فيه بدر البدور إلى هذا القصر... وكيف تم ترويضها... لتكون بالصورة التي يراها الآن أمامه...
لقد أصبحت خاتماً في إصبعه... وإصبع إسماعيل... لكنه بدأ الآن يقلب الأمر بطريقة أقوى... قطعت تفكيره بسؤالها مرة أخرى...:"ما الأمر؟!. إنني أراك تتصبب عرقاً... وتبدو متوتراً جداً... هل أنت مريض يا عم؟!.."
وضع كفيه على كتفيها... وهو يقول...:"اسمعي جيداً... لقد أخبرتك سابقاً بأن أخاك أوصاني بك خيراً... وأن من قتل أمك وأخاك حبيبًا هم الإرهابيون... أليس كذلك..."
فأجابت بهدوء...:"نعم هذا صحيح..."
_:"والآن سأخبرك الحقيقة... لم يوصنِي أحد عليك... بل أنا أنقذتك من أخيك بكل سهولة... لقد أرسل أولئك الرجال ليقتلوكم... فقد أصبح واحداً من الإرهابيين... وأراد قتلكم لكي لا تكونوا عثرة في طريقه... وغير ذلك كان أمرا من الإرهابيين حتى يتأكدوا من الثقة الموكل بها... إنه إرهابيّ كبير الآن... له مركز عظيم جداً بينهم..."
كلماته هذه وجدت طريقاً خالياً في قلب بدر البدور... لقد كانت تائهة لا تعرف طريقاً لأخيها... وها هي توضع على أول الطريق...
تطاير الشر من عينيها... وذهب البريق الذي ظهر منذ أيام قليلة فيهما... واحتل الشر مكانهما... نطقت تسأل...:"ماذا تعني بكلامك هذا..."
_:"نعم!... إنني أنقذتك منه... وحميتك منه طوال هذه السنين... كم كنت أود أن أخفي عليك هذا الخبر المؤلم... فأنت تعلمين بأنني أفضل أن أوصل لك خبر موتي على خبرٍ كهذا..."
كان يتحدث ببراءة كبيرة... كان في عينيه بريق اللطف والخير... وهي كطفلة تربت على يديه... لم يكن لديها أدنى شك بما يقوله... لكن قلبها يرفض الانصياع لحديثه... وهي تحاول جاهداً أن تكتم أنفاس عقلها وأذنيها بما يسمعانه...
_:"لكنه أخي يا عم!!!... يستحيل أن يفعل ما تقول... إني لا أصدقك..."
فقال لها وهو واثق من انتصاره... :"لا تصدقي اليوم... ولكن إن رأيته في يوم ما... سيصدم من وجودك على قيد الحياة... وسيحاول قتلك مرة أخرى..."
| +* +* +* +* +* |
كان جون يصرخ بألم عندما يضع صلاح إصبع السجائر على جسده... في كل ناحية من ظهره كان صلاح يحرق جسد جون... بعد أن فك وثاقه... و جعله مستلقيا على بطنه... كان قلبي يلين ساعة وساعة أخرى يقسو بشدة...
صرخ صلاح للمرة الأخيرة به...:"إن لم تتكلم سترى ما لم تراه أبداً..."
سعل جون ليخرج دماً من بين شفتيه قبل أن ينطق أخيراً... :"حسناً... حسناً سأتكلم..."
أمسكه صلاح ليساعده على الجلوس... وحالما جلس... طلب القليل من الماء... توقعت أن صلاح سيرفض طلبه... لكنه خرج من الغرفة ليجلب عبوة ماء صغيرة... وسلمها له...
لم أصدق بأنه كان عطشاً لهذه الدرجة... شرب العبوة رشفة واحدة... حقاً إن الروح غالية...
_:"قبل أن أخبرك بمكانهم... سأقول لك شيئاً... إن جمالاً لن يتركهم في مكانهم... بل سيغيره بالتأكيد... لكن لو أسرعتم..."
سكت قليلاً ليجذب أنفاسه...:" ستجدونهم في القصر المهجور... في جنوب المنطقة الشمالية... وإن سألت... ..."
قطع حديثه ليسعل ويخرج الدم من فمه...:" وإن سألت الشباب الصغار... فسيخبرونك بأنه مقرٌ آخر لنا... فأنت تعلم بأنهم كانوا يقضون وقت فراغهم هناك... يرسمون على الحوائط... ويلعبون ما يخطر في أذهانهم... حتى... حتى... ..."
كان يتألم بحديثه... فقد أنهكه تعذيب صلاح... :"حتى أتينا نحن لنخرب استمتاعهم بهذا المكان..."
لم ينتظر صلاح أي كلمة أخرى... بل نظر إليّ وهو يقول... :"انتبهوا له جيداً يا علي... سآخذ بقية الرجال ونذهب إلى هناك..."
ضحك جون باستهزاء...:"هل تظن أنك تستطيع الوصول إلى الداخل من دون خطةٍ محكمة؟؟.. ... هناك حوالي مئتا رجل يحرسون القصر... وغير ذلك أنهم جميعاً مسلحون بأفضل وسائل الحرب والدمار..."
ابتسم صلاح بمكر... :"أنت لا تعرفنا جيداً... هل تظن أننا نحن فقط من يدافع عن بلاده... هناك الألوف منا..."
إنني لا أعرف ما الذي غير صلاح إلى هذا الحد... حقاً لقد تغير كثيراً...
خرجت خلفه مباشرة لأمسك بيده قبل أن يدخل على القائد...:"ماذا ستصنع؟!.."
نظر إليّ بعتاب...:"ألم تسمع ما قال؟!.. إنني ذاهب لأحرر أسرانا... حتى لا يتعذبوا أكثر مما رأيتُ وسمعت... أنت لم تكن هنا في اليومين الفائتين... في أول يوم بعد إصابة أحمد وجدت جثة فتاة لازالت في ربيع العمر... أتعلم كيف كانت جثتها..."
سكت لينظر إليّ... وإلى ما ستتركه كلماته من جبال في نفسي...:" عارية تماماً... محروقة بأنحاء عدة من جسدها... مكهربة في دماغها... مكسورة الأضلع... مقيدة الأطراف على طاولة المعلمين... وسابحة في دمها... ... وغير ذلك كله..."
خرت دمعة من عينه... قبل أن يقول هامساً...:" قد أخرج رحمها من جوفها... بسبب التعذيب الجنسي..."
لقد هدت كل جبال الرحمة على هؤلاء في نفسي... أي مذهب هذا؟!.. وأي دين ذاك؟!.. وقبل أن يمشي... أطلق عليّ رصاصة أماتت قلبي...:"لقد كان وجهها أزرق اللون... لكني عرفت من تكون... عرفت من هي... إنها لم تكن سوى خطيبتي التي اختفت منذ أسبوعين فقط... وانظر ماذا فعلوا بها..."
طأطأت رأسي... فأنا لم أعد قادراً على تحمل أي كلمة أخرى... ألهذه الدرجة قلوبهم من حجر؟؟.. أيعقل ذلك؟!.. أم أنني أحلم!!!...
_:"وتريد مني أن أكون مشفقاً عليهم... وخصوصاً ذلك الحقير الذي دنسها بيديه... لم يأتوا إلى بلادنا إلا للفسق والفجور بها... لم يأتوا إلا طمعاً بنا..."
لقد كان يصرخ دون أن يشعر بنفسه... ولو كنت مكانه لفعلت ذات الشيء...
أتى القائد من الممر الذي على يميننا... قال سائلا...:"ما الأمر؟!. ماذا بك يا صلاح؟!.."
ألقى بدمعته الهاربة من عينه... ليجيب بصوت حازم...:" لاشيء أيها القائد... فقط كنت أخبر علي بأعمال الإرهابيين فينا..."
وضع القائد كفه على كتف صلاح... وقال له بهدوء...:"إنني أعلم بما تقاسيه يا صلاح... لكن عليك أن تتحلى بالصبر... فإن كنت ستستمر على هذه الطريقة... وتفقد أعصابك على أقل شيء... سأعفيك من كل المهمات التي سنقوم بها..."
انتصب صلاح وقال بحزم...:"لا أيها القائد... سأكون عند حسن ظنك بي..."
| +* +* +* +* +* |
بعد أسبوع مر بطيئاً على الجميع... ليكشف الكثير من الخفايا...
مرت الكثير من السنوات وأنا أبحث عنهما... لقد تعبت من السير وراء خيوط وهمية... وقلبي لازال ضائعاً في وسط زحام الأفكار السيئة والطيبة...
ربما قتلوها كما فعلوا مع الجميع... وربما كذلك فعلوا بخالد... لكن ما السبب الذي جعلهم يحرقون بيتنا من بين بقية البيوت التي تجاورنا... هل فعل خالد شيئا ما حتى يقتلوه؟!.. ولكن ما هو؟ وأين هو الآن؟...
في آخر مكالمة له... قال إنه في مركز البلد... وأخبر أمي بأنه قادم إلى هنا لنصرة الوطن... ربما أمسكوه وعذبوه... لكن أين أجد الخيط الذي يدلني على أثرٍ له... فقط أريد أثراً يدلني عليه...
ها أنا في أجول في شوارع المدينة... فقد أشرقت الشمس ولعلي أجد شيئاً يبدد ظلمة الليل التي في داخلي...
توقفت لدى المخبز العربي الذي في هذا الشارع... طلبت من الخباز خبزةً واحدة أخذتها لأنصرف إلى الشقة التي في الجانب الآخر من الشارع... لكني عدت أدراجي لأحادث الخباز وأسأله:" سأزعجك معي يا عم... لكن هل تناولت فطورك؟.."
قبل أن يجيبني... ضحك ليكشف لي عن هموم السنين التي مر بها...:"و ما هو فطوري يا بني؟!.. سوى كوبٍ من الشاي وخبزة صغيرة..."
ابتسمت له... لأكشف له عن همومي... :"إنني لم أفطر... فهل أجد هنا متجراً للخضروات؟!.."
نظر إلى خارج نافذته وأشار لي بيده الملطخة بالطحين... :"انظر هناك... هذا الباب الخشبي الأخضر... في آخر الشارع... إنه متجر الخضار والفاكهة... ألا ترى سلال الفاكهة بجانب الباب في الخارج؟!.."
أجبته بنعم... وتركته لأحضر لي بعض الخضار وحبتين من التفاح... ثم عدت إليه... عندما رآني ابتسم وقال...:" والآن بماذا يمكنني أن أخدمك؟!."
_:"إنني اليوم وحيداً... فهل يمكنني تناول الإفطار معك؟!.. أرجوك أن لا ترفض مشاركتي..."
أنزل رأسه ينظر لما حوله... ثم أمسك بمنشفة قريبة منه... لينفض عن يديه بعضاً من الطحين... وسحب مفرشاً ليفرشه على أرض المخبز... ليتقدم بعدها إلى الباب الصغير الذي على الجانب... وخرج ليرحب بي...:"تفضل يا بني!... لولا أن المكان لا يليق بك..."
دخلت وأنا أقول...:"لا يا عم!... إنني مرتاح هكذا..."
دخلت لأضع ما اشتريته على المفرش وجلست على الأرض... بينما كان الرجل واقفاً يتأملني... ابتسمت له وأشرت له بالجلوس...:"أرجوك يا عم!... إنني ضيف ليس إلا..."
استأذن بإشارة من أصابعه الدقيقة... وأحضر إبريق الشاي وسكب لي في كوب وله في كوب آخر...
وبينما نحن كذلك!.. إذ طرقت نافذة المخبز... ليطل علينا رأس شاب في بداية الثلاثينات تقريباً... لم أكن أرى ملامح الصورة التي أمامي... بسبب ضوء الشمس في الخارج...
نهض الخباز العجوز وهو يرحب بالشاب... :"مرحباً يا يني!.. كيف حالك؟!.. وكيف هن أخواتك؟!.."
لم يصدر من الشاب شيء... أو بالأصح لم أسمع ما قاله الشاب... لأنه كان يتحدث بصوت أشبه بالهمس... وأنا أتناول قطعة من الخبز... إذ أتى ظلاً على يديّ... مما جعلني أرفع رأسي لأرى ظل من هذا...
كان لفتاة حيث سمعت صوتها وهي ترحب بالرجل العجوز...:"مرحباً يا عم!... كيف هي الأحوال؟!.."
_:"إنني بخير يا مطر... كيف حالك أنت؟!."
كنت أستمع للحديث الذي يدور بينهما... فيما كان الخباز يجهز الخبز لهما... وعندما مد الشاب يده بالنقود له... سمعت صوته يقول...:"شكراً لك يا عم!... كان الله معك من أجل الوطن!..."
ماذا؟!.. من أجل الوطن!.. كلمة لا أسمعها كثيراً في هذه الأيام... فمن يقولها يكون وطنياً... ومن ثم هذا الصوت ليس غريباً علي!... صوتاً يبدو مألوفاً... هل هذا هو؟!.. هل يمكن أنه الآن يبعد عني بضع خطوات فقط...
أعدت الكوب إلى الأرض... ووقفت لأنظر لمن يقف خلف الشباك... لكني لم أجد أحداً... نظرت للخباز سائلاً...:"أين ذهب؟!!.."
تطلع لي مستغرباً... ثم إلى النافذة... وأجاب...:"هل تعني خالد؟!.. لقد ذهب بحفظ الله..."
خالد!!!... هل هذا معقول...
خرجت إلى الشارع... لأنظر في أي اتجاه ذهب خالد وتلك المدعوة مطر... أين ذهبا؟َ!.. نظرت لليمين ولم أجد أحداً... ونظرت للشمال فوجدتهما يقتربان من نهاية الشارع...
استوقفني الرجل العجوز بسؤاله...:"ماذا تريد منه؟!.. هل تعرفه؟!.."
تحركت من مكاني لألحق بهما قبل أن يختفيا من أمام عدستي... :"إنه أخي... شكراً لك..."
صرخ بصوته البالي...:"ليس بينكما أي شبه!!.."
نعم! أيها الخباز... ليس بيننا أي شبه... نعم خالد لا يشبهني... فهو لازال يتمتع بجماله... أما أنا فقد تركت الحرب آثارها على جسدي...
بقيت أجري بكل ما أوتيت من قوة... كنت أود الصراخ ومناداته... لكن كنت أفكر فيما سأقوله له... أخي الحبيب... انتظر!... أخي أرجوك توقف...
انعطفت إلى الشمال... بعد أن وصلت لنهاية الطريق... لأرى الاثنين عند باب إحدى البنايات... فلحقت بهما حينما وصلت إلى هناك... كانا قد صعدا السلم إلى الطابق الأول... صعدت مباشرة خلفهما... والحارس استوقفني بسؤاله...:"من أنت يا هذا؟!."
لكني لم أجبه بشيء... بل اتجهت خلف أثر خالد وتلك الفتاة التي برفقته...
هل كانت شكوك بدور في محلها؟!.. هل حقاً أنه تزوج دون أن يخبر أحداً منا؟!... وماذا يهم في الأمر إنني أريد رؤيته... رؤيته ومعانقته فقط...
وصلت أمام الباب الذي للتو قد أغلق... وقفت أنظر إليه... هل أطرقه أم لا؟!.. هل أتقدم وأتحدث معه؟!... وأخبره بما حدث لي ولأمي وبدور من بعده...
أطرق الباب أم لا... لا!... لا يمكن... لا يمكن!!!...
| +* +* +* +* +* |
في مكتب يدير كافة العمليات الإرهابية...
لقد دخل إلى هنا قبل نصف ساعة... ليتشاور مع يوسف وأكرم في موضوع رجال الشبكة... لكنهم لم يصلوا إلى نقطة نهاية...
_:"جمال!!... اسمعني جيداً!!!... إن رجال الشبكة أقوياء أكثر مما كنا نتصور... سقوط الحصن المنيع بين أيديهم سيدمر كل شيء... حتى الآن عقلة الإصبع ذاك لم يأتك بخبر عن القصر المهجور... ولابد أن يكون قد حدث معه شيء ما... إما أنه قد سقط بين أيديهم... أو أن الضابط المشرف على القصر قد فعل به شيء... فيجب علينا الآن أخذ الحذر والحيطة من رجال الشبكة.."
تحدث أكرم بصوته الخشن...:"ما العمل؟!.. إني لا أرى حلاً سوى هروبنا من هنا... ونترك الأمر من رأسه إلى أخمص قدميه..."
بان الغضب على وجه يوسف لكنه بقى في هدوءه... بينما زمجر جمال بأكرم قائلاً... :"أيها الغبي!... ألن تتغير أبداً؟!.. ستبقى دوماً خائفاً كالفئران... أرجوك يا أكرم أن تفهم أن هذه العملية تهمنا جميعاً... من خلفها سنستلم الملايين..."
أشار له يوسف بأن يهدأ... ثم قال...:" اهدأ يا جمال!... وأنت يا أكرم ألم تتغير؟!... إننا نحن هنا نعمل بقضية حياةٍ أو موت... كان يمكننا أن نتراجع لو كان الأمر قبل اثنتي عشرة سنة... قبل أن نقدم على حرق منزل أو قتل طفل حتى... أما اليوم فلا يمكننا أتعلم لماذا؟!..."
_:"اعذر غبائي يا سيدي!.. لكني حقاً لا أدري لماذا لا يمكننا الهرب والتراجع..."
نهض يوسف ليسكب لنفسه كأساً... وأجاب... :"إن أسماءنا وصورنا موجودة في كل أقطار العالم... يطالبون بالقبض علينا لقتلنا وإيقافنا أمام القضاء الدولي... نحن انتهكنا حرمة بيوت ووطن
تساوي مساحته قارة كاملة..."
كان جمال واقفاً أمام النافذة التي بقربهم... فاستدار وكأن مرض الغباء أصابه كذلك...:" لماذا لا نهرب إلى أعواننا في الغرب؟!.."
نظر له يوسف باستغراب واستنكار... فقال جمال مباشرة... :"أوه!.. لقد نسيت!.. سيقتلوننا إن لم نقم بالمطلوب منا!!!..."
تحدث يوسف بثبات وثقة... :"اسمع الآن يا جمال... أريد منكم تطبيق الآتي!... هناك سجين سيعدم في الأيام التالية... فأرجو منك أن تخرجه من السجن بحكم البراءة... اسمه سعيد سعد عبد الناصر... بعدها أريدك أن تأخذه من السجن... وتنذره بعدم الاقتراب منا... أو حتى الاقتراب من أي شخص يعنينا بصلة... مهما كانت علاقته بنا صغيرة..."
_:" أمرك سيد يوسف!... هل من أوامر أخرى؟!..."
فقال له يوسف...:" نعم يا جمال!... هذه المهمة ستكون بإشرافك ومن يقوم بها أكرم!... وغير ذلك أريدك أن تخلي منزلك من أي ورقة لها صلة بخططنا السابقة أو المستقبلية... وأن تجد لك منزلاً آخر لحالات الخطر... وأنا سأفعل ذات الشيء... وأنت يا أكرم استبدل شقتك بشقة أخرى..."
نظر الاثنان لبعضهما بعض... وتكلم أكرم أولاً...:"هل لديك فكرة عن المكان الآمن لتكون فيه ابنتي بمفردها في المنزل؟!. ومن ثم أنت تعلم يا سيدي بأنني انتقلت من منزل لآخر في السنين العشر الأواخر أكثر من خمس مرات..."
_:"حسناً لا بأس!... يمكنك الانتقال إلى منزلي السابق... فلازال تحت الحراسة المشددة..."
بعد هذا استأذن جمال ليعود لمنزله... أو ربما لينهي بعضاً من أشغاله التي كلف بها...
| +* +* +* +* +* |
جنوب المنطقة الشمالية... القصر المهجور...
في الساعة التاسعة والنصف صباحاً... من يوم الاثنين... الثاني عشر من مايو...
لقد كنا حبيسي الظلمة والتعذيب طوال سنين عدة...
كنت أحاول جاهداً أن أحصل على معلومات تطمئنني على مجموعتي... بل إخوتي!... ولكن كل من يدخل إلى هنا يقول بأنه لا يعرفهم...
فهل من المعقول أنهم قد قتلوا؟!!.. ولكنني تركتهم يهربون من بين يديّ الإرهابيين الذين هاجمونا... ووقفت لأتصد لهم... وللأسف أنهم أمسكوني... ولكني دوماً أحمد الله على أنهم أمسكوني وتركوا البقية...
لكن ما يؤسفني هو انقطاع أخبارهم عني...
قطع تفكيري صوت الشاب الصغير الذي يجلس بجانبي... لقد قضى شبابه هنا بين هذه الجدران... :"في أي وقت نحن؟!..."
كان في الخامسة عشرة من عمره حينما أمسكوه... ابتسمت له ونظرت إلى ساعدي... قبل أن أجيب...:"إن ساعتي معطلة كما ترى..."
ضحك وهو يقول...:"وهل تركوا لنا ساعة لنعرف أين وصلت بنا عقارب الساعة!.. إن الزمن أهلكني..."
_:"ادعُ الله بأن يفرجها عليك... ولا تيأس فرحمة ربك واسعة... "
أجاب بعد أن ألقى بعود السجائر الذي بين أنامله... :"ما الفائدة من خروجي الآن... مستقبلي ضاع... وقضيت فترة دراستي في ظلام السجون... بدل أن أكون الآن في جامعة مرموقة..."
ابتسمت للشاب الصغير كما نطلق عليه...:"لازال الوقت أمامك..."
سمعت همسات رجل بجانبي... :" إن رجال الشبكة أقوياء جداً... أتمنى لو كنا في المدرسة حتى الآن..."
التفت إليهم في الظلمة... فسألته...:"ماذا تقول؟!.. ما الذي فعلوه هذه المرة؟!.."
فهمس لي الآخر بوهن...:"في الأمس عندما كنت في غرفة التعذيب... سمعت الجنود يتهامسون بلغتهم التي أعرف منها القليل... بأن رجال الشبكة قد سيطروا على وادي الحرية... وأسروا الكثير منهم... ويبدو أن الحصن المنيع قد أسر كذلك..."
_:"يا لهذه الأخبار!.. وكيف هي الأحوال؟!.."
فرد الرجل بتعب واضح على صوته...:"أيها الشاب الصغير!... إنها لا تسر أبداً... لكن لو حالفنا الحظ سنكون محررين في غضون ساعات..."
لقد بدأت الفرحة ترقص في قلبي... فها هو شعاع من النور يدخل إليه... فأنا فقدت الأمل منذ بضع سنين...
سمعنا صوت الباب المهترأ يفتح... ليدخل الضوء إلينا... وظل الجندي يتسلل لنا... ليصرخ بعدها باسمي... فاتنتفض ذاكرتي التي غطاها الغبار نوعاً ما... فأنا قد تركت دون تحقيق أو تعذيب لمدة سنة كاملة... فماذا يريدون الآن مني؟!..
_:"نعم سيدي!..."
كلمة اعتدنا قولها من جراء التعذيب... لقد مورس علينا شتى أنواع التعذيب... لأسباب نجهلها... ولكن السبب الوحيد الواضح... هو تقديم الاحترام والولاء لهم...
فقال...:"انهض معي... هيا تحرك!..."
نهضت من مكاني وانطلقت نحوه...
كنا عشرين رجلاً في هذه الغرفة التي تقع في طابق سفلي... مظلمة جداً... وصغيرة جداً... ونقوم بكل شي فيها... ننام... ونقضي جميع حاجاتنا فيها... مما جعلها نتنة و مقرفة... لكن أنوفنا اعتادت على هذه الروائح الكريهة... ونأكل فضلات طعام الجنود... وأحياناً لا نجد شيئاً سوى كسرة خبز واحدة... نقسمها بيننا...
وإن اعترض أحدنا على ذلك... يلاقي أشد أنواع التعذيب... ونحن الباقون نحاول أن نوفر له بعض الطعام لحين عودته... ومكاناً مناسباً لنداويه بما نستطيع... من كمادات ماء فاتر...
دخلت لإحدى غرف التعذيب... وتفتح عينيّ... لأصدم من الشخص الذي أمامي... كانت صورتي التي كنت أظنها قد تغيرت منذ آخر مرة رأيت نفسي بها في المرآة... كنت أظن بأن آثار التعذيب قد ذهبت من على جسدي... لكنها لازالت موجودة...
رغم لحيتي التي تخفي نصف وجهي... لكني عرفت بأن هناك الكثير من الندوب والنتوء التي عليه...
_:"كيف حالك ياااا...... عبد الرحمن على ما أظن أليس كذلك؟!.."
أجبته دون أن أنظر إليه...:"نعم!.. إنني مشتاق لك يا سيدي..."
قهقه باستهزاء... وقال...:"حقاً... لقد كنت أظن بأنك مرتاح من عدم رؤيتي في هذه الفترة..."
_:"لا!... لقد كنت أسأل نفسي دوماً... ألم تشتاق لي؟!.."
نظر لي نظرة حازمة... وقال...:"لازلت كما أنت... قوي العزيمة!..."
رفعت أحد حاجبي لأقول...:"مهما عذبتموني سأظل كما أنا..."
رفع يده ليصفعني بشدة... مما جعل خدي ينزف... فأصابعهم لا تخلوا من السلاسل المدببة...
وبين كل كلمة وأخرى... صفعة... وبعدها أصبح بين كل سؤال وقرينه... لسعة كهربائية خفيفة... لا أدري لمَ كانوا يبقونني سنة كاملة دون تعذيب... أو قتلي حتى...
هل كانوا يستمتعون بسؤالي عنهم يومياً؟!.. أم أنهم يخفون عني شيئاً ما؟!...
إنهم يستمتعون بالموت البطيء... فهناك الكثير منا من مات ببطء شديد... وهذا هو أسلوبهم المعتاد...
| +* +* +* +* +* |
لازلت أعيش في ضياع...
إنني في غاية البؤس والحزن... أعيش بين جدران تخنقني... وفي جوف بركان يحرقني... بين غصنين يابسين... وخلف سلسلة جبال مرتفعة...
جلست هذا الصباح في شرفة الصالة السفلى... لأتناول إفطاري هناك... برفقة العم جمال... لكن يبدو أنه لم ينه عمله... فهو ترك لي رسالة صغيرة على الطاولة... قبل يومين!...
[[ لقد ظهر لي عمل في مساء الأمس... لذلك خرجت باكراً... وربما يأخذ العمل مني يومين أو أكثر... فلا تقلقي... تناولي إفطارك جيداً عزيزتي... ولا تفكري كثيراً... بما أخبرتك به تلك الليلة... فهو لا يستحق أن تقلقي نفسك من أجله... ولو أمسكته بين يديّ فأنا سأجعله يندم على فعلته... وكذلك!... سأجعله يتمنى الموت قبل لقائي... انتبهي لنفسك عزيزتي...]]
كيف يهدأ لي بال وخالد فعل بي ما فعل!.. لقد يتمني الزمن ذات مرة... وخالد يتمني في المرة الثانية... لقد جعلني تائهة في حياتي والسبب هو المال والدنيا... لابد أنه الآن يعيش حياته في نعيم وسعادة... ويتركني هنا أقاسي لحظات الألم والحزن لوحدي...
آآآه يا ربي... هل من المعقول أن خالد قد فعل ذلك؟!... إن قلبي لا يصدق كل كلمة نطق بها جمال... لكن العقل... العقل يأبى أن يصدق قلبي!... إنني لا أصدق... ولكن إن لم تكن حقيقة... فلماذا يكذب عليّ جمال؟!.. ما الذي يريده من خالد؟!.. وما الذي يريده مني؟!...
إنني حقاً تائهة.... ولا زلت في نفس الدوامة...
أحسست بذراع تلتف حولي... وقبلة حانية تطبع على رأسي... :"صباح الخير!..."
حالما سمعت صوته أبعدت ذراعيه عني ...:" ابتعد عني!..."
ثم نهضت من مكاني لأواجهه... نظر لي باستغراب...:" لماذا؟!.. ما الأمر؟!..."
_:"يبدو أنك قد نسيت!... إنني لا أريد رؤيتك... اذهب من هنا!..."
تنهد قبل أن يجلس على الكرسي المقابل لكرسيّ... :"لماذا جلست؟!.. لا أريد رؤيتك!... يكفي ما تسببه لي من ألم في ابتعادك أيام طويلة... وعندما تعود توهمني بالسعادة..."
قال لي وهو يضع يده على جبينه... :"أرجوك بدور!... لقد تعبت كثيراً في الأيام الفائتة..."
_:" إن كنت قد تعبت في أيام قليلة... فأنا تعبة منذ سنين طويلة... أنا من يرجوك يا إسماعيل..."
نهض ليمسك بكفي بين كفيه... ونظر لأعماقي... :"ما بك؟!.. أعلم أنك متضايقة مني بسبب زوجتي... لكنك لا تعلمين ما أعانيه منذ سنين... إنني لم أصدق أني وجدت من أبحث عنها طوال تلك السنين..."
تناثرت دموعي كحبات اللؤلؤ على الأرض... :"لقد سئمت كل الأقاويل التي أسمعها... لقد سئمت من ضياعي بين الماضي والحاضر... إنني تائهة... تائهة بين أن أصدقك أم أصدق جمال أم أصدق أخي؟!..."
نظر باستغراب لي قبل أن يسألني... :"وما شأن جمال وأخيك فيما بيننا؟!.."
_:" لا أدري!... إنك تخبرني بأنك كنت تبحث عني... وجمال يخبرني بأن خالد يريد قتلي... وخالد أخبرني ذات يوم أنه لا يمكنه الحضور... ولكنه يشتاق لي... فمن أصدق يا ترى؟!..."
ضمني إلى صدره وأنا التائهة لم أمانع رقودي على صدره... كنت بحاجة لذلك العناق... قبل رأسي من جديد وهو يكفكف لي بضع دمعات... :"إنني لا أعلم ماذا أقول!!!..."
_:"لا تقل شيئاً... إنني تائهة وبحاجة لمن ينير لي الطريق... هل من الممكن أن يقتل خالد أمي وأخي؟!.. ويتركني هنا بين الحياة والموت؟!..."
أبعد رأسي من على صدره... ليضمه بين كفيه... :"يستحيل... هل تعتقدين أنه يوجد أخٌ في العالم يريد قتل أخته؟!... ثم ألم أخبرك بأن لا تصدقي ما يقال لك دون أن تتأكدي.. ربما كان جمال يمزح معك!... أو حتى يكذب!!!..."
نظرت إليه وعلامات الدهشة ترتسم على وجهي... رفعت الورقة التي بين يديّ حتى وصلت أمام عينيه... قرأها بهمس... ثم قال لي...:" قلت لك... ربما كان جمال يكذب أو حتى يمزح..."
_:"لكني أعرف جمال جيداً يا إسماعيل!!!... إنه لا يعرف المزاح أبداً..."
ضمني إلى صدره ثانية... :"أرجوك لا تفكري فيه الآن... إنني قادم إليك أحمل أنباء سارة لك!..."
رفعت رأسي سريعاً... فقلبي صار يتلهف لسماع شيئاً يفرحني.. :" وما هي تلك الأخبار؟!..."
فقال لي وهو يجلس على المعقد ثانية...:"أمتأكدة بأنك تريدين سماعها؟!.. قبل قليل لا تريدين رؤيتي!!!..."
غابت نصف الابتسامة عن وجهي... وقلت له بصوت يشبه الهمس...:"إنني!.. إنك تعلم بأنني لا أستطيع الصبر على فراقك... مهما كنت متضايقة منك... لكنك ضيقت نفسي تلك الليلة بطاعتك العمياء لهم..."
ابتسم لي قبل أن يمسك بكفي ويسحبني ناحيته... ليحبسني في حجره... أبعد خصلات شعري الطويل عن أذني ليقرب شفتيه منهما... :"إنك تعلمين أن عدم طاعتي تعني موتي!!!... ويجب عليّ أن أكون قريباً منهم... لحماية نفسي... والآن لابد أن جمال عرف قيمتك لديّ... فطاعتي له تعني حرصي على حياتك..."
التفت إليه لأطبع قبلة في نهايات وجنته... ثم قلت :"إنني أعرف ذلك... لكن هروبنا بعيداً عنهم لن تجعلهم خطراً علينا..."
_:"إنك لا تعلمين جيداً من هو جمال... المهم!!!... اتركينا من جمال وفرح!!!.. واتركينا معك..."
ابتسمت له باستحياء لأقول له...:"هل تناولت الفطور؟!..."
_:"ليس بعد!!!... سأخبرك قبل ذلك بالأخبار السارة..."
اعتدلت في جلستي بين ذراعيه... لأصغي لكل كلمة يقولها... :"منذ تلك الليلة التي تركتك فيها... وأنا أحاول الحديث مع فرح بخصوص علاقتنا التي أصبحت بلا معنى... ولكنها كانت حزينة جداً... وقبل أسبوع تحدثت معها لأخبرها أنني بدأت حياة جديدة... هي لا زالت عاكفة على البكاء منذ تلك الليلة... وكانت تحاول طوال هذه الأيام أن تعيدني إليها ... أما اليوم فقد تحدثت معها من خلف الباب... أخبرتها بأني نويت على الطلاق..."
تشعشع وجهي فرحاً... :"حقاً..."
لكن سرعان ما ماتت الفرحة في قلبي.... لأقول... :"لا أصدق!... فلابد أنها لم توافق على هذا الحل الوديّ..."
نظر لي إسماعيل بحزن واضح على وجهه... :"إنها لا زالت تحبني!... ولكن حبي لها مات منذ زمن... لذلك هي تحاول التمسك بي لأكثر وقت ممكن!... إنها ترفض هذا القرار الذي اتخذته أنا... لكنها رغم ذلك مكسورة الجناح الآن... وربما ستبقى يوم أو يومين على الأكثر وهي كذلك... ومن ثم ستأتي لي كاللبؤة التي افترسوا حبيبها... وخصوصاً لو علم والدها بالأمر... سيقضي على كلينا..."
عقدت حاجبي استنكاراُ... فقال لي مباشرة...:"أعدك يا بدور أني سأفعل ما بمقدوري لحمايتك..."
توقعت أن حضور إسماعيل اليوم سيوضح لي كل شيء... لكنه كان غامضاً بعض الشيء... فهو حتى الآن لم يخبرنِي بالمشاكل التي بينه وبين زوجته الأولى... كل ما أعرفه هو أنها لا تنجب... وأن حبه لها مات منذ زمن بسبب المشاكل التي ترتبت على عدم إنجابها... ما هي تلك المشاكل أنا لا أدري؟!... لا أدري سوى شيءٍ واحد.. أنني أعيش في ضياع مستمر...
بداية حياتي كانت بلا أب!... ومنتصفها بلا أخ!... ونهايتها بلا أم ولا أخ!!!... لأبقى يتيمة طوال حياتي... وأخيراً أكتشف بأن خالد قتل أمي وحبيب!!!....
وجمال هذا الغريب هو المحامي عني؟!...
فماذا يوجد أكثر من هذا الضياع؟!...
| +* +* +* +* +* |
شعور غريب أرحب به في أعماقي...
_:"مرحباً..."
_:"أهلاً بكما... هل استيقظتما مبكراً؟!..."
أجبتها وأنا أطير من الفرح... فأنا لأول مرةٍ أخرج برفقة خالد لإحضار الخبز صباحاً... فدائماً يذهب هو لوحده... :"نعم يا علياء!... ولقد أعددت لكم الفطور... البيض وأسفله حلقات من الطماطم الطازجة وقطعاً من الفطر [[المشروم]]... وكذلك سلطة الزعتر اللذيذة... وخالد حضر لكم... ..."
قاطعني خالد سريعاً...:"طبق الفول الممتلئ بالثوم والبصل و زيت والزيتون..."
عندما كنا نعد الفطور وشممت تلك الرائحة التي تنبع من طبق خالد... تخيلت أنه شخصٌ آخر... يقف خلف الموقد وهو يرتدي ملابس رياضية... بشرته تميل للاسمرار قليلاً... و يغيضني برائحة الثوم والبصل... لكن في الحقيقة كان خالد يقف بهدوء وهو يعد طبقه...
أخرجني من تلك الذكرى صوته قائلاً...:"مطر!... ما بك؟!..."
هززت رأسي قبل أن أقول...:"لا شيء!... إنني كنت أتذكر شيئاً..."
هنا الجميع صمت وبدأ ينظر لي بنظرات فيها نوعاً من الحزن... ابتسمت وأنا أقول...:"لا تقلقوا... ليس شيئاً عظيماً أو محزناً!!... إنما عادت لي صورة خالد أخي وهو يطهو نفس طبق اليوم قبل... قبل لا أدري كم سنة!!... فعندما رأيته وهو يقف خلف الموقد... تخيلت شكله فتى صغيراً يطهو في مطبخ منزلنا... ولكن يا خالد!... لماذا لم تضايقنِي اليوم برائحة الثوم والبصل؟؟؟... كما كنت تفعل سابقاً..."
نظر لي خالد وقد اختفت البسمة عن شفاهه... فقلت له وأنا أمسكه من ذراعه...:"ما بك؟!.. لقد كنت كما أتخيل الآن تضايقني دوماً بتلك الروائح التي أكرهها..."
تلعثم قليلاً وهو يجيب...:"لا!... لا شيء!!!... إنما أنا سعيد بأنك بدأت تتذكرين شيئاً من الماضي... لكن مطر أخبريني بشكل ذاك الفتى... وكيف كنت تشعرين تجاهه؟!.."
صمت للحظات أحاول أن أتذكر شيئاً يتعلق بالماضي... وخصوصاً تلك الذكرى... ضغطت قليلاً على نفسي... ولكني لم أتذكر شيئًا... سوى...:"عينيك تشبهان عينيه... وفيهما بريقٌ غريبٌ جداً حينما تنظر إليّ مباشرة... كنتُ... كنتُ أبعد عيني عنهما كلما سلطها عليّ... و... و... ولا أدري لماذا كان قلبي يرتجف كلما اقترب مني؟!... شعور غريب؟!.. ليس هو بالخوف... وليس بالأخوة... فأنا أشعر بأن الأخوة لم أعرفها إلا عندما ألتقيكم..."
نظر الجميع إليّ نظرات استغراب واستفهام... لحظتها قالت حنين...:"ماذا تعنين؟!..."
أردت إجابتها لكن صوت الجرس بدأ يرن... ليعلن وصول ضيف ما... فاستيقظ الجميع من الصدمة التي تركتها بهم كلماتي...
لكن ماذا أفعل؟!.. فأنا حقاً لا أدري ما هو ذلك الشعور الذي يراودني حينما تبدأ الذكريات المتعلقة بالماضي تظهر رويداً رويداً... خصوصاً عندما أتذكر تلك العينين اللتين تلمعان... فمعظم ذكرياتي هي أصوات تهتف باسم إحداهن... أو صورٌ لفتى في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة يحاول مضايقتي بأفعاله... ربما يكون خالد... أو شخص آخر... فأنا لا أستطيع تحديد تلك الملامح...
نهض خالد من مكانه ليفتح الباب للطارق... فرأيت شاباً يخفي نصف وجهه بقبعة كبيرة... وعندما رفع رأسه قليلاً... لم أتبين ملامحه جيداً... لكن انطباعي الأول عنه... أنه غريب عني... ولم يدق ناقوس الذكريات في ذاكرتي بصورة له...
| +* +* +* +* +* |
زائر الصباح...
لقد تفآجأت بصوت جرس الباب... فنحن لا ننتظر أحداً!...
عندما اقتربت من الباب أريد أن أسترق النظر من العين السحرية لكن خطر في ذهني أنه ربما يكون هو قد عاد لنا... نعم ربما يكون عبد الرحمن... لكني تفآجأت بشخص آخر... ضعيف البنية طويل القامة...
ألقى التحية دون أن أرى ملامحه جيداً...:"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..."
نظرت إليه بدقة أكثر... فصوته ليس غريباً عليّ... لكني أجبته...:"وعليكم السلام... هل من مساعدة؟!.."
رفع رأسه أكثر... لتظهر لي ملامح وجهه... لأصدم بذلك الوجه المصبوغ بلونين... بقع كبيرة داكنة على بشرته السمراء... فقال لي سائلاً...:" هل أنت خالد؟!.."
ازدردت ريقي وأنا أحاول كتمان خوفي وتوتري... وأيضاً استغرابي من معرفته لي...": نعم!.. من أنت؟!.."
نظر إلى يمينه في محاولةٍ منه لإبعاد نظراته عن نظراتي... :"هل يمكنني الدخول؟!.. والحديث معك قليلاً..."
نظرت لعمار الذي يقف على مقربة مني... فرأيت في عينيه نظرة شك وتوجس... فقلت للشاب...:"لا يمكنني إدخالك دون أن أعرف من أنت..."
نكس الشاب رأسه قليلاً ثم رفعه لينظر في عينيّ مباشرة...:"إن قلت لك من أنا هكذا لن تصدقني..."
ولمعت في عينه لمعة غريبة... لكن تلك الملامح ليست بغريبة عليّ... ترددت في تلبية طلبه... فهناك شيء في داخلي يدفعني لإدخاله...
فأتى عمار يحاول إسناد نفسه بعصاته... :"من أنت أيها الشاب؟!.. نحن هنا نعيش مع أخواتنا فلا يمكننا إدخال رجل أجنبي عنا مهما كان الأمر مهماً..."
نظر لي الشاب برجاء...:"أرجوك يا خالد أدخلني... فأخواتكم هن أخواتي!... صدقني لن آخذ منكم سوى خمس دقائق..."
نظرت للفتيات... وقلت لهن...:"درباً لو سمحتن!.."
ترددت الفتيات في الدخول إلى الغرفة المجاورة... وخاصة مطر... فهي وقفت تنظر إليّ برجاء أن أتركها برفقتي... لكن بنظرة حادة نوعاً ما... دخلت...
أدخلت الشاب إلى الصالة... :"تفضل واجلس..."
جلس بتردد... والتوتر بادٍ على محياه... هناك كلمات كثيرة تود الخروج من بين شفتيه... ولكنه قلقٌ جداً...:"تحدث أرجوك!... هل يمكننا مساعدتك بشيء ما؟!.."
نظر إليّ وبدأت عيناه تغرقان في بحر غريب... :"إنني أود أن أخبرك عن قصة قديمة... قصة مر عليها عشر سنين..."
سألته مقاطعاً...:"ماذا؟!.. ماذا تعني يا هذا؟!... ألن تخبرني من أنت في البداية؟!.. ومن أين تعرفني؟!.."
_:"سأخبرك!... لكن ليس قبل أن أتمم قصتي..."
أومأت له سامحاً له بالحديث... في حين أن عمارًا بدأ شكله يتغير... كان يظن بأن الفتى مجرماً أو ما شابه... لكن أسلوبه الذي بدأ فيه كان يجعل الناس تصغي إلى كل كلمة ينطق بها... ذكرني بشخص أشتاق إليه كثيراً... ولكن للأسف لا يمكنني رؤيته...
_:"قبل عشر سنين مضت... ربما أكثر!... كان لي عائلة صغيرة... تتكون من أمي وأخي وأختي الصغيرة المدللة... أما إن سألتني عن أبي... فهو قد مات قبل زمن طويل... ومن بعده كانت حياتنا بين فرحٍ وحزن قليل... وبقيّ أخي الأكبر وأمي يعتنيان بنا... حتى رحل أخي إلى الشمال كما أخبرنا ذات مساء... ليجد عملاً من أجلنا... وبعده كانت حياتنا بين حزنٍ وغم..."
نهضت من مكاني لأقاطعه...:"حــ...!! حبيب!!..."
_:"لم أنهِ حديثي!... تركنا ليؤمن لنا المال للعيش... لكنه لا يدري عن حياتنا أبداً... لا يدري أن من كان يعمل معهم قتلوا أمي... كبلوني معها في البيت... وأحرقوا المنزل بما فيه... وإن سألتني كيف هربت؟ فلا أدري كيف!!.. مجرد أني رأيتهم يكبلون يدي... شددت عليهما... وحينما خرج أولئك الذين يكسوهم السواد... حاولت جاهداً لفك وثاقي... ولكن بعد ماذا؟!!.. بعد أن اختنقت من الدخان... حاولت فك وثاق أمي ولكني لم أستطع فالدخان كتم أنفاسي... فخرجت قليلاً لأتنفس القليل من الهواء... حتى لا أموت بالدخان وتموت هي كذلك... وعدت مباشرة لفك وثاق أمي... بعد عناء مع الدخان والحبال فككت وثاقها... كنت أعتقد بأني سأنقذها... لكن للأسف كل ما استطعت فعله هو أن أخرج جسدها من الباب الخلفي... ولسوء حظي كان هناك واحداً منهم... مما جعلني أمسكه لأبرحه ضرباً حتى فقد وعيه... ودخلت به وسط النار لأربطه في مكاني... وهاهم... يظنون بأني مت... وأمي قد ماتت مختنقة..."
_تقدمت إليه ودموعي تعزيني...:"ماذا؟!.. وماذا عن بدور؟!.. أين هي؟!.."
رفع رأسه لي... ووديان الدموع على وجنتيه... :"أنا من أتى ليسألك هذا السؤال؟!.. منذ عشر سنين وأنا أبحث عنكما!... لقد أخذها أولئك الأوغاد... ولا أدري ما الذي دفنوه في قلبها ضدك... فهم هددوني بها كثيراً... وقالوا أنهم يحتاجون إليها..."
لقد كان حبيب!!.. نعم حبيب أخي!!!... جلست بجانبه لأضمه إلى صدري... وأبكي أمي وأختي... والأيام التي ضاعت من دون حبيب... :"لماذا فعلوا ذلك؟!.. وكيف سمحت لهم بأخذها؟!..."
أجابني بوهن... بينما أنا كنت أشعر بنفسي وكأنها بحلم...:"لم تكن بيدي حيلة!... فقد هددوني بقتلها إن لم أتركهم... وكذلك خدعوني في البداية... تركتهم يأخذوها لأنهم أوهموني بأنهم سيأخذون أمي وبدور... ولكني تفآجأت بعد أن قيدوني بتقييد أمي..."
_:"لا بد أنهم قتلوا بدور الآن!... فهي لن تخضع لهم!!..."
هز رأسه لي نافياً...:" لقد كانت نائمة عندما قدموا إلينا... خدروها حتى لا ترى شيئاً... عندما أخذوها كانت تغوص في الأحلام..."
أقسم أني لن أتركهم!!... لن أتركك يا بدور بين أيديهم مادمت حياً... سأجعلهم يندمون على كل شعرةٍ مسوها منك...
| +* +* +* +* +* |
الاثنين... الموافق الثاني عشر من مايو...
قبل ذلك الوقت بقليل... في منزل العائلة...
مر أسبوع أو أكثر على الحادثة...
هل يمكن أن أسميها حادثة؟؟!... نعم! إنها حادثة وقعت لي...
لماذا تصرف معي بهذا الأسلوب؟؟!... كان همجياً كالوحش... لم يعطنِ فرصة واحدة لأدافع بها عن نفسي...
أعطاني فرصاً كثيرة لأحبه... ولكنني بقيت متعلقة بخاتمي... وحبي الأول... ففي تلك الليلة اكتشفت لأول مرة في حياتي أنني بلهاء!!!... نعم بلهاء!!!...
لو كنت أخفي في قلبي مشاعري... أخفيها لي وحدي... لما حدث الذي حدث!!... لو أنني جاريته قليلاً... ما فعل بي ما فعل... إنني غبية حينما أعلنت كرهي له بهذه السرعة... ماذا سيكون لو أنني جاريته قليلاً؟؟..
والآن ماذا سأقول لأمي وأبي؟!.. حينما أخبرهم بكرهي له!.. أو أخبرهم بما حدث بيننا... هل سيغفرون لي؟!.. أم سيجبرونني على الارتباط به ارتباطاً نهائياً؟!!...
لقد تعبت... أسبوع وأنا مضربة عن كل شيء... عن الأكل... عن الكلام... وحتى عن النوم... أخشى أن أغمض جفنيّ ويأتيني عليّ ليمارس همجيته عليّ...
مهما فكرت ومهما بررت له... يضل مذنباً... مذنباً في حقي...
دخلت في هذه اللحظة كوثر التي غابت عنا بضع أيام... وأتت منذ عدة أيام أخرى لانشغال زوجها...
عند دخولها لم تتحدث إليّ بأي كلمة... لكنها لاذت بالصمت... أما أنا فقد بقيت أنظر إليها ببلاهة... حتى خرت دمعتي... وبعدها ألقيت بنفسي بين ذراعيها باكية...
لأصرخ لها بين بكائي... :"إنني نادمة!... نادمة!!..."
_:"أرجوك يكفي!... إنني آسفة عما قلته... لكنه الشيء الوحيد الذي كان سيعيد لك عقلك... أنظري إليه كيف يحبك بجنون وقد جعلت حبه يذبل... لم تسقِه بماء ودك حتى!..."
ضمتني إلى صدرها... محاولة أن تهدأ من حدة بكائي...
ولكن مهما ندمت على أفعالي... يبقى مذنباً... نعم مذنب... رفعت رأسي ومسحت نهر دموعي من على وجنتي!... ثم قلت لها بصوت مخنوق...:"لكنه أذنب في حقي!... هل تعتقدين أن ما فعله بي ليلة رحيلك شيئاً طيباً؟.."
رفعت حاجباها... :"ماذا؟!... ماذا فعل عليٌ بك؟!.. إنه لم يفعل أي شيء يقلل من احترامك..."
شككت في الأمر.. فقلت لها دون وعي...:"حقاَ إنه لم يقلل من احترامي... لكنه أخطأ بحقي حين اختلا بي..."
بحلقت كوثر عينيها وهي تسمع جملتي الأخيرة... وضعت يدي على شفتيّ لأطبقهما... فيبدو أن الخبر لم يصل لأحد ما... فقد كنت أعتقد أنه قد أخبر خالتي أو حتى كوثر... نهضت كوثر من مكانها لتقفل الباب بإحكام... وعادت لتجلس بجانبي على السرير...:"أعيدي ما قلته؟!.. أعيديه لي..."
هززت رأسي نافية...:"لم أقل شيئاً مهماً..."
_:"بل قلت يا غدير!... كيف حدث ذلك؟!.. ومتى؟!.."
نكست رأسي... ليس خجلاً... بل خوفاً... كانت كوثر غاضبة نوعاً ما... فتوترت أعصابي أنا أيضاً... لكنها أحست بي وقالت لي...:" لا تخافي من شيء!... فقط أخبريني كيف حدث ذلك... وصدقيني بأني لن أخبر أي مخلوق كان..."
تحدثت بسرعة من شدة خوفي... دون أن أشعر بأني جهاز تسجيل... _:"إنني لم أرتكب شيئاً... فقط ذهبت إليه لأخبره بأني لا أريده... ولكن الآن كيف أرفضه بعد أن اقترب مني... سيكون من المستحيل فعل ذلك... عدت إلى غرفتي لأبكي... فلحق بي ليسمعني كلاماً مثل كلامك... جرحني وآلمني... فصفعته صفعةَ من كل قلبي... فأعاد الصفعة لي بأعظم منها..."
هنا سكت لأنظر إلى وجه كوثر... لكن لم يبد عليها علامة الفهم... بل علامات كثيرة من الاستفهام... أخذت نفساً لتقول لي...:"أتقولين بأنك طلبت منه الطلاق؟!.."
_:"نعم!... وخلعت خاتمنا لأرميه بوجهه..."
زمت شفتيها على جنب... قبل أن تقول...:"وأتى ليرد لك الصاع صاعين!!.."
هززت رأسي موافقة على ما تقول... فقالت...:"والله أنكما مجنونان... تذهبين لتخبريه بكرهك... فيأتي إليك!... لم أرَ أحداً أكثر جنوناً..."
صرخت عليها بحزن...:"لا تقولي لي ذلك!... بل أخبريني ما العمل؟!!... لو علم أبي سيقطع رقبتي..."
_:"هل جننت؟!! فأنت لم ترتكب إثما... إن بينكما عقداً شرعياً... زواجكما تم منذ سنة... إلا أنه لم يتم الإشهار بالزواج..."
عقدت حاجباي في تساؤل... لأقول...:" هذا صحيح!... لكني لم أفهم!..."
تروت في شرحها المفصل...:" اسمعيني جيداً!... لقد رأيت طريقة زواجي... في يوم الملكة... أتى الملاك وأخذ موافقتي على الزواج أمامكم جميعاً... هل هذا صحيح؟!.."
أجبت باقتناع تام...:"نعم!... هذا صحيح..."
فأكملت...:"وفي يوم زفافي... رغم أنه كان زفافاً مصغرا... هل أتى أحد ليأخذ موافقتي على شيء؟؟؟.."
سكت قليلاً وأنا في حيرة من أمري... ثم أجبت...:"لا!... لم يأت أي شخص!... لكن كيف ذلك؟!!.."
_:"سأقول لك... عندما أتى الملاك أخذ موافقتي على الزواج بمحمد!... ومن ثم ذهب ليتم زواج محمد عليّ... أي أنه تم التحليل لنا منذ تلك اللحظة... ولكن في عاداتنا نحن العرب... أن لا يتم حدوث شيء إلا بعد الإشهار لسبب واحد فقط... وهو أن لا يأخذ الرجل ما يريد ومن ثم يقول لا أريد هذه الفتاة... و العكس صحيح كذلك... ففي كثير من الأحيان يحدث ذلك... وسمعت ذات مرة أن الرجل بين فترة وأخرى يملك على واحدة وبعد أن يوقعها في فخه يغير رأيه ويتركها... ليجرب غيرها... ولكن أناملنا ليست متساوية... وأيضاً الرجال ليسوا متشابهين!... فلا تخافي!... إني أعرف أخي جيداً... ربما كان هذا الشيء يقربكما أكثر..."
زممت شفتيّ قبل قولي... :"ولكني أشعر بحقد كبير عليه!..."
نهضت من مكانها لتقول...:"ألم تقتنعي بما قلت للتو... إنك زوجته أمام الله والرسول... فكيف تحقدين عليه لأنه فعل ذلك؟؟.. ومن ثم لا يحق للزوجة أن تمنع زوجها من حقوقه إلا بأسباب قوية جداً... وإلا كان الله في عونها يوم القيامة..."
_:"لكنه كان همجياً... كالوحوش المفترسة..."
ابتسمت حين قالت...:"أنا معك في هذا الأمر... إنه فعلا همجياً بالنسبة لما حدث لك... وأنا ألوم أخي على فعلته... فليس له حق بأن يعاقبك هكذا... كان أفضل لو تجاهلك..."
فتحت فمي على أوسعه... متعجبةً مما قالت في نهاية جملها... كنت أود معاكستها عليه... لكن حين استفقت من تعجبي كانت قد رحلت... فلحقت بها... للشيئين الأول التعارك معها والآخر شيئاً أضربت عنه في الأيام الفائتة...
| +* +* +* +* +* |
إنه مهذبٌ و خلوق...
منذ حادثة بتول وحال المنزل ليس على ما يرام... فالأوضاع كلها متدهورة... والآن حادثة أحمد تقلق الجميع فقلوبنا بأيدينا...
وبالمناسبة الحرب قربتنا كثيراً من عائلة خالتي فاطمة... فقد أصبحنا نعيش معهم في نفس المنزل... فالعم أبا علي لم يسمح لنا بالمغادرة رغم أننا نعيد بناء منزلنا رويداً رويداً... فكلما هدأت الأوضاع بدأ العمال يعملون بجهد كبير... ولكن أنا شخصياً أفضل العيش معه...
لا!.. لا!... لا يفهمني أحدكم بشكل خاطئ... فأنا أحب جميع من في المنزل... وربما بوجود عمتي سارة سنضطر للرحيل إلى منزلنا فأبي طلب من المقاول أن يسرع في البناء قدر المستطاع...
لكنه هو أيضاً شخص طيب وكريم... مهذبٌ و خلوق أيضاً...
كنت أنظر إلى الدرج حينما نزلت كوثر التي كانت تجري وهي تصرخ علينا...:"ما هذه الخيانة؟!.. سبقتموني بالإفطار..."
ضحكت وأنا أقول...:"ألم أخبرك بأن لا تتأخري!... ودعي تلك المضربة فلا فائدة منها..."
هنا نظرت إلى أعلى السلم... حين لاحت لنا غدير وهي ترتدي حجابها على عجل... بحلق الجميع فيها... كنت أود أن أصرخ معترضة عليها لكن سبقني ياسين بتوجيه الاتهامات لي...:"إنها ريم يا كوثر!... قالت لنا لا تنتظروا كوثر فهي ستنهي الطعام علينا..."
ضحك الجميع... فيما امتلأت غضباً... وأنا أقول...:"أيها الكاذب... إنني لم أقل ذلك..."
_:"حسناً حسناً... سأقبل بتلك الكلمة... لكنك دبة تخافين الجوع في الشتاء..."
مددت شفتيّ بضيق... فضحك عليّ الجميع وهو لم يتركنِ وشأني... :"إنك حقاً طفلة صغيرة... لن تكبري وتفهمي أنني أمزح لا غير..."
ألقيت عليه ملعقتي ليتلقفها بيده بكل مهارة وهو يقول...:"أنت لازلت طفلة يا ريم..."
حاولت خالتي إسكاته لكنه كان قد اختفى من أمامنا...:"إلى متى ستبقى مشاكساً؟..."
هذا هو!!. لن يتغير أبداً... في أحلك الظروف يبقى مبتسماً ومشاكساً... خصوصاً معي أنا... يحب أن يغيظني... ويرفع ضغطي... لكنه!... لكنه!.. لا أدري... لماذا أشعر بتجاهه بمشاعر مختلفة عن الآخرين... فحتى عليّ يحب مضايقتي... لكن مضايقة ياسين لي مختلفة... مختلفة تماماً...
كنت قد تهت في عالمي المنفرد... فأيقظني صوت غدير وهي تسأل عن أحمد...:"كيف هو حال أحمد يا أمي؟!!."
فأجابت أمي بحزن...:"لازال كما هو!... أشعر بأنه سيفيق قريباً... لكن متى؟!.. لا أدري..."
نكست غدير رأسها... وقالت بصوت أشبه بالهمس...:"إنني خائفة عليه جداً..."
أمسكت خالتي يدها بحنان...:"لا تخافي يا ابنتي!... إن الله معه... ولن يخذله أبداً..."
رفعت أمي رأسها ويديها للأعلى... وقالت بصوت يناجي العلي الأعلى...:"ارحمه يا الله!.. وأعده لي سالماً معافى..."
دخل أبي وقد كان مستعداً للخروج... فسألته أمي...:"إلي أين يا مصطفى؟!.."
أجابها وهو يضع مفتاح سيارته في جيبه... :"سأذهب لأرى العمال في المنزل أين وصلوا؟!.. ومن ثم سأذهب إلى المشفى لأرى حال أحمد وكيف هو وضعه!.."
_:"سأذهب معك..."
كانت هذه أمي التي نهضت من مكانها تحاول أن تجد عباءتها لترتديها... وكذلك غدير قالت... :"وأنا كذلك أبي..." لكن أبي أوقفهما... :"انتظرا... إنني سأذهب إلى المنزل كما قلت... وسأتأخر عندهم قبل ذهابي إلى هناك... ابقيا هنا وحينما أكون هناك سأرى الأوضاع وأخبركم بكل جديد..."
لكن أمي لم يأت كلام أبي في قلبها... فقالت وهي تجلس...:"حسناً كان الله معك... لكني سأطلب من ياسين أن يأخذنا إلى هناك... فلا تأكل هماً..."
ابتسم أبي لها قبل أن يخرج...
هنا قالت كوثر...:"أين أخي اليوم؟!.. إنني لم أره..."
فأجابتها الخالة فاطمة...:"لقد ذهب!!.. لديه عملٌ يجب أن ينهيه... كما قال..."
فقالت وهي ترمق غدير بنظرة غريبة...:"يبدو أنه يعيش في عالم آخر..."
_:"ما بك ترمقينني هكذا؟!.. وما شأني أنا به؟؟؟"
لم أفهم ما يدور بينهما... لكن كوثر أكملت تغيض غدير...:"لكنك السبب في فرحته... وانهماكه بالعمل... فأنا أعرف عليّ... إن كان مزاجه بحال ممتازة... يكون متفرغاً للعمل... أما إن رأيته قابعاً في المنزل فهو في حال لا يمكن إخراجه منها..."
_:"ولكنني أكره وجوده معي... فما ذنبي في مزاجه..."
ضحكت بقوة... وكأنني فهمت ما ترمي إليه غدير... فحقاً حال عليّ تغيرت منذ أقل من أسبوع تقريباً... سألتني ياسمين...:"ما الذي يضحكك؟!.."
_:"إنني انتبهت كذلك يا كوثر!... علي تغير حاله ومزاجه منذ ثلاث أو أربع ليال... فربما كانت مشاجرتهما تلك الليلة هي السبب بتحسن مزاجه..."
بحلق الجميع فيّ... حين سألتني كوثر وقد بدا التوتر على وجهها الذي لا أعلم ما سببه...:" ماذا تعنين بأنهما تشاجرا؟!..."
قلت بكل بساطة...:"رأيت أختي المصون تذهب إليه وترمي بوجهه خاتمهم... ومن ثم تعود لغرفتها... لكن صهرنا العزيز ذهب خلفها ليعطيها درساً في الحياة الزوجية... ومن ثم سمعت صوت بابها يغلق بقوة... ومن بعده صوت بابه أيضاً... لكن الشيء الذي حيرني هو بكاءها طوال الليل... فهل كانت حزينة لفراق عليّ؟!.. أم كانت متضايقة بسبب الدروس الزوجية التي لقنها لها..."
نظرت الاثنتان إلى بعضهما البعض... في حين أن ياسمين قالت...:" لكنني أتوقع أنها فرحة جداً لأنها تركتنا نبات مع الخالة سارة نحن الثلاثة... و وسام وياسين باتوا في الصالة..."
_:"لماذا؟... بات ياسين و وسام هنا؟؟؟"
أجبت غدير بكل براءة...:"لأن علي كان قد أغلق على نفسه الباب... يبدو أنك غاضبة منه... أما هو فقد كان في هذه الأيام بحال لا أدري كيف أصفها؟... لقد كان مرحاً... يداعب الجميع بدعاباته الغريبة... حقاً كان مزاجه مرتاحاً..."
ضحكت ياسمين وهي تقول...:"ربما لأنه كان مستمتعاً بتعليمك لدروس الزواج الجيدة..."
نهضت غدير لتهرب إلى غرفتها باستعجال... فقاطعتنا الخالة فاطمة بحدة... :"يكفي ذلك يا فتيات... إنكم تلهون بمشاعرها... إنني أعلم بأنها تقسو على ابني... لكن يجب أن لا نقسو عليها... فيكفيني أن أجد علي مرتاح البال هكذا..."
دخل ياسين ونظر إليّ مبتسماً... فهجمت عليه هذه المرة...:"لماذا تنظر إليّ هكذا؟!.. أهناك شيء؟!.."
ابتسم بغرور... وقال ضاحكاً... :"مجرد مزحة لا أكثر!..."
_:"أيها البغيض!... إنك أكبر مجنون على هذا الكوكب..."
فقال لي ببرود... :" الحمد لله!.. أي أنه هناك أكبر مني على كواكب أخرى!..."
تركته هذه المرة ولم أجب عليه بأي كلمة... لكن الضيق بدا واضحاً على وجهي... فقال مستهزئاً...:"أنت أكبر طفلة في الوجود..."
| +* +* +* +* +* |
أنا من يحتاج للإجابة؟؟؟...
إنني محتارة في ذلك الشاب الذي يجلس برفقة خالد!.. إنه شخص مجهول بالنسبة لي...
كنت أقف بجانب الباب... لأسمع ما يدور بينهم من حديث... ولكن صدمت لدى سماعي بأن هذا القادم هو أخٌ لي!... ولكن مهلاً لحظة!!!... لم يأتوا على ذكر اسمي في حديثهم عن الماضي...
إنما عن فتاة اختطفت واسمها بدور!!!! من هي ؟؟؟ اسمٌ جديد يطرق الأبواب في ذاكرتي!!!..
_:" ماذا تفعلين هنا؟!..."
نظرت إلى خالد الذي يحدثني... فأنا لا أدري كيف حملتني قدماي إلى الصالة... لأقف أمامهم بكل صمود وأسأل خالد...:"من هذا؟!.."
نهض خالد والتوتر واضح عليه... وكانت عيناه تقفز من وجهي إلى وجه الشاب الجالس... ومن ثم إلى عمار... الذي نهض من فوره ليحاول بصعوبة إعادتي إلى الغرفة... لكني رفضت ذلك...:"لا أريد!!!... أخبروني من هذا؟َ!!... فربما يستطيع مساعدتي في استرجاع ذاكرتي!!!..."
صدم مني خالد وعمار... فأنا منذ فترة لم أتحدث معهم عن ذاكرتي... لكن هذا الفتى المحترق قليلاً أعاد لي الكثير من التساؤلات الغريبة...
أبعدت يدي عن عمار لأقف أمام خالد بكل صمود وإصرار...:"أرجوك أخبرني..."
نهض الشاب وقال لخالد...:"لماذا لا تخبر زوجتك بأني أخيك؟؟!!..."
ماذا؟!.. زوجتك!!!!!...
كانت نظرات الاستغراب في عين خالد... ولكن عمار قال مصدوماً...:"هل هي زوجته؟!.."
ما الذي يدور من حولي؟!.. من أنا؟؟؟ ومن هؤلاء؟؟؟...
فسأل الشاب...:"إذن من تكون؟؟؟.."
صرخت بهم...:"أنا من يحتاج للإجابة؟؟؟... من أنا؟؟؟ من أنا يا خالد؟... ومن أنتم؟؟؟ ومن أين أتيت؟؟؟"
تلعثم خالد بحروفه... وهو يجيب...:" لا... لا... "
_:" لا ماذا؟؟؟؟؟ أرجوك أخرجني من هذه الدوامة التي أعيش فيها منذ سنين!!!..."
لم يتكلم ولم ينطق بحرف واحد... فذهبت لعمار أتوسله...:"أنا أخته!!.. أليس كذلك؟؟؟... أرجوك قل لي بأنني أخته... ولست شخصاً آخر... لكن... لكني لا أذكر شيئاً يربطني به... أو بهذا!!!.."
نظرت للشاب المحترق كانت نظرة الاستغراب ممزوجة بالشفقة في عينيه... لكن قلبي يؤلمني... وعقلي يدور بي في دائرة صغيرة جداً... إنني لا أجد مخرجاً منها...
إنه وجه واحد أذكره... وجه قبيحٌ يخيفني... وآخر وجهه يشع بالأمل والحب والاطمئنان... أريد الوصول إليه... لكنه بعيدٌ عني... بعيد عني مسافة سنين عدة... وهذا الذي يخيفني كلما مر الوقت يقترب مني أكثر وأكثر...
فجأة أحسست بيدين تمسكانني من ذراعيّ... تهزني...:"ابقي معي يا مطر!! ابقي معي!!!..."
انتفضت صارخة فيه...:"ابتعد عني!!! ابتعد عني أيها الحقير..."
استعدت الواقع الذي أعيش فيه... فرأيت خالد يقف أمامي بجانب عمار... كنت خائفة... وكانت أنفاسي تتسارع... ودقات قلبي تدق بقوة... لدرجة أنني أحسست به سيقتلع من مكانه...
لكن كل شيء غاب من أمامي بلحظة واحدة... لحظة واحدة فقط!...
| +* +* +* +* +* |
حدث في وقت ظهيرة الاثنين...
زحف رجال الشبكة... إلى القصر المهجور... ولحسن حظهم لم يكن ذلك الرجل الأجنبي قد وصل إليهم... إلا قبل دقائق... ولكن الضابط المسئول الذي يشرف على الأسرى والمساجين هناك لم يقتنع بكلامه... وهو جالس على كرسيه رافعاً رجليه على الطاولة التي أمامه... وبين إصبعيه الوسطى والسبابة ممسكاً بعود سيجار فاخر... كان بارد الأعصاب وكأنه يتعامل مع أحد سجنائه... برودة أعصابه ترجع لحبه لتدمير قوى الشخص الذي يحادثه...
_:"لا عليك!... إننا مستعدون لكل من يحاول مهاجمتنا... فلا تنسى بأننا قد حصنا القصر قبل أن ننتقل إليه..."
كان الرجل هو ذاته الرجل الذي كان يقف أمام جمال بخوف شديد... قصير القامة نحيف الجسد...
لقد تلعثم في حروفه من شدة خوفه...:"إن... إن... إنها... إنها توصيات جمال... يا... يا... يا سيدي!... ولابد... ولابد لنا إتباعها... من... من بعد موافقتكم سيدي..."
أنزل قدميه من على الطاولة... وأشار للرجل القصير بالاقتراب... ليهمس بأذنه..:"أنصحك بأن تذهب قبل أن تفلت أعصابي من بين يديّ... فهذا لن يكون جيداً لك..."
ازدرد الرجل ريقه بصعوبة... وقال بهمس وتوتر ولهجته الأجنبية...:"إنني عبد المأمور يا سيدي..."
شقت ابتسامة خبث شفتي الضابط... ليقول...:" وأنا الآن آمرك بالرحيل!..."
حمل الرجل حاله وهرب مسرعاً... وقد اختار أفضل وقت للهروب... فحالما وضع قدمه خارج أسوار القصر... تنفس الصعداء...
لكن راحته لم تدم طويلاً... فهناك يدٌ ضخمة أمسكته من الخلف... لتجره من مكانه...
| +* +* +* +* +* |
ليت الناس كلهم كانوا مثله!...
كان رجلاً قصيراً جداً... اعتقدت في بداية الأمر أنه طفلاً... لكن حالما خرج من البوابة الضخمة التي ربما تسقط اليوم أو بعده... رأيت شاربه الصغير الذي يعلو شفتيه...
أخذته بعيداً... بعد أن كان يرتجف بخوف... وهو يكتم صرخاته... فهو خائف مني وخائف ممن هم خلف الأسوار... أول سؤال سألته...:"من أنت؟!.."
أجابني بصوت متلعثم... :"إنني... إنني عبد المأمور يا سيدي..."
نظرت إليه بغضب يشتعل في أرجاء جسدي... فقال مسرعاً...:"صدقني يا سيدي!... أنا عبد المأمور... اذهب يا داني إلى هناك... وقل لهم يا داني أن يفعلوا كذا... وافعل أنت كذا... واصمت في الوقت المسموح لك... وتحدث في الوقت المحدد... فماذا يمكن أن يكون اسمي غير عبد المأمور..."
لا أدري لماذا اختفت العصبية مني... لدرجة أنني بدأت أضحك بعفوية... ضحكت مما جعل من معي أن يضحكوا... فهذا الرجل فكاهيٌ أكثر منه جدياً... فها هو يشتغل مع الإرهاب لكنه لا يعرف عن الإرهاب شيئاً كما بدا لي...
بعد أن رأيت نظرات التعجب على محياه... هدأت فسألني متعجباً...:"ما... ما الذي يضحكك يا سيدي؟!..."
ابتسمت... لأنزله وأضعه على الأرض... فهو ريشة خفيفة... بل كأنه طفل في الرابعة من عمره... لوزنه الخفيف... ودقة ملامح جسده...
نزلت لمستواه... فأطرق برأسه... وقلت...:"هل اسمك داني؟!.."
نظر إلي قليلاً قبل أن يجيب بسؤال...:"ومن أخبرك باسمي يا سيدي..."
_:"أنت!... ومن ثم حدثني وأنت رافع الرأس..."
رفع رأسه... فقلت له...:"أنت أخبرتني قبل دقيقة فقط... أخبرني ما هي مهمتك التي أتيت لها هنا؟؟..."
فقال...:" لا أدري إن كان مسموحاً لي بالإفصاح لك أم لا؟؟.."
ضحكت وقلت له... :" أنت الآن مأموراً من قبلي... فأنا لن أتركك تعود إليهم بعد أن أمسكتك..."
ارتعش حين أجاب...:" إن جمال أخبرني أن أبلغ الضابط المسئول هنا... أن يغيروا مكانهم بأسرع وقت ممكن... لـــ... لكنه رفض الاستماع لي... وقال بأنهم محصنون جيداً..."
_:" هل يمكنني مساعدتك؟؟... فأنا أشعر بأنك تعيش في رعب دائم..."
نظر إلي مستغرباً... :"لكن قبل ذلك أريدك أن تساعدني في الهجوم على القصر... وإعلامي بأدنى التفاصيل قبل أعلاها..."
في تلك اللحظة لم يترك لا كبيرة ولا حتى صغيرة... كأنه مسجلةً وقد شغلت... لكنه ذكي!... ذكيٌ جداً!... فالتفاصيل التي ذكرها كانت مهمة جداً بالنسبة لنا... ولولاه لما وصلنا إلى وسط القصر...
| +* +* +* +* +* |
ذكريات ما قبل ثلاثون سنة من عمري!!...
كنت أجلس في مقهى المستشفى... أرتشف القليل من القهوة... لتصحصحني قليلاً... فالنعاس بدأ يداعب عيناي... فقبل ساعتين كنت قد وصلت إلى هنا... وجلست عند أحمد ابني الوحيد... جلست لأقرأ على رأسه بضع سور من القرآن... وأدعية مستحبة... لقد كانت من أصعب لحظات حياتي تلك... والأصعب عندما رأيته يسقط أرضاً وهو يبتسم لي... بعد أن دافع عني... وحماني بجسده و روحه... آآآه يا بني!... ألم تكن روحك عزيزة عليك؟؟. لتفتديني بها!!...
لكني أنا لو كنت مكانك لفعلت ذات الشيء... فأنت أغلى من روحي التي تسكن بين جنبي... أنت الذي كنت أسأل المولى عز وجل أن يرزقني به... وأن يبلغني بك... أباً!... وذا مكانة عالية... والأهم ذا أخلاق حسنة...
كنت أطلب من المولى أن يبعد عنك أبناء الحرام... والحمد لله أنهم كانوا بعيدين منك بعد الشمس عن القمر... و.... وكنت أطلب منه أن يحفظك لي من كل شر ومكروه... ولكن... أراك الآن مسجى على فراش لا أدري متى تنهض منه...
ورغم ذلك... إني لا أيأس من رحمة ربي... فالله لا ينسى عبده مهما حدث!!... أحمدك وأشكرك يا رب!... أحمدك وأشكرك يا رب!... أحمدك وأشكرك يا رب!...
أحمد!... دوماً كنت أوصيك بصلاتك... وصيامك... وأن لا تكون بعيداً عن الله الواحد الأحد... فإن كنت قريباً منه يا بني!... فأنا متأكد بأن الله لن يخذلني لا أنا ولا أمك... وسيعيدك لنا...
قبل أكثر من عشرون سنة... [[ حينما دخلت عليها رأيتها ممدة على فراش المستشفى... ترقد بهدوء وسلام... ارتاح قلبي لرؤيتها هكذا... لكن آثار التعب بادية على وجهها... لقد تعبت غاليتي... جلست بجانبها لمدة نصف ساعة ثم نهضت لأسرق عدداً من النظرات للمولود الجديد... ابني الذي أسميته أحمد... نظرت إليه من خلف الزجاج وأنا أبتسم... أتأمل فيه الأيام القادمة... والتي ستكون برفقته من أسعد الأيام... نعم!... وقفت بجانبه فترة طويلة... وقبل أن أقرر العودة لزوجتي... سمعت صوت الممرضة تسألني... [[ هل تريد أن آخذه لكم إلى الغرفة؟..]] أجبتها بسعادة أنني لا أمانع ذلك... فأنا لا أشبع من رؤيته أبداً... وقد أخذته هناك... لأبقى بقية الوقت مراقباً لحركاته... وزوجتي غيداء... كانت الدنيا لا تسعها من الفرحة... في كل دقيقة تطلب مني أن أحضره لها... وأضعه في حجرها... وكلما أردت أخذه ترفض... [[ أرجوك اتركه قليلاً بعد]]... فأرد عليها...[[ يا الله لا تريني يوماً تطلب فيه حبيبتي مفارقة ابنها]]... ... لتضحك قائلة...[[لا تقل ذلك!.. إنني لن ولن أمل منه!... إنه فلذة كبدي... وقطعة من فؤادي... إنه دنياي وآخرتي...]]... ... [[ وأنا أين ذهبت يا غيداء؟؟؟]]... [[ أنت الأصل والأساس... وهذا ليس إلا فرعٌ صغير... وسيكبر ليكون أصلاً... يأتينا بفرع صغير مثله...]] ... ...
كانت أياماً لا تنسى... و أوقاتاً من أسعد أوقاتي... رحماك يا الله ...
مرت دقائق قليلة... وأنا أرتشف القليل من كوب القهوة الذي أمامي... وإذ أرى الطبيب المشرف على صحة أحمد يجري في الممر المؤدي إلى جناح العناية المشددة... وهو ذات الجناح الذي يرقد فيه أحمد... ومن خلفه الممرضة تجري... شلت أطرافي وأنا أرى ذلك المنظر... ماذا حدث يا ترى؟!...
تحركت من مكاني دافعاً الكرسي خلفي... لأذهب جرياً خلف الطبيب والممرضة... كنت ضائعاً بفكري... ولا أدري كيف أصف حالي... والناس ينظرون لي متعجبون...
عندما وصلت إلى الغرفة وقفت خلف النافذة الزجاجية... لأرى أن الطبيب والممرضة ومعهما ممرضة أخرى... مع أحمد!... كان الطبيب يحاول إسعاف قلب أحمد بجهاز الإنعاش الكهربائي... كلما تحرك جسد أحمد صاعداً نازلاً... ارتجف قلبي بقوة... واحد... اثنان... ثلاث... أربع... يا إلهي!.. لا فائدة...
وقف الطبيب ينظر قليلاً إلى جهاز القلب الذي يصدر أصواتاً على أن القلب توقف... ولكن الخطوط لا زالت صاعدة نازلة... ولكن بشكل بسيط... ودقيق جداً... مما جعل الطبيب يحاول الكرة مرةً أخرى...
لأربع مرات... كنت سأيأس من عودته للحياة... ودمعتي خرت تجري على وجنتيّ... وشفتي بدأت بالتهليل والتسبيح... لكن عندما تقدم ليضعه للمرة الخامسة... ارتفع صدر أحمد بشكل قوي... ليصمت الجهاز للأبد... ويسكن في مكانه... وتبدأ دقات قلبه تمضي في درب الحياة بسهولة ويسر...
نظرت للطبيب مستفهماً... فأعاد لي النظرة بابتسامة رضا... وأومأ لي بعينيه... ارتاحت نفسي وسكنت... خرج الطبيب بعد أن اطمأن على نبض أحمد... وخرجت خلفه إحدى الممرضتين... بينما الأخرى ضلت تراقب أحمد...
ذهبت للطبيب وسألته فوراً...:"ماذا حدث؟!.."
_:"لا تقلق يا عم!... إنه بخير الآن... الآن تبين لي أنه تخطى مرحلة الخطر تماماً... ويبدو أنه شاب قوي جداً... كنت أخشى فقدانه... لكن الآن أنا متيقن بعودة وعيه... أرجو له الشفاء العاجل..."
_:"أحمدك وأشكرك يا رب..."
ثم وجهت حديثي للطبيب...:"شكراً لك يا بني!... لولا الله تعالى ولولاك لكان أحمد في البرزخ الآن..."
وضع يده على كتفي وقال...:"نعم إنها إرادة المولى عز وجل... يمكنك الدخول إليه..."
ثم تركني ورحل... وقفت خلف الزجاج أنظر إليه لدقائق... وأنا غير مصدق بأنه تخطى تلك المرحلة الحرجة... أشارت لي الممرضة التي في الداخل بالدخول إلى أحمد... تحركت بسرعة لأذهب إليه... وأطمأن عليه عن قرب...
نظرت إلى وجهه... ثم إلى الممرضة وقلت لها لأفهم الأمر جيداً...:"هل هو بخير الآن؟!.."
_:"نعم يا سيدي... فهو الآن بخير حال... لكن يتبقى أن ننتظر استيقاظه من الغيبوبة المؤقته..."
جلست على الكرسي الذي بجانبه... لأتأمل وجهه المغطى نصفه بقناع الأوكسجين... حتى يمده بالهواء...
بعد ساعة وأنا على هذه الحال... أمسكت بيده اليسرى... لأضمها بين كفي... مسحت عليها بهدوء... ثم فتحت القرآن الكريم لأقرأ له بضع سور قصار... ولم أصل لنهاية الجزء الثلاثون حتى أحسست بحركة أنامله الخفيفة... أمسكت عن القراءة... لأنظر إليها... فعاد يحركها قليلاً قليلاً...
ومن ثم... سمعت همساته...:"بابا!... بابا!..."
تلك الكلمة!!.. نعم تلك الكلمة... أول كلماتك التي نطقت بها... والآن كذلك... همست له بهدوء...:"أحمد عزيزي!.. أنا بجانبك يا بني!..."
ضغط على كفي في تلك اللحظة... نهضت لأقترب منه... حالما التقت عيني بجفنيه... رأيتهما يتحركان بصعوبة... فقلت ...:"أحمد! هل تسمعني؟!.."
لكنه همس...:"أبي!... أبي!..."
تركت يده لأذهب إلى غرفة الممرضات جرياً... لكن قبل وصولي رأيت تلك الممرضة تخرج من عند مريض آخر... ناديتها... :" أيتها الممرضة... لقد استيقظ!... لقد استيقظ..."
نظرت لي ببلاهة... لكنها ذهبت تسبقني إلى الغرفة... كان أحمد في تلك اللحظة يحرك شفتيه منادياً إياي... وكذلك حرك رأسه قليلاً... قليلاً فقط...
لم أنتبه للممرضة التي خرجت وعادت برفقة الطبيب... صحت لحظتها... :"لقد حرك رأسه!... حركه بمسافة مليمتر واحد..."
أومأ الطبيب لي مبتسماً... كان أحمد ينادي باسمي حيناً وحيناً آخر يسكن...
تقدم إليه الطبيب وبدأ يفحصه... حينما سأله الطبيب...:"أحمد! هل تسمعني؟؟؟..."
حرك أحمد رأسه جهة الطبيب... وحاول فتح عيناه... كان يصعب عليه فعل ذلك... لكنه همس...:"أبي!!... أين هو؟؟؟.."
ابتسم الطبيب لي وهو يرفع قناع الأوكسجين من على وجه أحمد... :"حمداً لله على سلامتك... إن أباك هنا..."
_:"هل استيقظ حقاً؟..."
التفت أحمد إلي... وفتح نصف عيناه... ابتسم بوهن... وهمس لي...:"بابا!!.. تعال إلي!..."
تقدمت لأمسك يده اليمنى... وابتسمت له...:" إنني هنا يا بني!..."
نظر لنا الطبيب وسأله... :"كيف حالك يا أحمد؟!.. هل تشعر بألم ما؟!.."
_:"إنني متعب... جسدي كله يؤلمني..."
أومأ له الطبيب وقال له...:"لا عليك!!... لأنك تبات على هذا السرير منذ أسبوعين كاملين... لكني أود سؤالك بأن تمسك يد والدك..."
نظر لي أحمد فترة من الوقت... ولكنه سألني...:"هل يمكنك أن تقرب يدك مني... فيمناي متعبة!..."
أومأت له... وفي الحقيقة كنت أمسك يمناه... لكني رفعتها أمام عينه المتعبة قليلاً... وقلت...:"ها أنا قد أمسكتها..."
كنت قد رأيت الطبيب يعطي أحمد حقنة ما... فسألته...:"ما هذا الدواء أيها الطبيب؟!..."
أجابني وهو يشير لي بأن ألحق به...:"إنه مسكنٌ للآلام... فحتى الآن يبدو أنه لم يستيقظ جيداً..."
خرجت خلفه... فقلت دون أن أعطيه مجالاً للحديث...:"هل شلت يده يا بني؟!.."
_:"للأسف نعم يا عم!... لقد بذلنا ما كان باستطاعتنا يا عم!... لكن هذه إرادة الله عز وجل..."
قلت بصبر...:" نعم... إنه كذلك... وأنا متيقن بأن لله حكمة... شكراً جزيلاً أيها الطبيب..."
_:" عفوا يا عم... خلال أربعة وعشرون ساعة سيبقى تحت العناية الفائقة... وحينما نرى أن صحته تحسنت... ننقله لغرفة أخرى..."
مضى الطبيب في عمله... وأنا مضيت لأخبر غيداء بأن أحمد قد استيقظ... ودمعتي تسبقني إلى مثواها الأخير...
| +* +* +* +* +* |
|