|+*| الضوء التاسع في درب الكلمات |*+|
أمنية القدر:" أن أتحول إلى شيء آخر...."
مع شروق شمس الثلاثاء... الثالث من ديسمبر... قلب البلاد المجروح...
واقفة أمام منزلٍ عاشت فيه أسعد أيام حياتها, أيام لن تعد, و لن تتكرر فيما تبقى من حياتها, لأن هذا البيت لم يعد موجوداً, بات دماراً, حطاماً, كحطام روحها, لم تعد تعرف ماذا يجب أن تفعل, أتبكي, أتفرح,( ماذا أفعل؟) سؤال لم تجد له جواباً, حيرتها هذه جعلت الجمود يصبغ وجهها, و عينيها اللتين لم تطرفا وهما تنظران إلى ما تبقى من شيء كان يسمى بيتاً.
رن هاتفها, ليقطع حيرتها, انتشلته من جيب معطفها, وضغطت مستقبلة ً للاتصال من دون أن تنظر إلى رقم المتصل, جاءها من الخط الآخر صوت مذعور:- " أين أنتِ يا سارة؟ أين اختفيتِ ؟ "
لترد بصوت يحمل معاني الضياع:- " لا أعلم, أين أنا الآن, أين وصلة بأفعالي, هل أنا ... هل أنا كنتُ مصيبة ً بأن أرمي عليها جام غضبي؟ أحملها مسؤولية لم تكن لها يد فيها؟"
قاطعها فالحيرة قد تملكته :- " سارة عن ماذا تتكلمين؟ ! أنا لا أفهم شيئاً مما تقولينه "
لترد هي بنفس النبرة:- " ولن تفهم, لأني أنا نفسي لا أفهم شيئاً يا سعيد, لا أفهم شيئاً “
وأغلقت الخط, معلنةً نهاية المكالمة.
أغمضت عينيها, وأخذت نفساً عميقاً, ومن ثم طردته بعيدا ً عن صدرها, كأنها تطرد ذلك الجليد الذي غطى داخلها منذ زمن, وقالت وهي تفتح عينيها:-" أنا قتلتكِ يا بتول, أنا ... أنا .. أنا "
فسالت دمعة من مقلتها, لتنهي حيرتها, وترفع راية الحزن في داخلها.
| +* +* +* +* |
خرجت من غرفة مطر, لأجده متسمراً أمام باب الغرفة تماماً, ليقف على فوره عندما رآني وأنا أخرج, وتوجه ناحيتي على عجل, ونظرة الخوف تصحب, وقال بصوت تشتعل فيه نبرة القلق:-" أهي بخير؟ ما الذي جرى لها؟ لماذا تأخرتِ معها في الداخل ؟ أهي تشك من مكروه؟ "
أخذت أنظر إليه وأنا غير مصدقة لما قالته ليمطر, قلت في نفسي ( كيف لشخص يكاد يموت رعباً عليها , قد يؤذيها؟ بتأكيد هناك خطأ ما, بتأكيد...)
عدت لأتأمل قسمات وجهه التي باتت علامة القلق تشتد فيه, فلم أجد نفسي إلا وأقول في داخلي( لا بد من أن أخبره, وأواجهه بما عرفة, وأرى ردت فعله, لأكشف عن هذا اللغز, يجب... )
وبالفعل فعلتها, نظرت إليه بكل إصرار, وقلت له دفعةً واحدة:-" خالد إن مطر تتهمك بأنك أنت من آذاها "
وأخذت أدقق النظر في كل أركان وجهه, بحثاً عن ردة فعل تكشف لي عن الحقيقة.
كانت ردة فعله بأنه توقف عن الحديث, وفتح عينيه أوسع ما يكون, وهو يحدق بي مذهولا ً مما سمع , خطى خطوتين إلى الخلف , ومن ثم توقف, نظر إلى الأرض لثواني معدودات, وقد وضع يده على فمه, ومن ثم رفع رأسه, وأخذ ينظر إليها من جديد وقال : - " ما الذي تقولينه ؟! , أحقاً بأن مطر تظنون بأني أنا من ..."
لم يكمل, توقف و المرارة تصبغ وجهه.
( لم أتوقع ردة الفعل هذه منه, فكل تصرفاته تدل على أنه لم يفعل شيئاً لها, لم يؤذها, لكن ما دام لم يفعل لها شيئاً, لماذا تتهمه بهذا الاتهام الخطير ) سؤال أخذ ينخر رأسي الذي يكاد ينفجر حينها.
قلت له : - " هي قالت بأنها رأتك وأنت تضربها "
ليدوي صوته وهو يقول:-" مــــــــــــــــــــــــاذا؟!! , هذا مستحيل, أنا لم أفعل لها شيئاً, أقسم لكِ يا حنين, بأني وجدتها بهذه الحالة, أقسم لكِ "
لأقاطعه بقولي:-" إذا لماذا قالت بأنك أنت من ضربها؟! , لماذا تتهمك بشيء أنت لم تفعله ؟!! "
أخذ يهز رأسه يمنة ً ويساراً وهو يقول:- " أنا نفسي لا أعلم "
ثم صمت لبرهة... ومن ثم قال:- " سوف أكلمها بنفسي... وأعرف لماذا تتهمني بأني أذيتها"
و بالفعل أندفع ناحية الباب ... لكني استوقفته بقولي:- " توقف يا خالد, إنها نائمة الآن ... بصعوبة قد نامت ... كانت منفعلة جداً و خائفة ... دعها الآن ... وسوف نكلمها غداً"
التفت ناحيتي .. وأخذ يحدق بي .. بطريقة لم ترحني حقاً ...
| +* +* +* +* |
كنت أرى في عيني حنين الاتهام جلياً ... مما زاد من حزني ... لم أكن أصدق بأن مطر تتهمني بأني أنا من فعل بها ذلك الفعل الشنيع ... لماذا .. لماذا تتهمني وأنا لم أرها قد قبل هذا الحادث ... لماذا ..؟
حيرة أخذت تنهش بي ... وتهيج الحزن في قلبي ... لم أقوى على التزحزح إلى أي مكان آخر حينها .. قبل أن أكشف حقيقة الأمر .. وأبرأ نفسي من هذا الاتهام...
فقلت:- " لا أستطيع أن أتزحزح إلى أي مكان حتى أعرف لماذا ... لماذا هي ... ( الحرقة منعتني من قولها ... كنت أتألم حقا في داخلي .. وأشعر بالخيانة ... فقد أحسنت لها .. وها هي تتهمني بشيء لا ولن أفعله ما حييت ... طأطأت رأسي لثانية ... ومن ثم رفعت رأسي وأكملت قائلاً بعد أن أدخلت ما أقدر عليه من الهواء في رئتي ) اذهبي أنتِ ونامي يا حنين ... "
فردت من فورها ونظرت لم أرتح لها سكنت عيناها :- " وأنت يا خالد ... ألن تذهب ..؟"
كان كلامها هذا يترجم ما في عينيها من خوف ... إنها متيقنة تماماً بأني المجرم ... عديم الأخلاق .. الذي لوث مطر ...
قلت والمرارة تقطر من صوتي:- " حنين ... أأنتِ تصدقين بأني أنا قادر على فعل هذا .؟ ." قلتها وأنا أشير بسبابتي على صدري ...
أشاحت ببصرها بعيداً عني ..وقالت:- " خالد .. أنا لا أعرفك إلا من فترة وجيزة ... أنا ... أنا ..."
فبترت جملتها قائلاً وقد رفعت كف يدي مشيراً لها بتوقف:- " لا تكملي .. لا تكملي ... ( أخذت أهز رأسي بأسى وأنا أكمل قائلاً ) الله وحده يعلم بأني لم أؤذها ... وبأني منذ رأيتها أول مرة اعتبرتها كأخت لي .... واجبٌ عليه رعايتها وحمايتها ... وثأر لها من ذلك المجرم ... "
وشرعت بمضي .. وأنا أسحب رجلي سحباً ... متوجهاً ناحية الباب الرئيسي ... فأنا لم أعد أطيق ضوء الاتهام الذي سلط علي منحنين و ... و مطر ...
وفي منتصف طريق ناحية الباب .. توقفت... فصراخها قد دوى في أرجاء المكان ... التفت إلى خلفي .. و الذعر بدأ يتفشى في جسدي ... لم أفكر حينها ... هرعت ناحية باب غرفتها بأقصى سرعة لدي ... حتى أنني نسيت وجود حنين في الصالة معي ... كان فكري منصبًا عليها ... دخلت بعد أن فتحت الباب بقوة .. حتى أنه صفع الجدار ليصدر صوتاُ مدوياً ... وتوجهت ناحيتها ... لأجدها مغمضة عينيها .. وتصارع غطائها .. وتصرخ بأعلى طبقة من صوتها ...( أتركني ... توقف ... توقف .. ) والرعب محفوراً على قسمات وجهها ....
كان لا بد من إيقاظها ... فهي تحلم بكابوس مزعج ... اقتربت منها ... وأخذت أصرخ بأعلى صوتي :- " مطر ... مطر استيقظ .. مطر ... "
لكن بلا جدوا .. ظلت منغمسة في كابوسها أكثر فأكثر...
لم أجد حلاً سوى أن أمسك بوجهها الذي أخذت تلقيه يمنة ً و يساراً .. وأعيد ندائي لها ... لعلي أعيدها للأرض الواقع : - " مطر .. توقفي .. إنك تحلمي ... استيقظي ... مطر ... " هذه المرة أخذت أصرخ أعلى من قبل .. وأنا أشد قبضة يدي اللتين تحيطان برأسها ... " هيا .. يا مطر... مطر .... " وأخذت أهز برأسها كالمجنون .. فأنا لم أعد أطيق رأيتها وهي تتعذب بهذه الطريقة ... ولم أوقف لساني عن الحركة :-" مطر إنه كابوس ... فاستيقظي ... استيقظي ... "
قالت حنين صارخة:- " توقف يا خالد .. إنك تؤذيها "
لم أعر لكلام حنين بالا ً و استمررت فيما كنت أفعله ... كان يجب أن أخرجها مما هي فيه ...
أخيراً فتحت عينيها ... لتبدأ سيول الخوف بتراجع أمام جيوش الطمأنينة .. وأبعد يدي عن وجهها ...
أخذت تنظر من حولها.. بدت كأنها تائهة ... غير مدركة لما يحصل من حولها ... ومن ثم وقع بصرها عليّ ... لتبرز عينيها ... ويعود الهلع إلى محياها ... وتصرخ وهي تتراجع إلى الخلف لدرجة بأن ظهرها بات ملاصقاً للجدار ... وصرخت قائلة : - " ابتعد عني ... ابتعد عني .. أتركني " وأخذت تمسك بغطائها بكلتا يديها وتغطي وجهها لحد أنفها به ... ولا تفتأ تصرخ بنبرة الخوف :- " ابتعد عني ... ابتعد عني "
ذهلني فعلها ... لكني تذكرت اتهامها لي بذلك الجرم ... فحاولت أن أدافع عن نفسي:- " مطر .. أنا لم أؤذك ِ أقسم لك .. بالتأكيد أن هناك خطأ ما .. حاول بأن تتذكري ... أرجوكِ .."
لم أجد منها رداً إلا صراخها لي:- " لا اتركني .. ارحل ... ساعدوني أرجوكم ..ساعدوني ..."
اقتربت منها حنين ... وأحاطتها بذراعها ... ومن ثم جلست بقربها ... ووضعت يدها الثانية على كتفها .. وقالت لها :- " اهدئي يا مطر ... اهدئي..."
نظرت مطر ناحية حنين وقالت بصوت راجي :-" أرجوك ساعديني ... أبعديه عني .. سوف يضربني ... أرجوكِ .. أرجوكِ ..." وألقت برأسها إلى كتف حنين ... التي ضمتها نحوها...
ورأيت الدمع ينزل من مقلتيها بعينيه اللتين ترسمان الذهول و عدم التصديق.. لآخر نفس حاولت الدفاع عن نفسي.. وتبرئتها.. فقلت:- " مطر أرجوكِ تذكري..."
لتقطع حديث صوت حنين الحاد وهي تقول لي زاجرة:- " هذا يكفي يا خالد... ألا ترى حالها .. إنها خائفة منك .. فخرج وإلا صرخت وجعلت الجميع يأتون ويضعون لك حداً.."
هنا شل تفكيري ... فالصدمة كانت قوية علي ... أنا الآن الوحش المفترس في نظرهما.... لم أجد نفسي إلا وقد رفعت راية الاستسلام... وخرجت تاركاً إياهما معاً.. وفي صدري ألم شديد ....
عندما خرجت من الغرفة ... اصطدمت عيناي بحجابها الساكن في نفس المكان الذي تركته فيه ... فوق الطاولة ... خطوت خطوتين نحوه .. أمسكته وحررته من سكونه ... عدت أنظر إلى الوراء حيث غرفتها وفي نيتي أن أعيده لها ... رفعت ساقي لأخطو أول خطوة ... لكنني تراجعت وأنا أشعر بنار الخوف تنبثق من تلك الغرفة ناحيتي ...
| +* +* +* +* |
عندما نفقد وجود الحب في حياتنا... يبقى قبره في قلوبنا...
كنت جالساً أمام شباك غرفة علي.... أترقب بزوغ أول فجر يعلن رحيلكِ نهائيا عنا يا بتول ... اليوم أول يوم للعزاء .. لم يغض لي عين طول الليل وأنا أعلم بأنه سوف تبدأ مراسم رحيلك عنا في اليوم التالي .. آآآآآآآآآآآه ما أوجعه من كلمة رحيل ... رحيل .... صوف يصبح الموضوع نهائياً اليوم .... سوف تصبحين في خانة المتوفين .. الموتى يا بتول ... رفعت يدي الممسكة بشيء كان جزءاً منكِ ... نظرت به ... وشيء رطب بدأ يملأ عيني....
بدأت تلمع أمام ناظري فخيوط أشعة الشمس قد بدأت تنتشر في أرجاء المكان .. معلنة ً بدأ يوم رحيلك يا بتول....
أخذت أضغط بكل ما أوتيت من قوة على السلسلة التي في يدي .. ومسحت دمعي المتراكم في جفني... وقطبت حاجبي ... وأنا أتوعد قائلاً:- " أقسم لك يا بتول بأني سوف أنتقم لك من قتلتك.. سوف أقطعهم إرباً إربا كما فعلوا لك أقسم بذلك ... لن أرتاح في حياتي حتى أنتقم لكِ يا بتول... "
وأخذت نفساً عميقاً ... وأخرجته من صدري دفعة واحدة ... وأنا أعيد السلسلة في جيب قميصي ... قريباً من قلبي حيث مكانها الصحيح ... حيث تسكن صاحبتها فيه...
أدخلتها في جيبي ... ووضعت يدي على جيبي ... وأغمضت عينيه ..وأنا في داخلي أعيد عهدي لها بالانتقام لقتلتها ...
قاطعني صوت ناعس وهو يقول:- " أحمد ... لما لم توقظني للصلاة الفجر ... "
فتحت عيني .. ووجهتهما ناحية صاحب الصوت ... لأجد عليًا وهو جالس على سريره .. يمد أطرافه ...
| +* +* +* +* |
في دائرة معقدة التركيب... تدور دون توقف!..
ما إن دخل لمكتبه حتى قام الجندي ... من مقعده .. وقام بتحية العسكرية وهو يقول:- " تحياتي سيدي .."
رد عليه التحية وهو مقبل ناحية كرسيه ... وما إن جلس عليه حتى قال:- " خيراً يا أيها المجند .. ماذا لديك من أخبار ؟ "
قال الجندي وهو لا يزال واقفاُ : - " سيدي لا تزال الفتاة تقاوم وتصرخ ... لم تتوقف عن الصراخ طول الليل "
ابتسم ساخراً وقال:- " اجعلها تصرخ حتى تشبع ... لن يسمعها أحد ..."
ليقول المجند .. وقد بدا الارتباك عليه :- " سيدي .. هناك شيء آخر ..."
أسند ظهره على الكرسي ووضع كلتا يداه على مقبض الكرسي وهو يقول:- " ماذا هناك أيضاً ؟"
:- " سيدي هي لم تأكل شيئاً منذ أحضرناها ... رفضت كل الطعام الذي قدمناه لها ... "
ابتسم ضاحكاً وهو يحني جسده ناحية الأمام ... ويشبك يديه يبعضهما ... ويضعهما على المكتب القابع أمامه ... وقال:- " مضربة عن الطعام أيضاً ... يبدو بأنها تريد بأن تلحق بأهلها ...( وعاد ليضحك ومن ثم أكمل قائلاً ) دعها ... يا أيها المجند ... في نهاية الأمر سوف تطلب الطعام ... هذه الحركات لن تدوم ... أنا أعرف جيداً هذا .. لن تكمل اليوم إلا وسوف تطلب منكم الطعام ... صدقني ... "
ومن ثم أضاف:- " هل هناك شيء آخر تريد بأن تخبرني به ؟"
أجاب الجندي :- " لا سيدي .. هذا كل شيء ..."
فقال:- " حسناً ... يمكنك الانصراف الآن .. ولا تنسَ بأن تخبرني بأي جديد يطرأ ... "
فأجاب الجندي:- " أمرك سيدي ..."
هم في أخذ ملف موجودة على مكتبه .. وفتحه ... لكن لاحظ بأن المجند لا يزال في الغرفة... فرفع رأسه ...ونظر ناحيته والاستغراب يصبغ وجهه .. وقال:- " ماذا هناك أيها المجند .. ؟ ! لماذا لا تزال هنا ؟! !! "
نكس المجند عينيه ..... والارتباك يرتسم في محياه .. وأخذ يتلعثم في كلامه:- " سيدي .. هل .. هل يمكنني ...بأ .. بأن أسألك سؤالاَ ..."
أغلق الملف ... ونظر ناحية المجند باهتمام بالغ وهو يقول:- " اسأل ..."
أزدرد الجندي ريقه بمشقة .. وبدأ يقول بكلمات مشتته ...:- " سيدي... لماذا .. لماذا أنت مهتم .. مهتم بهذا الجندي الذي هرب ... أقصد .. لماذا تتعب نفسك بقتل أهله .. واختطاف أخته... لماذا .. لماذا لم تنس الأمر ... "
دوت صوت شيء وهو يلتطم بسطح المكتب... يتبعه زمجرة :- " لأنه خائن "
رفع عينيه ناحية مصدر الصوت... ليجد يد القائد على الطاولة... وقد قام من كرسيه ... والغضب يشتعل في وجهه وعيناه... فدبت رعشة في أوصال الجندي .. وهو يرى قائده في هذه الحال..
فأكمل القائد بنفس الوتيرة:- " ترك واجبه ناحية وطنه .. ورحل ... أمثال هؤلاء الجبناء.. الذين خانوا وطنهم لا يستحقون إلا الموت ... نحن جميعاً عندما انتسبنا إلى الجيش تعاهدنا بأن نفدي وطننا بأرواحنا ...وهذا الجبان فر قبل المواجهة حتى ... فما نفعه .. وما نفع حياته ... مادام لم يدافع عن وطنه التي قدمت له الكثير ... ومن ثم هذا الخائن ... لن يخرج إلا من عائلة خائنة مثله ... لا يخلصون لوطنهم ... ويفكرون بأنفسهم فقط... لهذا كان يجب بأن نعاقبهم.. ونريح الوطن منهم ... فهم عبء على الوطن ...لا نفع منهم ... أرأيت عندما سألناهم عن مكان ابنهم قالوا بأنهم لا يعرفون... فكر جيداً ... ( و صوب سبابته ناحية رأسه وهو يكمل قائلاً ) كيف عائلته لا تعرف مكانه... حللها ... سوف تجد من غير المعقول هذا ... هم أيضاً يؤيدونه على فعله ... هم يستحقون الذي جرى لهم ... هذا هو العقاب العادل ... أليس كذلك أيها المجند..؟ "
لم يرده رد ... فصرخ من جديد قائلاً: - " أليس كذلك..؟"
فرد الجندي مرتعداً:- " نعم سيدي ... "
عاد ليجلس على كرسيه .. وقد بدأت أعصابه تهدأ ... ومن ثم قال:- " كما أن هذا درس لمن يفكر بأن يهرب من خدمة الوطن..."
فهز المجند رأسه بنعم .. وقال والخوف قد اعتراه: - " أيمكنني الانصراف الآن يا سيدي .."
فأومأ له بالانصراف ... فقام المجند بتحية العسكرية ... ورحل من فوره ... كأنه لم يصدق بأنه تحرر أخيراً ...
وما إن خرج الجندي ... حتى رن هاتفه النقال ... فنظر على الرقم ومن ثم ضغط على زر الاستقبال وقال: -
- ألو ...
- وعليكم السلام .. كيف حالك سيد أكرم ..؟
- الحمد لله .. أنا بخير... ما سر هذا الاتصال ..؟
- أووووووه .. تريد رؤيتي ... لماذا خيراً ...؟
- لا تريد بأن تخبرني ... حسناً ... أنا في انتظارك الآن ... فليس لديه عمل مهم في هذا الوقت ... يمكنك بأن تمر عليه .... في المكتب ... "
- " حسناً .. أنا في انتظارك ..."
ضغط زر الإغلاق .... و الحيرة تعصر مخه ....:- " ما الذي يريده هذا ..؟!!! "
| +* +* +* +* |
رجلٌ شارك في الجرم
عمارة قديمة... يسكنها أبطالٌ نعرفهم...
وضع يده على كتف صاحبه.. فننتفض الآخر ... فقال:- " اهدأ يا خالد .. هذا أنا عبد الرحمن ..."
وجلس أمامه ...
أدخل كمية كبيرة من الأكسجين إلى رئتيه ... يحاول تهدأت نفسه بعد ما باغته صديقه وهو سارح في عالم آخر ... ومن ثم طرده من صدره وقال مبتسماً :- " صباح الخير ..."
فرد عبد الرحمن ..راد له الابتسامة بابتسامة أخرى :-" صباح النور... لماذا لم تذهب وتنم ؟ .. فالشمس قد أشرقت منذ زمن ... لقد انتهت فترة حراستك ... "
فرد عليه وقد رحلت البسمة عن محياه:- " لا أشعر بنعاس .."
أخذ يحدق به عبد الرحمن ... ومن ثم قال:- " ماذا هناك يا خالد ؟ ... أهناك مشكلة ..؟ "
فرد وقد أخذ الحزن يعتصر تعابير وجهه:- " كلا .. لا توجد مشكلة ..." وأخذ يوجه بصره بعيداُ عن عبد الرحمن ...
زفر عبد الرحمن زفرة قوية قبل أن يقول:- " لقد أخبرتني حنين بالذي جرى ..."
عاد ينظر إلى صاحبه ... و الهلع يخط تجاعيده على وجهه: - " عبد الرحمن أقسم لك بأني لم أؤذ ..."
فقاطعه عبد الرحمن بإشارة منه لخالد بسكوت ...
ومن ثم قال:- " لقد فعلتها مرة وشككت بك ... وكم أنا نادم على ذلك ... أنا صحيح أعرفك من فترة وجيزة... لكني على يقين بأنك ليس من النوع ذاك.. أنت رجل يخاف ربه ... ومن ثم نظراتك لتلك الفتاة ... كانت نظرات خوف وقلق .... لهذا من سابع المستحيلات بأن تفعل تلك الفعلة الشنيعة ... لا بد من لبسما في الموضوع.... ربما هو تشويش في الذاكرة ... صحيح أنا لا أعلم شيء في هذه الأمور ... وأنا لست بطبيب ... لكن عندما سألت حنين إذا ما كانت تذكر مطر شيئاً آخر.. فقالت بأنها لا تذكر شيئاً... سوى رؤيتك وأنت تضربها ... وهذه الذكرى أيضا .. لم تكن واضحة ... حيث أنها ترى يدين عملاقتين تانهالان عليها بضرب ... ووجهك ... لكنه لم يكن واضحاً جداً ... أترى ... كل هذا يدل على أنها مشوشة التفكير .... وذاكرتها لم تتعاف تماماً .. أليس كذلك يا خالد ..؟ فأنت الطبيب... "
بدل أن يتهلل وجه خالد بالفرح بأن هناك أحد متأكد من براءته ... بات وجهه مكفهراً .... وقال بصوت به نبرة من الأسى ..:- " صحيح بأني لم أفعل بها شيئاً .. لكني .. لكني ... شاركت بهذا الجرم ...نعم شاركت به ...."
اتسعت حدقة عيني عبد الرحمن مما دخل مسمعه من صاحبه .... وقال بصوت لم يخلُ من الدهشة التي تعشش في صدره :- " ماذا تقول يا خالد؟!!! "
| +* +* +* +* |
ما إن دخلت أمي المنزل .. ووقعت أعيننا عليها نحن الثلاثة ..( أبي ... وأختي حوراء ... وأنا ..) حتى قمنا جميعنا بسرعة .. وهرعنا نحوها ... فقد كنا نعيش في جمر الخوف عليها طوال ساعات ... خاصة بأنه لم تنم البارحة في المنزل ... وبعد اتصال أبي الأخير بها ... لم نستطع الاتصال بها .. فهاتفها كان مغلقاً ... فزاد خوفنا عليها ... وبدأنا نتصور الأسوأ ..
كان أول الواصلين إليها حوراء .. التي قفزت إلى حضنها .. وأحطتها بذراعيها .. وبدأت تبكي بحرقة ... في حين أن أمي لم تحرك ساكنة... كانت واقفة كالعامود .. بلا حراك ...
أما أنا وأبي فقد وقفنا أمامها مباشرة ...
أخذت أنظر إليها متفحصاُ ... لأتأكد بأنه لم يصبها مكروهاً ... والحمد لله لم أجد أثراُ لأذى عليها ... لكن وجهها الحزين ... وعينيها المحمرتين ... وآثار الدمع الجاف الذي رسم خيوطه على خديها استوقفاني طويلاً ...
قال أبي والهلع واضح وضوح الشمس على نبرة صوته : - " أين كنت يا سارة ...؟ لقد خفنا عليك ِ ... "
فردت بصوت مبحوح :- " أريد أن أنام ..."
فدفعت بحوراء بعيداً عنها ... و الذهول فيعيوننا يرتسم .... ومضت ناحية غرفتها ... لحق بها أبي .. وأنا وحوراء من وراءه ... لكن أبي أشار لنا بتوقف ... فرضخنا لأمره ...
ودخل وراءها في الغرفة .. وأغلق عليهما الباب ...
و ظللنا أنا وحوراء واقفين أمام باب غرفتهما ... نظرت ناحيتي حوراء .. وقالت ووجهها الطفولي يخط القلق على قسماته فيشوهه :- " أأمي بخير يا وسام ؟ "
وقفت عاجز عن إيجاد جواب لها يقضي على القلق والخوف الذي يعصر قلبها ... فأنا نفسي أشعر بالخوف يصل لحد الهلع بعد رؤيتي أمي بتلك الحال ....
فما وجدت نفسي إلا و يدي تحيط بها .. وأسحبها ناحيتي ...
| +* +* +* +* |
كان مطأطأ الرأس حين قال... بصوت يهزه الألم ... و الحرقة:- " فأنا لم أدخل الزقاق لليلتها.. عندما سمعت ذلك الصوت ... لو كنت قد دخلت لربما أنقذتها ... أو حتى أمسكت بذلك المجرم حتى ...أنا شاركته ذلك الجرم ... أنا آذيتها .. أنا آذيتها .."
رحلت الدهشة التي سكنتن منذ قليل ... ليحل محلها الإعجاب بمن يجلس أمامي ...فهو رغم أنه لم يفعل لها سوى كل خير ... لا يزال يلوم نفسه على خطأ لم يرتكبه ... إنه حقا إنسان ذو أخلاق عالية ...
وضعت يدي على كتفه ... وحركت شفتيه مبتسما وقلت له :- " لا يا صاحبي لا تقل هذا الكلام ... أنت لم تذنب بشيء .... أنت شخص لم يبت تلك الليلة وهو يفكر بذلك الصوت ... لو كان أحد غيرك ... لما اكترث ... وأكمل حياته ... لكنك أنت عدت وأنقذتها ... وأحطتها برعايتك حتى هذه اللحظة .. لا أيد بأن أسمع منك مرة أخرى هذا الكلام يا خالد ... ولا حتى بأن تفكر به .... أنت لم تفعل لتلك الفتاة إلا كل خير ... تأكد من ذلك ... أرفع رأسك هيا .... أرفعه ..."
عندما لم أجده يستجيب لأمري .... أنا قمت به بنفسي ... وضعت يدي تحت ذقنه ورفعته وقلت ..و الابتسامة لم تغب عن شفتيه : - " لا تزله مرة أخرى .. مفهوم ..."
| +* +* +* +* |
كم أراحني كلام عبد الرحمن ... لقد بدأت أتنفس من جديد ... بعد خنقت صاحبتني منذ أن اتهمتني مطر بأني من آذاها ...
رفع يده وأخذ يحرك سبابته للأسفل والأعلى وهوي كرر كلامه قائلاً:- " مفهوم ..."
فرددت له قائلاً:- " مفهوم ..."
لقد أحسست عينها بأن عبد الرحمن ليس مجرد شخص التقيت صدفة ... وأعيش معه حالياً ... بل هو بنسبة لي أكبر من ذلك ... إنه .. إنه الآن بمثابة أخ لي .. أخ أفخر به ... ومستعد بأن أفديه بروحي إذا لزم الأمر ...
| +* +* +* +* |
تأنيب الضمير... محكمة يمر بها الجميع... وكل يحكم عليه بحكم مختلف...
خرجت من الحمام وقد ارتدت ملابس نومها ... ذهبت إلى السرير وهو لازال يتبعها بأنظاره التي تحمل آلاف الأسئلة الباحثة عن جواب... أبعدت الغطاء ونسلت تحته ... وهو لا يزال صامتاً ينظر إليه ...
وما إن وضعت رأسها على الوسادة حتى أطلق العنان للسانه وقال وعيناه متسعتان:- " ما هذا يا سارة .. ؟! ما الذي يجري ...؟! أفهميني .."
نامت على جنبها وهو يتقول بوجه خلى من أية مشاعر :- " أنا تعبة وأريد أن أنام يا سعيد ... فدعني أنام ..."
توجه ناحيتها .. ووقف أمامها مباشرة وقال وشيء من الغضب بدأ يظهر على وجهه..:- " ونحن أيضاً تعبون ... فلم ننم طول الليل بسببكِ ... لقد كنا خائفين عليكِ ... لهذا يجب بأن تقول ما الذي جرى لكِ .."
أخذت نفساً عميقاً ومن ثم أخرجته من رئتيها وقالت:- " لم يحصل لي شيء ... لهذا دعني أنام ... "
صمت قليلاً .. وهو يحاول أن يتمالك أعصابه التي تريد بأن تنفجر عليها .. ومن ثم قال:- " سارة .. أنا لم أعد أفهمكِ ... أهذا بسب بموت بتول؟!! .. ألم تريد بأن تتخلصي من مسؤوليتكِ ناحيتها ...ها هي جاءتكِ الفرصة ...لماذا تتصرفين هكذا؟.."
بترت كلماته وهي تقوم جالسة .. وقالت بصوت فيه نبرة من الصدمة:- " فرصة .... عندما أسمع كلامك ... أحس بأني مجرمة ... بلا قلب ... أهكذا كنت... "
أخذ ينظر إليها باستغراب.. كان يحس بأنه ضائع ... لا يعرف المرأة التي أمامه ...
:- " سارة ..."
هربت دمعة من عينها للعلن .. وقالت :- " أنا كذلك .. أنا مجرمة ... عاقبتها على شيء لم تفعله .. شيء لا ذنب لها به ... "
قال بصوت ملئه الرجاء:- " سارة أرجوكِ .. أرجوكِ .. أفهميني ... أنا حقا ً محتار .. أحس بأني ضائع ... "
نظرت جهته ... وقالت:- " ليت بمقدوري بأن أقول لك ... ليت بقدوري ذلك ..."
ثم غمست وجهها الذي أنهار ... واستسلم للحزن ... بكلتا يديها ... وقالت بصوت باكي..:- " أخيراً أدركت جريمتي ... أخيراً .. بعد أن ماتت عرفت مدى فداحة ما عمله ... صحوت أخيراً .. لكن بعد فوات الأوان ..."
أخرج كم هائل من الهواء من صدره ..وهو مغمض عينيه ... رفع يده لكي يواسيها .. لكن في آخر لحظة أعادها .... وخرج من الغرفة تاركاً إياها لوحدها مع أحزانها ...
| +* +* +* +* |
ما إن خرج أبي حتى أنهلنا عليه بالأسئلة عن أمي ... لكنه قابلنا بصمت ... ولم يرد عن ولا سؤال واحد ... وتركنا وخرج ... مما زاد من خوفنا وقلقنا عليها ... فلم نجد حلا .. سوى الدخول عليها .. وسؤالها عن حالها ...
لهذا قرعت الباب ...
لكن لم يردني رد ... فقرعت مرة ثانية ... نفسا لشيء ... فلجأت لدائها ...:- " أمي هذا أنا وسام وحوراء ... أيمكننا الدخول.."
لا رد ...
نظرت ناحية حوراء لأجد الخوف قد تملك كل ركن فيها ...
فقلت ... :- " سوف أفتح الباب.."
فهزت رأسها مؤيدة ...
أمسكت بمقبض الباب وقبل أن أشرع بتحريكه ... سمعنا صوت الباب وهو يقفل ... لقد أقفلت أمي الباب على نفسها ...
يبدو بأنها تريد بأن تكون وحيدة ...
لكن لماذا ؟!! .. أمعقول بأنها حزينة على موت بتول ؟!! لكنها لم تكن تحبها ....
حقاً كنت في دوامة من الأسئلة التي لا جواب شافي أملكه لها ...
| +* +* +* +* |
قلوب العشاق... تنتظر الأمطار لتغيثها...
منزل الخالة فاطمة... بعد ظهر الثلاثاء!... وقبل المغيب بسويعات!..
لم أرها منذ البارحة .. كنت أريد حقا أن أطمأن عليها .... لم أدع وسيلة إلا وقد فعلتها لكي أرها ... ويرتاح قلبي المقبوض عليها ... لكنها لم تخرج من عند النساء .... نحن كنا في الخارج نستقبل المعزين ... ونسوة كانت داخل منزلنا ...
لم يكن ذهني معي .. كان منصبا عليها ...
سألت أخواتي عنها .. فقالوا لي بأنها صامتة بالكاد تتكلم ... و الحزن بادي عليها ....
هذا زاد من خوفي عليها ... كم أردت ولو أن ألمحها ولو من بعيد ...
لكن لم يتسنَ لي هذا ...
آآآآآآآآآآآآه يا غدير ... أخرجي وطمئنني عليكِ ... أرجوك ِ...
هذا كان لسان حالي حينها ...
| +* +* +* +* |
لم أكن مدركاً لما يحصل من حولي ... كنت ذلك اليوم جسد بلا روح تسكنه ... أرى أناسًا يدخلون و يخرجون ... يسلمون ويعزون ... لكنكما قلت كنت جسد بلا روح ... جسد برمج على فعل أشياء بدون تفكير .. كالوقوف وتحية الناس المعزين ... و توديعهم عندما يخرجون ...
روحي رحلت مع من ملكتها .... رحلت معها بلا رجعة ....
لقد صحية متأخراً للأسف ...
وعيت لغبائي وجبني ..متأخراً كثيراً ..
لو أني لم أجبن حينها ... وأفكر بذلك التفكير السخيف ... لكن هؤلاء الناس قادمون لكي باركوا لي بزواجي منكِ يا بتول... لا أن يعزوني برحيلكِ عن عالم الأحياء...
شعرت بأن شيء يحيط بعنقي ويضغط عليه ... عندما أشتد الندم في داخلي على فرصة كانت بين يديه وأنا رميت بها بإرادتي ... هذا جعلني أتنفس بصعوبة بالغة .... فتحت ربطت العنق قليلاً .. لعلي أحصل على بعد الهواء يسد جوعي ... لكن بلا فائدة ... فتحت زر قميصي ... ولم يجدي نفعاً .... أضغط أشتد على عنقي ... والأكسجين بات لا يدخل إلى رئتيه...
همس أبي في أذني قائلاً :- " أأنت بخير يا أحمد؟ .."
فقلت به بنبرة صوت ميت :- " سوف أذهب قليلاً وسوف أعود .."
فرد :-" حسناً .. اذهب ... لكن لا تتأخر ..."
فهززت رأسي بنعم ... وقمت من فوري ... وبخطى متسارعة توجهت إلى البوابة الرئيسية للمنزل خالتي ... وخرجت ناحية الشارع ... وما إن خرجت ... أخذت أدخل أكبر قدر ممكن من الهواء إلى رئتي المتعطشتين له ...
ظللت هكذا لعشر دقائق تقريباً ...
نظرت إلى الخلف حيث بيت خالتي... ومن ثم توجهت ناحيته وفي نيتي العودة للمعزين ... لكني توقفت ... قدماي لم يطاوعاني ...
فظللت متسمراً مكاني ... حتى جاءني صوت فتاة وهي تقول:- " السلام عليكم يا أحمد ..."
نظرت ناحية مصدر الصوت ... لأجد هدى واقفة تنظر إليه ...
فرددت عليها :- " وعليكم السلام .."
فسألتني:-" لماذا أنت واقف هنا ..؟ "
ارتبكت لسؤالها ... لم أعلم ماذا أقول... فخرج من فمي جواب غبي ..:- " لا شيء ... لا لسبب معين ..."
ثم نكست رأسي بسرعة ... لأخفي ارتباك..
فسألتني مرت أخرى :- " أأنت بخير يا أحمد ..؟"
تعجبت من سؤالها ... فقلت بصوت خافت ..:- " نعم أنا بخير ... لماذا تسألين ؟!! "
سمعت قدماها وهما تتحركان ... أعتقد بأنها خطت خطوتين ومن ثم توقفت ... وقالت:- " لأن شكلك لا يوحي بأنك بخير... "
رفعت رأسي ما إن انتهت من جملتها ... لأجد عينيها مسلطتين عليّ... لهذا لم أطل النظر بها ... فعدت أطأطأ رأسي ناحية الأرض ... وقلت بصوت مهزوز ... فالكلمات تناقض ما بداخلي... من ألم وحرقة ..:- " أنا بخير ... شكراً لكِ على سؤالك ..."
وهممت بالمسير مجبراً ناحية الداخل ... لكنها استوقفتني بقولها ...:- " أأنت حزين لأن بتول ماتت ...؟"
ظللت واقفاً لثانية و الصمت يطبق شفتيه ..وأنا موليها ظهري ... ومن ثم قلت :- " بطبع ... فالجميع حزين على موتها .. فهي بمثابة أخت لنا ... "
وأكلت طريقي .... لكنها عادت لتستوقفني بقولها ...:- " أأنت حزين لأنك خسرت أختاً ... أو لأنك خسرت بتول...؟ "
احترت من كلامها .. لم أعلم إلى ماذا ترمي ... تسأله في داخلي :- " أمعقول بأنها تعلم بما في قلبي ناحية بتول؟!! "
لم أرد عليها .. فأنا كنت في حالة من الحيرة المصحوبة بالصدمة ...
سمعت خطواتها وهي تقترب مني ...ومن ثم توقفت .. كما يبدو بأنها توقفت وراءي مباشرة .. فصوتها كان يدل بأنها قريبة مني عندما قالت:- " لم تجبني يا أحمد .."
زفرت زفرة قوية قبل أن أرد عليها :- " أنا لم أجبكِ .. لأني لم أفهم سؤالكِ ..؟ "
لترد عليه بقولها :- " كلا يا أحمد .. أنت فهمت سؤالي جيداً ... "
هنا وجهت وجهي إلى ناحية يميني ... لأرى جزءاً منها ... في حين أنها ظلت ورائي .. وقلت :- " هدى أرجوكِ ..
إذا كان هناك شيء تريدين أن تقوليه فقوليه بدون لف أو دوران .. وإلا اتركيني أذهب لاستقبال المعزين ..."
عالا صوتها وهي تقول بنبرة كان فيها الغضب جلياً :- " أسوف تهرب ... نعم .. هذا طبعك كما يبدو ... لا تعلم كم أذيتها .... وآلمتها .... لا تعلم ...."
وتوقفت وأنا قد اجتاحني موجة من الذهول مما قد دخل مسمعي ... فلتفت ناحيتها ... وأنا أطمع في سماع المزيد ... لأجدها قد استسلمت للبكاء ... لهذا سألتها:- " أذيتها .. أنا .. كيف ...؟!! كيف يا هدى ...؟ !! "
أخذت تحدق بي بعينيها الغارقتين بدمع لثوانٍ .. وأنا على جمر متقد أنتظر جوابها ... لكن لم تنطق بشيء ... واندفعت ناحية الداخل ...
حاولت بأن أناديها .. لكن أحد المعزين كان خارجاً .. فلم أستطع أن أستوقفها ....
| +* +* +* +* |
وهناك... لازالت الذكريات بعيدة عن الذاكرة...
أطللت عليها برأسي لأتفقدها .. فوجدتها قد استيقظت ... وهي واقفة أمام المرآة المعلقة على الجدار تمسح وجهها بالفوطة ... فقلت لها معلنة بدأ الكلام :- " مساء الخير ..."
التفتت ناحيتي وابتسمت ومن ثم قالت:- " مساء النور ... لم أحس بالوقت حقاً ...لما لم توقظني ..."
قلت لها:- " أنتِ لم تنمي ليلة البارحة جيداً بسبب تلك الكوابيس المزعجة .. فتركتكِ نائمة ولم أدع أحداً يزعجكِ ... ها هل نمتِ جيداً ...؟"
هزت رأسها بنعم .. وقالت:- " نعم الحمد لله ... لم أر ذلك الكابوس المزعج ..."
:-" الحمد لله ... حسناً هيا تعالي معي المطبخ لك أضع لكي طعاماً تأكلينه..."
وضعت الفوطة جانبا ... وقالت :- " لا شكرا .. لا رغبة لي بالأكل..."
فقلت لها:- " لكنكِ لم تأكلي منذ الصباح شيئاً .."
فقالت وهي تتوجه ناحية سريرها :- " أعلم لكن حقاً أنا لست جائعة ..."
وجلست عليه .. وأنا أتبعها بعيني ...
:- " حسنا فلنخرج ... نتمشى ...نغير الجو .. فأنتِ لم تخرجي للخارج منذ وصلتي .."
فهزت رأسها بلا ... وقالت وعينيها ملتصقتان بالأرض ..:-" أفضل بأن أبقى هنا ..."
أمتعنت بها لثانية .. ثم اقتربت منها ... وجلست بجوارها وقلت ..:- " لماذا لا تريدين الخروج ؟ أأنت ِ خائفة ..."
زادت من انحنائها.. ولم تنبس بكلمة ....
كانت خصلات شعرها الناعمة قد أنسابت ... وغطت وجهها ... أبعدتهن بيدي .. وجعلتها تسكن وراء أذنها .. لأرى تعابير وجهها بوضوح .... وقلت لها :- " أأنتِ خائفة من خالد ..؟ "
هنا تجلى لي بوادر البكاء على محياها ...
وضعت يدي على يدها التي كنت تشد قبضتها على الغطاء ... وقلت لها:- " لا تخافي ... أنا هنا ... نحن جميعاً هنا .. سوف نحميكِ ... لن نسمح لمكروه بأن يصيبكِ ..."
رفعت ناظرها نحوي ... حدقت بي ... ومن ثم هوت برأسها على كتفي وقالت بنبرة لم تسلم من تشويه البكاء لها :- " إنه ليس سبب خوفي الوحيد ... فأنا لا أعرف شيئاً عن ماضيه ... لا شيء... لا أعلم من أنا ومن أهلي .... وأين أسكن .. لا شيء ... لا شيء ..." وسكتت ليعلو صوتها الباكي...
أحطتها بيدي وقربتها أكثر مني .. وقلت والألم يعتصروني من حالها :- " سوف تتذكرين ... لا تخافي ... سوف تتذكرين ... ونحن سوف نساعدكِ .. فقد الموضوع يحتاج بعض الوقت... "
من بين عبراتها قالت:- " كم من الوقت يحتاج ..؟يوم ... أسبوع ... سنة ... سنتين ... إل متى سوف أظل هكذا .. إلى متى ...؟ أنه أمر صعب ... صعب ..."
وزادت حدة بكائها ...
مما زاد من حزني عليها ...
كلمها قيديني .. لم أعلم كيف أواسيها ... فأخذت أنظر في أرجاء الغرفة حائرة ... كيف أمدها بالأمل ... فنبرة صوتها توحي بالاستسلام...وأنا لا أملك شيئا يمدها بأمل ... ويخفف عليها مصابها ...
استوقفني شيء في رحلة بحثي ... كان صدوقا صغيرا أحمر اللون ... موضوع على طاولة قابعة على أحد زوايا الغرفة ... لا أعلم كيف نسيت أمره ...
وجدت نفسي ابتسم وأنا أقول لها :- " مطر .. أنا لدي شيء ربما يساعدك على التذكر ..."
أبعدت رأسها عن كتفي ... ووجهت لي نظرة يصبغها التعجب ... وقالت:- " ما هو هذا الشيء..؟!! "
قمت من على السرير وتوجهت ناحية الصندوق...
| +* +* +* +* |
نظر إليه بنصف عين وقال:- " إذا تريد مكاناُ آمنت سكن به ..."
ليرد هو من فوره:- " نعم .. فكما تعلم الأوضاع الراهنة لا تطمئن ... كما أنني دائماً في الخارج بسبب ظروف عملي ... وابنتي تطر للبقاء لوحدها .. والصراح المكان الذي نحن نسكن فيه حالياُ ليس آمن... لهذا قلبيي ظل مشغولاُ عليها دائماً ..."
خط ابتسامة على شفاهه التي باتت سوداء اللون منشدة التدخين ... وقال:- " لا عليك يا أكرم ... بإذن الله سوف ألبي طلبك ... "
ابتسم هو الآخر وقال وصوته منتعش بالفرح:- " أحقاً .. شكراً لك يا جمال ... شكراً لا أعلم كيف أشكرك .."
مد يده ناحية قدح الشاي الموجود أمامه... وقال :- " لا داعي يا صاحبي لشكر ... فنحن أصدقاء... " وارتشف من قدح الشاي...
ومن ثم أكمل:- " أهناك شيء آخر تريده مني...
وقبل أن يرد أكرم.. دوى رنين هاتف جمال النقال... أنتشله من على المكتب ... وتعين الرقم الذي يضيء به ... ومن ثم وضع القدح جانباً .. وقال لأكرم:- " عن إذنك يجب أن أتلقى هذا الاتصال.."
لم يكن صعباً على أكرم بأن يلاحظ تغير تعابير وجهه جمال ... التي باتت أكثر جدية ...
فرد قائلاً :- " تفضل خذ راحتك ..."
ليقوم جمال من مقعده .. وتوجه نحو الشرفة ... وأغلق الباب ورائه ...
ما إن بات في الشرفة حتى استقبل الاتصال.. وقال :- " ماذا هناك ..؟ منذ قليل كنت معي ..."
ليرد بأعلى طبقة من صوته .. والصدمة تنحت وجهه :- " مـــــــــــــــــاذا .. أغمي عليها ... لماذا .. ما الذي جرى ؟!!! "
تحولت الصدمة إلى غضب عارم فجرها في صوته :- " أيها الأحمق .. لا فائدة منك ... يجب أنا أن أعمل كل شيء بنفسي ....."
ثم صمت لثانية وهو يذهب يمنةً ويساراً ... ومن ثم توقف وقال بصوت أقل حدة من قبل:- " حسناً .. أنا قادم ... دقائق وأكون هناك ..."
عاد إليه ووجهه يرسم تعابير مغايرة عما كان عليها قبل أن يستقبل الاتصال ... فاشتعلت في داخله شرارة الفضول...
حاول أن يخفي غضبه الممزوج بالارتباك وهو يقول على عجل:- " أكرم اسمح لي أنا يجب أن أذهب الآن فقد حصلت مشكلة في أحد الثكنات ويجب أن أذهب فوراُ وأحلها ... أعذرني يا صاحبي... "
فرد أكرم قائلاً :- " لا عليك يا جمال.. أذهب لعملك .. ولا تكترث بي ..."
أخذ يجمع حاجياته المتناثرة على مكتبه من مفاتيح ومسدس .. وقال وهو يضع قبعته التي تحمل شعار الجيش على رأسه :- " لا تقلق سوف أدبر لك مكاناًً آمنًا خلال يوم واحد ... أما الآن فمع السلامة ..."
ومد يده مصافحاً ... مد أكرم هو الآخر مستقبلاً ... وقال وابتسامة مصنعة على محياه:- " مع السلامة ... وشكراً مقدماُ ..."
هز رأسه .. ومن ثم خرج تاركاً الساحة خاوية لأكرم وأفكاره..:- " لا بد أن هناك شيئا مهما حصل .. لهذا بدا مرتبكاً بعد ذلك الاتصال ... يجب أن أتبعه وأستطلع الأمر.."
| +* +* +* +* |
مددت الصندوق ناحيتها ... كانت لا تزال جالسة ًعلى سريرها.. رفعت عينيها ناحيتي .. ونظرت من التعجب تعتليهما .. وقالت:- " ما هذا ..! "
ابتسمتُ .. ومن ثم قالتُ:- " أفتحي وعرفي بنفسك .."
أعادت عينيها ناحية ذلك الصدوق أحمر اللون ... مدت يدها نحوه... وفتحته ... لتجد قلبًا ذا لون ذهبي براق يتوسطه ... أعادت عينيها المفتوحتين على مصراعيهما نحوي... وقالت بنبرة لم تخلو من الاستغراب : - " ما هذا ..! .."
زادتُ من سعت ابتسامتي ... وجلست بجوار مطر ... وأدخلت يدي في الصدوق وأخرجتُ ذلك القلب ... ومددتُ يدي نحو مطر... وفتحتها .. لتكشف عن ذلك القلب البراق ... وقلت ...ساخرة:- " ما هذا ..؟ .. إنه قلب من الذهب .. ألا ترين ..."
كانت علامة الاستفهام لا تزال مرسومة على وجهها وهي تقول:- " أعلم بأنه قلب من الذهب ...لكن ما علاقته بي؟!! .."
فقلت لها وأنا لا أزال ممدد يدي نحوها وفي باطن يدي يوجد القلب..:- " في الحقيقة لا أعلم ما علاقته بك... لكن الذي أنا أعلمه بأنه كان محشوراً بين ملابسك .... هذا القلب هو جزء من ماضيكِ يا مطر ... لربما ساعدكِ على التذكر ..."
مددتُ يدي نحوها أكثر...
وهي حولت نظراتها التي ترسم التعجب مني إلى القلب الذهبي ... وأخذت تحدق به لثوانٍ ... ومن ثم رفعت يدها ... وأمسكت به ... وقربته من نظرها .. وهي لا تزال تنظر إليه بتمعن ... ومن ثم كسرت حاجز الصمت وقالت:- " إذا هذا هو مفتاحي لتذكر الماضي ... يا ترى ما حكايته ..؟ "
| +* +* +* +* |
ومن عاشق لآخر تتغير الأوضاع... والأفكار...
لم أزحزح بصري عن البوابة الرئيسية منذ عدة للجلوس بالقرب من والدي... لم أرد بأن أزيح بصري ولو لثانية واحدة.... فقد كنت أترقبها ... أنتظر خروجها .. لأهرع لها.. وأسألها لماذا قالت لي بأني أوذيها بتول ... كنت كمن جالس على جمر متقد ... لم أكن أقوى على الجلوس بسكينة ... كيف أجلس بهدوء وهدى قالت لي بأني آلمت بتول وآذيتها ... كيف أؤذي الشخص الوحيد الذي أنا مستعد بأن أضحي بنفسي من أجله ...
كان يجب بأن أكلمها.. أكلم هدى وبأية وسيلة... كان يجب أن أعرف سر اتهامها الشنيع لي ...
أحسست بشيء يغلف يدي .. نظرت ناحيته لأجد يداً تحيط بها ... تتبعت صاحب اليد لأجد أبي ونظرت من التعجب تعتلي عينيه ..
قال:- " ماذا بك يا أحمد ؟ .. أأنت بخير..."
بتأكيد لست بخير يا أبي ... أنا أموت مئة موتة في داخلي ... أتعذب يا أبي .. أتعذب ... ليت بقدوري بأن أخبرك بما في داخلي يا أبي .. ليتني .. ليتني ... لكني لا أستطيع .. لا أستطيع ... كان هذا نداء روحي التي تحترق في نار الندامة ... و الانتظار...
وضعت يدي الأخرى على يده الساكنة فوق يدي .. وقالت وابتسامة باهتة كبهوت وجهي تخط على شفتيه :- " نعم .. لا تقلق .. أنا بخير... بخير..."
| +* +* +* +* |
قرب أبي شفتيه إلى أذني وهمس بها قائلاً:- " اذهب وأحضر المزيد من الماء .. فقد بدأ ينفذ .."
في داخلي فرحتُ .. فهذه كانت الفرصة الثالث التي تلوح لي ... كنت أتمنى بأن أتمكن من رؤيتها هذه المرة ...
بخطى واسعة ذهبتُ إلى الباب الخلفي للمطبخ ... والذي كان يطل على الفناء الخلفي لبيتنا ... فتحت الباب ببطء... لكني توقفتُ عندما وقعت عيناي عليها ... وهي واقفة أمام المغسلة ... ابتسمت ُ فرحاً .. فقد رأيتها أخيراً ... أكملت فتح الباب .. لكن لم ألبث إلا وتوقفتُ .. عندما رأيتُ أختي ياسمين وهي تدخل المطبخ ...كان تحمل صحناً ممتلئاً بالفناجين ... وضعته على الطاولة التي تتوسط المطبخ ... ودنت من غدير التي كانت منهمكة في غسل الفناجين ...
وقالت لها:- " دعي عنكِ هذا ... أنا سوف أغسلهن .."
هزت غدير رأسها بلا .. وقالت بصوت مبحوح :- " كلا ... أنا سوف أقوم بهذا .. دعني أعمل شيئاً .. فأنتن لم تجعلني لا أنا ولا أمولا ريم نفعل شيئاً ... أرجوكِ دعيني أقوم بشيء ... فهذا .. فهذا سوف يشغلني عن التفكير... أرجوكِ ..."
صوتها الحزين أدما قلبي ... وطرد تلك الفرحة التي تملكتني برؤيتها ... وضعت ياسمين يدها على كتف غدير .. ومن ثم خرجت لتتركها تكمل ما كانت تعمله ...
تسمرت مكاني لدقائق ... ومن ثم حزمت أمري على الدخول... تححنت ُ ... التفتت ناحيتي ... فالتقت عيناي بعينيها .. لتتشابكان رغما عنهن ... كانت هي أول من أشاح بنظره ناحية الأرض ... وتبعتها أنا ... بعد معاناتٍ مع الكلماتِ .. نطقتُ قائلاً :- " السلام عليكم يا غدير... "
ردت بنفس نبرة الصوت الحزينة .. التي تبعث الألم في كل ركن من جسدي :-" وعليكم السلام .."
وعادت لتكمل غسل الفناجين ...
كنت لا أزال واقفاً عند الباب ...
انتظرتها لعلها تقول شيئاً ...
لكنها لم تقل شيئاً ... ظلت مع صمتها تعيش ...
لم أكتفي بهاتين الكلمتين اللتين قلتها لي .. كنتُ أريد أن أسمع المزيد منها ... لكي أطمئن عليها .. ويرتاح قلبي ...
فقررتُ بأن أسحب من فمها الكلمات :- " لقد نفذ الماء لدينا ... لهذا جئتُ لأحضر الماء ... أيمكنني الدخول..؟.."
هيأت ُ سمعي ليلتقط كلماتها ...
لكن خطتي لم تنجح .. فقد اكتفت بهز رأسها بنعم ... وهي مولية لي ظهرها .. ومستمرة في عملها ...
دخلتُ وأنا أشعر بخيبة الأمل ... أخذت أبحث عن علب الماء ... لأجد صندوق الماء موضوعًا في أعلى الثلاجة...
توجهت ناحيته ... رفعت يديه وجذبته ناحيتي ... لأجد شيئاً لم أره بوضوح قد سقط على رأسي ... فاختل توازني وسقطت أرضاً ... لم أكن أعي ما من حولي لبضع ثوانٍ... فتحت عيني اللتين أغمضتهما كردة فعل لما حصل... لتنعكس على مقلتي صورتها هي ... نعم كانت هي غدير .. كان القلق بادياً على قسمات وجهها ... بدا لي بأنها تقول شيئاً .. لم أستطع سماعها في البدء .. فزاد قلقها عندما لم تجد جواباً مني .. لكن رويداً رويداً عادت لي حاسة السمع ... وأنا لا أزال أحدق بها كالمهبول...
لقد كانت تصرخ قائلة ... وبوادر البكاء بدأت تتجلى على وجهها ...:- " أأنت بخير ... أجبني أرجوك ... علي ... علي ... أأنت بخير ... "
رفعت رأسي قليلاً .. فهجم عليه ألم مبرح فيه ... فوضعت يدي على موقع الألم ... فلمست كرة ضخمة على جبيني ...
عاد صوتها المذعور الذي بات يتخلله شي من البكاء يدخل مسمعي :- " علي ... ما بك .. ؟ أأنت بخير ...طمأن عليك ... أرجوك..."
التفتت ناحيتها... كانت على يميني .. جاثية على ركبتيها... لا يفصلنا سوى مسافة لا تتجاوز الشبر ...
أعدت رأسي إلى الأرض ولم أزحزح عينيه عنها ... كيف أبعدهما عنها وأنا أرى الخوف في عينيها عليه ... أنه تخاف عليه... هذا يعني بأنها تحبني ... كان هذه الفكرة الغبية تتراقص في ذهني ...
:- " يجب بأن أذهب لأحضر أحدًا لكي يساعدك..." قالت جملتها هذه ودمعة يتيمة انسلت من مقلتها ... خوفاً علي ... لم أصدق هذا .. كنت في صدمة ... صدمة فكرت بأنها تهتم بي وتخاف علي...
قامت من فورها .. لكن يدي لا شعورياً تحركت وطوقت يدها مانعة إياه من الوقف...
نظرت إليّ مذهولةً... أما أنا فقد كنت لا أزال كالأحمق أحدق بوجهها... ومن ثم حركت بصرها ناحية يدي التي تقيد يدها ... فتتبعتُ عينيها .. لأدرك عملتي ... فسحبت يدي من فورها ... وحررت يدها .. وقلت وأنا أشيح ببصري بعيداً عنها ...:- " أنا بخير ... لا تخافي .."
لم تقل شيئاً ... فخفت من أن تكون غاضبة من فعلتي... ابتلعت ُ ريقي ... واستجمعت قوتي ... ونظرت ناحيتها ... وقلتُ لها :- " لا أعلم كيف ..."
قاطعتني بقولها وهي تقوم من على الأرض:- " لا عليك ... سوف أذهب وأحضر ثلاجاً لعله يخفف من الانتفاخ .. "
أغمضت عيني بقوة ... وأنا أشعر بأني أحمق .. وغبي .. لقد أفسدت كل شيء بإمساكي ليدها ...
فتحت عيني على صوتها وهي تقول:- " تفضل هذا هو الثلج ... ضعه على جبينك ..."
رفعت رأسي ببطء هذه المرة ... وجلست ومن ثم تناولت الكيس المملوء بالثلج من يدها ... ووضعته على جبيني ... لم أشعر ببرودة أبداً ... فقد كنت أتأمل وجهها .. وأدقق به .. بحثاً عن جواب شافي يطفئ نار الخوف التي في صدري من أن تكون غاضبة مني ...
:- " لماذا تنظر إليه هكذا ؟!! "
باغتني سؤالها ... فارتبكتُ ولم أجد نفسي إلا وأنا أبعثر نظراتي بعيداً عنها...
:- " أأنت بخير يا علي ..؟!! "
فدفعتُ تلك الكلمة من حنجرتي دون تفكير ..: - " أنا آسفُ .."
وكنت ُ لا أزال مشيحاً بوجهي بعيداً عنها ..
فقالت ولم تخلُ نبرة صوتها من شيء من التعجب:- " لماذا تعتذر ...؟! "
نظرت إليها بطرف عيني باستحياء... وقلت لها بصوت أقرب منه إلى الهمس :- " لأني شخص أحمق ... أمسكتُ بيدكِ .. ونظرت إليكِ ... اعذريني أرجوكِ.. فأنا لا أعلم ما الذي جرى لي...."
أخذت تنظر للأرض ... وأنا أترقب ردها بتوجس وخوف...
أخيراً جاء الفرج ... ونطقت قائلةً :- " أولاً أنت لست شخصًا أحمقًا ... وثانياً لا داعي لتعتذر... لم يحصل شيء ... وثالثاً اضغط جيداً بالثلج على جبينك حتى يعطي مفعولاً ... "
كنتُ بداخلي أتراقص فرحاً وبهجة... فهي لم تغضب مني ... وأيضاً هي تخاف علي ... كنت أنا في تلك اللحظة أسعد رجل في العالم...
قطع عليّ بهجتي صوت هاتفي النقال وهو يرن ...
فقالت لي بعد أن رأتني لم أتحرك ساكناً...:- " هاتفك يرن ..."
فرددتُ عليها كالأحمق : - " ماذا ..؟! "
ردت عليه وهي تشير إلى هاتفي الذي كان قد انسل من جيب معطفي إلى الأرض ...
:- " إن هاتفك النقال يرن ..."
قلتُ وأنا أصحوا من عالمي الخاص الذي أعلن الأفراح ...:- " الهاتف .."
ونظرت ناحية جهة التي يشير إليه إصبعها ...أخذت الهاتف الذي بح صوته من على الأرض واستقبلت الاتصال...
لقد كان أبي المتصل ...يريدني أن أستعجل في جلب الماء....
جاوبته بأني قادم على الفور...
ما إن انتهيتُ من الاتصال ... نظرتُ ناحيتها بسرعة البرق ... لكن فوجئتُ بأنها لم تكن هناك ...
سمعتُ صوت الماء وهو يخرج من الصنبور يعود من جديد لمسمعي...
فنظرتُ ناحية المغسلةُ .. لأجدها هناك ...
لقد شعرتُ بخيبة الأمل ... فقد انتهت تلك اللحظة التي طالما انتظرتها.. انتهت قبل حتى أن أهنأ بها ...
نشرت أنظاري بحثاً صحناً من الحديد بجواري .... كما يبدو بأنه هذا الشيء الذي هجم عليه على حين غرة ... عندما لم أجد الماء جواري ... نظرت إلى أعلى .. فوجدته لا يزال هناك ... وضعتُ كيس الثلج الذي بدأ يذوب جانباً وقمت وأخذت صندوق الماء...
توقفتُ أما الباب المغلق ... زفرتُ زفرة قوية ... والتفت إلى وراءي ...وصوبت سهمي عيني ناحيتها ...وقلتُ ونقطة من الأمل تقف مع حشود من اليأس المصحوبة بخيبة الأمل في داخلي:- “ أنا ذاهبُ... "
كم تمنيت حينها بأن تنظر إلي .. فهناك فكرة غبية في عقلي تقول بأنها إذا نظرت إليه فهذا يعني بأنها تكترثُ لي...
لكن ذلك الأمل قد دهسته حشود اليأس و خيبة الأمل...فقد اكتفت بالإيماء برأسها دون النظر إليه وقولها ..:- " حسناً "
طأطأت رأسي... وكظمت حزني ... وسحبت بقاياي المحطمة... وفتحت الباب وأكملتُ طريق ... إلا أن صوتها أجبرني على التوقف...
:- " انتبه لجبهتك .. حتى لا تتورم أكثر..."
نظرت خلفي ... وطرتُ من الفرح وأنا أرها تنظر إليه... صرخت في داخلي مهللاً (( إنها تهتم بي ...تهتم بي ...))
تمسكتُ بتلك الفكرة الغبية بكل ما أتيتُ من قوة .. فهي التي تنعش الأمل في قلبي ...
| +* +* +* +* |
انتظرتُ طويلاً حتى لاحت لي أخيراً ... ها هي تتوجه نحو البوابة ... كان يجب أن ألحق بها .. واستوضح الأمر .. لم أعد أطيق ذلك الشعور الذي يقتلوني مئة مرة في ثانية الواحدة ...
قلتُ لأبي بأني سوف أحضر المزيد من القهوة من المطبخ... ونسلتُ بخطى واسعة نحو تلك البوابة ... كانت قد خرجت .. لكني لحقتُ... لكن رغم ذلك لم أستطع مناداتها ... فالناس منهم من كان يتوافد إلى العزاء ومنهم من كان خارجاً... لهذا وصلتُ المسير وراءها وأنا أتلفتُ من أن يلحظني أحد ... كأني كنت ارتكب جريمة ..
أسرعتُ بخطاي عندما لاحظتُ بأننا ابتعدنا عن منزل خالتي ...
أصبحت ُ أخيراً موازيان لها ...
انتبهت لوجودي ... فنظرت لي وعيناها ترسمان علامتين استفهام ...
سبقتها بالحديث .. وقلت :- " يجب أن نتحدث يا هدى .."
قوست حاجبيها للأعلى وهي تقول :- " نتحدث ... في ماذا ...؟!! لا أعتقد أن بيننا حديث ..."
بخطوة واحدة أصبحت أمامها مباشرة... فتوقفت عن المشي ... وبات وجهها يتلون بلون الدهشة ...
رغم ذلك قلت لها ..:- " بلا هناك حديث ... وحديث طويل أيضاً..."
قالت والعصبية باتت تكسو وجهها :- " أأنت مجنون ...؟ ابتعد عن طريقي الأفضل لك ... لا يوجد بيني ولا بينك أي حديث...فاغرب عن وجهي ..."
شعرت بالخزي من حركتي هذه .. فابتعدت ُ عن طريقها .. فشرعت بالمشي مباشرة .... لم أجد نفسي إلا وقد ارتديت عباءة الرجاء...وقلتُ لها متوسلاً:- " أرجوك يا هدى أسمعيني... أنا حقاً أتعذبُ منذ ماتت.. وكلماتك زادت من عذابي ... أنا لم أعد أحتمل .. لم أعد قادراً على هذا الحمل الذي يثقل على صدري ... أنتِ لا تعلميني بأني أموت مئة مرة في اليوم منذ رحلت ... فبتول فهي تعني لي الكثير... الكثير... كثيراً من المرات أتمنى بأن أكون أنا من مات ... وليست هي ... وليست هي ..." شعرت برجفة البكاء تحيط بنبرة صوتي .. فتوقفتُ وأنا أحاول أن أتمالك نفسي ...
أما هي فلم تكترثُ برجائي ..وأكملت خطاها الثابتة ... في لحظتها شعرت بأن روحي تكاد تختنق...فلم تعد تحتمل العيش بهذا الجسد المحمل بالهموم ... أتكأتُ على عامود الإنارة فهو أقرب شيء مني ...وكدتُ أهشمه بقبضة يدي ...
| +* +* +* +* |
يحتار المرء... ويخفق قلبه باضطراب كلما أراد قول الحقيقة...
لقد توقفتُ عن السير .. فقد وصلتُ للمكان الذي قال لي أبي بأنه سوف يلقاني فيه ليقلني... أمسكتُ بمقبض الباب ... وكانت في نيتي فتحه ... لكن يدي لم تطبق الأمر الصادر من دماغي... ظللت متيبسة بلا حراك ... استغربتُ من هذا ... فدخلتُ معمعة التساؤلات عن السبب .. لكن ما من جواب..
انتشلني أبي بسؤاله من هذه المعمعة:- " ماذا بكِيا هدى لا تدخلين ..؟! .."
نظرت إليه بعيني المفتوحتين على مصراعيهما ... لأجده قد فتح شباك السيارة.. ونظرتُ بنظرة تعتليها الاستغراب على عينيه...
يبدو بأن العدوة انتقلت من يدي للساني ... فأصبح هو الآخر عاجزاً عن الحركة ...
فعاد أبي ليسأل بعد أن طال صبره علي جواب مني ..:- " هدى أأنتِ بخير ..؟!! .."
لم أجد وسيلة لتواصل مع أبي ... سوى أن أهز رأسي بنعم لأبعد نظرة الخوف التي تجلت على عينيه...
فقال وقد عادت الطمأنينة تسكن وجهه :- " جيد إذا ...هيــــــــا ..."
ومن ثم توقف عن الحديث .. وأخذ ينظر إلى ما خلفيو الاستغراب يرسم علاماته على محياه ..
ومن ثم عاد ليقول:- " أذلك أحمد ...ابن مصطفى ... أهو بخير..؟ .."
لا إراديًا .. وبدون تفكير مسبق... نظرت إلى خلفي .. لأجد أحمد وهو مسندُ جبهته على عامود الإنارة بلا حراك... فوجدت يدي أخيراً تتحركُ ... وبدون أن أدرك بدأتُ أتحرك...ليستوقفني أبي بندائه:- " إلى أين أنتِ ذاهبة يا هدى ..؟! .."
وعيتُ لنفسي وأنا قد ابتعدتُ عن السيارة متوجهة ناحية أحمد.. فتوقفتُ بمجرد أن سمعتُ نداء أبي ...
دبت الحياة في جسد أحمد .. وأخذ ينظر ناحيتي... رأيتُ لمعة ًفي عينيه... لمعة ٌ بعثت في داخلي الكآبة و الحزن .... تحرك ... وأخذي مشي إليه... بات أمامي مباشرة ... توقف ... وعلقت عيناه بعيني .... وقال:- " أنا مستحيل أن أفعل بها هذا الفعل, مستحيل أن أؤذيها صدقيني...صدقيني )) شعرت برعشة في نبرة صوته ... رعشة ليست بغريبة عليه ... فهذه الرعشة دائماً ما تسبق البكاء..
و بالفعل.. لمحتُ على طرف عينيه دمعتين معلقتان.. لا تعلمان أين تذهبان...
أبعدت عيني عنه لوهلة .. فلم أعد أقدر على رؤية عينيه أكثر من ذلك ... فهما تشعراني بحزن يخنق روحي...
شعرتُ بأن حصون الكراهية و الحقد بدأت تنهار في داخلي... لا أعلم لماذا حصل ذلك ..
:- " هدى .."
كان هذا صوته الحزين يخترق طبلتي أذني ...
لم أقوَ على النظر إليه ...
لكن كان لابد من أن أسأله ذلك السؤال الذي يدور بلا كلل ولا ملل في داخلي.. و الذي بات يخنقني...
:- " أحقاً أنك لم تؤذها عن قصد ..؟! "
ليأتيني الرد سريعاً منه ...:- " أفضل أن أموت قبل أن أؤذيها..."
لأرد عليه قائلة:- " أحلف بذلك .."
:- " والله أنني لم أقصد إيذاءها ... فأنتِ لا تعلمين كم هي قيمة بتول بنسبة لي..."
| +* +* +* +* |
ننتظر الأخبار يوماً بعد يوم... وأحياناً نترقبها في كل ثانية تمر...
كنت ُ قد وصلتُ إلى كشك الهاتف الذي يبعد عن المكان الذي أقطن فيه تقريبًا مسافة 20 كيلو متراً ... فهناك لا يوجد هاتف... تحسبان من أن يكون مراقبًا .. لهذا وكما قال لي عبد الرحمن من الأنسب بأن يستخدموا هاتفاً بعيداً عن مكان إقامتهم حتى لا يعرف العدو مكانهم...
كانت هذه المرة الثالثة التي آتي بها إلى هذا الكشك خلال ثلاثة أيام ...كنتُ أريد بأن أطمئن على أهلي .. فقد اشتقتُ لهم كثيراً... وكذلك لكي أطمئنهم على حالي ...
لم يسعفني الحض في المرتين الماضيتين .. لكنه طول الوقت كانتُ أجده مغلقاً.. ظننتُ بأنه ربما بسبب الحرب ..لهذا الخطوط مقطوعة...
تمنيتُ في هذا اليوم بأن أجد أحداً يجبُ عليه ... فالخوف بدأ يتفشى بداخلي...
أمسكتُ بسماعة .. وضعتُ البطاقة في الهاتف ...وأخذتُ أضغط على الأزرار... لكن كانت النتيجة نفس اليومين السابقين ... هنا لم أستطع أكثر على كبت خوفي بمبررات لأني لم أجد إجابة منطقية لما يحصل .... اتصلتُ مرة واثنين وثلاث.. نفس الشيء .. كان مقطوعاً ...
أخذتُ أتصور الأسوأ في خلدي .. أمعقول أن تكون الخطوط مقطوعة لمدة ثلاثة أيام...؟ بالتأكيد كان الجواب لهذا السؤال هو لا .. إنه غير معقول....توقفتُ عن محاولة الاتصال بهم ... وأخذتُ أفكر بطريقة تجعلني أطمأن على أهلي وأنا أخذ نفساً عميقاً ..
وأنا أقف هناك... مرت بجانبي سيدتان تمشيان بخطى واسعة... وصل لسمعي أجزاء الحديث الدائر بينهما... :"لم أشاهد التلفاز منذ فترة طويلة!.."
_:"آآآه يا الله!... لقد كانوا يعلنون الخبر منذ يومين عن هذا الحريق!.. منزل بأكمله في الأطراف الجنوبية..."
تعمقت في حديثهما فسمعت صوت السيدة الأولى تقول بفزع...:"وهل كان به أحد ما؟!.."
_:"لاحول ولا قوة إلا بالله... لقد كانت سيدة أرملة مع أبناءها... أتعلمين!.. لقد تفحموا تماماً..."
_:"لابد أنها الحرب هي السبب!... لكن لماذا هذا المنزل بالذات من بين جميع البيوت؟!."
تملكني الخوف والفزع... الأطراف الجنوبية!.. تلك هي منطقتي في الجنوب... لكن كيف؟ّ!.. ولماذا؟!.
فجأة لمعت في رأسي فكرة ... وطبقتها فوراً بدون تأخير...
بسرعة تضاهي سرعة الضوء أخذتُ أضغط على أزرار الهاتف... ليأتني صوت الرنين ...
وبعد خمس رنات تماماً جاءني صوت إنسي ... كان صوت غليظ :- " ألو... مرحباً "
ميزته من فوري .. فرددت عليه :- " ألو .. السلام عليكم عمي قاسم ... كيف حالك ..؟ " كنتُ أتكلم بسرعة .. لشوقي لمعرفة خبر عن أهلي ...
ليأتني رده من الخط الآخر .. بصوت كان واضحاً عليه نبرة من الاستغراب: - " وعليكم السلام... من معي...؟!! "
:- " أنا خالد جاركم... ألم تعرفني ..؟ ..."
:- " خالد .. أهذا أنت ...!! أين أنت يا خالد ...؟! .. أين اختفيت ... "
كان صوته لا يطمئن ... زاد الحطب على نار الخوف التي تتأجج في صدري...
قلتُ بصوت متقطع ..:- " خيراً يا عم ... ماذا هناك..؟ "
وليتني لم أسأل هذا السؤال ...
| +* +* +* +* |
بعد المغيب...
كنتُ منهمكا في التدريب على إطلاق الرصاص على مجموعة من القوارير الخاوية التي صففتها بعيداً عني بمسافة لا بأس بها, لكي أحافظ على مهارتي, وجاهزيتي.
كنت في صدد إطلاق أحدى الطلقات بعد تركيز طويل على هدفي وهو القارورة الخاوية, حين تناها إلى مسمعي صوت محمود وهو يقول:- " أتتدرب من وراءنا ...؟ "
كنتُ لا أزال أشعر بشيء من الضيق نحوه بعد ما قاله تلك الليلة... فرددتُ عليه بجفاف..:- " نعم ..." وعدت لوضعية الاستعداد للإطلاق... ليعود صوته يدوي في طبلتي أذني... :- " أنا آسف لما قلته لك تلك الليلة .. لقد كنتُ متضايقاً مما حصل لنا..."
توقفتُ من جديد عما كنتُ أفعله... أخذتُ نفساً عميقاً ينعش رئتي المخنوقتين...وقلتُ له:- " محمود... لم يكن الغضب سبب قولك ليذلك الشيء.. بل لأنك منذ زمن تخفيه في صدرك... فجأة تلك اللحظة... التي جعلته يخرج للعلن .."
انتظرتُ جوابه ... فطال انتظاري... لينهي هذا الانتظار عمار وهو يقول:- " نحن أخطأنا ونحن نادمون... لا تعلم كيف مرت علينا الثلاثة الأيام الماضية ... ونحن نعلم بأنك غاضبُ منا ...أرجوك اصفح عنا ..."
أخرجتُ ما في صدري من هواء وقالت وأنا ألتفت نحوهم ...:- " أنتم تعلمون بأنه من المستحيل بأن أغضب منكم ... لكن عدم ثقتكم بما فعلتُ آلمني ..."
بحركة واحدة بات محمود أمامي مباشرة.. وقال:- " لو كنا مكانك لفعلنا مثلك ...."
نظرتُ إليه .. ونقلتُ بصري نحو عمار الذي كان وراء محمود ... ومن ثم قلتُ وشيء من السكينة بدأت تنشر شذاها في داخلي:- " لا عليكم ... لم يحصل شيء .... "
لأجد وجههما يتهللان بالفرح ...
:- " وأخيراً انتهى هذا الجو المشحون ..."
نظرنا جميعاً جهة صاحب الصوت ... لنجد عمر قدماً وهو يعرج نحونا ...
ولما أصبح بالقرب مني قال:- " أعطني هذا السلاح ... ويكفي تضيعاً للوقت.."
ومد يده نحوي... أعطيته المسدس .. والابتسامة على شفاهي ساكنة...
ثم نظر نحو كلن من عمار و محمود وقال:- " هيا أيها الكسل.. أحضروا أسلحتكم ... وبدؤوا التدريب ... "
فقال محمود:- " يبدو بأنك متشوق لهزيمة أخرى ياعمر؟..."
فرد عليه متحداً :- " اذهب وأحضر سلاحك .. وسوف نرى من سوف يهزم هزيمة نكراء..."
فذهب كل من عمار ومحمود لإحضار أسلحتهم ... وبقيت أنا وعمر... فقلتُ له:- " يبدو بأنك أصبحت أنت القائد ؟ .."
:- " بطبع ... فهذان الكسلان يريدان قائداً شديداً .... ليس مثلك .. قائد يدللهما ... "
فابتسمتُ ضاحكاً ... وأنا أضربه على كتفه ضربة خفيفة بقبضة يدي وأنا أقول:- " دائماً أنت هكذا.. ترسم الابتسامة في شفاهنا .. حتى في أحلك اللحظات ..."
ليرد عليه والابتسامة تزين وجهه :- " إذا قضينا الحياة بالهم و الغم لما عشنا ..."
حركة رأسي مؤيداً لكلامه...
قاطع حديثنا صوت عمار المذعور..وهو يقول:- " خالد ماذا بك؟!!! "
حركنا كلنا... أنا وعمر رأسينا ناحية عمار... لنجد محمود بالقرب منه يقف .. ومصوبان أعينهما المفتوحتان على مصراعيهما للبوابة الرئيسية... تتبعنا اتجاه عينيهما .. لنجد خالد في حال تسقط القلوب إلى الأقدام من الخوف... هرعتُ أنا ناحية خالد... الذي كانت الصدمة تحتل كل ركن من وجهه ... ودمعة يتيمة معلقة برمش عينه لا تعلم أين تحط رحالها...وقفتُ أمامه.. صوبة سهام عيني نحو وجهه وقلتُ والخوف يشد خناقه على قلبي:- " ماذا بك يا خالد ...؟!! "
لم تطرف عينه منذ وصل... وظل ينظر إلى اللاشيء... وهو يقول بصوت مملوء بذهول:- " لقد ماتوا ... ماتوا ... التهمتهم النيران ... ماتوا ... ماتوا..."
توقف عن الحديث وأنا قد وصلت قمة جبل الخوف ....فدفعت بذلك السؤال الذي في صدري لكي يزور أذني خالد... لكن قبل أن يصل إليهما... دوى صوت قوي ... صوت ليس بالغريب عليه....وقبل أن أدرك هوية هذا الصوت.. أنهار عليه خالد..لألتقطه ... وأنهار أنا الآخر ...على الأرض فتوازني قدر اختل... كنت مستلقيا على الأرض.. وخالد من فوقي... وأنفاسه كانت مطربة ... أبعدته عني وجعلته يستلقي على الأرض ... لأصدم بما رأيت في ...
لقد كان مصاباً .. لقد عرفت ما هوية ذلك الصوت ..أنها رصاصة ... تلتها أخريات من كل جهة وصوب تنهال علينا بدون توقف ....
| +* +* +* +* |
نقرر... لندخل كما يعتقد البعض عالم النسيان...
التاسعة والنصف... من ذلك المساء...
قامت أمي بسرعة البرق من على الكرسي ..وقالت والدهشة ترسم خطوطها العريضة على وجهها:- " مــــــــــــــــــــــاذا قلت... أفقدت عقلك ...؟ "
لأرد عليها , وعيناي تنظران إلى عينيها... لعلها تقرأ ما في داخلي:- " كلا يا أمي ... أنا الآن وجدتُ عقلي ... خدمة الوطن .. وإخراج هؤلاء القتلة هو هدفي ... ولن أتنازل عنه ..."
اقتربت مني ...ووضعت يدها الحانة على خدي وقالت:- " بني أنت لا تصلح لهذا العمل ..."
لأنفجر عليها .. وأقول بطبقة صوت عاليه:- " لماذا ...؟ أتنقصني يد .. أو رجل ... أو عين ... ما الذي يجعلني لا أصلح بأن أكون جندياً يخدم وطنه ...؟ "
أبعدت يدها عن خدي بحركة سريعة ... وقطبت حاجبيها وقالت وهي تعصر عينيها لتجعل حشود الدمع تخرج من مقلتيها ... وصرخت قائلة: - " لأنك أبني يا أحمد .. أبني الوحيد ... وأنا لستُ مستعدة لخسارتك كما خسرتُ بتول ... ( عادت لتفتح عينيها, وأكملت بصوت أقل حدة ) هذا سوف يكون فوق طاقتي..... فوق طاقتي... أرجوك أفهم يا أحمد .... وأبعد هذه الفكرة من رأسك ..."
آلمني ما سمعته ورأيته من أمي ... فأحطتها بذراعيّ .. وضممتها إلى صدري .. وقلت لها:- " أمي جميعنا سوف.. نموت... هذه سنة الحياة ...فلماذا لا أموت في خدمة وطني والدفاع عنه .. بدل أن أموت في فراشي... ؟أمي أنا فكرة في هذا القرار طوال ثلاثة الأيام الماضية ... وتأكدتُ في قرارة نفسي بأن القرار الأنسب ... فأرجوك دعيني أحقق هدفي .. أرجوك ..."
تعالى صوت بكائها .. مما زاد من ألمي ....
نظرتُ ناحية أبي الذي لم يتحرك ولم يقل شيئاً منذ أطلعتهما على قراري... بادلني أبي النظرات ... و السكون على قسمات وجهه ...
أنزل عينيه ... وقام من على مقعده ... أخذ يقترب منا ... توقف .. ووضع يده على كتف أمي التي تزال في حضني وقال:- " يا أم أحمد, يجب أن تفخري بابنك لا أن تحزني وتمنعيه عن خدمة الوطن... " ثم رفع عينيه نحوي.. لأجد الفخر فيهما ...وأكمل قائلاً :- " أنا فخور بك يا أحمد .. "
كانت كلماته هذه هي التي أذاقتني طعم الفرحة التي افتقدتها...
| +* +* +* +* |
كنا نعيش في حالة من الرعب... ونحن نسمع طلقات النار تدوي في الخارج... تجمعنا في غرفة مطر ... وحضنا بعضنا البعض .. لعلنا نهدأ من روعنا... كنا نرتجف كورقة خريفية مرة عليها ريح عاص... وأنفاسنا مضطربة ...
فجأة سمعنا صوت خطوات متثاقلة تقترب منا ...فزاد خوفنا ... وبدأنا نحضن بعضنا أكثر من قبل ... والدمع ينسكب من عينينا المتسمرتين على الباب ... صاحت مريم بأعلى صوتها:- " أنهم هم .. أنهم هم... سوف نموت.. سوف نموت ..."
فصرخت علياء مذعورة:- " لاااااااااااا ..."
ومادت أظافر يد مطر الممسكة بذراعي تخترق جلدي.. وهي تشد قبضتها علي يدي... قناع الرعب على وجهها ....
شعرت لحظتها بأني أنا المسئولة عنهن... وأنه يجب عليه بأن أفعل شيئاً.. حتى إن كان الثمن حياتي.... قررتٌ على أن أدافع عهن بأي وسيلة.. وأنا أسمع أسمع تلك الخطوات تدنو من الغرفة... قمت من على الأرض ... فتشبثن بي أكثر ..وهن ينظرن إلي بأعينهن المفتوحة أوسع ما يكون ....
فسألت مريم بصوتها الذي شابه الذعر:- " إلي أين سوف تذهبين ...؟!! "
نظرت إلى وجوههن الواحدة تل الأخر... فزاد إصراري على حمايتهن .. فأنا أكبرهن ... وعلى عاتقي بأن أحميهن من أي مكروه ...
وقلت وابتسامة مصطنعة ترتسم على شفتي اللتين تاهتزان:- " لا تخفن ... لن أسمح بأن يصبكن مكروه... "
وأبعدتُ أيديهن التي تمسكن بي الواحدة تلو الأخرى...
إلا يد واحدة لم أستطع أن أبعدها عني ... بل ظلت تلك اليد متمسكة بي كالقيد ...
انحنيت ناحيتها والابتسامة لم تغب عن شفتي... وقلت لها مطمئنة :- " حبيبتي مطر ... لا تخافي بإذن الله لن يصبني مكروه ... فدعيني أذهب..." وأخذت أنظر إلى عينيها الباكيتين...
وعدة لأمسك بيدها ..لأنجح هذه المرة في إبعادها...
اعتدلت وأخذت أبحث عن شيء يصلح لكي يكون سلاحاً... فوقعت عيناي على المرآة المعلقة على الحائط ... فأمسكتُ بأقرب كرسي لي ... ورميته ناحية المرآة .. لتناثر حطامها على الأرضية ... تناولتُ قطعة كبيرة نوعا ما... شعرت بالألم وهي تنغرس في لحم يدي ... و الدم يتدفق للخارج منها .. لكن لم أكترث ... فهذه الأمور صغيرة أمام ما سوف يحصل إذا تراجعتُ واستسلمت للألم ...
ابتلعتُ ألمي وأقترب ُ من الباب بخطى صغيرة.. وقبل أن أصل له ... بدأ مقبض الباب بدوران ... لقد وصل للغرفة ...
لكنه لم يحالفه الحظ فالباب كان موصداً ... حاول مرة واثنين وثلاث .. فلم يفلح ... فعم الهدوء أرجاء المكان ... لكننا لم نهنأ به .. فقد تعالى صوت الباب وهو ينهال إليه بجسده... لقد كان يحاول كسر الباب... فتعالت صرخات الذعر من الفتيات .. مما زاد من خوفي ... بدأت يداي يرتعشان ... وأنا مسمرة بصري ناحية الباب الذي بدأ ينهار .. ويستسلم ... تراجعتُ للخلف ببعض خطوات ... ولم أبعد عيني عن الباب...
أخيراً استسلم للباب.. و إنهار أرضاً أمام ناظري.. فشعرت بقلبي يكاد يتوقف... ولم أعد أدرك ما يحصل من حولي ... حتى أن جسدي تجمد مكانه .. ولم يتحرك ... رغم أني أرى ذلك المجرم يشهر مسدسه نحوي... فالخوف قطع عصب الحركة من جسدي.. فبتُ غير قادرة على الحركة...
لقد انتهى كل شيء .. كل شيء....
صوت طلقتين ناريتين... اخترق الأمواج الصوتية ...
وصرخت الفتيات دفعت وحدة :- " لااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا ااااااااااااااااا حنين ..."
وأنا استسلمتُ لمصيري المحتوم ...
لكن حصل ما لم يكن في الحسبان ... تلك الطلقة لمتكن مصوبة لي ... بل اخترقت صدر العدو ... فهوى على الأرض .... وأنا أنظر إليه وغير مصدقة لما حصل ...
ظللتُ أنظر إليه ولم أبعد عيني عنه ... الصدمة قد عششت بداخلي ....
شعرت بيدٍ تحيط بذراعي ... ولم ألبث إلا وسمعتُ صراخ أحدٍ ينادي باسمي.. ويهز يدي بقوة:- " حنين أأنتِ بخير؟!! ... حنين .. حنين ... ردي علي ... حنين ..."
رفعت رأسي إلى مصدر الصوت .. لأجد خالداً .. والخوف يعتصر وجهه ....
هنا نطقتُ بصوت مشتت .. :- " خالد ..... "
:- " نعم هذا أنا ... أأنتِ بخير طمئنني ..؟! .."
لم أكن قادرة على الرد عليه فأنا لا أزال في أوج الصدمة... فاكتفيت بهز رأسي بنعم ...
ومن ثم التفت بسرعة نحو الفتيات ... وقال:- " وأنتن... أأنتن بخير...؟!..."
| +* +* +* +* |
ردت كل من مريم وعلياء بنعم .. لكنها لم تجبني ... كانت تحضن قدميها و واضعة رأسها على قبة قدميها...
فشعرت بخوف شديد بداخلي وأنا أراها هكذا.. فنظرتُ إلى كل ٍ من مريم وعلياء .. وسألتهما:- " أهي بخير..؟!! "
فردت علياء :- " نعم هي بخير .. لا تخف يا خالد .."
زفرتُ زفرت ارتياح.. ومن ثم قلتُ :- " هيا بنا ... يجب أن نخرج حالاً.."
:- " أين البقية...؟! "
كانت هذه حنين... والتي كما يبدو بأن الصدمة قد رحلت عنها... التفتت نحوها .. وقلتُ:- " بإذن الله سوف يلحقون بنا ... الآن يجب بأن نرحل هيا .. لا وقت عندنا ..."
:- " أأنت مصاب ؟!! "
قالت مريم ...
نظرت إليها ..لأجد عينيها ملقية الضوء على كتفي الدامية... فقلتُ لها :- " إنه خدش بسيط ... هيا بنا يا بنات .. لا وقت لدينا ... لقد طلب مني عبد الرحمن بأن آخذكن إلى الجبل... حيث يقع هناك كهف حيث اعتدتم الاختباء فيه ... هيا لنتحرك ... لا وقت لدينا ..."
تحركت كلٍ من مريم وعلياء ... لكن مطر لم تتحرك ظلت ساكنة مكانها... كنتُ متيقناً بأنها لن تتحرك مادمت أنا هنا .. فهي تراني ذلك الوحش الشرير... التفتت إلى حنين التي كانت واقفة على عتبة الباب وقلت لها
راجيا ً:- " أرجوكِ يا حنين... دعيها تتحرك ...سوف نتقدمكن أنا و الفتاتان ... هي لن ترضى أن تذهب وأنا موجود... أرجوك ..."
أخذت تحدق بي حنين لبرهة... كأنها كانت مستغربة ... ومن ثم قالت:- " حسناً ... "
ابتسمت وقلت لها:- " سوف ننتظركما في البوابة الخلفية .. لا تتأخرا ..."
هزت رأسها بإيجاب ... القيتُ نظرة على مطر .. ومن ثم خرجتُ وتركتُ قلبي معهما...
| +* +* +* +* |
أبعدتُ أمي عن صدري .... و قلتُ لها:- " صدقيني يا أمي بأني سوف أعيش طوال عمري حزينُ لأني لم ألتحق بالجيش... أتريدينني بأن أعيش هذه العيشة ؟"
هزت رأسها بلا ..ومن ثم قالت .. والدمع لا يزال ينسكب من عينيها:- " كلا لا أرضاها لك يا أحمد ... لا أرضاها ..."
:-" إذا ً سوف تدعيني أذهب...؟ "
هزت رأسها بنعم وهي تعتصر عينيها مغمضة إياها ... لترغم حشد جديد من الدمع للنزول...
اطلقتُ العنان لشفتي لكي يذوقان طعم الابتسام من جديد... ومن ثم قبلتُ رأسها وقلتُ:- " شكراً لكِ يا أمي..."
ونظرت ناحية أبي الذي كانت الابتسامة ترتسم واسعة على شفاهه..
لم تدم لحظة الفرح تلك طويلاً... حيث سمعنا صراخ زوج خالتي وهو يقول:- " لااااااااااااا مستحيل .. مستحيل..."
كان صوته قادم من غرفة الجلوس التي تفصلها عن غرفة المعيشة التي نحن فيها جدار واحد... أخذتُ أنظر إلى أبي وأمي والاستغراب عنوان لي ...
هرعنا جميعاً نحو غرفة المعيشة... لنجد زوج خالتي ممسكُ بهاتفه النقال .. وحدقة عينيه مفتوحتين على أوسعهما ...
فسأله أبي :- " ماذا هناك يا أبا علي...؟!! "
نظر ناحية أبي ... وأخذ وجهه يخط الحزن على تجاعيد وجهه وهو يقول بغصة لم تسلم منها نبرة صوته:- " لقد انتهى كل شيء ... كل شيء ... لقد .. لقد ... لقد استولى العدو على البلاد ... لقد .. لقد خسرنا وطننا يا أبا أحمد .. خسرناه ...."
كان وقع الخبر كالصاعقة عليه ...
| +* +* +* +* |
طال انتظارنا أمام الباب الخلفي .. لم تحضر لا حنين ولا مطر ... بدأتُ أشعر بالخوف عليهما ... وندم لأني تركتهما لوحدهما ...
نظرتُ ناحية علياء ومريم الميتتين من الخوف فصوت الطلقات النارية يعم المكان بلا توقف ... كانتا متشابكتين اليدين ببعض .. وقلتُ لهما:- " يجب بأن أذهب وأطمئن على حنين ومطر..."
فقالت مريم بصوت يعكس الخوف المتربع في داخلها:- " ونحن ... أسوف تتركنا هنا ..؟ .."
لتصرخ علياء قائلة:- " كلااااااااا, لا تتركنا لوحدنا أجوك...."
شعرت بالحيرة ... لم أعلم ماذا أفعل .... نظرتُ ناحية باب العمارة الخلفي ... الذي لا يزال ساكناً... وعدتُ أنظر إلى مريم وعلياء المرعوبتين... وقبل أن أقول لهما عن قراري... سمعت صوت حنين المستنجد:- " النجدة... ساعدونا ... "
نظرت إليها .. لأجدها أمام باب العمارة الخلفي والهلع على محياها.... هرولت نحوها بدون تفكير.. وقفت أمامها .. وسألتها من فوري والخوف يتأجج في قلبي :- " ماذا جرى يا حنين .. وأين مطر..؟!! "
قالت .. وهي تلتقط أنفاسها الهاربة بصعوبة..:- " لقد سقطت من الدرج ...."
لم أدعها تكمل جملتها .. ركضتُ من فوري إلى الداخل .. فالخوف الذي في داخلي تحول إلى رعب ...
ما إن دخلت حتى رأيتُ مطر أسفل الدرج جالسة.. وممسكة بقدمها.. وتتأوه من الألم ... اقتربتُ منها بسرعة تفوق سرعة الضوء ... جاثية على ركبتيها بالقرب منها .. وسألتها ..:- " أأنتِ بخير ..."
صرخت بأعلى طبقة من صوتها:- " ابتعد عني ..."
آلمني ردها ....
قالت حنين:- " إنها بخير.. لكن كما يبدو بأن قدمها قد التوت .. هي لم تعد قادرة على المشي..."
قررتُ بأن أتناسى هذا الألم الذي يخنقني ...
وقلتُ:- " حسناً ... سوف أحملكِ أنا... "
وضعت أحد يدي على ظهرها .. لتنتفض وتبعد يدي بحركة سريعة من يدي عنها وتصرخ بكل ما أوتيت من قوة ..:- " قلتُ لك بأن تبتعد عني ..."
هالتني تلك العينان الكارهتان الموجهتان إلي...
تخلل طبلة أذني صوت خطى متسارعة قادمة من أعلى الدرج ...
قالت حنين:- " بالتأكيد هؤلاء أولئك القتلة... أرجوكِ يا مطر دعي خالد يحملكِ وإلا سوف يقتلونا جميعاً..."
لتعود لصراخ:- " كلا كلا كلا .. لن أسمح له بلمسي ... أنه مجرم... مجرم..."
كان وقع كلامه كالسكاكين الآتي تنغرس في قلبي ...
رغم كلامها الموجع .. إلا أنني لم أطق فكرة بأن أراها تموت أمامي على يد أولئك القتلة ... فانتفضت ورميت بوجعي عرض الحائط ... وحملتها رغم مقاومتها الشديدة لي ... كانت تتحرك وتضربني على صدري .. لكن لم أكترث ..وتصرخ بأعلى طبقة من صوتها:- " أتركني ..أتركني ...."
لم أكترث لا لضرباتها ولا لكلامها .. فحياتها أهم عندي ..
خرجنا من باب العمارة الأمامي ... وهي لا تزال تضربني بقبضة يديها الصغيرتين وتصرخ علي بأن أتركها... لم تتركُ جزءًا من صدري إلا وقد انهالت عليه بضرب ... حتى جرحي لم يسلم من ضرباتها ...حين وصلت قبضة يدها على الجرح .. صرختُ متألماً ...
| +* +* +* +* |
بدأت ذاكرتي تنشط...
دوت صرختي ألمًا من فمي... لقد ضربته على كتفه المصاب ... لم ألحظ هذا إلا بعد أن سمعتُ صرخته.... توقف أخيراُ عن الركض ... وقد كان مغمضاً عينيه بكل قوته ...كأنه كان يصارع مع الألم .. ويحاول أن يمتصه... كنتُ خائفة حقاً من أن ينفجر علي غاضباً... ومن شدة خوفي لم أقوى على الحراك ... فتح عينيه ... فدبت رعشة في أوصالي ... فقد حان وقتُ القصاص ...
قطب حاجبيه ... وزمجر بي قائلاً:- " لن أسمح لعنادك بأن يقتلكِ ..."
وأجبر عيني على أن يقعا في شباك عينيه لبرهة ....
لقد ذهلتُ .. بل أكثر من ذلك بل ... لا أعلم كيف أشعر ذلك الشعور... إنه شعور غريبُ عليه .... شعور طغى على شعور الخوف و الكراهية الذين تملكاني اتجاهه...
حرر عيني من شباك عينيه ونظر ناحية حنين التي تنادينا :- " ماذا بكما ...؟ هيا بنا ..."
فأكمل طريقه وهو حامل لي ... وأنا ساكنة بلا حراك أنظر إليه .. لا أعلم ما الذي حصل لي...
وصلنا إلى الكهف أخيراً بعد مشي طويل...
ما إن وصلنا إلى الكهف الذي كان مظلماً وموحشاً حتى وضعني على الأرض المغبرة.... ومن ثم هوى بجسده المتهالك على الأرض بلا حراك ....
| +* +* +* +* |
|+*| التدقيق النحوي || معلم لغة عربية |*+|
|+*| قلم || شمعة |*+|
|+*| مداخل و تنسيق || شجرة الكرز |*+|