كاتب الموضوع :
HOPE LIGHT
المنتدى :
الارشيف
|| الورقة الأولى من غصن الحرية ||
** * **
الشمس تختفي خلف السحاب... تنشر القليل من أشعتها الذهبية في الكون... لكنها لا تبعث الدفء مع أنها تعدت الواحدة والنصف ظهراً... ذلك بسبب يومٍ شتويٍ ممطر...
حيث كنت أحمل في يدي اليمنى رزمة الكتب التي اعتدت حملها، وأنا أسير في مثل هذا الطريق يومياً... أما يدي الأخرى فتقبض على ذراع المظلة التي تحمي ثيابي من سيول الأمطار المثلجة نوعاً ما...
لا حت أسوار المدرسة العالية والسيارات الملونة تقف بين فينةٍ وأخرى أمام البوابة... فتخرج إحدى الفتيات مسرعة هاربة من الأمطار متجة إلى السيارة التي ستقلها إلى منزلهم... بعد يومٍ مكلل بالدراسة والتعب...
ابتسمت لنفسي وأنا أرى البراءة في هذه التصرفات... ففي الأمس كن يقفن خارج أسوار المدرسة يلعبن ويجرين خلف بعضهن البعض... وأصوات ضحكاتهن تملأ الفضاء في مثل هذا الوقت من كل يوم...
يا للبراءة الجميلة... التي أعتبرها وساماً تتزين به كل فتاة...
لم تبق سوى خطواتٌ قليلة وتبدأ المشادة الكلامية بيني وبينها على التأخير... ماذا أفعل لها ياترى؟!. إن كنت لا أستطيع المجيء قبل هذا الوقت فما ذنبي؟!.
ومشاكستها لي تجعلني أتأخر عمداً لأرى ملامحها الغاضبة مني... فهي رغم ذلك تضل رائعة في كل شيء... حتى بتعقيد حاجبيها ومد شفتيها للأمام بضيقٍ شديد تضل جميلةٌ ورائعة...
اعتليت الدرجات الصغيرة قبل البوابة... لتدخلني إلى استراحة الطالبات... كانت أصواتهن تملئ المكان، لكن بدخولي عم الصمت وتقافزت النظرات إليّ... وكأنني فتىً من المريخ... تقافزت نظراتي أنا الآخر بين وجوه الفتيات أبحث عن ذلك الوجه العبوس كما في كل تأخير... صوتٌ نسائي قطع تلك القفزات...
_:" مالذي تريده أيها الشاب المحترم؟!."
كان اسلوبها سخرية أكثر منه لباقةً... التفت إليها لأرى إحدى المعلمات تقف بجانب مكتب الحارس...
فقلت لها:"أتيت لأخذ ابنة عمتي إلى المنزل... أهناك اعتراض؟.."
قلتها بسخرية... مما أغاضها بشدة فقالت:"نعم... لا يمكن أن يأخذ الفتيات من المدرسة في هكذا وضع إلا أحد الوالدين أو الإخوة أو الأعمام... وأنت لست واحداً منهم..."
اغتضت من ردها، وكأني لأول مرةً آتي لأخذها... ولكن في نفس الوقت علت قسمات وجهي الاستغراب لهكذا حديث... فقلت بخوف:" مالذي حدث لها؟!. أين هي الآن؟!. أجيبي أين هي؟!."
نظرت إلي وكأنها لم تفهمني... وقالت:"وما أدراني!.. إنك لم تقل حتى اسمها أيها الشاب؟.."
_:" لقد أتى لأخذها والدك..."
كان صوتاً طفولياً أكثر منه أنثوياً... التفت إلى من كانت تتحدث، وعلامات التساؤل تغلفني، فأسرعت في السؤال:"أقلتي والدي؟!. متى؟!."
هزت رأسها بالإيجاب وقالت:"نعم، لقد أتى مع انتهاء الدوام المدرسي... وذهبت معه..."
سألت المعلمة قائلة:"هل تعرفينها يا هدى؟!."
_:"نعم، إنها بتول... وأخته صديقتي أيضاً ذهبت..."
أسرعت بالخروج من البوابة دون أن أنتظر رداً من أحد... لأول مرةٍ يأتي والدي ليأخذها من المدرسة... يا ترى ما السبب؟!. هل حصل مكروه ما؟!. إنه لا يعود من العمل إلا الساعة الثانية بعد الظهر... يا إلهي سترك ورحمتك...
*** ***
الخامس والعشرين من شهر نوفمبر/ الساعة الواحدة والربع ظهراً...
_:"نعم هو دائماً ما يتأخر... ليست بالمرة الأولى يا خالي..."
_:"لكنك تعلمين بأنه لا يستطيع الخروج من مدرسته إلا في هذه الساعة..."
كانت تجلس حزينة تمد شفتيها بضيقٍ شديد... وتستمع لكلام خالها الذي يجلس بجانبها يهدأ عليها الغضب الذي تكبته... لكنها ليست معه في هذا العالم... بل تاهت بخيالها ورحلت عن المنزل... بقت جسداً بلا روح... حتى رن في أذنها صوته وهو يقول لها...
_:"حسناً، بما أنك مصرة على هذا الحزن والضيق... فـ سأخبر السيدة فاطمة أن تقلك من المدرسة كل يوم... فليس باليد حيلة يا بتول..."
فصرخت وكأن أحدهم قد أخبرها بشيء خطير جداً... :"لا... لا أريد... لا أريد العودة مع الخالة فاطمة..."
نظر إليها متعجباً, وقالت لها المرأة التي دخلت للتو إلى الصالة...
_:"بتول، ما بك؟.. هل هناك شيء؟.."
_:"لا شيء خالتي..." قالتها بهدوء متناقض مع تلك الصرخة التي خرجت منها قبل ثوانٍ...
فقال لها ثانية:" ما الأمر؟!. ستأخذك السيدة فاطمة إلى بيتهم وهو قريب من المدرسة... و من ثم يأتي أحمد لتأتيان معاً، أو إن كنت تريدين المكوث هناك حتى المغرب فلا مانع لدي، كما تفعل ريم دائماً..."
_:"لا أريد لا أحب المكوث مع بناتها... مع احترامي لك يا خالتي... صحيح أنهن بنات أختك إلا أنني لا أطيق الجلوس معهن..."
ابتسمت السيدة غيداء التي كانت تجلس بالقرب منها وقالت لها بلطف:"لا عليك عزيزتي... إن غدير ابنتي لا تحبهن كذلك... وأنا أقول لك الصراحة هن مغرورات حقاً... لكنهن طيبات جداً..."
أعادت لها الابتسامة بابتسامة واسعة... وساد الصمت لثوان... ثم نهضت تحمل حقيبتها لتخرج من الصالة... لكن صوت خالها هجم على سمعها وهو يقول...
_:" إذا الحل الوحيد هو..."
التفتت إليه تنتظر أن تسمع منه كلمة أو حلاً ما لمشكلتها...
فأكمل هو يقول... :" أن تأخذك أمك من المدرسة وتأخذك إلى بيتها... وفي المساء أحمد يأخذك..."
اتسعت حدقتا عينيها وهي تستمع إلى كلام خالها... وقفت فترة تحرك الجملة في عقلها وتديرها يميناً وشمالاً لعلها تجد معنا آخر لها لكن ضل الأمر مثلما هو...
فقال لها مستدركاً... :"إنها أمك يا عزيزتي... ولك حقوق عندها... ولها هي كذلك... إلى متى ترفضين الذهاب إليها؟.. أو ترفض هي الجلوس معك؟.."
_:"خالي... أرجوك أغلق الموضوع..." كانت مطرقة برأسها وهي تجيبه... بدأت الدموع ترسل جنودها إلى عينيها... وبعدها قفزت الجنود معلنةً تلك الحرب التي لن تنتهي... أرادت الخروج من الصالة لكن هذه المرة يدٌ استوقفتها...
التفتت لترى صاحب تلك اليد... فرأته يقف بجانبها لا يعرف ما يقول... لا يعرف ما يفعل ليوقف هذا الحزن الذي يغلفها... لكن أخيراً أسعفه لسانه ونطق...
_:" أنت مثل ابنتي... وهي أختي التي أحبها... ولكن ما العمل هي أخطأت في تصرفها ولابد لها من أن تتحمل خطأها... أما أنت فما ذنبك لتعاقبي نفسك بالحزن... صدقيني لو أنها رأتك الآن وأنت تبكين لما ترددت لحظةً واحدة من أن تأخذك معها لتعيشان معا..."
ازدادت دموعها على وجنتيها... قالت وهي تنظر إلى وجهه من بين تلك الأنهار... :"أنا لا أم لي... لا أم لي يا خالي... أنت أبي... وزوجتك هي أمي... أرجوك لا أريد رؤيتها... لا أريد..."
ضمها بين ذراعيه... و إلى صدره لم يستطع أن يسمع كلامها الذي مزق فؤاده... كيف للفتاة أن تقول لا أريد أمي؟!. كيف للفتاة أن تقول ليس لي أمٌ حملتني؟!.
أكملت من بين دموعها وصوتها الناحب... :"إنها لم تتعب نفسها أبداً... لم تسهر ليلةً واحدة بجانبي... لم تحزن على مرضي... هل هذه هي الأم؟!. كيف للأم أن تكون بهذه القسوة؟.. كيف؟!. أرجوك خالي... أرجوك... لا تجبرني على شيء لا أريده... أنا ليس لي أحدٌ في هذه الدنيا غيرك أنت... أنتم عائلتي الوحيدة .... أرجوك..."
مسح على رأسها ودموعه تهدده بالانهيار ألماً على هذه الفتاة التي اعتبرها قطعةً منه... اعتبرها ابنتاً له... وليست ابنةً لأخته...
قال لها بعد أن أحس بهدوئها... :"حسناً يا عزيزتي... أيمكنك أن تحرريني من قيودك؟!. إنني لم أغير هذه الثياب المتسخة..."
رفعت رأسها لترى وجهه المبتسم رغم الحزن الذي يفيض من عينيه... وقالت له بطيف ابتسامة... :"لا أريد... أخشى أن لا أراك مجدداً قبل الغداء... ثم إن ثيابك تنصع بالنظافة والروائح الطيبة..."
_:"أووو... هل أعتبر هذا إطراءً أم مجاملة؟.."
_:"لا بل فتاة تتغزل بخالها الحبيب..." كانت نبرة صوتها تتسم بالسعادة الحزينة...
حين سمع كلامها, اتسعت ابتسامته وقال لها مازحاً :" لكنني لا أستحق كل هذا الغزل حبيبتي... هيا أنت أيضاً اذهبي لتغيري ثيابك واغتسلي... حتى نجتمع على مائدةٍ واحدة..."
_:" أمرك مطاع أيها الخال العزيز..."
_:"ما هذا الغزل والحب... هيا انهضا وإلا لن تجدا الطعام على المائدة اليوم..."
جاءهما صوت السيدة غيداء التي كانت تقف قريباً منهما...
ابتعدت بتول عن خالها سريعاً... واتجهت إلى الباب وهي تقول... :"يبدو أنني سأنهي دروسي وأنا لم أتناول شيئاً منذ الصباح..."
واختفى طيفها خلف الباب... وبقى الاثنان متسمرين في مكانهما... ينظران إلى بقايا الهواء الذي تبعها... تنهد السيد مصطفى بقوة وقال:"ليحفظها الله تعالى من كل مكروه..."
_:"وأنت ألا تريد أن تغير ثيابك لنتناول الطعام..."
_:"بلى يا عزيزتي... ولكن أين أحمد وغدير؟!.. ألم يأتيا بعد..."
نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط وقالت:"إن غدير هذه آخر محاضرة لديها... وربما في طريق العودة... أما أحمد فمؤكد أنه في بداية الشارع..."
هز رأسه وقال بصوتٍ ممزوج بالحزن و مصحوبا بالخوف... :"إنني أخشى عليهم كثيراً... لا أعلم ما الذي سيحدث في المستقبل، يا غيداء..."
_:"ماذا هناك؟!. تبدو مهموماً جداً... أهناك مشكلةٌ في الشركة؟!."
جلس على الكنبة التي كانت خلفه... واضعاً رأسه بين يديه... ضل ثوانٍ معدودات صامتاً ثم قال... :"العالم تغير عما كان عليه في السابق... تغيرت أشياء كثيرة جداً... لم أعد أعرف هل أنا على صوابٍ أم خطأ؟.. الناس من حولي أراهم يبيعون أنفسهم من أجل المال والشهرة... من أجل السيطرة والنفوذ... من أجل المصالح..."
جلست بقربه... وربتت على كتفه تطمئنه... :"لا عليك عزيزي... ابق صامداً على مبدئك فهو الصواب وليس هناك مجالٌ للمناقشة..."
_:"أعرف... أعرف... لكن أتعرفين أن هناك شخصاً حبس قبل أسبوع.."
بعينين مفتوحتين على مصراعيهما قالت :
_:" بسبب ماذا؟!."
نظر إليها قليلاً... ثم أردف... :"لقد تعاقد مع الغرب... تعاقد معهم ليسطوا على وطننا هذا... ليسلبوا الحرية منا... ليسرقوا منا الشرف والأمانة..."
_:"إذن جيد... يستحق ذلك..."
_:" لكنك لا تعرفين ما الذي حدث؟... لقد أفرج عنه صباح الأمس... لأن الأدلة غير كافية..."
_:" يا عزيزي، ربما لم يكن في وعيه حين ارتكب هذا الذنب... ربما كان في حالة ضعفٍ أو إكراه..."
نهض من مكانه وهو يشعر بالاختناق من هذا الموضوع... :"كيف؟!. إنهم أنذال... أصبح العربي يشي بأخيه العربي... يمسك بأخيه ليضعه بين يدي الأجنبي... لا أعلم متى يفيق العرب من هذه القيلولة التي دامت سنين عدة... وربما تصبح قروناً وهم مازالوا في سباتٍ عميق..."
*** ***
دخلت إلى غرفتي وبعضاً من الحزن يغلف كياني... أغلقت الباب وأسندت ظهري عليه... لعله يمتص مني ذلك الحزن الذي ينتابني كلما ذُكر اسم أمي أمامي... إن آخر مرةٍ رأيتها كانت في الشهر الماضي عندما جاءت لتزور خالي وليس لزيارتي أنا... أنا التي أعتبر قطعة منها... وتعطيه مصروف الشهر لي... رغم ذلك لم تفعل لي شيئاً سوى أنها أنجبتني وحملتني في أحشائها تسعةَ أشهر وربما أقل... لم تتعب في تربيتي أبداً...
آآآه يا ربي لم كل هذا العذاب الذي يسود حياتي... لماذا تفعل بي هكذا؟.. هل أنا ابنتها حقاً أم عدوةٌ لها؟!. أم أن لا أصل لي ولا أهل؟..
يا الله ما هذه الوساوس... عفوك يا الله عن هذه الأفكار الشيطانية التي يبثها إبليس في عقلي...
تنحيت عن الباب وذهبت لأغير ثيابي وألحق بعائلتي الصغيرة التي أحبها أكثر من أي شيء في الدنيا... فاجتماع العائلة ضروري جداً بالنسبة لنا على مائدةٍ واحدة...
*** ***
كنت أجري في الطريق وأنا غير مكترث بالأمطار والهواء البارد... كان عقلي مشغولاً بالذي حدث لهما... لا أعلم ما الذي أصابني لدرجة أني لم أكن أشعر ببرودة الجو من حولي... لم أشعر بشيء من حولي بتاتاً... لم أهتم أبداً لنظرات الاستغراب والتساؤل من عيون الناس في سياراتهم...
لم أجد نفسي إلا وأنا أقف في ردهة المنزل وأمام باب الصالة المفتوح على مصراعيه حيث يجلس والداي يتحدثان في أمرٍ ما... كنت ألهث من كثرة الجري في الطريق... رأيتهما ينظران إليّ باستغراب شديد... لم تهمني تلك النظرات بل نبرة الخوف في حديثهم قبل دخولي... فقلت بين أنفاسي المتلاحقة...
_:"ما الذي حدث؟!. ... أين هي؟!. ... هل أصابها مكروه؟!. "
ألقيت أسئلتي دفعة واحدة... ونظرات التعجب والاستغراب تسيطر عليهما... فقالت لي أمي وهي تقف مقتربة مني...
_:" ماذا بك يا أحمد؟!. من هي التي تتحدث عنها؟!. ولم كل هذه السرعة؟!. "
وهي كانت أسئلتها تلقى عليّ دفعةً واحدة كذلك... لم أنتظر المزيد من الوقت والأسئلة... ألقيت بكتبي والمظلة على الأرض وقفزت على درجات السلم إلى أعلى... كانت قطرات المطر الذي بللني تتقاطر من ثيابي بل من جسدي كله أيضاً... وقفت عند باب غرفتها وأنا أهم في فتحه... لكن رحمة الله أنقذتني من الاستعجال حين تذكرت بأنها قد تحجبت في بداية هذه السنة... أخذت نفساً عميقاً وطرقت على الباب بقوة... وصرخت أنادي عليها...
_:"بتول!.. بتول!.. أيمكنني الدخول؟!. "
لم يأتني جواباً أو رداً منها... خفت بأن تكون تلك الفتاة مخادعة... وضعت كفي على مقبض الباب لأديره... لكن صوت أبي جاءني مؤنباً...
_:"ما الذي تريد فعله؟!. "
التفتت إليه وعيني تريد أن تسرق جواباً من عينيه... لكن لا شيء صدر منه... غير كلماتٌ قليلة...
_:"اذهب وغير ثيابك المبللة لنتغدى سوياً..."
هم بالانصراف... فقلت متسائلاً... :"هل أحضرتها يا أبي؟!."
_:"نعم... وهل تريدني أن أتركها لوحدها في الجو الممطر... بعد أن أرادت ريم الذهاب إلى بيت خالتك..."
جاءت جملته إلى أذني وهو يتوجه إلى غرفته... أراحتني بشدة, كانت مثل كأس ماءٍ أثلج صدري وأخمد الخوف الذي كان يسيطر عليّ...
نظرت إلى الباب وتمنيت لو أستطيع أن أخترقه لأطمئن عليها ولو بنظرة واحدة... لكن القلب يشاء والعين قد حرمت عليها هذه النظرة...
سرت بخطواتي إلى الباب الذي بجانب باب غرفتها... طرقته ثلاث طرقات ولم يأتني من خلفه جوابٌ أيضاً... قلت أكلم الهواء الذي في داخلها... :"غدير... سأفتح الباب... هل أنت في الداخل؟!. "
ولم أسمع رداً كذلك... فتحته قليلاً وأدخلت رأسي في الفتحة التي انفرجت عنه... ألقيت بنظرة سريعة... ولم أجد غير السكون والهواء المنعش الذي تتميز به غرفتها...
دخلت إلى غرفتي ونزعت عن جسدي تلك الثياب المبللة... كم كنت أتمنى رؤيتها وهي غاضبة مني... أو أن تشاكسني مثل كل مرة...
*** ***
جلسوا حول المائدة... ينتظرون أطباق الطعام الشهي الذي أعدته لهم السيدة غيداء... وكانت بطونهم تقرع بشدة من الجوع... نظر السيد مصطفى إلى الكرسي الخالي في طرف المائدة على يمينه وقال... :"أين أحمد؟!. ألم ينتهي بعد؟!. "
_:"بلى أبي... لكنه يصلي... فأنت تعلم بأنه لا يحب الصلاة أمام الطلاب في المدرسة لأنه يحب أن يؤديها على مهل... "
جاء صوت غدير من على يساره... فهز رأسه قائلا... :"لا أعلم متى يترك هذه الطبائع الغريبة... إن الواجب أن يؤديها في وقتها... وليس بأن يطيل فيها أو يعقبها بالمستحبات..."
سمع صوته من عند باب المطبخ وهو يحييهم وهو مقبل عليهم... :"السلام عليكم جميعاً..."
رد الجميع عليه... ثم قال له والده... :"الحمد لله أنك تذكرت السلام... فعندما دخلت قبل قليل نسيت كل شيء حتى السلام..."
قبل أن يجلس أحمد على كرسيه... انتبه لهذه المعلومة التي غفل عنها... فاتجه مسرعاً إلى والده وقبل رأسه معتذراً... :"أعتذر منك يا أبي... لكن لم أكن أتصور بأنك أتيت لأخذ بتول اليوم من المدرسة... فخفت أن يكون قد حصل شيءٌ ما..."
_:"وإن أنا قلت لك ذلك تتذمر من قولي... وتتأخر عليّ أكثر في اليوم الذي يليه..."
خرج صوتها من بين شفتيها غاضباً... فالتفت إليها الجميع... وانتبه أحمد لتلك الكلمات الغاضبة منها... لكنه أحب أن يغيضها أكثر... فذهب يقبل رأس والدته واعتذر... :"إنني أعتذر عن عدم تقبيل رأسك الغالي... يا أمي الغالية..."
ربتت على كفه التي على كتفها وقالت... :"لا بأس بني... إنني أعلم بأنك تخشى عليهن جميعاً..."
جلس على كرسيه أخيراً... ونظر إليها بعدم اكتراث... مما زادها غضباً...
ثم سأل غدير قائلاً... :"كيف هي محاضراتك لليوم؟!."
كانت غدير تسكب له بعضاً من الطعام في طبقه وقالت... :"على أحسن حال... لكن هناك مجانين يجعلوني أكره الدوام برمته..."
_:" لا عليك منهم... اهتمي بدراستك فقط... "
_:"شكراً على النصيحة..."
قالتها بمزاح وجلست تأكل من طبقها... حين جاء صوت أبا أحمد يشق الصمت الذي دام للحظات... :"كيف حال دراستك أحمد؟.. "
كانت هناك لقمةٌ في فمه... فتأخر في الرد قليلاً قبل أن يقول... :"ممتازةٌ يا أبي... أنت تعلم لم يبقى سوى السنة القادمة على نهاية الثانوي..."
_:"ليوفقك الله، أريد معدلاً جيداً... بل أكثر من جيد... وأعلى من الممتاز حتى تلتحق بالجامعة التي تريدها..."
_:"شكراً لك يا أبي... لكن لا أريد الدراسة هنا..."
جاءت هذه الكلمات مثل كابوسٍ على الجميع إلا أبا أحمد الذي قال:"مثلما تريد... فأنا أريد أن أرفع رأسي مفتخراً بك يا عزيزي..."
_:"كيف تسمح له بالذهاب إلى الخارج؟!."
كانت هذه كلمات أم أحمد التي لم تكن تتوقع مطلقاً بأن ابنها سيتركها يوماً ما ويذهب للخارج...
_:"ماذا في الأمر يا أمي؟!. كلها سنوات قليلة وتنتهي كأنها أيامٌ قلائل... ثم إن لديك سنةٌ أخرى لتشبعي مني..."
_:"لا يشبع الإنسان من أبنائه يا بني... الجامعات تملئ الدولة فلما تذهب إلى الخارج!.."
_:"إنني أريد أن أتخصص في تخصص ليس موجوداً في وطننا..."
_:"دعيه يا غيداء... على راحته، ربما يغير رأيه في العام المقبل... أو يكون التخصص الذي يريده قد فتح في وطننا..."
ابتسم أحمد لأبيه ممتناً... فهو علم أن أباه لا يعني ما يقول... إلا ليهدأ على أمه الحزينة على فراقه... أكملوا طعامهم بهدوء...
لكنها لم تستطع أن تضع لقمةً واحدة في فمها... وضعت الملعقة على الطبق ونهضت وهي تقول خاتمة الطعام... :"الحمد لله... لقد شبعت!.."
فقاطع مسيرها أبو أحمد بقوله... :"بتول إلى أين؟!. أنت لم تكملي طعامك بعد..."
_:"لا أريد خالي... لم أعد أستطيع أكل المزيد..."
_:"أجلسي ولا تتدلعي... ما الذي أكلته حتى تشبعي..."
جاءها صوته وهو يحاول أن يعرف ما الذي بها... ألقت عليه نظرتها الحزينة وانصرفت إلى غرفتها... تبادل الجميع النظرات... فقالت غدير تستدرك الأمر... :"لابد أنها أكلت في المدرسة... فهي دائماً ما تفعلها... "
*** ***
الساعة السابعة من مساء الخامس والعشرين...
اتجه ناحية الباب بعد أن سمع رنين الجرس يعلو في جنبات المنزل... فتح الباب ليكشف عمن خلفه... فإذا وجهه يعلوه قسمات الدهشة والاستغراب...
_:" أختي!!. "
وبوجهها الجامد الذي يخلو من المشاعر .... و يطغى عليه البرود ... قالت:
_:" ماذا بك كأنك رأيت شبحا !.."
_:" كلا ... ليس هكذا .... لكن ...."
بترت جملته بقوله بنبرة صوت متضايقة ...
_:" لكن ماذا ؟.."
_:" لا شيء ... لا شيء.... تفضلي أختي ...... تفضلي يا أم بتول ... "
تقوس حاجبيها و تحرك ذلك الجليد ليشكل معالم الغضب ...
_:" كم مرة قلت لك إن اسمي أم وسام... "
عكر صفاء مزاجه كلامها ... فقال:
_:"أنا آسف ... لقد نسيت ... تفضلي ...."
وهو يشير لها بالدخول ... فدخلت تمشي كطاووس .... ينفشُ ريشه بتعال و تكبر ...
وما أن جلست على الكنبة استدار هو ليخرج من الصالة فاستوقفته...
_:" إلى أين أنت ذاهب ؟.. "
_:" ذاهب لأخبر أم أحمد بأن تحضر لك القهوة ... "
_:" ليس هناك داعٍ لذلك... فأنا جئت لأقول كلمتان وأرحل... "
رفع أبو أحمد حاجبيه إلى أعلى في حركة تنم عن الاستغراب... وقال_:"ألم تأتِ لك تري ابنتك؟!! "
هزت رأسها بنفي ... عقبتها بــ :" كلا ...... لقد جئت حتى أعلمك بأنها سوف تتزوج ..."
الصدمة كانت قوية... لدرجة أن العقل أبى أن يصدق الذي دخل يقتحم طبلة أذنه...
فقال فوراً ...
_:" ماذا قلت ؟!.. تتزوج !!! "
_:"نعم... ستتزوج.. "
_:" ما هذا الكلام؟!. إنها مازالت صغيرة... "
_:" كلا هي ليست صغيرة... هي كبيرة كفاية لكي تكون أسرة..."
_:" سارة أتعين ما تقولينه؟!."
أجابت بنفاذ صبر... :" نعم , أعيه جيدا ...."
ثم قامت من الكنبة و دنت من أخيها ... و وقفت أمامه تماما ...لتواجهه بعينيها
المصممتين ...الحازمتين قرارهما ... :"الرجل مقتدر وعلى شفا حفرةٍ من الموت... يعني أنها سوف ترث الكثير منه ... و تعيش طوال عمرها بهناء وترف... "
ثار بركان الغضب في داخله ... فصرخ في وجهها قائلا:" لابد أنك قد جننت... أتزوجيها لعجوز؟!.
واجهت صراخه بصوتها المرتفع ...
_:" هذا العجوز هو الشخص الوحيد الذي قبل بها... أنا أفكر بمصلحتها يا أخي... من سوف يقبل بـ... "
ألزمت لسانها و توقفت عن إكمال جملتها... وعضت شفتيها... لتمتص غضبها الذي كاد ينفجر...
*** ***
|+*| تدقيق نحوي وإملائي || معلم لغة عربية |*+|
|+*| فكرة وإعداد || ضوء الأمل _ شجرة الكرز |*+|
|+*| بقلم || شجرة الكرز |*+|
|+*| ترقبوا الضوء الثاني من درب الكلمات |*+|
التعديل الأخير تم بواسطة فراشة الوادي ; 26-10-08 الساعة 10:26 PM
|