السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
وكل عام وأنتم بألف خير بحلول عيد الفطر ...
أحب قبل أن أنزل الجزء بأن نعتذر على التأخير بأنزاله ...
وبإذن الله الجزء القادم سوف ينزل بعد أسبوع إن شاء الله ...
قراءة ممتعة نتمناه لكم ...
|+*|الضوء الحادي عشر في درب الكلمات|*+|
قنابل تتساقط من السماء كزخات المطر ... لا تعرف صغيراً ولا كبيراً ..
خرجتُ وقد كنتُ عاقدة العزم على المضي من أجل أن أقوم بتلبية نداء الوطنية, فكيف أجلس مكتوفة اليدين, وأنا أسمع تلك القنابل تنهال من كل صوب, مستحيل أن أجلس بلا حراك, خرجت وما إن خطوت أول خطوة خارج البيت, حتى هجمت يدُ أحاطت على معصمي, فقيدت حركتي, وجعلتني أقف رغماً عني, نظرتُ إلى صاحب تلك اليد, لأجد أنه خالد, ونظرةٌ من الغضب تسكن عيناه, قال وهو يلهث:- " إلي أين أنتِ ذاهبة؟ "
رددتُ عليه من فوري:-" لأداوي الجرحى, فأنا لا أستطيع الجلوس مكتوفة اليدين"
قطب حاجبيه, وصرخ بي قائلاً:- " ألم أقل لكُن بألا تخرجن إلا وأنا معكن ؟"
لم أعهد منه هذا, لأول مره يصرخ بوجهي هكذا, فرددتُ ورعشة هزت نبرة صوتي:- " لكـــــــــــــن ... ... لكنك تأخرت..."
أحسستُ بقبضة يده تشتد على يدي, وهو يقول:- " حتى لو تأخرت, هذا لا يسمح لكِ بالخروج من دون أن أكون معكِ, تخيلي لو أصابكِ شيء, لن أُسامح نفسي ما حييت "
شعرتُ بالخجل مما فعلت, فهربتُ ببصري بعيداً عن مرآه, وقلتُ بصوت بالكاد يسمع:- " أنا آسفة يا خالد, لم ..لم "
بتر جملتي بقوله, وقد بدأ صوته يلين:-" بل أنا آسف يا حنين!... على تصرفي هذا..."
حرر معصمي من يده وأكمل قائلاً:- " نحن عائلة واحدة, والله لو أصاب أحدًا منكم مكروهٌ, فلن أسامح نفسي ما حييتُ"
تجرأت ورفعت بصري إليه, لأجد نظرةً من الحزن ترتسم على عينيه, فقلتُ له:- " لن أعيدها, أعدك"
خط ابتسامة لم تدم على شفاهه, وقال:- " أعلم... هيا بنا فلندخل, الأوضاع الآن ليست آمنة, دعي الأمور تهدأ قليلاً, وبإذن الله سوف نخرج ونساعد المصابين والجرحى"
أنصعتُ لكلامه ودخلنا معاً....
| +* +* +* |
دخلتُ المنزل, ولا يزال الخوف يقبض على قلبي بيد من حديد, أخذتُ أنظر إليهم الواحد تلو الآخر وأنا أسألهم:- " هل الجميع بخير؟"
قام الجميع من مقاعدهم وقالوا دفعة واحدة:- " نعم "
فزفرة زفرة ارتياح وأنا أنزل رأسي للأرض, لكن لم يطل ارتياحي, فهي .. هي لم أطمأن عليها, رفعتُ رأسي من فوري, وأخذتُ أبحث عنها بعيني في أركان المكان...
لأجدها أخيراً, جالسة وراء طاولة المعيشة, لكن .. لكنها لم تكن .. لم تكن بخير, تلك العينان كانتا مفتوحتين على مصراعيها, ووجهها يعتليه الخوف... بل الذعر, وجسدها الهزيل يرتجف, وكانت تحضن نفسها بيديها,لم أقوَ على النظر إليها أكثر من ذلك, فهرعتُ إليها, وضعتُ يدي على كتفها, لكنها نفرت مني, وبحركة سريعة أبعدت كتفها عن يدي, ليزداد ارتعاش جسدها...
بعيني اللتين ترسمان الذهول نظرتُ لمن خلفي, وسألتهم :- " ما الذي جرى لها؟!!! "
جاء الجواب من عمار:- " لقد كانت بخير !!! "
كان التعجب يكسو وجهه... وكذلك الفتيات عندما وجهة بصري إليهن ...
أخذتُ نفساً عميقاً, وجثوتُ بالقرب منها, رفعتُ رأسي نحوها وقلتُ لها بصوت حاني أبعدتُ عنه نبرة الخوف الذي يتملكني نحوها:- " مطر, صغيرتي... ماذا بكِ؟؟ "
لم يأتني الجواب, فزادت حدتُ خوفي...
حاولتُ جاهداً أن أكتم خوفي بداخلي, وأنا أكرر سؤالي لها:- " صغيرتي, هذا أنا أخوكِ خالد, ألن تخبريني ما الذي جري لكِ, حبيبتي أخبريني أرجوكِ, أنا خالد ... خالد"
أبعدت أخيراً نظرها المصوب ناحية طاولة المعيشة التي كادت تخرقها بتلك النظرة, وسلطت نظرها نحوي, لكن صمتها لا يزال يلازمها, فقلتُ لها لعلي أسحب منها الكلام:- " عزيزتي, ما الذي جرى؟ أخبريني, أخبري أخاكِ"
فتحت فمها, لكن الكلمات لم تخرج من حنجرتها, أخذت شفتها السفلى تاهتز, والدمع ينهال من تلك العينين المذعورتين, هنا قمتُ واقفاً, ومددتُ يديّ المترددتين نحوها, و ببطء أخذتُ أمسك بيديها الحاضنتين لها, لعلها تحس بوجودي, وتخرج لي ما يجعل الخوف يتربع في قلبها, وقلتُ لها:- " عزيزتي, أنا هنا, أخبريني ما الذي يخيفك, ما الذي جرى لك؟ لعلي استطيع أن أساعدك"
نظرت إليّ بتلك العينين المختفيتين وراء سيل الدمع, وأخذت تلك الرعشة التي أصابت شفتها السفلى تزداد, وهي تنطق بصوت مخنوق بعد طول انتظار, بكلمات مبعثرة, غير مفهومة:- " رجل... يخيف.... زقاق...ظلام ...يخيف... يخيفــــــــــــــــ.... خائفة"...
وأخذت أنفاسها تتسارع ...
رغم أن كلماتها خرجت من فمها مشتته غير مفهومه... إلا أنني فهمتها .. للأسف فهمتها ... وشعرتُ بتلك الغصة .. التي شعرتُ بها عندما رأيتها لأول مرة مرمية .. تكسوها الدماء... رفعتُ رأسي ناحية السقف ... وعضضتُ على شفتي السفلى وأنا أحاول بأن أتمالك تلك الحرقة التي في صدري .. والوجع ...
لم أعلم كم مضى من الوقت وأنا على هذه الحال التي لم يبعدني عنها, سوى صوت حنين وهي تسأل والتعجب كان جلياً في نبرة صوتها:- " ما الذي تقوله مطر يا خالد ؟!! "
نظرتُ إليها لبرهة, وأغمضتُ عينيّ, وأنا آخذ نفساً عميقاً, ومن ثم عدتُ أنظر إلى مطر, التي بدأ صوتُ بكاءها يعلو, فيقطع فؤادي أكثر فأكثر, كانت قد طأطأت رأسها, حين قلتُ لها:- " انظري لي... مطر, انظري نحوي"
لكنها لم تستجب...
حررت كلتا يديها, وأحطت وجهها الطفولي الذي شوهتها تلك الدموع بكفيّ, ووجهته نحوي, وقلت لها وقد جعلت عينيها المكتنزتين بالدمع, تتقيدان بعينيّ, فتشلان حركتهما, وقلتُ لها:- " هذا خيال, لم يحصل شيء, لم يحصل شيء, هذه فقط ذاكرتكِ الضعيفة, تخلط الأمور, لم يحصل شيء "
أنزلت عينيها, لكني أسرعت أقول لها:- " كلا .. انظري لي .. واصغي لكلامي.. انظري لي يا مطر"
عادت تنظر إليّ, لأكرر لها كلماتي, لعلها تبعد شبح هذه الذكرى من عقلها:- " أتذكرين حينما قلت لي بأنك تريني أضربكِ... هذا نفس الشيء... عقلك يصور لك أمورًا لم تحصل.. أنه مشوش .. فلا تصدقيه "
أبعدتُ أحد كفيّ عن وجهها, ومسحتُ على جبينها وأنا أقول:- " أمسحي هذه الذكرى من عقلك, لأنها لم تحصل.. صدقيني لم تحصل "
خطيتُ ابتسامة مهزوزة على شفاهي... أخذت تحدق بي بتلك العينين العسليتين... اللتين سمحتا لفوج جديد من الدمع بالانهمار... بدأت أنفاسها تركد .. وتعود لوتيرتها الطبيعية... ثم فجأة رمت بنفسها علي! ... وأحاطت ذراعيها على خصري, وأخذت تصرخ وبكاؤها بدأ يعلو من جديد:- " أحقاً.. أحقاً لم يحصل شيء... أحقاً ذلك الخوف الذي كنتُ أشعر به لم يكن له وجود ... أحقاً يا خالد .. أحقاً "
زادت تلك الغصة التي جعلت الكلمات تتحشرج في حنجرتي....كم شعرتُ حينها برغبة بالبكاء.. من بين كل ذكرياتها .. لم تنتعش سوى هذه الذكرى في عقلها.. لماذا .. لماذا ؟؟
شعرتُ برأسها يبتعد عن خاصرتي, ومن ثم سمعتُ صوتها الباكي, وهي تسأل:- " خالد .. لماذا لا تجيبني... ؟!! الذي رأيته حقيقة أم خيالاً ...؟ أجبني أرجوك أجبني "
أنزلتُ رأسي ببطء, وقعت عيناي بتلك العينين الراجيتين, فخنقتني العبرة, كان لا بد من فعل شيء, وأنهي معاناتها مع تلك الذكرى السوداء, فرفعتُ يدي المرتعشة, وضعتها على رأسها, وقلتُ بعد صراع طويل مع الكلمات الآبية عن الخروج:- " نعم .. نعم يا مطر .. أنه خيال... ليست حقيقة .. ليست حقيقة "
أغمضت عينيها, وزفرت تلك الزفرة التي شعرتُ بأنها تعبر عن الارتياح الذي أرجو بأنه قد وصل لقلبها الصغير, وعادت تلقي برأسها إلي, وهي تقول:- " الحمد لله .. الحمد لله .. لم يحصل شيء.. لم يكن لذلك الخوف وجودًا .. الحمد لله .. الحمد لله "
حينها رجوت الخالق بأن يبعد تلك الذكرى الكريهة من ذاكرتها ,, بأي طريقة .. حتى لو كان الثمن بألا تتذكر ماضيها أبداً .. أبداً ..
| +* +* +* |
بعد عناء مع الجميع ( خالتي وغدير وريم وأختي وأمي), وافقن بأن يذهبن إلى البيت معي, بعد أن أصر عمي أبو أحمد علي وعليهن بالذهاب للمنزل وقضاء الليلة هناك, فمبيتهن في المستشفى وأحمد في الغيبوبة ليس له معنى, ومن ثم نظام المستشفى لا يسمح إلا لشخصين بالبقاء مع المريض.
طلب عمي بأن يبقى معه ياسين, وبأن نذهب نحن, وبالفعل فعلنا...
طوال طريق العودة, ضل الصمت مرافق لنا, إلا تلك الدموع التي كانت تنطق بالكثير في عيونهن....
دخلنا منزلنا, فهرع نحونا كلن من سارة أخت عمي مصطفى وابنتها ووسام, والخوف منحوت على وجوههم المتعطشة لخبر يطفأ نار الخوف في صدورهم, بادرت سارة بسؤال:- " ها .. طمأنونا.. أأصبح بخير؟!!"
بادرت بالرد عليها .. فالجميع عبرته في حنجرته لا يستطيع التكلم:- " كلا .. لازال في الغيبوبة "
لترد سارة:- " لا حول ولا قوة إلا بالله.." ورفعت يديها متضرعة لله وأكملت قائلة :- " يا رب يخرج منها سالماً معافى "
قالت أمي لخالتي:- " أختي.. هيا اذهبي ونالي قسطا من الراحة .. فأنتِ مجهدة وتحتاجين للراحة "
هزت خالتي رأسها بمعنى لا ... وقالت ونبرة البكاء لا تزال تغلف حنجرتها:- " كلا .. أنا لن أتزحزح من قرب الهاتف "
ودخلت غرفة الصالة .. حيث يقبع الهاتف.. ونحن نتبعها بأعيننا ... قالت أمي موجهةً كلامها لريم:- " ابنتي ريم ... حاولي أن تقنعي أمك بأن تنام .. فجسدها لا يتحمل ... كل هذا الإجهاد "
تنهدت ريم قبل أن تقول بصوتها المبحوح من البكاء:- " لا فائدة يا خالتي.. لن ترضى .. لن يهدأ لها بال حتى تطمأن على أحمد "
لتقل أمي وقد اعتصر تعابير وجهها الألم :- " المسكينة ... أنا سوف أبقى معها... أما أنتِ يا ريم اذهبي وارتاحي.. وأنتِ كذالك يا ياسمين... أين غدير ؟!! "
سؤال أمي جعلني انتبه من أن غدير لم تعد بيننا... أخذتُ كالمجنون أتلفتُ من حولي بحثاً عنها ... لكن لم أجدها فزاد خوفي عليها ...
لم أرتح إلا عندما سمعتُ وسام وهو يقول:- " لقد صعدت لفوق "
هنا ارتحتُ جزئياً... فلازال خوفي عليها ينبض مع نبضات قلبي العاشق لها .... نظرتُ لأعلى وكل شوق لضمها إلى صدري كما فعلتُ في المستشفى... في تلك اللحظة شعرتُ بالسكينة ... وشعرتُ بأن جسدينا اتحدى... لدرجة بأني شعرتُ بذلك الألم الذي يحتل قلبها... لكنني لم أستطع الذهاب والجميع هنا متجمع... فطأطأتُ رأسي وخيبة الأمل في صدري تغرس ...
قالت سارة:- " أنا سوف أبقى معها يا فاطمة.. أنتِ اذهبي وارتاحي.."
لم أنتبه لباقي الحوار .. فقط كان فكري متعلق بمن سكنت قلبي ... القابعة في الأعلى ... عدتُ أنظر إلى أعلى وكل شوق لرؤيتها والاطمئنان عليها...
لاح لنظري طيف أحدهم ينزل من الأعلى .. فتهلل قلبي بالفرح .. فربما هي غدير .. لكن للأسف كانت كوثر.. فكسيّ وجهي خيبةُ الأمل...
دنت مني كوثر ... وأنا كنتُ أتتبعها بعيني بشيء من التعجب ...
ثم همست في أذني ...:- "علي أذهب إلى غدير ... هي منهارة تماماً .. حاولتُ بأن أهدأها بلا فائدة .."
كلامها هذا أجج الخوف في قلبي ... فركضتُ بدون تفكير جهة الدرج.. إلا أن يد كوثر التي أمسكت بمعصمي أوقفتني... فنظرتُ إليها مستغرباً.. وقبل أن أفتح فمي قالت:- " إنها في غرفتكم.. جالسة على سرير أحمد "
ومن ثم تركت يدي ... فأكملتُ طريقي راكضاً .. غير آبه لمن حولي...
| +* +* +* |
ما إن رأيته جالساً على الكنبة... حتى تهلل وجهي بالفرح .. وابتسمت ابتسامة واسعة ... فهو الشخص الوحيد الذي أشعر معه بالأمان والسكينة .. واستطيع التحدث معه بلا قيود ... وهو كذلك بالمثل ابتسم لي ... وقال مرحباً:- " أهلا بك يا بدر البدور.. أهلا بصغيرتي الغالية " كان قد قام من على الكنبة...
رددتُ عليه وقد أصبحتُ بالقرب منه:- " أهلا بك عمي أكرم ... كيف حالك ؟ .. لقد افتقدتك كثيراً "
:- " وأنا كذلك يا بدور .. لقد افتقدتُ لهذا الوجه الندي .. لكن تعلمين المشاغل والأجواء المشحونة في الفترة الأخيرة حالت دون أن أزورك ِ ... وكذلك هذا المنزل بعيد جداً ... لا أعلم لماذا جمال يجعلك تقيمين هنا "
لأرد عليه وقد رحلت عن وجهي الفرحة :- " يقول بأن هنا آمنُ ... أنا لا أعلم عن أي آمن يتحدث عنه ... فأنا في هذا البيت أشعر بالخوف أكثر من القنابل "
لاحظ عمي أكرم تلك الغصة التي تجلت في نبرة صوتي.. فأراد أن ينتشلني منها فقال وقد وضع يده في جيب معطفه :- " خمني ماذا أحظرتُ لكِ؟ "
وأخذ ببطء يخرج ما في جيبه .. وأنا في داخلي أعلم ما هو ... فهو في كل زيارة يحظر لي لوحاً من الشوكلاتة ..
فتبسمتُ ضاحكة وأنا أرى لوح الشوكلاتة قد بات خارج جيبه ..وقلتُ:- " عمي.. أنا لم أعد صغيرة "
فابتسم لي وهو يقول ونظرة من المكر قد لمعة في عينيه:- " أأفهم من كلامك بأنك ِ لا تريدينه .. حسناً أنت الخاسرة .. وأنا سوف آكله ..فأنتِ تعلمين كم أحب هذه الشوكلاتة "
فقلتُ وأنا آخذ لوح الشوكلاتة من يده بحركة سريعة : - " كلا .. لم أقصد ذلك .. فقط .. فقط "
فبتر كلامي وهو يقول:- " لا تحاولي أن تبرري لي .. فأنا أعرفكِ جيدا .. لا تقاومين هذه الشوكلاتة مثلي ... مهما حاولتِ " وعلا صوت ضحكته ... لأضحك أنا الأخرى ...
ثم توقف ... وقال وأنا لا أزال مستمرة بالضحك :- " إن شاء الله لا تفارقكِ هذه الضحكة ما حييتي "
توقفتُ عن الضحك .. وأخذتُ أنظر إليه... وإلى تلك العينين الحانيتين... وقلتُ:- " لا أعرف كيف أشكرك يا عمي أكرم.. فلولاك لا أعلم كيف كنتُ سوف أعيش حياتي "
فقال :- " لا تقولي هذا الكلام ... فأنتِ تعلمين بأنك بمثابة ابنة لي ..."
فقلتُ له وقد رسمتُ ابتسامة على طرف فمي:- " وأنت يا عمي.. أشعر بأنك فرد من عائلتي "
فعادت تلك الابتسامة تعانق شفتيه ... ثم رفع حاجبيه للأعلى وهو يقول :- " أسوف نظل واقفين هكذا إلى الأبد .. ألن نجلس؟!!"
هنا ضربتُ جبيني براحة كفي وأنا أقول:- " أووووووووه .. أنا آسفة ... تفضل عمي "
فجلس وأنا تبعته وجلستُ في الجهة المقابلة له ...
ومن ثم سألته : - " أتريد أن تشرب شيئاً عمي ؟ "
فقال:- " كلا شكراً ... بدور أخبريني كيف حالك ؟؟ أأنتِ بخير ؟؟!! "
طأطأتُ رأسي وزفرة تلك الزفرة القوية ... وقلتُ له:- " سؤالك صعب يا عمي ... لا أعلم ماذا أقول لك ... أمممممم .. أنا بخير ولستُ بخير..."
ومن ثم رفعتُ عيني ناظرة نحوه .. لأجده قد رفع حاجبيه إلى أعلى.. وألف علامة استفهام في وجهه ..:- " أهذا لغز يا بدور؟!! "
فرددتُ عليه .. وابتسامة منكمشة سكنت شفاهي .. :- " كلا عمي ... ليس لغزاً .. ولكن ..."
وتوقفتُ عن الحديث ... ليأتي صوته الخائف يزور مسمعي:- " بدور .. ماذا هناك .. ؟ لقد بدأت أخاف... أفعل بكِ جمال وإسماعيل شيئاً ؟؟ "
ذكرُ اسمه جعل غريزة الدفاع تستيقظ في داخلي .. فردتُ من فوري نافية:- " كلا .. إسماعيل لم يفعل شيئاً بالعكس .. لقد .. لقد ..."
وابتسمت ُ باستحياء ... وأطرقتُ ببصري للأرض ...
فعاد صوته الذي بات جدياً يهز طبلتي أذنيه:- " لقد ماذا يا بدور ؟؟ ما الذي جرى بينك وبين إسماعيل ؟"
رفعتُ عينيي جزئياً ناحيته .. وقلتُ له:- " لن تصدق يا عمي ... إسماعيل ليس هو إسماعيل الذي كنتُ أتصوره في خلدي .. أقصد ..بأنه ليس شريراً .. ليس أنانياً.. ليس بلا قلب ... "
فقاطعني بقوله :- " وكيف عرفتِ هذا ؟؟!!"
هنا رفعتُ عيني وقلتُ له بحماس:- " لقد تكلمنا البارحة .. فتحنا قلوبنا لبعض .. لم نخفِ شيئاً عن بعض... تصور عمي أكرم .. بأنه نفسي يشعر بأن جمال وراءه شيء ..."
هنا هو الذي نكس رأسه ... ولم يقل شيئاً ...
شعرتُ بالاستغراب من فعله ..فسألته .. :- " ماذا هناك يا عمي ؟!! "
رفع رأسه نحوي ... وأدخل نفساً عميقاً إلى صدره ... وأخرجه مرة واحدة ... وقال ونظرة جادة تنحتُ على كلا عينيه :- " بدور .. أنت ِ لا تعرفين إسماعيل جيداً ... هو وجمال وجهان لعملة واحدة ... لا يعني بأنه تكلم معكِ وقال لك بأنه يظن بأن جمالاً شخصًا غير جيد بأنه شخص طيب ... صدقيني .. أنتِ لا تعرفين إسماعيل مثلي .."
لا أعلم لماذا شعرتُ بالضيق من كلام عمي ...
:- " بدور .. صغيرتي ... لا تنسي بأن إسماعيل دخل إلى حياتك عن طريق جمال... صدقيني أنتِ لا تعرفين إسماعيل "
بدون سابق إنذار ..وبدون وعي مني .. انتفضتُ وقمتُ من مقعدي ..و انفجرتُ على عمي أكرم وقلتُ له صارخة... :- " وأنت أيضاً لا أعرفك ... ودخلت إلى حياتي عن طريق جمال... فلماذا أثق بك ؟!! "
حدق بي مذهولاً ... ومن ثم أشاح ببصره بعيداً عني وقال وقد قام هو الآخر من مقعده:- " أنتِ محقة .. لماذا تثقين بي ؟ ... لا تثقي بي .. ولا تثقي بأي شخص .. إلا نفسكِ ... ( أعاد بصره إليّ وكرر كلامه قائلاً وقد صوب أصبعه السبابة نحوي ) لا تثقي إلا بنفسك " كان صوته يقطر حزناً .. وكانت خيبة الأمل تحتل أركان وجهه..
وأكمل قائلاً:- " يجب أن أذهب الآن .. فقط تأخرتُ .. مع السلامة .."
لم أصحُ لنفسي إلا عندما هجم على مسمعي صوت الباب وهو يغلق ... (( ما الذي جرى لي ؟؟!! .. وما الذي فعلته ؟؟!! )) سؤال تلو الآخر تدفق لحظتها إلى عقلي ...
| +* +* +* |
شخصان نقتحم خلوتهما لأول مرة ...
كان جالساً على طرف السرير .. مطأطأ الرأس ... مطبق الشفتين ... هائمًا في اللا شيء ... وهي تنظر إليه ... تترقب كلماته... لكن بات لها الانتظار لا ينتهي ... طال صبرها ... فزاد تعجبها ... وشيء من القلق يطبق على قلبها ... فهو من لا تفارق الابتسامة شفاهه.. فهو الذي لا يعرف الحزن مكان في قلبه ... فهو الذي يمد يده بالأمل .. يجلس هكذا .. وهالة من الحزن تحيط به منذ دخل الغرفة ...
كان لابد من أن تسأله ... لتخرجه من صمته ... وتكشف النقاب عما يكدره ... بتردد خرجت تلك الكلمات من فمها:- " عمار ... عمار .. هل .... هل أنت بخير..؟"
أخيراً رفع رأسه .. ونظر إليها بعينين فيهما خنقةُ ... لكنه لم يلبث إلا وقد عاد لوضعه السابق... لكن تلك النظرة كانت كفيلة لتؤكد كل شكوكها ... وتجعل خوفها يزداد ... ابتعدت من الشباك حيثً كانت تقف ... وجلست بالقرب منه .... وعاودت تسأله :- " عمار .. أأنت بخير .. ؟؟ أرجوك أجبني .."
أغمض عينيه بقوة ... وزفر زفرة قوية .... وتحركت شفتيه بعد طول انتظار ويا ليتها لم تتحركا :- " أشفق عليك يا علياء ... لقد تزوجتِ بشخص عاجز ... لا فائدة منه ..."
كانت تنظر إليه بذهول .. لا بل بصدمة شلت كل أركان وجهها ... وسدت الطريق على الكلمات لتخرج من حنجرتها ...
وهو أكمل حديثه مسترسلاً بدون أن يرفع رأسه ناحيتها ... والسكون الناطق بالحزن يرسم على قسمات وجهه:- " أنا لا أصلح لشيء ... لا كزوج .. ولا كرجل يدافع عنكن ... المسكين خالد مقيد .. لا يستطيع أن يتركننا ليجاهد في سبيل الوطن ... لأنه يعلم بأني لا أستطيع أن أحميكن .. أو أن أؤمن لقمة العيش لكن ... حتى أنتن لا تروني رجلاً .. اليوم حنين كسرت كلمتي .. وخرجت ... رغم أني منعتها من الخروج ... لكنها لا تراني رجلاً .. إنها تراني كا ... "
في تلك اللحظة ... كسرت ذلك الجمود الذي أحتل جسدها ... ووضعت يدها على شفتيه مانعةً لتلك الكلمة من أكمال طريقها لمسمعها... فرفع رأسه نحوها .. ليجد خيوط الدمع تشق طريقها من مقلتيها حتى وجنتيها ... وتهز رأسها بمعنى لا .... وتأكدها بكلماتها الزاجرة :- " كلااااا.. كلااااااا .. إياك .. ثم إياك بأن تقلها ..فأنت رجل .. أنت عمود هذا البيت .. الذي لولاك لانهار منذ زمن ... "
رفع يده .. فطوق بها يدها .. وأبعدها عن شفتيه ... وحركهما قائلاً :- " لكن هي الحق..."
لتعود لتضع يدها على شفاهه من جديد ... وتعود تزجر به لكن هذه المرة برفقة يدها الثانية المشيرة ناحيته مهددة :- " قلتُ لك إياك أن تقول هذا الكلام من جديد ... فأنت مصدر الأمل ... فأنت الذي تنتشلنا من الحزن .... لا يعني أنك مبتور القدم .. بأنه لا فائدة لك ... بالعكس ... لولاك لكنا نحن من الأموات ... فأرجوك .. بل أتوسل إليك ألا تقول هذا الكلام مرة أخرى ... "
نظر إلى عينيها المتكدس بها الدموع ... وهي الأخرى بادلته النظرة الحاملة معنى الرجاء فيها ... أبعد يدها مرة أخرى من على شفتيه ... وغلف يدها المصوبة ناحيته بيده ... ووضعهما على حجرها وقال وهو لم يبعد عينيه عن عينيها:- " أنا آسف ... لا أعلم ماذا كان سوف يحصل لي بدونك ... هيا امسحي هذه الدموع "
ابتسم وهو يمسح دموعها من على وجنتيها ... وهي الأخرى ردت عليه بابتسامة حانية تذيب قلبه الحنون....
| +* +* +* |
دخلتُ إلى غرفتي .. فوجدتها مستلقية على بطنها على سرير أحمد .. وغارسة رأسها في وسادته ... وصوت بكائها يصل لمسمعي .. فيقطع قلبي إلى أشلاء صغيرة .... بخطى واسعة اقتربتُ منها جلستُ على السرير ...
مددتُ يدي المرتعشة ناحيتها ... وضعتها على ظهرها .. لأشعرها بوجودي ...
لكن صوت بكائها زاد حدة ً... ليزداد ألمي ... فما وجدت نفسي إلا أن لجأت للكلمات .. لعلها توقف بكاءها .. فتحل السكينة على قلبي :- " غدير ... غدير اسمعيني ..إن أحمد بإذن الله سوف يكون بخير.. أنتِ تعرفين أخاكِ .. لا يستسلم بسهولة ... فلا داعي للبكاء .. بإذن الله سوف يعود لنا أحمد .. فقط تحلي بالصبر والإيمان ..."
هنا غرست رأسها أكثر بتلك الوسادة ... وصوت بكائها لا يزال يعلو في الغرفة .. وتستمر سلسلة آلامي ... وحزني على رؤية من أحب تبكي بحرقة وأنا عاجز لا أقوى على إيقافها .. أو حتى تهدئتها...
كرهتُ نفسي لحظتها ... كرهتُ عجزي ...
كان لابد من أن أفعل شيئاً ... فأنا أتمنى الموت قبل أن أرى دمعة واحدة تذرفها عيناها ...
(( أفعل شيئاً .. أفعل شيئاً ... )) جملة كانت تتردد مراراً وتكراراً في ذهني ...
بصوت منهك من عذاب الوجع المنبثق من قلبي قلتُ لها :- " أرجوكِ توقفي يا غدير .. أرجوك توقفي ... أرجوكِ توقفي ..."
بلا جدوى .. فموجة بكائها لازال يتردد صداها في أرجاء الغرفة ... فيزيد ذلك الوجع القابع في قلبي ... وشراييني ... فيثير أنفاسي .. التي بدأت تتصاعد ... أمسكتُ بكتفيها في لحظة توقف عقلي فيها عن العمل .. ورضختُ فيها لقلبي المتوجع... وأجبرتها على أن تحرر تلك الوسادة التي غرقت بدمعها .. وجعلتها تجلس مجبرة وهي لا تزال تبكي بحرقة ... بحركة سريعة جعلتها تلتفت نحوي ... وصرختُ بها قائلاً:- " كفى بكاءً ... فالبكاء لا يجدي نفعاً "
لم تتوقف .. فقط استسلمت للبكاء تماماً .. وهذا ما جعلني .. أمسك برأسها ... وأوجهه نحوي .. وأصرخ بها بأعلى طبقة من صوتي :- " قلتُ لكِ توقفي .. توقفي .. توقفي .."وكالمجنون أخذتُ أهز رأسها ...
ساعتها فتحتُ عينيها أوسع ما يكون ... وأخذت تحدق بي ... بنظرة كلها خوف ... حطمتني .. وأعادت لي عقلي ...ووعي لفعلي .. عضضتُ على شفتي السفلى .. وأغمضتُ عينيّ .. متأسفاً على فعلتي ...
جذبتها نحوي ... وأسكنتها حضني ... وضميتها بكل ما أوتيتُ من قوة .... وقلتُ لها آسفاً:- " أرجوكِ سامحيني .. لم أقصد أن أخيفكِ .. في الحقيقة لا أعلم كيف فعلت هذا .. لكنني لم أتحمل أن أراكِ تبكين وتتألمين هكذا ... أنت لا تعلمين كم أتعذب وأنا أراك بهذه الحال.. أرجوكِ أنهي عذابي وعذابك ِ .. وأخرجي لي كل ما في قلبك من وجع .. صدقيني سوف ترتاحين .."
بدأت موجة بكائها تدنو ... فشعرتُ براحة .. التي للأسف لم أتمتع بها طويلاً .. فقط رحلت عن حجري ... فنظرتُ إليها وكلي توجس وخوف من فعلها القادم ...
نطقت قائلة بعد صمت طويل ... بصوت لم يخلُ من شهقات البكاء:- " أنت لن تفهمني ... لن تفهمني ..."
أخذتُ أحدق بها بذهول من كلماتها التي أصابتني بالصميم ... وقلتُ لها:- " كيف لن أفهمكِ ؟!! ...أنه من المستحيل بأن لا أفهمكِ ... أنا فقط بنظره واحدة إليكِ أشعر بكل شيء تحسي به .. أشعر بألمكِ بفرحكِ .. بنظرة واحدة فقط ... أنتِ لا تعرفيني يا غدير ... أنتِ حتى لم تجربيني ... جربيني مرة وأخرجي لي كل الذي يثقل على قلبك .. وصدقيني سوف ترتاحي ... صدقيني ..."
رفعت رأسها لتنظر إليّ ... فأجبرتُ شفتيه المغتمتين على الابتسام .... لعلها تشعر بأني البلسم لأحزانها ...
| +* +* +* |
واقفة وراء شباك غرفتي ... أنظرُ إلى ذلك الظلام الحالك الذي احتل السماء .. ونثر سواده على الأرض ... شعرت حينها بأن هذه الظلمة لا تحتل السماء فقط .. بل أيضاً تحتل عقلي ... وقلبي ... فتصعب علي مهمة المسير في طريق الصواب ... إنني أتخبط في هذه الظلمة بلا هداية... من أصدق ومن أكذب ؟؟؟.. من أمسك بيده ومن أترك يده معلقة في الهواء ...؟؟ سؤال تلو الآخر .. لا يجد قرينة من الإجابات ....
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه .. كنتُ أشعر بالضياع .... بالضياع .. بضياع يخنقني ... ويعذبني ... ويزيد من همي ...
سمعتُ صوت باب الغرفة وهو يفتح ... فخرجتُ من عالم التساؤلات للحظة ... نظرتُ لخلفي ... لأجد سبب حيرتي واقفًا أمام الباب ... وابتسامة واسعة وجدت طريقها على شفاهه ... لم أعطه أي ردة فعل تعتلي وجهي... ضل سكون الحيرة يتجلى على وجهي ... وعدت أنظر إلى ظلمتي التي تتصور لي خلف الشباك ....
قال بصوت استشفيتُ فيه الفرح :- " مساء الخير يا حبي ...."
حبي ؟؟؟!!!! تلك الكلمة فجرة فوج جديد من التساؤلات في خلدي...(( أهي كلمة نابعة من قلبه ... أم من عقلة ؟!! ))
فوج جديد لن يكتب له بأن يلاقي أجوبة كمن سبقها من الأسئلة.... وزادت من انغماسي في تلك الظلمة التي أعيش بها ....
شعرتُ بيديه تحيط بخصري ... ومن ثم ذقنه يستند على كتفي الأيمن ... لحظتها لا أعلم ماذا أصابني .. أحسستُ بأن جسدي قد أصبح كورقة رضخت لنسمة الهواء العليلة التي مرة بها ..وباتت مهددة للسقوط في شركها... بعد ذلك داعبت كلماته أذني ليهمس قائلاً :- " ماذا بك حبي لا تردين عليه ...؟؟ "
كنتُ على وشك الاستسلام لذلك الوهج الضئيل الذي بدأ يخترق تلك الظلمة الموجودة بداخلي ... لكن صوت عمي أكرم عاد يعلو في عقلي ... فأخرجني من لحظة الضعف التي كدتُ أستسلم لها ..
فانتفضتُ بكلماتي السائلة:- " لماذا أتيت اليوم ..؟ ليس من عادتكِ أن تأتي ليلتين متتاليتين ...؟"
أجبرني على الالتفاف نحوه بحركة سريعة .. ويدياه لا زالتا تقيدان خاصرتي ... وقال وابتسامته لم تفارق محياه:- " لأني لم أعد أستحمل البعد عنك أكثر من ذلك ... لا أستطيع بأن أنتظر إلى الأسبوع القادم ... لو كان الخيار خياري لما تركتك اليوم .. وضللتُ معكِ طوال اليوم ... يا قلبي "
ودنا مني ..وفي نيته تقبلي ... ولا أخفيكم ... كنتُ أتوق لتذوق تلك الشفتين .. لكن صوتُ عمي أكرم أخذ ينخر بعقلي أكثر .. فأكثر.. لدرجة لا تطاق... فأشحتُ بوجهي بعيداً عن شفتيه ....وأنا مغمضة العينين ...
قال بنبرة تنم عن التعجب:- " ماذا بكِ يا بدور ؟!! "
نظرتُ نحوه بعيني الشبه مفتوحتين ... وقلتُ له بصوت أرهقه الصراع الداخلي :- " أأنتَ تحبني حقاً يا إسماعيل؟ "
ليرد على سؤالي بسؤال:- " ما هذا السؤال يا بدور ؟!! "
هنا فتحتُ عيني بأكملهما .. وقلتُ له وقد علا صوتي فأنا بحاجة ماسة لجوابه لكي ينهي هذه الحروب الداخلية التي تقطعني أرباً أربا .:- " أتحبني يا إسماعيل ؟؟ أجبني ..أجبني أرجوك "
هنا عادة الابتسامة تتربع على كلتا شفتيه... وقال وقد أحاط وجهي بكفيه ..:- " أنا لستُ فقط أحبكِ .. أنا أعشقكِ وبجنون"
هنا أخترق النور تلك الظلمة الموحشة التي كنتُ أعيشها ... وشعرتُ بسكينه ... وأنا أسمع هذا الجواب الذي كنتُ أبحث عنه ...
شقت ابتسامة فرح طريقها على محياي .. وأنا أقول له:- " لا تعلم كم أنك أرحتني بجوابك هذا"
قال وهو مقوس الحاجبين إلى أعلى :- " لماذا ؟؟!! .. ألازلتِ تشكين بي ...؟!!"
كان يريد أن يقول المزيد .. لكني ألقيتُ بجسدي نحوه ... واحتضنته بقوة .. وقلتُ له وأنا أهز رأسي بنفي:- " كلا .. كلا .. لم أعد ... لا أعلم لماذا.. لماذا ...؟؟ أنسى الموضوع ...أنه غباء مني.. وحماقة ..."
وضع يده على رأسي وأخذ يمسحه وهو يقول:- " لا عليك يا قلبي ...أنا أعلم بأن السبب الذي جعلك لا تؤمنين لي .. أنني جعلتُ جمال يرغمكِ على الزواج بي ... لقد اخترت الطريق الخطأ للظفر بكِ .. لقد دخلتُ إلى حياتكِ بدون استئذان.... سامحيني حبي سامحيني ... لو كان بمقدوري العودة بالزمن للوراء لما تزوجتكِ بهذه الطريقة ..."
أبعدت نفسي عن حضنه ... وقلتُ له بحماس المنتشي بالفرح :- " كلا لا تعتذر ... لا تعتذر ... لولا لم تفعل هذا .. لما تعرفتُ إليك عن قرب ... وعرفتُ بأنك إنسان رائع ...."
تلاقت أعيننا الباسمة مع بعضهما ... فتعانقت أخيراً ... وفاضت بما في القلوب... لتتبعها شفاهنا المتعطشة لبعضها البعض... وتمازجت تلك الأنفاس الثائرة .. لتنتج بهجة عارمة تسكن الصدور الجرداء من جفاف الحزن الذي طال بقاءه فيها ....
دقائق كانت كالحلم الذي لم أُرد أن استيقظ منه ... أبداااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا ما حيت ....
| +* +* +* |
بغضب يختلجني من تصرفه الغريب ... قلتُ له وأنا أقترب منه:-" ما هذا التصرف يا سعيد ؟!! لماذا تطلب مني بأن ألقاك عند باب البيت الخارجي ؟؟!! وفي هذا الوقت المتأخر !!! .. لماذا لا تدخل؟!! كأي إنسان طبيعي
..."
رد عليّ ببرود قهرني :- " أنا لا أعرف أحداً هنا سواكِ والأولاد ... ومن ثم أنا جئتُ لأكلمكِ .. لا أن أكلم أصحاب البيت ..."
:- " ولو هذا ليس عذراً .."
بتر جملتي بقوله :- " سارة .. أنا لم آتِ لكي تفتحي لي هذا المنوال عن أهلك وعن الأخلاق الحميدة التي لا أعلم من أين حلت عليكِ .."
أجج كلامه غضبي ... ففضلتُ الصمت لأعرف ما الذي جاء به ... وأنتهي من هذا الأمر ...
عاد ليكمل قائلا:- " سارة .. لآخر مرة أطلب منكِ بأن تذهبي معي... فالمكان ليس آمنًا ... ليس آمنًا ..."
كظمت غضبي .. وقلت له :- " هل انتهيت من الكلام ...؟ "
هز رأسه بمعنى نعم ...
فعدت أقول له .. وأنا لم أبعد بصري عن تعابير وجهه :- " حسناً .. حان الوقت الذي تصغي لي ... أنا لن أرحل من وطني مهما كان ... هذا كان ردي وسوف يضل ردي .. فلا تتعب نفسك بالقدوم مرة أخرى .."
عقد حاجبيه غاضبا ... وقال:- " هكذا لن تحكمي على نفسك فقط بالموت .. بل على أولادك ... أأنتِ مدركة لهذا الشيء ؟؟"
فرددتُ عليه بهدوء مناقض لما في داخلي من غضب نحوه:- " لا تنسَ يا سعيد بأن نهايتنا الموت ... لهذا أفضل بأن أموت في وطني على أن أموت في بلد غريب .. بعيداً عن أهلي وناسي .. أما بخصوص وسام وحوراء ...( أشرتُ له ناحية المنزل وأنا أكمل قائلة ) اذهب واسألهم .. فهم كبار بما فيه الكفاية لكي يقررا إذا يريدان الذهاب معك أو لا "
كور يديه ... كأنها محاولة منه لامتصاص الغضب الجلي على وجهه .. وقال:- " أنتِ تعلمين بأنهم لن يرحلوا بدونك.. سارة فكري جيداً ... بعملك هذا فأنت سوف تحكمين عليهما بالموت "
صوبت نظرة إصرار وتصميم في مقلتيه .. وقلت بعزم لا يهزه خوف :- " كما قلتُ لك هذا ردي الأول والأخير .. ولن أتراجع عنه .."
فجر غضبه في صوته وهو يقول وقد زاد من تقطيب حاجبيه :- " أنت حمقاء .. بل مجنونة .. لقد فقدتِ عقلك مذ ماتت بتول ... "
هنا قاطعته بصوت أعلى من صوته :- " كلا بالعكس .. لقد عاد لي عقلي .. ووعيي ... أنا نادمة لكل الذي فعلته .. على كل تلك السنوات التي قضيتها ..."
هنا هو استوقفني وهو يقول وقد على تقوس حاجبيه للأعلى:- " أأفهم من كلامكِ .. بأنكِ نادمة على حياتكِ معي ؟؟!!.. على زواجكِ بي ؟!!!"
لا أعلم لماذا التجم لساني لحظتها ... واكتفيتُ بالنظر إلى تلك العينين المصدومتين ....
على صدره على نفس عميق .. ومن ثم هوى .. وهو يخرج ذلك النفس الذي شعرت بأنه أخرجه بصعوبة بالغة من رئتيه... ومن ثم قال :- " أفعلي ما شئتِ .. فأنا لم أعد أكترث ... موتي .. تعذبي .. لا يهمني ... "
وأولاني ظهره ... ورحل ... بلمح البصر...
| +* +* +* |
الهدوء الذي يسبق العاصفة...
كان مستلقياً على بطنه بجواري ... فاتحاً نصف عينيه ... وابتسامة تسكن شفتيه المكتنزتين اللتين تلذذت بعناقهما سحرت عيناي...
أحنيتُ رأسي .. وأسندته على السرير رأس السرير .. وأخرجتُ تنهيدة راحة ... تعبق من قلبي الطرب السعيد .. وأغمضتُ عيني .. لأسترجع ما حصل .. فارتسمت ابتسامة صادقة ... قلما تنبع من الفرح ... وقلتُ :- " أتعلم بأني أسعد كائن بهذا العالم في هذه اللحظة ..."
جاءني صوته الناعس :- " كاذبة "
فتحتُ عيني مذهولة .. ونظرت نحوه ... وقلتُ :- " ماذاااااا؟!!! "
رفع بصره نحوي .. وقد زاد من امتداد ابتسامته الساحرة التي لم تهجره :- " لأني ببساطة أنا أسعد كائن ليس في العالم فقط .. بل في الكون قاطبة ..."
سحبتُ الوسادة التي ينام عليها من تحته.. وبسرعة أخذتُ أضربه بها .... وهو يصرخ قائلاً وضحكته تطرب مسمعي :- " توقفي آيتها المجنونة .. توقفي ..." كان يحاول أن يقي نفسه من الضرب بيديه...
قلتُ له وأنا أكاد أموت من الضحك...:- " لن أتوقف ... إذا أردتني أن أتوقف فأجبرني على ذلك.."
من بين ضحكاته المتصلة .. عاد يقول:- " إذا تتحديني يا بدور ... حسناً .. سوف تندمين ...سوف تندمين ..."
وبالفعل شرع بتنفيذ ما قال.. وقام جالساً .. وأمسك بالوسادة وسحبها بقوة من بين يديه .. وألقى بها بعيداً عني ... وانقض عليّ ... وأمسك بيديّ ..ودفع بهما إلى ظهري ... ومنعهما من الحراك ... رغم محاولتي لتحريرهما من قيد يديه القويتين ... انحنى نحوي .. وبات لا يفصل بيني وبينه مسافة لا تتجاو( الإنش) الواحد .. وقال وقد تصنع تعابير الشر على وجه:- " الآن أريني ماذا سوف تفعلين بي ؟.." وخط ابتسامة انتصار ...
كان لابد من أن أرد على تحديه لي ... فجاء ردي عليه بأني نفختُ في وجه ... فنظر إليه متفاجئا ... وانفجر ضاحكاً وهوى بجسده على السرير ...
وقال وهو يجاهد من أجل أن تخرج الكلمات من فهمة:- " آيتها المجنونة ... أهذا ردك ... " وعاد يضحك بهستيريته ....
هويتُ بجسدي عليه .. لتتلامس أجسادنا من جديد .. وتساقطت خصلات شعري على وجهه ... وقلتُ :- " ألم أجعلكَ تفك قيدي ...؟"
مرر أصابعه خلال خصلات شعري ... فتجلى لي وجهه الباسم ... وقال:- " نعم .. لقد انتصرت علي ... أنا أعترف .." وأخذ ينظر إلي بنظرة جعلت الحمرة تشتعل في خدي ... فابتسمتُ باستحياء ... وأنا منكسة بصري بعيداً عنه ...
أخذ يلامس بأصابعه الناعمة شفتي الباسمتين... وقال:- " كم أتمنى بأن لا تزول هذه الابتسامة من على شفتيك "
فابتسمتُ ضاحكة .. وأنا أقول:- " بإذن الله لن تفارق شفتي ما ..."
صوتُ رنين هاتفه قاطعني ... فسلط كلانا أعينه نحوه ... قمتُ من عليه ... وجلستُ متوجسة خائفة ... كأني كنتُ أعلم من كان صاحب الاتصال ... ألقى علي نظرة بعد أن عرف شخصية المتصل.. فجاءني التأكيد بتلك النظرة ... شعرتُ بغصة القهر .. فأنا لم أهنأ طويلا بلحظات الفرح ...فقلتُ له راجية:- " لا ترد ... دعها ... لا تفسد هذه اللحظة ..."
أنزل رأسه من جديد نحو الهاتف الذي أبى أن يصمت ويريحني ... قتلني صمته ... دنوتُ منه ... وأحطتُ ذراعه بكلتا يديه ... وقلتُ له :- " إسماعيل ... أتريدني بأن لا أحزن .. بأن أبتسم دائماً ... دعنا نرحل من هنا .. نهرب عنهم جميعاً ... عن جمال .. وعنها ... ونعيش سعداء للأبد .. بدون خوف .. بدون توجس منهم ... "
أخيراً استسلم الهاتف ... وآثر الصمت ... لكن إسماعيل ضل ينظر إليه بصمت وسكون جعلني أخاف منهما ...
مرت الدقائق والصمتُ يقيد شفتيه .. ومع كل دقيقة تمر كنتُ أتكد أكثر فأكثر من أنه لن يفعل شيئًا ... أخيراً أعلنتُ استسلامي .. فحررتُ ذراعه من يديّ... وأدخلتً كلتا شفتيه لفمي .... لأتمالك تلك الحرقة التي انفجرت بداخلي ...
وأغمضتُ عيني بكل ما أوتيتُ من قوة ...
نطق بعد فوات الأوان ... وأكد ما توصلتُ له من إجابة.. وقال:- " بدور حبيبتي .. الأمر ليس سهلاً كما تظنين .. أنت تعلمين بأني حقا أريد أن أهرب بك إلى عالم ..."
رفعتُ يدي آمرة له بالصمت .. فكلماته لا تواسيني .. بل تغرس خيبة الأمل أكثر في قلبي ...
قلتُ بعدها :- " اذهب إليها .. ... قبل أن تشك بشيء... اذهب ... اذهب "
قال:- " بدور حبي .. أنا .."
هنا صرختُ بأعلى صوتي عليه .. وأنا أشد الخناق أكثر على عيني المغمضتين ..:- " قلتُ لك اخرج ... اذهب إليها .. ودعني لوحدي.. فأنا قد أعتدتُ على الوحدة ... اذهب إليها .. اذهب .. اذهب .."
فقال وهو يحاول بأن يهدأني :- " حسنا .. حسنا سوف أذهب .. فقط لا تغضبي .. اهدئي .. أنا سوف أذهب ... ها أنا ذا خارج .."
وبالفعل لقد ذهب ... وأكد علي كلامه صوت الباب وهو يغلق .. معلناً رحيله ... وأذن لي بتفجير تلك الدموع الساخنة التي لم أعد أقوى على حبسها أكثر ...
| +* +* +* |
صباح يخفي في طياته أحداث .. وأحداث ..وأحداث ...
آآآآآآآآآآآآه من أين ابدأ الحديث .. حقا أنا لا أستطيع الكلام ... فلا أجد الكلمات المناسبة التي تصف مدى سعادتي اليوم .. لقد ... لقد شاركتني البارحة همومها وأحزانها .. لقد فتحت لي قلبها ... وفوق ذلك تشاركنا نفس السرير لأول مرة ... نامت على حجري ... آآآآآآآآآآآآآآآآآه ... أنا لازلتُ لا أصدق الذي حدث ...
أخذتُ أرش وجهي بالماء .. لأتأكد بأني مستيقظ ولستُ نائماً .. وبأن الذي جرى ليس حلماً نسجه لي خيالي الظمآن .. بل حقيقة جميلة ....
أغلقتُ صنبور الماء .. ورفعتُ رأسي أنظر إلى المرآة ... وابتسامة عريضة تعتلي محياي .. وقد تيقنتُ بأن الذي حصل لم يكن حلماً بل حقيقة . حقيقة لم أتخيلها في أكثر أحلامي تفاؤلا... أمسكتُ بمنشفتي المعلقة بجوار المغسلة ... ومسحتُ وجهي المبلل بسرعة .. حتى أتمكن من العودة إليها .. وإشباع عيني من النظر أليها .. بدون قيود الخوف .. بدون حواجز ... بخطى متسارعة توجهت للغرفة التي تركتها فيها نائمة كالملاك ... دخلت الغرفة والابتسامة تأخذ أكبر حيز من وجهي ... لكن تلك الابتسامة بدأت تتقلص .. حتى بات لا وجود لها ... عندما وجدتُ السرير خاوياً .. بحثتُ عنها بعيني .. لكن لم يكن لها أثر في الغرفة...
خرجت من الغرفة .. وهرولتُ ناحية غرفة الفتيات... لعلي أجدها هناك ... وجدتٌ الباب شبه مفتوح ... لدرجة أمكنتي من رؤيتها والاطمئنان عليها .. عادت تلك الابتسامة تحتل موقعها الطبيعي على شفتي ... كنتُ في صدد أن أفتح الباب كاملاً ... ألا أن يدي تسمرت في منتصف الطريق ... والابتسامة عادت تتقلص ... لترحل ... ويحتل مكانها الصدمة الممزوجة بالمرارة ... وأنا أرى ذلك الشيء اللامع الممسكة به وتقبله بحرارة... والدمع ينسكب من عينها المغمضتين... وتقول آسفة :- " أنا آسفة يا حسن .. أعذرني لقد أخطأتُ.. أخطأتُ .. أرجوك أصفح عني أرجوك..."
من الصدمة جمدت في مكاني ... ومقلتيه تكادان تخرجان من محجريهما.... من الصدمة القاتلة ... نعم قاتلة ...
لم أصح إلا على صوت أختي كوثر:- " علي أنت هنا ونحن نبحث عنك .... هيا الجميع ينتظرك لكي تقلنا للمستشفى .. هيا ..."
كنتُ أنظر إليها .. لكن كلماتها لم تصل إلى عقلي بسرعة ... فهناك حاجز الصدمة يسد طريقها ... كما يبدو بأنها لم تلحظ ما بي .. فقط كانت واقفة بعيدا عني .. في أعلى السلم ... أخذ شيء يشدني .. يرغمني للنظر إليها .... ففعلت ... لتتشابك عيناي بعينيها ... عيناي اللتان ترسمان كل معاني الصدمة .. بعينيها الدامعتين لشخص قد رحل عن هذا العالم ... لم تقل شيئاً اكتفت بالصمت والجمود الذي يكسو تعابير وجهها .. ذبحني فعلها هذا .. ذبحني من الوريد إلى الوريد .. ... أخذ صدري يعلو وينزل ... وهو يدخل وينفذ الهواء بقوة .... اضطربت أنفاسي .. وضاع عقلي في معمعة ما حصل ... كان لابد من أن أذهب عنها في هذه اللحظة.. فأنا لم أعد أطيق النظر إليها .. لم أعد أطيق ... فابتعدتُ بالفعل بخطى واسعة .. والهم يثقل على صدري ...
| +* +* +* |
كنتُ أنظر إلى الفتيات وهن منهمكات في شوي اللحم الذي أعددناه... وسعادة مرسومة على قسمات وجوههن ... تابعت المسير نحو الزوجين عمار وعلياء اللذين كانا يتسمران وهما جالسان بالقرب من النهر .... ومن ثم التفتُ نحو اليمين ... حيث كانت مطر جالسة بالقرب مني ... أخذتُ أتأمل ذلك الشيء المرسوم على شفاهها .. والذي أكد لي نجاح مبتغايّ من هذه الرحلة ... فقط أردت بأن أخرجها من جو تلك الذكرى الأليمة... التفتت هي الأخرى نحوي متعجبة... وقالت:- " لماذا تحدق بي هكذا ؟!!!"
ابتسمتُ لها وأنا أقول بعد أن وضعت ُ أصبعيّ السبابتين على طرفي ابتسامتها المضيء:- " لكي أصور هذه الابتسامة التي افتقدتها "
ضربت رأسي بكفها وقالت ضاحكة:- " إنك مجنون أتعرف ذلك ؟ "
أبعدتُ أصبعيّ عنها .. وقلت لها وأنا أغمز لها:- " نعم مجنون بحب أختي العزيزة "
أحنت رأسها للخلف .. وأطلقت العنان لضحكاتها ..
سعدتُ .. بل طرتُ من الفرح وأنا أراها تضحك من قلبها ... شعرت بنشوة الانتصار حينها .. فقد انتصرت على تلك النقطة السوداء التي تريد أن تخرج للعلن من صندوق ذاكرتها ... أخذتُ أردد في داخلي بكل إصرار: ( لن أسمح لكِ يا أيتها الذاكرة بأن تنعشي تلك الذكرى من جديد .. سوف أحاربكِ بشتى الطرق ... )
قلتُ لها وأنا في نيتي بأن أبعث المزيد من الفرح إلى قلبها :- " أسوف يطول انتظاري ؟"
توقفت عن الضحك ... وقوست حاجبيها بحركة تنم عن التعجب.. وقالت:- " انتظارك لماذا ؟!!"
فأجبتها بقولي:- " انتظاري لاعترافك .. فأنا قد اعترفتُ لكِ بأني أحبك ... وحان دورك بأن تقولي لي بأنكِ تحبيني .. أليس كذلك ..؟ "
هنا رفعت رأسها بزاوية لا تتجاوز الثلاثين درجة .. ونظرت لي بطرف عينيها وقالت:- " لن أقولها .. لأني لا أحبك ..."
تصنعتُ الدهشة وأنا أقول لها :- " إذا أنتِ لا تحبيني ؟ "
فهزت رأسها بالإيجاب...
فقلتُ لها متحدياً:- " حسنا أنا أعرف كيف أجعلكِ تحبيني "
فقالت وقد خطت ابتسامة طرفية:- " كيف سوف تجعلني أحبك؟!!"
فهجمت عليها بدون سابق إنذار .. وأخذت أدغدغها ... وقلتُ لها:- " هكذا سوف أجعلكِ تحبيني "
فعلت قهقهاتها وهي تقول بصوت طغت عليه صوت الضحك:- " توقف أيها المجنون .. توقف .."
:- " لن أتوقف حتى تقعي في حبي ..."
فسقطت على الأرض المكسوة بالعشب وهي تتلوى تحاول بأن توقفني عن دغدغتها... لكني لم أدعها .. تبعتها واستمررتُ في دغدغتها ... وأنا أقول لها أمراً:- " هيا اوقعي في حبي ... هيا ... اعترفي بأنك تحبيني... هيا ... هيا .."
من بين ضحكاتها قالت :- " حسنا .. حسنا يا خالد.. أنا أحبك .. أحبك ... أرجوك توقف..توقف ..."
تلك اللحظة بدون إرادتي ... شيء غريب حل بي ... لا أعلم ما هويته... لكنه شيء أذوقه لأول مرة في حياتي ...
| +* +* +* |
همستُ لعمي مصطفى الجالس بجواري بأني سوف أذهب لأحظر ماءاً يروي ظمأنا .. فنحن ننتظر منذ ساعات كانت كسنوات بالنسبة لنا .. لاستيقاظ أحمد من الغيبوبة التي أبت أن تعتقه.. وتريح قلوبنا ...
هز لي عمي بمعنى نعم ...
فنهضتُ وشرعتُ بالمسير... لكني لاحظتُ صوت خطا متسارعة تتبعني ... فتوقفتُ بعد أن تيقنتُ تماماُ بأن تلك الخطى تتبعني أنا .. فالتفتُ بسرعة لأعرف من هو ملاحقي... فوجدتُ غدير .. التي من أن نظرتُ لها حتى أحنت رأسها للأسفل ...
لا أخفي بأني قد تفاجأت ُ .. لكني في ذلك الوقت .. لم أكن مستعداً للتحدث معها .. ولا حتى
رؤيتها .. فجرحي لم يبرأ بعد ... لهذا أوليتها ظهري لأنهي الحديث قبل بدأه .. وخطوت أول خطواتي ... على أساس أن تتبعها خطوات أخرى ... لكنه لم يحدث .. فقط استوقفني صوتها الهامس :- " أرجوك توقف ... فأنا .. أنا .."
أدخلتُ أكبر قدر من الأكسجين إلى رئتيّ ... لأخمد ولو جزء صغير من نار الغضب المتقدة في صدري جهتها ... وقلتُ لها:- " غدير.. ليس الآن ...أنا لا أستطيع التحدث الآن ..."
فجأة أصبحت أمامي... وقالت:- " كلا الآن .. يجب أن نتحدث الآن... "
هنا زمجرتُ قائلا:- " ماذا سوف تقولين ؟ .. بأنكِ آسفة لجرحكِ لي.."
فردت عليّ من فورها:- " كلا أنا.. لا أقصد ..."
أحسستُ حينها بأن دمي يغلي من شدة الغضب... كورتُ قبضت يدي ورفعتها.... أخذت تحدق بي بذعر يطوق عينيها... لا أعلم كيف قذفتُ بيدي ناحية الجدار .. لأضربه بكل ما أوتيتُ من قوة ....لم أقوَ على النظر إليها .. لهذا صرختُ بها :- " اغربي عن وجهي الآن يا غدير ... اغربي ... اغربي .."
كنتُ خائفاً بان أؤذيها في لحظة غضب .. فأندم مدى الحياة ... سمعتُ أنفاسها تضطرب ... ومن ثم تبعتها خطاها الراحلة ...
| +* +* +* |
ساعة الاعتراف ...
تتبعتُ تلك الأسلاك المحيطة به من كل جانب ... فشعرتُ بقلبي ينقبض .. تنهدت بحزن ... وقلتُ ممسكة بدمعي:- " آآآآآآآآآآآآه يا أحمد ... لا تعلم كم يؤلمني رؤيتك وأنت بهذه الحال... ليتني كنتٌ أنا من تحيط به هذه الأجهزة ولست أنت ..."
انتصرت دموعي عليّ.. ووجدت طريقها للخروج ... مسحتها من فوري وقلتُ بإصرار وعزم:- " لن أبكي.. لن أبكي … فأنت سوف تعود لنا .. أنا متأكدة .. نعم متأكدة …فأنت شخص مقاتل.. لا يستسلم بسهولة …"
نظرتُ إلى وجهه الساكن عن الحركة … تأملته .. فقلما أجد الفرصة سامحة لي للنظر إليه بدون خجل … بدون خوف من أن يلحظني هو .. أو من حولي من الناس … في كل الأوضاع يبدو لي جميلاً… نائما.. صاحيا ً .. فرحاً … غاضباً …
في تلك الدقيقة … عقدت العزم بأن أفشي له الذي حبسته في قلبي زمناً طويلاً …. ابتلعتُ ريقي وأنا أهيأ نفسي لكشف سري له وقلتُ :- " أحمد هناك شيء أخفيته عنك .. بل عن الجميع زمناً طويلاً .. لقد آثرتُ الاحتفاظ به في قلبي .. لكني لم أعد أقوى على حبسه في ( ووضعتُ يدي على قلبي وأنا أسترسل في اعترافي ) قلبي أكثر من ذلك … وكذلك لا أظن أني سوف أتجرأ أن أقوله لك وأنت مفتوح العينين … هذه الفرصة ربما لن تسنح لي من جديد … فأنا وأنت لوحدنا … لا يوجد أحد .. فالجميع ذهب لتناول الإفطار… "
توقفت ُ لبرهة عن الحديث …أبعدتُ يدي عن قلبي … ومددتُها نحو يده الممدودة على السرير أبيض اللون …لكنها توقفت في منتصف الطريق … لكني أصررت عليها للمضي قدماً.. رغم صراخ العقل الرافض لذلك … غلفتُ يده بها … لعلي أستشف من عروقه النابضة ردت فعل لما سوف أكشفه له من سر دفين في قلبي … أخذتُ نفساً عميقاً لعله مع خروجه من صدري يدفع بتلك الكلمات المتحشرجة في حنجرتي … وبالفعل نجحت الخطة … فنفثت الهواء مصحوبا باعترافي:- " أحمد أنا أحبك … أحبك منذ زمن .. منذ كنا صغاراً … نعم أحبك … أحبك.. أحبك … ولا أستطيع أن أحب شخصاً غيرك … صدقني أني لا أستطيع العيش بدونك.. ولا فكرة أن تأخذك امرأة أخرى مني .. لهذا كرهت البتول .. كرهتها من كل قلبي.. لأنني كنتُ أرى في عينك تلك النظرات التي كنتُ أنظر إليك بها ..كنتُ أعلم بأنك تحبها … كان هذا يؤلمني .. يؤلمني كثيراً … والذي آلمني أكثر بأنك لازلت وحتى بعد موتها تحبها …. لماذا أجبني يا أحمد …؟ لماذا لا تزال تحبها ؟ ما الذي فعلته لك حتى تحبها هذا الحب.. ؟ أجبني .. أنا سوف أفعله .. مستعدة لأفعله حتى أحصل ولو على جزء صغير من هذا الحب "
وضعتُ يدي الأخرى على يده الممدودة … أغرقت عيناي بالدمع … وكررتُ سؤالي وكل أمل بأن يجبني …:- " أجبني يا أحمد على سؤالي …. ما الذي في بتول ؟ .. ما الذي يميزها عني.. قل لي "
عصرتٌ يده بقبضتي … وعاودتُ نفس السؤال:- " قل لي يا أحمد ؟؟ أخبرني بالسر … الذي كنتُ أحاول أن أكتشفه منذ زمن بعيد …"
رفعتُ رأسي وقد تيقنتُ تماماً بأنه لن يأتني الجواب لهذا اللغز الذي تعبت ُ من البحث عن مفتاح إجابته …
| +* +* +* |
كانت نفسي ثائرة مما ترى وتجود بغضبها في كلماتها فهذا ما تملكه للأسف:
( يالك من فتاة خبيثة يا ياسمين ... تدعين البراءة والحياء أمام الجميع وأمام أحمد بالذات ... في حين أنك حية رمل... يالوقاحتكِ كيف تمسكين يد أحمد هكذا ؟!! من سمح لك بذلك ؟؟!! أنا لا أستطيع فعل هذا... لكنكِ حية ليس بالغريب عليك هذه التصرفات.... )
كنتُ أنصهر في حمم الغيرة وأنا أراها معه مع حبي أحمد لوحدهما... بدون أحد يفسد عليهما هذا الجو العابق بالرومانسية...
لقد رأتني .. نعم رأتني ... لم أرد أن تراني منافستي وأنا أموت من الغيظ وأنا أراها معه لوحدهما...... فالتفت ُ إلى يميني هرباً من عينيها ونار الغيرة تحرق قلبي... لتقع عيناي على شيء غريب يحدق بي ...
أنه شاب ينظر إلي بكل وقاحة... كم أكره هذه النوعية من الشباب اللعوبين... الذين لا يشغل فكرهم سوى الفتيات... كم تمنيت ساعتها بأن أصفعه ... فنظراته لم ترحني ... فهي نظراتٌ فاحصة ... لكني تراجعت عن عزمي ... فهؤلاء الأشكال إذا تصرفت نحوهم بأي تصرف سوف يعتبرونه انتصاراً بالنسبة لهم ... لهذا لن يتركني لحالي أبداً ... ومن ثم في تلك اللحظة كان مزاجي متعكراً بسبب تلك التي تدعى ياسمين ... لهذا أخذتُ أمسك بأعصابي التي تريد بأي وسيلة بأن تهرب من قوقعة نفسي وتظهر للعلن بصعوبة لن يتخيلها أحد... وذهبتُ بخطى مهتزة فهناك أحساسان يهجمان علي لحظة واحدة في ذلك الوقت ... أحساس الغيرة القاتل من تلك الحية ... والغضب من ذلك الشاب المستهتر ...
مررتُ بجواره ولم أعطه بالا .. فكان هذا من وجهة نظري أكبر رد مني له... فهذه الأشكال لا تستحق بأن أتعب نفسي برد عليها...
| +* +* +* |
|+*| قلـم || هوب لايت |*+|
|+*| التدقيق النحوي || معلم لغة عربية |*+|