7-لماذا تركتني ؟
أخذ المطر يصفق بقوة على نوافذ المقهى وأبوابه , أحست ايف بالطقس يعكس عليها تجهمه وكآبته فتنهدت ودفعت صحنها بعيدا عنها .. فهي لم ترغب في الشطيرة أصلا , كما أنها ليست جائعة أبدا .
لم يكن يفيدها الجلوس هنا بمفردها .. إنه العاشر من أيار , عيد ميلادها السابع والعشرين . لكن مزاجها كان كئيبا يائسا , كما كان بالضبط قبل سنتين . مع ذلك , افترضت أن عليها على الأقل أن تكون مسرورة لأنها تعرف موعد عيد ميلادها .. فمنذ سنتين , لم تكن تعرف هذا التفصيل الصغير حتى .منتديات ليلاس
"حيث الجهل نعمة, فالحماقة حكمة " من لا مكان أندس هذا القول في رأسها , فقطبت جبينها , وهي
تهز برأسها لتدفع عنها الفكرة المثيرة للاضطراب . هل كانت حقا أفضل حالا حين جهلت ماضيها ؟ بكل تأكيد , أمست حياتها عذابا منذ اقتحمها كايل ... لكن , أكانت أكثر سعادة لو بقيت جاهلة بقية حياتها , وهي تعرف أن ماضيها يناديها , ولا سبيل إلى العثور عليه؟ أهذا أسوأ مما لو علمت أن لها زوجا , وأنه جرحها بشكل رهيب كما فعل كايل يوم السب الفائت ؟
- حين قيل لي في المكتبة إن هذا يوم إجازتك , فكرت أنني سأجدك هنا .
تناهى إليها صوت ناعم مألوف تشوبه لكنه , فأفاقت من أفكارها فجأة , وأجفلت مثل قطعة مذعورة , حتى تطايرت المملحة أمامها ... فكرت آليا أن تنحني لتستردها , لكنها أدركت أن هذه الحركة قد تفسر الخوف ,
فتجنبت النظر إلى العينين البنيتين القاتمتين , وجمدت في وضع مرتبك ومتردد .
سألها كايل : " أليس من المفترض أن يكون هذا فألا سيئا ؟"
ثم وضع الفنجانين من القهوة على سطح الطاولة "الفورمايكا"... وهو ينظر إلى كومة الملح التي وقعت على السجادة .
- أليس من المفترض أن تعطي الشيطان الملح , أو شيء من هذا الكلام السخيف
- أنت تعني أن ترمي الملح من فوق كتفك ؟
ازدادت لهجنها حدة مع توترها الداخلي , والتسارع المضطرب لضربات قلبها , فانحنت لتلتقط أنبوب الملح , وهي تقاوم جاهدة لتمنع نفسها من السقوط .
لكن تفكيرها كان منصبا على ظهور كايل المفاجئ وكلماته : وهل يقف الشيطان وراءك ؟ لكنه الآن يقف أمامها , بشكله الطويل الأسود المؤثر . ما زال هذا الرجل يملك قدرة على التأثير بها , وعلى تفجير حياتها بكلمة .
وأضافت بسرعة : " هذا بالطبع إذا كنت غبيا وتؤمن بمثل هذه الخرافات " .
- طبعا .
أطبقت أسنانها بحدة بتأثير من سخريته , ترى , هل اكتشف بعضا من أفكارها ؟ هل هي شفافة إلى حد يتمكن فيه المرء من قراءة تعابير وجهها ؟
وأضاف : " هذا بالطبع , مالا تريدينه " .
- بكل الأكيد لا أريده ! اسمع .... هل ستجلس أم إنك تخطط للبقاء واقفا فوقي كالبرج طوال اليوم ؟
نظرت إلى عمق عينيه الأبنوسيتين , فتذكرت فجأة بعد فوات الأوان , أنها كانت تحب هذا الرجل . فولدت فيها الصدمة شعورا بالغثيان ... لابد أنها أحبته مرة ... لقد تزوجته ... لكن هل لا زالت تحبه ؟ كيف يمكن لها
أن تشعر نحوه بإحساس غير الازدراء , لاسيما بعد ما حدث في نهاية الأسبوع ؟
رد كايل بجفاء : " لم أكن واثقا أنني موضع ترحيب" .
وجذب كرسيا ليجلس عليه ... ثم دفع بفنجان قهوة نحوها : " هاك ... اعتقدت أنك ستحتاجين إليه .. تبدين مكتئبة الوجه ..."
منذ متى وهو يراقبها عبر الغرفة ؟
أحست فجأة , أنها كانت بحاجة إلى مثل هذا الدفء , بعد أن كانت تأنف من شرب القهوة وترتعش بردا .
- كيف عرفت أين تجدني ؟
ارتشف كايل قليلا من قهوته :
- ظننت أن الأمر واضح .. فعلى أي حال اليوم العاشر من أيار .. وهنا وجدت نفسك .. أوه على فكرة .. عيد ميلاد سعيد ايف.
وبأية طريقة يعني هذا ؟ هل يشير إلى عيد ميلادها الحقيقي , المدون على بطاقة التعريف ؟ أم إلى الذكرى السنوية لوجودها في هذا المطعم دون ماض تستطيع أن تتذكره ؟ من هذا المنطق , عمرها الآن سنتان وعشر دقائق ...
وحرقت الدموع عينيها , فرفتهما بقوة لترد الدموع ... سنتان وبضع دقائق .. هذا كل ما تعرفه , كل ما تستطيع أن تتذكره .. وهذا ليس بالكثير بالمقارنة مع سبع وعشرين سنه . فأجفلت بعصبية , قم تراجعت إلى الخلف بحدة , حين مد كايل يده عبر الطاولة .
لكنه تحرك فقط ليتفحص شطيرتها المهجورة .
- لست مندهشا أنك هجرتها .. يبدو أن طعمها يماثل هذه القهوة سوءا.
وأدركت ايف أنه يحاول البقاء على مسافة منها . كان يسيطر على مشاعره بقوة , حتى بدا لها قاسيا وباردا بشكل مخيف .
قالت : " إنها لا تفتح الشهية بكل تأكيد ......."
ارتفعت عيناه البنيتان إلى وجهها , وهما تسيران أغواره .. وكأنه يريد فعلا أن يدخل إلى ذهنها لينتزع منه أكثر الأفكار والمشاعر خصوصية .
- لكن .... هل نجح ؟
تمتمت من دون وعي , وصوتها بالكاد يسمع:
- لا .. انطلاقا من تجربتي .... كان فشلا ذريعا ... لكن , كما اعتقد , كان على أن أتوقع هذا في حين .
وأدركت متأخرة ما كانت على وشك أن تتفوه به .. وتركت عينيها تحيدان عن نظرته , إلى يديها المقبوضتين بقوة في حجرها
سأل كايل بنعومة : " في حين...؟ في حين ماذا يا ايف ؟"
أخذت نفسا عميقا مرتجفا , وأجبرت نفسها على أن تتكلم :
- حسن جدا ... بالكاد أعتقد أن هذا المقهى , والشطيرة الاصطناعية , وفنجان القهوة , كفيل بأن ينعش
ذاكرتي في حين .....
مرة أخرى خذلها صوتها , فأنهى لها كايل كلامها :
- في حين لم يفلح في هذا مغازلتي لك ؟
وكشفت لهجته مرة أخرى كم يسهل علية أن يقرأ تعابير وجهها .
ولم تستطع ايف سوى أن تهز رأسها إيجابيا بصمت . على أي حال , ماذا كانت تتوقع ؟ هل صدقت فعلا أن زيارة للمكان الذي وجدت فيه نفسها منذ سنتين , يشبه مفتاحا لباب مقفل , تستطيع أن تفتحه ببساطة , لتكتشف عن ماض يراه الجميع ؟ لقد عادت إلى المقهى مرات ومرات منذ أول مناسبة .... ولم تشعر يوما بأدنى رد فعل ... فلماذا قد يحدث هذا الآن ؟منتديات ليلاس
قال كايل : " كنت آمل هذا بكل تأكيد .. وكنت أود أن أعتقد أن تكون لعلاقتنا عليك تأثير يفوق تأثير هذا المكان .."
وصمت بحدة , ما إن رفعت ايف عينين بنفسجيتين قاتمتين إلى وجهه.
بدت نظرتها متألمة , ضبابية , تكاد تفضح مشاعرها ... ثم أنهى كلامه فجأة :
- لكنك لا تعرفين هذا .
يا إلهي ... هل حولت الشفقة عينيه السوداويين , إلى صفحة بحيرة في ضوء القمر ؟ أحست ايف أنها ضعيفة عاطفيا , فمجرد لمحة منه يمكن أن تنتزع منها القليل القليل المتبقي من دفاعاتها , وتتركها فريسة لـ ....
فريسة لماذا ؟ لتحرشات كايل ؟ هي تعرف حالها سلفا .. فمجرد التفكير بقبلاته وعناقه كان يبعث فيها رغبة أليمة .. ولو كانت تحتاج إلى المزيد من الإثبات , فإن ليلة السبت أثبتت لها أمورا تفوق أي شك ..
أثبتت مشاعرها , وكلمة " الحب " الخطيرة التي اعترفت بها بصمت مرتين اليوم
لقد اندست الكلمة إلى تفكيرها بسهولة بحيث لم تنتبه لها حتى وقت لاحق .
إذن .. أهي تقع في حب كايل مرة أخرى ؟ قاومت بيأس اندفاع قلبها إلى الإيجاب , وهي تعرف أن مثل
ردة الفعل هذه تزيد من اهتمام كايل بها .... وتدفعه إلى طرح أسئلة قد لا تتمكن من الرد عليها .
كانت المشكلة , أنها لا تعرف هل تقع في الحب مجددا .. أم للمرة الأولى , بالنسبة لها , شعرت وكأنها المرة الأولى ... لكن , ما من ذكريات لتقارنها بها .. حتى ولو كانت تملك مثل هذه الذكريات فماذا تقول ؟
افترضت أنها لو كانت زوجة كايل , لأحبته طبعا .
لو أنها أحبت كايل .. فيبقى دائما ذلك الواقع المرير أن ذلك الحب وفي مرحلة ما , قد مات .. أو هو على الأقل ضعف حتى هجرته .. وإلى أن تعرف لماذا حدث هذا , لن تسمح لنفسها بمزيد من المشاعر نحو كايل .. إذ كيف تستطيع أن تحبه وهي لا تعرف هل تثق به أم لا ؟
قال كايل فجأة : " ايف ... عن يوم الأحد..."
صاحت ايف بحدة : " لا أريد أن أتكلم عنه ! "
لكنها ناقضت نفسها على الفور , ولاحت خيوط الحزن في كلامها :
" لماذا فعلت ذلك ؟ لماذا ؟ "
كان رده جافا وبلا مشاعر: " ظننت أن الأمر واضح .. وأعذاري كانت محقة .."
- محقة ؟ هل تظن حقا أنك إذا ضغطت على الزر المناسب , ستحدث تأثيرا يعيد إلى ذاكرتي ؟ هل تظن أن غزلك لي كان تجربة لا تنسى ؟
قال من بين أسنان مشدودة : " كان علي أن أجرب .... "
لقد ضربت على وتر حساس هنا ... ولسعت كرامته الرجولية , حين أكدت له أن تأثيره الجسدي , اليوم
كما في الماضي , لم يكن يذكر .
وقالت بغضب : " هذه في الواقع تسمى الطريقة الباردة الدم , البراغماتية , أو الذرائعية , لمعالجة الأمور ... "
وصمتت فجأة , وقد صدمتها كلماتها , أو تعبير كايل , أو إحساس ما يلف الموقف برمته , وكأنه مألوف , ب
بشكل مثير لاضطراب .. لكنها تذكرت أنا رمت هذه الكلمات بالذات في وجهه في أول يوم سبت أمضياه معا , حين حاول أن يسير حياتها , حتى تتخلى عن عملها
- كان يمكن لهذا أن ينجح .
- ربما .. لكنه لم ينجح !
ولذعت دموع المرارة عيني ايف . ألان كايل استغلها بقوة أم لأنه فشل في تحطيم الجدار الذي يفصلها عن ذكرياتها ؟ على أي حال , ها قد عادت من حيث بدأت . لم تجرؤ على النظر إلى كايل خوفا من أن تفضح مشاعرها , فما كان منها إلا أن مدت يدها إلى قهوتها وارتشفتها .
لدهشتها , كسر كايل الصمت :
- قولي لي شيئا .. حين التقينا أول مرة , أعني المرة الثانية , أردت معرفة الكثير .. وكانت الأسئلة تتدفق من دون توقف ... أما الآن , وفجأة , فقد جف نبع الأسئلة ... لماذا ؟ بالكاد قلت لك شيئا .. لكنك لم تعودي راغبة في معرفة أي معلومة .
- ولو أنني فقدت ذاكرتي ...
- إذا فقدت ذاكرتك !
انفجرت ايف في وجهه , من دون أن تهتم بالنظرات الفضولية التي التفتت إليها من الطاولات الأخرى : "إذا ! "
هاهو موجود مره أخرى .. ذلك الشك في صوته , ذلك التلميح إلى أنه ما زال لا يصدقها فعلا .. إذن , طيلة هذا الوقت كان يدعي أنه يصدقها لا أكثر .. أحست ايف بشرارة تلتهب فيها .
- دعني أقول لك شيئا سيد كايل جنسن .. أيها العالم بكل الأمور ...!
"إذا" فقدت ذاكرتك , فلن تتمكن من التفكير على هذا النحو .. في البداية, اعتقدت أنني أريد أن أعرف .. أردت أن أعرف أي شيء تستطيع أن تحدثني عنه , لكنك لم تستطع الرد على سؤال واحد , هو كل ما أحتاج إلى سماعه . بعدها , يمكن أن أبقيك معي طوال اليوم , ليل نهرا , لترد على أسئلتي ...
لكن هذا لم يكن السبب الوحيد ...
تدخل كايل فيما هي تقاوم لتستعيد رباطة جأشها : " لكن .. أما من "لكن " ؟ "
انفجرت ايف :
- أنت على حق تماما . هناك " لكن!" المشكلة .
وصمتت ... وهي ترى عبوسه السريع , حاولت أن تخفض من وتيرة صوتها الذي جذب مجددا اهتمام الحضور .
- المشكلة , أن ما من كلمة قلتها , تعني لي شيئا .
قطب مجددا , فانضم حاجباه الأسودان معا , حتى هددا قدرتها على المتابعة . لكنها ابتلعت ريقها بقوة وهي تجبر نفسها على الكلام .
- طرحت الأسئلة .. وأجبني عليها .. لكن كلها لم تعن شيئا .. لم تكن حقيقية ....
لكن هذا حدث لأنها لم تستطع إجبار نفسها على طرح السؤال الأهم .. سؤال يحرق تفكيرها بقوة , سؤال يرفض أن يتشكل على لسانها , مهما حاولت جاهده أن تتلفظ الكلمات ؟ كايل الآن هنا .. يجلس قبالتها ويعرف كل أسرار زواجهما , وبعرف لماذا هجرته . وما عليها سوى أن تسأله .. إنه سؤال صغير ,
مع ذلك , كانت تشعر أنه حاجز يجب أن تتغلب عليه ...
سألها بحده :" هل تلمحين إلى أنني كنت أكذب ؟ "
لكنها , ويا للغرابة لم تفكر فعلا , وبجدية , بـأنه يكذب عليها . وهي في هذه النقطة بالذات , على الأقل , تثق به .
قالت متسرعة :
- لا .. ليس الأمر هكذا . لكن يمكن للمسألة أن تكون قصة خرافية ...
خيال محض . وكأنك تروي لي قصة عن شخص آخر .. لكنني أعرف أنها ليست عن امرأة أخرى .. إنها عني .. وإذا سمعت قصة واحدة بعد عن الناس الذين يفترض أنني عرفتهم , عن التصرفات التي يمكن أنني أقدمت عليها .. سأصرخ .
- أليس من الأفضل أن تتحققي من المسألة ؟
رفعت ايف رأسها بحدة بتأثير من سؤاله السريع .. واتسعت العينان بلون " البانسيه " صدمة و ارتيابا وهي تقطب بارتباك .
وما لبثت أن سألت مرتجفة : " أتحقق ؟ كيف .. ماذا.. ؟ "
مال كايل إلى الأمام وأمسك يدها , فيما أصابعه القوية تطبق عليها بحزم , ثم راح ينظر إلى باطن كفها , وكأنه قارئ طالع , و تساءلت ايف :
هل كان ما حدث صدفة في لا وعيها , أم أن قبضته تركزت متعمدة على أصبعها الرابع , خاتم الزواج المفقود ؟ بالتأكيد , يريد أن يوقظ صدى ما في ذاكرتها ! وكم تمنت ايف لو يحدث هذا .
قال كايل بصوت خشن أجش وكأنه يجد صعوبة في الكلام :
- حين وجدتك مرة أخرى , حين قلت إنك فقدت ذاكرتك .. قررت أنه من الأفضل أن أستشير أخصائيا .
هزت ايف رأسها بتفهم صامت .. مع ذلك , لم يستطع كايل أن يرى الإيماءة لاسيما وأن عيناه لم تفارقا يدها .
- قال لي إن أمامي خياران .. إما أن آخذ الأمور بتروي .. وأتعرف إليك مجددا .. فتعود الذكريات إليك تدريجيا .. و تتهاوى الحواجز التي وضعتها بينك وبين ماضيك , أيا كانت ...
اهتز صوت ايف بإحساس مربك : " والطريقة الأخرى ؟".
- وإما أن أحاول إجبارك على التذكر .. فأصطحبك إلى أماكن تعرفينها ... وأواجهك بأشخاص كنت تعرفينهم في الماضي .
- كما حاولت أن تفعل يوم الأحد ؟
تكلمت باندفاع قبل أن تجد الوقت لتفكر .. فذكرى تلك الليلة لا تزال تلسعها بمرارة , والألم الذي تسببه لها كان لا يزال فجا .
بد أن كايل يملك الأدب الكافي ليظهر خجله :
- آه .. لم ينجح هذا كما خططت له . لقد أسأت الحساب ...
بدت هذه الطريقة مؤدية لوصف ما حصل . كان يمكنها أن تعارضه , فتؤكد أن أفعاله محسوبة تماما لا بل إنه احتسب استجابتها حتى أدق التفاصيل .
أم أن ذلك غير صحيح ؟ فجأة , تذكرت نفسها خلال الأسابيع الماضية , وقد واظبت على الاقتراح على كايل ليصطحبها إلى شقته أو إلى المكتب حيث عملت , لكن كايل رفض ...
أغمضت ايف عينيها لحظة , وقد صدمت حين رأت الأمور من منظار آخر , منظاره هو . وأحست أنها تفقد توازنها فكريا .. هل كانت أنانية أكثر من اللازم منذ البداية ؟ على أية حال , لو كانت في حال من الارتباك العاطفي , فما كان إحساس كايل ؟ وإن كان يصعب عليها أن تتقبله كزوج , فما باله بزوجة لم تعد تعرفه .. وجه إليها ضميرها طعنة حادة فراحت تتململ في مكانها بانزعاج .. لعلها تحتاج إلى إعادة التفكير .
قالت ببطء :" ألهذا لم تقترح أن ألتقي بوالديك مجددا ؟".
- بل لأنك كنت تبدين دائما خائفة من مقابلة أي شخص عرفته من قبل .
- ما كنت سأعرف ماذا سأقول .. كفاني ما أعانيه من صعوبة معك ....
يجب أن تفهم ....
هنا , ارتسمت تقطيبه على وجهه فتوقفت عن الكلام .. بالطبع يفهم , ووبخت نفسها . ألم يختر ألطف طريقة اقترحها عليه الأخصائي .. الطريقة البطيئة , حتى ولو كانت تسبب له المزيد من الإحباط والصعوبة ؟
لكن , إذا كانت هذه هي الحال , فكيف تفسر إذن تصرفه معها ليلة الأحد ؟ هل كان تصرف رجل بارد القلب , قاس .. أم زوج أراد بشدة أن يستعيد زوجته , حتى أنه كان على استعداد أن يجرب أي شيء
على الإطلاق ؟
قالت :" أنا آسفة .. كنت .. خائفة " .
- خائفة من ماذا ؟
جاء رده بطيئا .. بدأ أن شيئا ما جذب عينيه إلى الزاوية البعيدة من الغرفة .. وقام بجهد واضح لإعادة اهتمامه إليها .
قالت : " هذا لأنك كنت تشعر بالخجل ربما ..." .
- منك ؟ لا يعقل أن تظني ....
بدت في صوته نبرة غريبة وكأنه لا يصدقها .
بالرغم عنه , ابتعدت نظراته عنها مجددا .. حاولت ايف أن تختلس النظر إلى الوراء .. رأت شخصين فقط في تلك الزاوية من المقهى .. امرأة شابة وابنها , طفل , ربما في الثالثة من عمره .. بشعر أسود طويل ووجه أبيض شاحب بيضاوي الشكل .. أما الأم فجميلة جدا , لذا , لم يكن مدهشا أن تنجذب عينا كايل إلها .. لكن كان لرؤية الاثنين تأثير مختلف عليها .. ولسبب مجهول , غمرها فجأة إحساس من الوحشة الرهيبة .. إحساس ضائع وبائس كما حدث لها منذ سنتين .. حتى أنها وجدت صعوبة في الكلام . لكنها قالت : " إذن , كان تأثيري هو السبب ؟ ".
- طبعا .
هذه المرة , بدأ صوته مختلفا جدا , كان حاد بارد وكأنه يستنفذ كل الدفء من جسم ايف , حتى راحت ترتجف دون إرادة منها .. ولم يبد أن كايل لاحظ ردة فعلها , بل كان ضائعا في التفكير .
ما الذي أحدث فيه هذا التغير المفاجئ ؟ ألقت نظرة سريعة أخرى إلى المرأة في الزاوية , فعادت إليها تلك الغيرة الطاعنة مجددا .. بالكاد مرت ستة أسابيع منذ التقاها مرة أخرى .. وثلاثة أيام منذ كانت معه ف
في شقته . هل بدأ اهتمامه يتحول مجددا ؟ وبألم عميق , تذكرت أن كايل لم يقل يوما إنه يحبها حين أتى يبحث عنها . لم يطلب منها العودة إلا لأنهما كانا يؤلفان زوجا بالمعنى الجسدي طبعا .. وأحست بأحشائها تحترق في عقدة خوف مؤلمة , لكن , أهذا كل ما أريده ؟ أيريد كايل زوجا فحسب أم شريكا راغبا حساسا يربطه بعلاقة جسدية مرضية ؟ وماذا لو لم تعطه ذلك الاكتفاء الجسدي , فهل سيبقى راغبا فيها أم أنه
سيهجرها إلى الأبد ؟
اشتد توتر كايل حتى لفت نظرها , كان ينقر أصابعه دونما هوادة على الطاولة , فيما قلبها يعتصر بألم وهي ترى نظرته منصبة على الجمال الأسود الشعر في الزاوية , بالرغم من جهده الواضح ليظهر عكس هذا .. لن تستطيع الاستمرار هكذا , وقررت أن تطلب الحقيقة .
سألت :" كايل ... ما شعورك نحوي ؟".
وعلى الفور تمنت لو أنها لم تسأله لاسيما بعد أن غرقت كلماتها في بحيرة من الصمت المصدوم . وإذا برأس كايل يتراجع إلى الوراء , فيما عيناه الأبنوسيتان ترتدان إلى وجهها بصدمة .
تمكن من التفوه بصوت أجش وخشن وكأنه يخرج من حنجرة متألمة جافة :" ماذا
وفكرت ايف بسخرية مريرة : حسن جدا , على الأقل استعدت اهتمامه .. ولم تعرف هل تملك الجرأة لطرح السؤال مجددا .. لقد أفلتت منها الكلمات في المرة الأولى , في وقت لم يكن فيه كايل ينظر إليها مباشرة كما يفعل الآن ... وابتلعت ريقها بقوة , وهي تستدعي كل قوتها الداخلية كي تنظر إلى العينين القاتمتين .
- أنا ... حين كنا معا .. قبل .. كيف كنت تشعر نحوي ؟
- يا إلهي !
كانت صرخت التعجب متوحشة تخترق الجو .. فأجفلت إلى الوراء بتأثير العنف في لهجة كايل ولو أنه بالكاد همس قائلا :
- ما نوع هذا السؤال ؟ وماذا تظنين شعوري نحوك ؟ لقد أحببتك .
اللعنة عليك ! وهل يمكن أن ...
وصمت فجأة . واتضح أنه غير قادر على إكمال كلامه , وما لبث أن أخذ يهز رأسه غير مصدق .
لقد شاهدت هذه النظرة على وجهه من قبل , شاهدتها يوم أخذ التوأم إلى متحف الشمع , حين سألته إن كان يرغب في إنجاب الأولاد .
- لازلت لا تثقين بي ... أليس كذلك ؟
سرت لهجة كايل في أعصابها الحساسة , وملأتها بإحساس الخوف رهيب .. وأحست أنها أقدمت على ذنب مريع .
- لم أكن أعرف .
يا إلهي كم أصبحت تكره هذه الكلمات , لكنها الوحيدة التي تستطيع استخدامها :
- لا أعرف بماذا أفكر .. هل أستطيع أن أثق بك ؟ هل يجب أن أثق بك ؟ هل تصدقني ؟ أنت لم تصدقني في البداية أليس كذلك ؟
صدمتها ردة فعل كايل , إذا ابتعدت عيناه القاتمتان عنها , وانصبتا على الطاولة ... فيما اشتدت قبضته على الملعقة حتى أنها توقعت أن تراها مكسورة إلى نصفين .
قال بنعومة بالكاد سمعتها : " لا "
- ماذا قلت ؟
ارتفع رأسه مرة أخرى , فيما عيناه المتحجرتان الخاليتان من أي تعبير , فقال مكررا: "لا"
ولم تستطيع ايف أن تعرف هل كانت صرخة غضب أم نوع غريب من الدفاع عن النفس , أما هو , فأكمل :
- حسن جدا .. وهل كنت ستصدقينني ؟ كنا معا لما يقارب الثلاث سنوات .. ثم خرجت من حياتي من دون
أي تفسير , وتركت مذكرة تقول ببساطة , ألا أبحث عنك ؟
عادت مخاوف ايف تبرز فجأة .. إذا كنت قد أوصته بعدم البحث عنها .. فهي إذن , لم ترغب لزواجهما في الاستمرار ..
- وهل فعلت هذا ؟
هز كايل رأسه , وقد تجهم وجهه :
- وقلت أيضا , إنك لو التقيتني مرة أخرى فلن تتعرفي إلي . كانت كلاماتك بالضبط :" لو رأيتك فلن
أعرفك " ... لذا حين لم تتعرفي إلي ...
- ظننتني أتظاهر ..
وهز كايل رأسه مجددا ..
- لكن , حين أغمي عليك أدركت أن في الأمر سوء تفاهم ... وشرح لي جيم الأمور .. ثم أخبرتني قصتك ... لكنني بقيت غير واثق .. لهذا أردتك أن تتركي عملك , وأن تدعيني أعيلك ... بهذه الطريقة , سأملك نوعا من السيطرة عليك .
لكن , لماذا أردت إشعال العلاقة بينهما من جديد ؟ فعلى أي حال , لقد قال إنه أحبها يوما .. لكن هذا كان منذ سنتين .. قال " لقد أحببتك " مستخدما صيغة الماضي . أما هذه المرة , و خلال الأسابيع الستة التي أمضياها معا , فهو لم يتكلم مرة عن أية مشاعر ماعدا الرغبة .
بدأت مترددة : " كايل .. لماذا تركتك ؟ "
إزاء ذعرها الكامل , ارتفعت كتفا كايل بحركة رافضة : " أخبريني عن السبب "
- أتعني أنك لا تعرف ؟
انسدلت رموشه السوداء الطويلة عن عينيه لحظات ثم ارتفعتا لينظر إلى وجهها بعمق .
- واجهتنا بعض المشاكل .. لكن لم أعتقد يوما أنها ستؤدي إلى هجرانك .
وفيما هو يفرقع بأصابعه طلبا للنادل , اختلست ايف نظرة إلى وجهه لبرهة , فالتقطت لمحة عن شعوره يوم اكتشف أنها رحلت ؟ لكنها كانت برهة واحدة فقط .. وقبل أن تستطيع الرد , عاد القناع المتصلب إلى مكانه , وعاد تعبير وجهه إلى الفراغ الذي لا يكشف شيئا .
التوى فم كايل بما يشبه الابتسامة , فأجفلت ايف فيما أكمل :
- لم تذكري يوما كلمة عن رحيلك .. أما ما حصل فأشبه بسيناريو كلاسيكي .. عدت إلى المنزل لأجد مذكرة على رف المدفئة . حتى أنك لم تأخذي معك حقيبة ولا ثياب غير التي كنت ترتدينها . لا بل إنني وجدت حقيبة بدك لا تزال في غرفة النوم .
أخذ رأس ايف يدور بجنون .. لقد كانت تتساءل عن مشاعرها نحو كايل , ومشاعرها نحوها , وهي تعتقد منذ البداية أن زواجهما تحطم بسببه , لكنه يقول الآن أنها هي من اتخذ المبادرة .. لا بل إنه يجهل سبب
رحيلها .
أيعقل أنها لم تعطه أي تفسير ؟ ترى , لماذا تصرفت هكذا ؟ ما الذي دفعها إلى هذه الخطوة ؟ إنها بحاجة شديدة لمعرفة الرد على هذه الأسئلة ....
قبل أن يتوقف كايل عن الكلام .. وقبل أن يترك القناع يهبط عن وجهه , ليكشف عن شعوره منذ سنتين , كانت تعرف , بشكل نهائي , أنها الآن تحبه , بغض النظر عن إحساسها في الماضي .. وتحبه بكل جوارحها .
لكن هذا الحب مبني على أسس مشكوك فيها ... أنها تعرف كايل .. وتعرف نفسها , في الوقت الحاضر . أما عن الماضي , فتجهل كل شيء .. وإلى أن تعرف الحقيقة , لن تستطيع الإفصاح عن حبها , أو منح كايل أي دليل عنه.. وما لم تكتشف بالضبط لماذا تركته , لن تستطيع أن تثق أن هذا لن يحدث مرة أخرى .. لكن كيف السبيل لمعرفة ما حدث , وكايل نفسه لن يستطيع مساعدتها ؟ أتبقى الحقيقة حبيسة في ذاكرتها المفقودة ؟ والغريب , أن ما من امرئ قادر على إطلاقها إلا هي نفسها .
قالت ببطء : " حين فقدت ذاكرتي .. أحسست في البداية وكأنني أنظر إلى مرآة لا أرى فيها إلا نفسي , من دون أي شيء أخر ... وظننت نفسي واضحة جدا , لكن من دون ما يحيط بي . أما الآن فأنا أتساءل هل رأيت نفسي حقا في المرآة , أم أنها في الواقع مرآة محرفة كتلك التي نراها في مدينة الألعاب ".
باتت الآن تشعر أنها أسوأ حالا مما كانت عليه في البداية , يوم وجدت نفسها في هذا المقهى منذ سنتين .. على الأقل , يومها , كانت تملك بعض الإيمان بنفسها ... أما الآن , وهي تقرأ أعمالها الماضية في عيني كايل , فقد بدأت تتساءل , أي نوع من الأشخاص كانت .
- كايل .. بالنسبة للطريقتين اللتين اقترحهما الطبيب للتعامل مع الموقف .. حتى الآن اتبعت نصائحه وأخذت الأمور بروية .. لكن هذا لم ينجح .. أليس كذلك ؟ نحن لم نقترب بعد من معرفة ما حدث حقا , أكثر مما كنا منذ ستة أسابيع .
- هل تقترحين أن ننفذ الطريقة الثانية .. أي أن نحاول فرض الأشياء بقوة ؟
ما إن سمعته يترجم أفكارها بكلمات , حتى التقطت نبرة الشك في صوته .. وأحست بارتباكها يتبخر , ورجفة باردة تسري في ظهرها ...
سألت بحدة :" أما من حل آخر يقدم عليه الأطباء ؟ أوه ... لماذا لا يساعدوني ؟ "
تركزت عيناه على وجهها , ومال جسمه النحيل إليها .. فيما همس قائلا : " هل شاهدت يوميا مسرحية " ماكبث " , أو قرأتها ؟"
هزت ايف رأسها بارتباك ... وهي تتساءل لماذا يتحدث عن " شكسبير" الآن .
- لا شيء محدد فيها ....
- حسن جدا ... في المسرحية مشهد جنت فيه " اللايدي ماكبث " .
وسأل " ماكبث " الطبيب :
ألا تستطيع السيطرة على مرض عقلي ....
ألا تنتزع من الذاكرة حزنا متجذرا ؟
أجفلت ايف داخليا .. هذا ما تمناه بالضبط .. لكن المشكلة أن لا فكرة لديها عن الحزن الذي تجذر في ذهنها ليسبب لها فقدان الذاكرة , ولهذا تراها تخشى العواقب المحتملة وراء الحقيقة ... فهل سيكون حبها الذي اكتشفته حديثا , قويا بما يكفي ليخوض هذه التجربة ؟
كان كايل لا يزال يراقبها عن كثب ... فزحف الخوف إليها , وهي تدرك أنه لم ينه كلامه بعد .
وتابع كايل حين رأى أنه استعاد اهتمامها : " كان الرد على هذا النحو : الحزن علة , على المريض استئصالها بنفسه " .
التركيز على الكلمات الأخيرة لم يترك لايف مجالا للشك بأهمية كلمات كايل , وتملكها الذعر , حتى ارتجفت كلماتها بضعف:
- أنت تعني ... أوه لا ... لا أستطيع ....
قست ملامح كايل , وبدت عيناه باردتين مخيفتين , لكن قساوة لهجته أعلمته أنها مهما تقبلت , فلن يتركها تفلت منه هذه المرة.
- أعرف أنك لا تتذكرين كيف كنت .. لكني أتذكر ... والشعور الوحيد الذي لم تشعري به قط .. هو الجبن ...
إذا كان ينوي أن يستفزها لتتخذ قرارا فقد اختار الطريقة الصحيحة .
وتمكنت من القول بارتجاف :
- ماذا تريدني أن أفعل ؟ قلت إنك بعت البيت القديم ... لكن لو ذهبت معك إلى مكتبك , أو ...
وصمتت بدهشة وهو يهز رأسه : " ليس إلى المكتب .. ونحن لم نعش معا في لندن , يجب أن نذهب إلى " نورفولك" .
سألت ايف والدهشة تسيطر على صوتها :
- نورفولك ؟ ما دخل نورفولك في كل هذا ؟
- لقد اشتريت منزلا هناك قبل أن ألتقي بك مباشرة ... ولطالما أحببته , حتى كان منزلنا حين تزوجنا .
ومرت سحابة قاتمة على وجهه : " حين تركتني .. كان هذا من هناك " .
توقف كايل عن الكلام , ونظر بصمت إلى وجه ايف .. فبعث نظراته الصارمة الرجفة في عروقها , وهي تخشى مما قامت بتحريره .
- إذا كنت حقا تريدين معرفة ما حدث ..
بدت لهجته مثيرة لاضطراب , لكن ايف كانت تعرف أنها وصلت نقطة اللاعودة , فما من تراجع الآن . وهزت رأسها موافقة بصمت .
- في مكان ما من رحلتك من ذلك المنزل إلى هنا , فقدت الذاكرة ...
الطريقة الوحيدة لاستعادتها , هي أن تعودي إلى البداية ..
-8- لا اريد ان اتذكر
- نكاد ان نصل .
ايقظت كلمات كايل ايف من الغفوة التي غطت فيها , فاستقامت في مقعدها وهي تنظر الى الخارج نحو الريف بمزيج من الفضول والارتباك ....بعد برهة قصيرة من الزمن , ستلمح المنزل الذي هربت منه سنتين للمرة الاولى .
ترى , هل يشاركها كايل خوفها المفاجيء وهواجسها , والتوتر الذي يستبد بها ؟ لو فعل , فهو بالتاكيد لا يبدى شيئا .. كان جسمه الطويل مسترخيا في المقعد .وانتباهه منصب بحزم على الطريق امامه.
لكن , ربما كان يبالغ في التركيز على تلك الطريق الريفية الذي يسلكانها .... فهما لم يقابلا اي حركة سير حقيقية , منذ "نوريتش " حيث توقفا للغداء ... ولا سبب يدعو كايل ليتمسك بالمقود بشدة , حتى يكاد بياض اصابعه يفضح المشاعر التي لم يبديها .
سالت :"هل تشعر مثلي بالتوتر ؟"
قال معترفا :" انه موقف فريد من نوعه ".
كان صوته يلامس الضحك , فاحست ايف انه تفهمه , فالمشاعرذاتها تتملكها منذ خروجهما من لندن , في وقت مبكر من ذلك الصباح .
" اعرف ماذا تعني ... لقد ودعنا دايان وتيم والتوام ... وكاننا ذاهبان لقضاء شهرالعسل .. كل ما كان ينقص هو باقة الزهر , والاوراق الملونة و" اليونيون " ليتكمل الموقف .
واهتز صوت ايف في اخر كلماتها ... واستعادت شعور الهستيريا الذي هاجمها بينما غادرا منزل صديقتها.
حين اخبرت دايان انها ستاخذ فرصة اسبوع كي تقيم في المنزل في "نورفولك " ابتهجت الصديقة .
دخلت دايان غرفة ايف بينما هي ترتب حقيبتها , قبل وقت قصير من وصول كايل , وقالت :
- انا واثقة انك سمتضين اوقاتا ممتعة .. ومن يعلم ؟ قد يساعدك على استعادة الذكريات .
وهي لم توافق على المضي بهذه التجربة الا لهذا السبب بالذات , فلماذا اذن تشعر الان بالخوف البائس , و التردد الكبير لاقدامها بهذه الخطوة ؟
- اوه , يا الهي ..دي , هل افعل الصواب ؟
- ايفي حبي ... ما الامر ؟ انت لست خائفة من كايل بالتاكيد ؟
ليس من كايل نفسه , بل مما قد تكشفه عنه , ظهر ردها في اعماق افكارها لكنها عجزت عن ترجمته بالكلمات ... وفي النهاية لم تستطع سوى ان تهز راسها .
- لا .. ليس في الواقع .
وصرفت دايان النظر عن هذا القلق بقناعة حسدتها عليها ايف بعمق .
- بالطبع لا ... انت مجنونة بحبه .
ذهلت ايف بمجرد التفكير بان مشاعرها شفافة الى هذا الحد :"وهل يظهر علي ذلك ؟"
ماذا لو ادرك كايل ايضا مشاعرها نحوه ؟
ردت دايان :" هذا يظهر فقط لمن يعرفك مثلي , على اي حال صغيرتي لقد عشنا معا لسنتين ...واذا كان من امرى يعرفك , فهو انا بالتاكيد !"
لكن هذا لم يبعث في ايف الراحة الكاملة , لقد قضت مع كالي وقتا يزيد عما قضته مع عائلة بينيت هنا ..تابعت دايان بلهفة :" انت تحبينه .. اليس كذلك ؟"
- كما قلت ... انا مجنونه بحبه .
- ولماذا اذن تقفين مضطربة مترددة هنا ؟
ابقت دايان يدها طوال الوقت وراء ظهرها , ثم اخرجتها من مخبئها وقدمت لايف بحماسة لفافة جميلة .
- هذه هدية صغيرة مني ومن جيم حتى تمضى العطلة بنجاح . لا تفتحيها الا حين تكونا وحدكما ... اعتقد انها ستعجبكما معا ....
وضحكت ضحكة خفيفة , وهي تمازح ايف , وابتسامة خبيثة على فمها .
- ... بما ان القدر لطيف , ليقدم لك زوجا مثل كايل , فمن الافضل ان تستفيدي من الفرصة ! اعتبري الامر بداية شهر عسل ثاني .
لكن المضحك المبكي ان ايف لن تستطع التمتع بشهر عسل ثان , فيما هي لا تستطع ان تتذكر الاول فعلا .. حتى لو تزوجا للتو , فمن غير المحتمل ان تعلم عن كايل اكثر مما تعلمه الان .
- ها قد وصلنا .
استدركت ايف فجاءة وعادت الى الحاضر ,واذا
بها تلاحظ ان كايل قد انحرف عن الطريق , فيما هي مستغرقة في افكارها ودخل في طريق داخلية اوصلتهما الى منزل كبير انيق , جدرانه الحجرية صفراء الشاحبة تتوهج بدفء شمس بعد الظهر .
اذن , هنا امضت معظم الوقت مع كايل ... وارتج قلب ايف , فتسارعت نبضاته في غير راحة او استقرار . ثم نظرت حولها بحثا عن دليل ما , اي دليل يمكن ان تتعرف اليه .
كان منزلا جميلا ... له جو دافىء مرحب ....بدت معظم واجهته الانيقة الجورجية الطراز قد زينت بالعرائش المزهرة , والنوافذ العريضة النائية فوق الدرجات الحجرية , كانت تلك النوافذ تقود الى الباب الرئيسي , ولاحظت الى يسار المبنى بيتا زجاجيا ضخما , كان ليبدو رائعا وهو ملي بالنباتات , لكنه الان كئيب قليلا , وكأن احدا لم يعتن به من مدة .
هل اهمل كايل المكان بعد ان هجرته ؟ بالطبع , لا بد من انه انشغل بعمله في امريكا في اكثر الوقت , كما تذكرت انه قال لها ان اباه ولاه امر الشركة , كمدير اداري لها . وربما تحول الى كراهية المكان بعد رحيلها , على اي حال . لقد تركت الرسالة في غرفة ما في هذا المنزل , الرسالة التي طلبت منه الا يبحث عنها . توقعت ان تكون صورة هذا المنزل واضحة جدا في ذهنها ..ولكن وبخيبة امل موحشة , وجدت ان المنظر لم يرجع فيها اي صدى على الاطلاق .
صاحت بياس واحباط :"اوه .... لماذا لا اتذكر ؟"
تبخرت اللهفة التي بها خرجت من السيارة , بسرعة لتتركها اسيرة البرد والهزيمة .
- لم لا ... اوه !
صمتت بشهقة مصدومة وارتباك حين التقطت عيناها لوحة الاسم النحاسية المثبتة الى جانب الباب .
همست مرتجفة :
- منزل مونتاغوي ! مونتاغوي ... اذن لم يكن اسم العنبر ؟
- هذا ما يبدو .
كان كايل يراقبها عن كثب , وعيناه تلتقطان كل تغيير عابر على وجهها ... لطالما عرف ذلك اذن , لكنه تعمد ابقاءه سرا كي يكون لاسم المنزل التأثير الاكثر قوة .
- يبدو ان اسم مونتاغوي قد اصاب وترا ما في نفسي .
الانها كانت سعيدة هنا , ام لانها كرهت العيش في هذا المنزل , وارادت الابتعاد عن كايل ؟
وخشيت ايف ان تعترف , حتى لنفسها , كم صلت لئلا يكون الجواب الاخير .... ثم نظرت الى المنزل الجميل المبهج تحت اشعة الشمس .
قالت ببط :"يبدو مكانا وديا ... اتظنني كنت سعيدة هنا ؟ كايل ؟"
ولما لم يرد قالت :" كايل ؟"
- لست ادري .
بدا وكان كايل يجاهد ليعود الى الحاضر ليرد على سؤالها .. بماذا كان يفكر ؟ هل كانت افكاره ترتحل نحو الايام الماضية قبل سنتين , حين عاشا هنا معا ؟ لو انها تستطع ان تقرا افكاره , وتشاركه ذكرياته .
قال بصراحة"بدوت لي سعيدة ... باستثناء طبعا ......"
فجاءة قطع كلامه واستدار الى السيارة :" ساحضر حقيبتك !"
- كايل ......................
امسكت ايف بذراعه , ونظرت الى وجهه , لترى الخطوط العميقة في ملامحه , والظلال في اسفل عينيه , كانت اشعة الشمس البراقة تكشف انه لم ينم جيدا منذ اسابيع .... فاصيبت ايف بمزيج من الرعب والصدمة .
- باستنثاء ماذا ؟
- باستنثناء النهاية .
كان رده حادا , مصحوبا بحركة غاضبة خشنة من ذراعه .
- كما قلت لك .... كنا نمر بازمة صغيرة , ولم تكلميني لايام ... لم يكن هذا عجيبا , لا سيما بعد ان عرفت انك تخططين لتركي .
لماذا احست ان هذا لم يكن مقصده اصلا ؟ لكنها لم تجرو على السؤال ... فقد كان تعبير كايل غامضا في عينيها ... بدا وجهه وكانه منحوت من رخام صلب .... اما هي فاحست ان اي سؤال عفوي , يشابه القاء عود ثقاب في مجموعة من الالعاب النارية .
- اندخل ؟
كانت لهجته متوترة , تفتقد لسيطرته الناعمة التي اعتادتها , ودس المفتاح في القفل وكانه يتمنى لو انه سكين يطعن به عدوه اللدود .
- ربما تتعرفين الى ذكرى ما في الداخل .
ما ان اصبحا في الردهة المكسوة بالخشب المصقول , حتى الحقائب من دون اكتراث فوق البلاط الموشح . ثم فتح الباب الاقرب وهو يتجنب عينيها .
قال بخشونة :" هذه غرفة الجلوس "
ولم يعطها فرصة حتى تنظر الى الداخل بل تحرك مجددا :
- وهذه غرفة الطعام ... الباب من هنا يقود الى مستنب الزجاج .. والمطبخ من هناك .
بدا وكانه سمسار عقارات يجول في المنزل , الذي تفكر بشرائه ... لم يكن في من اشارة الى الزوج المرحب بعودتها الى البيت الذي تشاركه يوما .
- المكتبة ... غرفة استخدمات عامة ... لعنة الجحيم ايف ! لا يمكنني فعل هذا ؟
لم تستطع ايف ان تساله عم يتحدث , فمشاعرهاالفجة كانت تنبئها , وبوضوح زائد , ما يمر به , حتى ولو انه لا يماثل حجم عذابها هي ... واضح انه يجد في الامر برمته مشقة كبيرة , مثلها تماما .
قالت متردده :"لعله من الافضل لو تجولت لوحدي ".
بدا ان هذه الفكرة قد ضاعفت اضطربه , لا تدري لماذا :"لا ... ساخذ حقيبتك الى الطابق الاعلى !"
راقبته ايف وهو يصعد الى السلم , فشعرت فجاءة ببرد بائس ووحشة كبيرة ... فبعد ان ظنتته منزلا مرحبا دافئا , بدا لها الان وكانه يملك جوا مختلفا , مهددا باعثا للكابة والحزن .
-انتظني !.
ولحقت به راكضة , حى ادركته في فسحة سلم عريضة واكملت :"اية ....؟"
ثم , من مكان ما لا تعرف مصدره . ملاتها قناعة داخلية عميقة ...وقالت : هذه الغرفة ....
ودفعت الباب بينما كان كايل يراقبها بهدوء جامد , وما لبتث ان خطت بضع خطوات الى الامام .
كانت شمس بعد الظهر تسلل عبر النافذة العريضة لتنسكب على السجاد الذهبي الدافي بركة متوهجة , وتبعث في الستائر لونا متالقا كالعسل السائل , كانت طاولة الزينة الانيقة , والخزائن المجاورة بلون الماهوغوني المكثف الداكن , وكانها تماثل عيني كايل .... وبالرغم من التوتر الذي تملكها ... لم تستطع ايف ان تمنع ابتسامة ابتهاج صافية .
قالت بثقة تامة :"هذه كانت غرفتنا "
تفرس فيها كايل صامتا , وقد ضاقت عيناه البنيتان في تقييم واضح , وما لبثت ان سالها بهمس :"اهي الذاكرة ... ام مجرد تخمين محظوظ ؟
هزت راسها بارتباك , وقد اختفت كل سعادتها .
- لا اعرف ... اعتقد انها نوع من الغزيرة ... انا ...
وتلاشي صوتها مع حركة غير ارادية من عينيها حولتها الى السرير في وسط الغرفة . كان مغطى بقماش مطرز ثقيل , تتداخل فيه الالوان الذهبية الدافئة كما الستائر .... وبدا لها اكبر بكثير من السرير المزودج العادي , وفيما هي تنظر اليه , احست فجاءة بالحرارة الحارقة تغمرها , ثم ارتجفت بردا, وكانها تحت تأثير حمى قوية . لقد تشاركت مع كايل هذا السرير , وناما معا , ليلة بعد ليلة .
اتهجت عيناها القاتمتان كالبانسيه , الى وجه كايل المراقب , بدا لها فجاءة وكان بشرتها اضحت حساسة جدا , وتشابكت عيونهما في لحظة تفاهم معبرة شديدة الوقع .
لم تعرف ايف كم دامت هذه اللحظة المتوترة ... لكن , كايل كسر حبل الصمت اخيرا وهو يستدير بحدة يفتح باب الخزانة الاقرب .
- قد ترغبين في استخدام هذه الملابس فيما انت هنا .
حدقت ايف برعب .... الى مجموعة الملابس .... فساتين , تنانير , قمصان , سروايل جينز , كلها معلقة في الخزانة ..... لم تلمسها يد منذ سنوات , انها ملابسها , ما من شك في هذا , احست ان هذا يفوق قدرتها ..... فقد واجهها كايل بالدليل القاطع للمراة التي كانتها يوما .
بدات تقول :" لا انا ....."
لكنها لم تستطع ان تكمل , فارتجفت ساقاها ... واختنقت حنجرتها بالم , وما لبثت ان صرخت باندفاع لاخراج الكلمات :
- لا استطيع النوم هنا يا كايل ....!
التوى فم كايل بسخرية :"لا .... لا اعتقد انك تستطعين ... لا تقلقي لقد طلبت من مدبرة المنزل ان تحضر لك غرفة اخرى".
مرة اخرى تفحصتها عيناه القاتمتان ببط ء:
- في الواقع , انا لم انم هنا ... ليس منذ .........
ولم يكمل جملته ... لكنه لم يكن بحاجة الى ذلك , فقد تكهنت تماما الكلمات الناقصة .
تحرك نحو الباب :"على اي حال ... غرفتك من هنا ".
ثم تجاهل الباب الى يمين غرفة النوم التي غادراها للتو , ودفع بابا مقابلا ليكشف عن غرفة نوم مزينة بالوان ناعمة رقيقة من الازرق والزهري .
- ستنامين هنا ...
- وانت .
وكانما يوكد على افكارها , انتقل ليفتح بابا اخر عبر الممر , فظهرت غرفة ذات طابع رجالي اخضر قاتم وعاجي , ووضع حقيبته داخلها .
- هل هذا مناسب ؟
لماذا يسالها ؟.... واضح انه قرر كل ذلك سلفا ... واضح انه خطط جيدا ليضمن عدم تكرار ما حدث ليلة الاحد الماضية .. ترى اخاب املها ام انها مرتاحة ؟
لم تجد ايف الرد بسهولة... فهي تعرف الان انها تحب كايل .... تحبه وتريده بكل ما في وسع امراة ان تحب رجلا ... ومع انه كان يقف الى جانبها ببساطة , الا انها شعرت بجاذبية هذا الجسم الطويل القوي , والشعر اللماع الناعم الاسود , والعينين الغامضتين .
- وهذه الغرفة ماذا فيها؟.
امسكت مقبض الباب الفاصل بين الغرفتين ... ودهشت انه لا يفتح , وان بابه موصد .
- اوه , انها مخزن في الوقت الحاضر ... لم نضع فيها الاساس بعد .
لم يكن ينظر اليها ..... بل استدار ليلتقط حقيبتها .... مع ذلك , لم تكن لنبرة صوته الرنة المناسبة .
- ساضع اغراضك في غرفتك .... اهذا ممكن ؟انا واثق انك تريدين ترتيبها .
وفكرت ايف انه يحاول الهاءها بدقة وحذر , فيحول اهتمامها الى شي اخر متعمدا .... ترى , ماذا في الغرفة المقفلة ؟
من دون اي تحذير , وقع ما وقع بينما كان كايل يرفع حقيبتها فوق المفرش المزهر باللونين الازرق والزهري .... لم يكن هناك نفخ ابواق , ولا لمعان انوار , او دوار مثير للاضطراب ... بل سمعت نفسها تقول بكل بساطة :
- هذه الغرفة تبدو افضل حالا بكثير الان , اتذكر كم كانت مريعة حين انتقلنا الى هنا ... كانت مخططة بلون احمر قاتم , في وسطها سجادة حمراء قاتمة وسوداء ؟
ووقعت حقيبتها من يد كايل اليسرى فوق السجادة بصدمة مكتومة , فنظرت الى وجهه , فابصرته شاحبا بعينين سوادوين .
سالت مرتجفة :"انا ... هل هذا صحيح ....؟ هل كانت الغرفة كما وصفتها ؟"
هز كايل راسه بصمت ......... شل فيها مظهر كايل جنس الرقيق كل قدرة على الكلام . وتهاوت ساقاها حتى تهالكت على كرسي قريب .
- لا تنظر الي هكذا ....! لم اكن اعرف ماذا اقول افلتت الكلمات مني .
يا الهي اما زال يصدق انها تدعي فقدان الذاكرة . وانها تفوهت بكل ذلك من دون ان تعي ما تقول ؟
- كايل كلمني ؟
تنحنح بجهد ليجلي حنجرته , ورفع يده الى مؤخرة عنقه كانما يطرد توترا لا يحتمل . ثم سالها بصوت اجش :"هكذا فقط ؟ ما من ذكرى اخرى ؟"
حاولت ايف ان يائسة ان تبحث يائسة في الزوايا المظلمة من ذهنها علها تجد شيئا اي شي ثم هزت راسها يائسة :"
لا شي .. لكن هذا تقدم ملحوظ كايل . وكانه صدع في الجدار , يبدو اننا احسنا صعنا بالمجي الى هنا ... وربما كان الاخصائي مخطئا في تحذيرك من هذا ... لعله العلاج الذي احتاج اليه ... من يدري كيف اصبح نهاية الاسبوع ؟
لماذا يبدو مرتابا وغير مقتنع على هذا النحو , ام انه خائف مما قد تكشفه ؟ ايقعل ان يخاف مما هو مدفون في تلك الذاكرة الضائعة ؟ سرت قشعرية خوف باردة في جسم ايف , ودب فيها ارتعاش لم تستطع كبته .
انها بحاجة الى ان تشغل تفكيرها وتلهيه عن مثل هذه الافكار المضطربة ....فاستجمع كل قوتها ,ووقفت على قدميها, ثم مدت يديها الى حقيبتها , وهي تفتش عن المفاتيح .... وهي تحاول الا تظهر احساسها المضظرب بصمت الغريب الاسمر .
بالرغم من كل شي , ظل كايل بالنسبة اليها غريبا , لم تفلح الاسابيع السبعة التي امضايها معا , او الكلمات التي دسها في اذنها , او ذكرى غرفة النوم السابقة , في تغيير ما , فهي ما زالت تجهل الحقيقة ... ومازالت لا تعرف كيف كانت علاقتها هي وكايل في السابق , والاهم من كل هذا لا تملك ادنى فكرة عن مشاعره نحوها الان . احيانا , كانت تبدر عنه بعض التصرفات , في البداية على الاقل ... لكن ماذا حدث لذلك الحب ؟ اذ لا بد ان حادثة ما وقعت ... والا , فلماذا ارادت ان تتركه اصلا ؟
غشت الدموع الحارفة عينيها , وبدا ان مفتاح علق في قفل الحقيبة , حتى اضطرت الى اجباره على الدوران ... وما لبث عن انفتح بعنف ليفضح الكثير من حالتها النفسية المضطربة .
- من الافضل ان ارتب ثيابي كي لا تتجعد اكثر مما هي عليه الان .
لماذا لا يتكلم كايل ؟ كم من الوقت يستطع الوقوف هنا من دون التفوه بكلمة ؟ يبدو انه انطوى على نفسه . بعيدا عنها .... اوه ... اكان من الضروري ان تستعيد ذكرى ؟
تسمرت يد ايف على حقيبتها وهي تدرك بماذا تفكر , ففي خلال السنتين المصرمتنين , لطالما اقتنعت ان قلبها سيثلج فرحا لو استعادت تفصيلا صغيرا من حياتها السابقة , لا بل انها ستجن ابتهاجا .... وها قد حدث هذا الان .. لكن ما تشعر به هو خيبة الامل المريرة .
لعل هذا ليس كافيا !فما تذكرته ليس باهمية كبرى .... لم ينبها بما يهمها فعلا , بالعلاقة بينها وبين كايل ... ولان هذا بقى مدفونا بكل عناد . فقد انقادت الى ادراك مشؤوم , ان العلاقة بحد ذاتها هي المحنة التي تحدث عنها الاطباء ... وهي التي افقدتها ذاكرتها . فقد وقع خطب ما بينها وبين كايل , حتى رفضت ان تتذكره في لا وعيها على الاقل ...\
- ربما , مع الوقت , قد تظهر ذكرى اخرى ..ز
اجفلتها كلمات كايل الهادئة كانت لهجته باردة مؤلمة بغير حدود ..... وتكشف عن الكثير مما يكتمه .... اشياء يعرفها , ولا تعرفها .
- نحن مضطران الى الامل .
جهدت ليبدو صوتها طبيعيا , وتعمدت ان تصب اهتمامها على افراغ الحقائب , وهي تعض شفتها في كرب مفاجي لادراكها ان هذا ابعد ما تريده ..... انها تحتاج الى الوقت لتكون مع كايل .... لتعرفه تماما .... كما يفعل اي زوجين طبيعين , انها تريد ان تبني معه علاقة قوية يمكن ان تصممد ازاء اي سر في ماضيها , على امل ان المحنة حين تزول اخيرا , لن تفصلهما مرة اخرى كما فعلت في الماضي ... لقد ارادت ان تاتي الى هنا على امل احياء ذاكرتها باسرع وقت ممكن , لكنها الان تريد يائسة ان تؤخر تلك اللحظة قدر ما تستطيع .
غير ان الوقت في الدنيا لن يساعدها , فمهما تقربا من بعضهما الان , ومهما بنيا علاقة قوية .... فسيبقى الماضي موجودا دائما , ظلا اسود يلوح بشؤم على حياتهما , ويدمر املهما في بناء مستقبل .
مد كايل يده امام ايف ليلتقط اللفافة على قمة ملابسها :" ما هذه ؟"
- اوه .... هذه هدية من دايان , اعطتها لي قبل ان نغادر مباشرة .
- لم لا تفتحيها ؟
استغلت ايف تلك الفرصة لتلهي نفسها عن افكارها المقلقة , وفتحت جانبا من الهدية قبل ان تفكر .... وبينما اطبقت يدها على شي ناعم وحريري رقيق , استعادت قول دايان :" هدية لتمضي العطلة بنجاح " وتسمرت في مكانها .
سالها كايل :" ما هي ؟ ايف ....؟
عرفت ان لا بديل امامها الا ان تفتحها , فالرفض سيثير فضوله اكثر .وهكذا جذبت بقية اللفافة الورقية لتكشف عما في داخلها .... فنفضت طرفا حريريا بلون القهوة مزين بالدانتيل العاجي , لتبصر قميص نوم رائع .تصورت دايان مرة اخرى وهي تبتسم , واختنق خداها بلون قاتم حار .
قال كايل معلقا بجفاء :" يبدو ان دايان تملك افكار قاطعة عما سنفعله هنا ".
قالت بصوت متكسر يتعذر سماعه :" هذا ما يبدو ... انها تعقتد انه شهر عسل ثان ".
لكن كلماتها لم تلق الا صمت مفاجي , اخذ يرجع صدى كلامها في الجو .
- اه ... وهل هذا ما تريدينه يا ايف ؟
واطبقت يداه على كتفيها , وادرات لتواجهه , فيما شرائط الدانتيل الرقيقة لا تزال تتدلى من اصابعها وقد شلت فجاءة .
لم يكن صوته يفضح شيئا , ومع ذلك ققد دبت فيها وخزات اثارة وكانها الاف الصدمات الكهربائية الصغيرة تسرى صعودا ونزولا على ظهرها ... واكمل :" وهل خططت ايضا لشهر عسل ثان ؟"
كان صوته الخشن , يتملقها ويغويها ... واحست ايف انها قد تغرق فعلا في عمق عينه .واكمل :
- اهذا ما تفكرين فيه لهذا الاسبوع حبيبتي ؟
كان الصوت الناعم ذو اللكنة الامريكية ينسج حولها سحرا مغويا , فيخدرها , وينتزع روحها من جسدها .
- هل خاب املك حين ... تجنبا لصدمة عاطفية اخرى ...
وظلت السخرية المريرة صوته وهو يكرر ما قالته :"... حضرت غرفتي نوم منفصليتين ؟"
لامست شفتاه الدافئتان خدها , وطالت لحظات تقطع الانفاس , حتى انها تاوهت من دون وعي احتجاجا , حين ابتعدتا عنها , واحست ببرد الحرمان . فسمعت ضحكة كايل الخافتة ... ومن خلف اهدابها , احست براسه ينخفض نحوها مرة اخرى .
تمتم بخشونة على عنقها :" هل هذا ما تريدينه ايف ؟"
- اجل !
تصاعدت في داخلها مشاعر من الابتهاج الحار كالنار البيضاء فقبضت يداها على شعره الاسود .
اتسعت عيناها الان .... وراحتا تحدقان من دون تركيز , لم تضدق قوة هذه المشاعر او تدفقها ... واخذ كايل يرجعها الى الوراء نحو الفراش .
تمتم بخشونة :" لقد قلت انك ستسامين الطريقة الامنة .... وانك تريدين اخذ فرصتك لتتذكري .... وانك مستعدة للمخاطرة كي تواجعي الاشياء التي كانت هامة في الماضي ... حسن جدا ... هذا كان هاما ... والله يعرف ....." وفجاءة اخترقت فكرة صغيرة ذهن ايف عبر السديم الاحمر الذهبي الذي ملا راسها ..... بدت وكانها نصل سكين ثلج , جمد للحظة الخفقان المحموم لقلبها .... هل هذا ما تريده حقا ؟ هل هي , مستعدة للمخاطرة بعواقب هذا العمل كما قال ؟ لم تشك في انها تريد كايل ... وستكون في غاية الحماقة لو حاولت انكارهذه الاحاسيس المتلهفة ... انه كل ما تريده , جسديا عاطفيا ... ولم تكن تابه لو كان هذا مجرد محاولة اخرى لاختراق الحواجز التي في راسها ... انها تريد ان تعرف انه يحبها فهذا هو ما يحقق سعادتها ... لكن تبقى المخاطر
بحاجة الى معرفة الحقيقة في مرحلة ما ... لا بل الى مواجهة الظل الاسود الذي يلوح فوق حياتها .. لكن , اتسطيع مشاعرها الحساسة ان تتعامل مع الحقيقة لو فجرت الحواجز التي بنتها حولها , في ظل هذا الجو المشحون بالعاطفة ؟ ماذا لو انها , في اللحظة التي تمنح كايل حبها , اكتشفت بالضبط لماذا تركته له في الماضي ؟
- كايل .....
كان صوتها ضعيفا ومتهتزا , فلم يسمعه في البداية .... فجربت مرة اخرى :" كايل ؟
اجفلته رنة ما في صوتها , فرفع راسه بحدة لنظر اليها , وفي عينيه مزيج من القلق ونفاذ الصبر .
- ما الامر ؟ ايف ... ماذا هناك .؟ ماذا جرى ؟
- كايل ...
كان عليها ان تجبر نفسها على االكلام , في وقت لم ترغب فيه الا ان تضمه بين ذراعيها مطالبة بحبه بكل الحرارة القادر عليها .
- اهذا ... صواب
- صواب .
ابتعد عنها وهو يصدر صرخة ترجع صدى حركته , ورمى نفسه على السرير ليسير فوق السجادة نحو النافذة , ثم يتوقف في منتصف المسافة ... احنى راسه الاسود الشعر , فيما ظهره القوي متوتر ومتصلب رفضا ... صدمتها ردة فعله , لكنها لم تستطع الا ان تتنظر في صمت مرتجف , وهي تعض شفتها بارتباك عصبي ...
في تلك اللحظة استدار كايل اليها مجددا , وارتجفت كل اعصابها الحساسة ازاء نظرة في عينيه .
قال بخشونة :" صواب ؟ ايف .... لم اعرف احدا غيرك منذ ......"
وفيما هو يكمل الرد على السؤال الذي لم تطرحه , ادركت ايف انه رد كان يجب ان تفكر فيه لنفسها . لكنها , لحماقتها , لم يخطر ببالها .ز فكايل رجل قوي وملي بالصحة .. وكانت منفصلة عنه منذ سنتين .
- لم يكن هذا ما عنيت ... ولو انني اشكرك على ...ز
قاطعها بخشونة :" اذن ماذا ؟ ماذا ؟...
وفجاة ادرك ماذا تعني , فزال عنه الغضب الاسود , لكنه لم يخفف من التوتر في العضلات التي خطت خطوطا بيضاء حول عينيه وفمه .
- انت لا تستخدمين شيئا ...
- لا .
يا الهي .. كم هي ساذجة جدا , وبخت ايف نفسهاا, هل اضاعت كل تعقلها السليم كما اضاعت ذاكرتها ؟ لقد قال لها كايل انه يريد اولاد .. ولو ان هذا كان من الماضي .
- لكن ...ز
منتديات ليلاس
- وبالطبع لا تريدين ان تصبحي حامل .
تشابك صوته بصوتها , فسمرت المرارة السوداء في لهجته الاحتجاج على شفتيها .- افهم هذا تماما .
ازاء توتر اييف , مرت اسارير وجهه بتغيير درامي اخر , وارتفعت يده لتغطي عينيه لحظة ... حين اخفضتها ثانية كان وجهه قد فقد كل لون ..
- اوه ... يا الهي .... طبعا لا تريدين ذلك .
للمرة الاولى , بدا انه يركز نظره جيدا على وجهها , فراى شحوبها والعينين العاتمتين بلون البانسيه وكانهما كدمتان فوق خديها , فاخذ يتمتم شاتما بعنف
- كايل ..ما الامر ؟
كانت ايف على وشك الخروج من السرير , وهي تحتاج ان تتقدم منه , ان تضمه , ان تفعل اي شي لتمسح تلك النظرة الكئيبة عن وجهه ... لكن , وفيما هي تتحرك , رفع يديه بايماءة خشنة , وهو يرفض اهتمامها ... رفض قراته في عينيه ...
وما لبثت ان رماها بكلمات متوحشة مرتجفة :" ايف ... ليس الان ! يا الهي العزيز .... لا استطيع ..."
ومن دون ان ينهي الجملة , رمى بنفسه الى خارج الغرفة , وكانه يريد ان يبتعد عنها قدرما يستطيع ...و باسرع وقت ممكن .
صرخت :" كايل !"
وكانت صرخة مرتجفة يائسة ... صرخة عرفت ايف انها لم تلق صدى , فهو لن يعود .. مهما نادته ....
بجهد يائس , قاومت رغبة طبيعية تدفعها الى اللحاق به ... لكنه , لن يرغب في رؤيتها , لاسيما في هذا المزاج ....
عنفت ايف نفسها بشراسة : اوه ... ايتها الحمقاء ... ايتها الحقماء ! وفكرت انها تصرفت بغباء كبير ... لكن الحقيقة انها وجدتها فرصة لتنفرد به , في ظل جو حميم غير متوتر في منزل اسرة بينيت , او حتى في شقته الحافلة بذكريات من الشجار السابق... ما لم تتوقعه قط ان تكون اللحظة قد حلت بسرعة كبيرة .
لكنها حلت فعلا .. وتعاملت مع الامور بشكل اخرق . لارتاحت اكثر لو انها عرفت مشاعر كايل حقا ... هل بقى الحب الذي اعترف به صراحة سالما خلال سنتين ؟
لماذا لم تساله ؟ حين ارتمى هذا السؤال في وجهها , دفعته عنها مرة اخرى , وهي تعرف انها لم تكن تملك الشجاعة الكافية لتقوم بعمل مباشر كهذا ... فعلى اي حال , كيف يمكن لكايل ان يرد عليها بصدق ؟ كيف يمكن لاي كان منهما ان يعرف الحقيقة الكاملة وظل ماضيهما يحوم حولهما من دون تفسير ؟ ومع انها كانت تحبه بعمق , ومع ان مجرد التفكير بفقدانه يشبه مواجهة الموت , الا انها لن تتمكن من الاعتراف بهذا الحب ابدا ... فمن يدري ؟ قد تعود ذاكراتها في يوم ما , وتعود مها وقائع تثبت ان هذا الحب كاذب .
لكن . هذا هو سبب وجودها هنا , وجمعت ما تبقى من شجاعتها المشتتة , ثم خرجت ببط من السرير , وهي تتحرك متالمة , وكانها تشعر بكدمات جسدية , عليها ان تستغل هذا الاسبوع بافضل ما يمكن , وبدات تفرغ حقيبتها , وكلها عزم على انعاش ذاكراتها النائمة .... فهي لا بد نائمة , ولن تستطيع ان تصدق انها ميتة , ذهبت الى الابد .... سوف تنجح .
ستطلب من كايل ان ياخذها الى كل الاماكن القديمة المفضلة لهما , حيث امضيا معظم اوقاتهما حين كان يعيشان هنا معا ... بالتاكيد , سيقوم ثقل الذكريات بفعلته حتى يتحطم الجدار بنيها وبين الماضي .
يجب ان تتذكر ... يجب ان تعثر على ماضيها ... والا . انتفى المستقبل الذي يجمعها بكايل .
9 – خذي الماس وأعطيني ...
كانت ايف مضطرة إلى ضخ الحماسة في سؤالها : " حسن جدا .. أين سنذهب اليوم ؟ "
كان اليوم يوم الخميس , وهما في نورفولك منذ خمسة أيام , قاما فيها بالتجول في زوايا المقاطعة , إضافة إلى أجزاء من
مقاطعة نورفولك المجاورة ... لكن ايف لم تلق التأثير الذي تأمله وتصلي من أجله .
لقد تمتعت تماما بكل الرحلات التي قامت بها مع كايل , واستنتجت أن المناظر التي استحوذت على إعجابها في الوقت الحاضر هي نفسها التي أعجبتها في الماضي .. ومع ذلك , فكلها جديد في نظرها ...
كان كايل يجلس قبالتها إلى مائدة الفطور , في كنزة رياضية فضفاضة وبنطلون جينز , فراح يتأوه بمبالغة وهو يدفن وجهه بين يديه بيأس ساخر .
صاح محتجا : " ألا تتعبين أبدا ؟ إننا نجول من دون توقف منذ يوم الأحد .. أو يوم السبت في الواقع , نظرا لأنك تصرين على الخروج منذ أفرغت حقيبتك ..."
- لكننا .. .لا نملك سوى أسبوع ! ويجب أن نزور كل الأمكنة .
ارتسمت الكآبة على وجه كايل :
- ايف .. حبيبة قلبي ... أعتقد أننا زرنا كل الأمكنة .. لو يستوفت , غريت يارموث , كما اكتشفنا ملاذ ثعلب الماء ...
ثم رد على ابتسامة ايف بأحسن منها , فيما استغرقت في التفكير :
- ... لقد تمتعت بهذا .. أليس كذلك ؟
أشرقت عينا ايف وهي تتذكر ساعات التي قضيناها في مراقبة لمخلوق , البراق العينين , الطويل الذنب , يلعب في البركة الواسعة :
- بل أحببته ! لكنني أحببت " الديبورة " كذلك ... و "بوري سانت ادموند " و " سومير ليتون " بشبكة متاهاتها .. عرفت ل
لاحقا أنك لو أردت الدخول إلى المتاهة ثم الخروج منها ,
فما عليك إلا البقاء إلى اليسار .. لكنني سأتذكر هذا دائما الآن ...
وما إن أبصرت التغيير في العينين العميقتين , والعبوس على وجهه حتى استدركت , وحاولت بسرعة أن تخفي غلطتها ..
- القرى في هذه المنطقة جميلة جدا .. ولقد أحببت كل الأكواخ الصغيرة المسقوفة بالقش .. لكن ...
دخل كايل بصراحة إلى صلب الموضوع : " لكنك لم تستعيدي ذاكرتك . "
- لا .
أزاحت ايف طبقها جانبا , وقد فقدت شهيتها للطعام , الذي كانت تلتهمه منذ لحظة .. كان يصعب عليها أن تنظر إلى عينيه المتفحصتين ...
ووعت بألم كل الكلمات الصامتة فيهما . ثم فكرت في الأيام التي أمضياها يستكشفان الريف , ويزوران الأماكن التي أكد لها كايل أنها تحبها , فنجحت في تجنب الموضوع الأكثر إثارة للخلاف , حول علاقتهما الجسدية الحميمية ...
كان يمضيان ساعات طويلة في الهواء الطلق , فيعودان إلى " مونتاغوي " منهكين لا يفكران سوى بوجبة الطعام ونوم
مبكر ... كل وحده . فمنذ نزلت ايف إلى الطابق الأسفل بعدما أفرغت حقيبتها يوم وصولهما , وجدت كايل يتصرف وكأن ما حدث في غرفة نومها لم يكن أصلا . ومن دون أن تسأله , أبقى كايل يديه بعيدتين عنها .. بعيدتين أكثر من اللزوم .. وأقنع نفسه بالقبل القصيرة , التي لا تتعدى القبلات الأخوية في مساء كل يوم . وأحست ايف بالإحباط لهذه المداعبات
الخالية من العاطفة , فكانت تخلد إلى الفراش كل أمسية وهي تقاوم الشوق القوي داخلها ...
قالت متوسلة , ليفهم كم يهمها الأمر :
- لا بد من وجود أمكنه أخرى .
قطب كايل وهو ينظر إلى قهوته , وكأنه قد يجد الرد في قعر الفنجان .
أخيرا قال : " شيرينغهام " .
سألت : " شيرينغهام ؟ أي إلى الشمال من هنا .. أليس كذلك ؟ على الساحل ؟ "
هز كايل رأسه : " إنها تقع غربي " كرومر " مباشرة , قرية ساحلية صغيرة "
- إلى شيرينغهام إذن !
وأجفلت ايف لرنة صوتها .. كان حماسيا من القلب , وواضح أن كايل اعتقد هذا كذلك .
- ايف .. هل فكرت بما قد يحدث لو ..
- لو أنني لم أتذكر فقط ؟
أوه ... أجل .. لقد خطر لها الأمر ثم دفعة الفكرة بعيدا مصحوبة بالخوف الذي جاء معها .. لن تستطيع تحمل لو فشلت رحلتهما إلى نورفولك , فشلا ذريعا .
قالت : " لقد فكرت بالأمر .. لكنني لن أستسلم إلى أن نجرب كل الإمكانيات .. لذا ... "
وبمقاومة , عاد صوتها إلى طبيعته ..
- اليوم سنزور شيرنغهام ... هيا أيها الكسول , انهض على قدميك وساعدني لأغسل الصحون , كي نخرج .
منذ تلك اللحظة , تقدمت إلى الأمام , مدفوعة بتصميم وثبات ... وهي تحاول أن تفكر بإيجابية . طوال اليوم الغائم , راحا
يستكشفان القرية , إضافة إلى القرية المجاورة الأكبر حجما " كرومر " ... لكن , طريف العودة إلى المنزل , كان مغايرا . فما إن وصلا منزل مونتاغوي , حتى أحست بتشاؤم يسري فيها مثل الغيم الأسود الذي بدأ يتجمع في الأفق .
انفجرت بينما تهالكت على الأريكة بتنهيدة تعيسة :
- لا شيء ... ! لا شيء أبدا ! ولا حتى لمحة واحدة من الذكرى ! ... كان من الأفضل لو بقينا في المنزل .. في الواقع , ما
- كان يجب أن نأتي إلى نورفولك , لأن هذا لم يولد في أي شيء جديد !
رد بهدوء : " هذه ليست نهاية العالم "
وكان رده بالنسبة لايف خاليا من أي عاطفة .
ردت بحدة : " بالنسبة لك ربما ! لكنه يعني لي الكثير لي "
ازداد مزاجها المنزعج تفاقما , لاسيما حين استعادت اللهجة المهتمة في صوت كايل ذلك الصباح حين حاول أن يحذرها أنها
قد لا تستعيد ذاكرتها مجددا .... وتصاعدت دموع المرارة إلى عينيها فيما أخذت تخفيها جاهدة .
- أعرف , لكن .. اسمعي , لقد تجاوزت الساعة السابعة . لم لا أحضر طعاما ؟
- لا أريد أن آكل شيئا ! لست جائعة !
كيف يمكن أن يفكر بمعدته فيما هي على وشك أن تخسر مستقبلها كله ؟
- لا أستطيع أن آكل شيئا .
- يجب أن تحاولي ...
- لا أريد ! كيف يمكن أن تكون على هذا الشكل ؟ أنت تتصرف وكأنك لا تهتم حقا ...
قال بصراحة : " أنا لا أهتم "
وصدمت .. لم تقو إلا على التحديق فيه غير مصدقة : " أنت .. ؟ "
- أنا لا أهتم لو لم تستعيدي ذاكرتك أبدا .. أو لو استعدتها فجأة خلال ثانيتين .. فأنا أحبك مهما حدث .
- ماذا ؟
لو كان قد أذهلها من قبل , فكلماته الأخيرة هذه دمرتها تماما .. فهل قال حقا ما خيل إليها أنه قاله أم أنها تتخيل الأشياء ؟
- أنت ... ؟ أنت .... ؟
التقى كايل بعينيها الزرقاوين المتسائلتين بهدوء عميق ... وما لبثت العيون أن تشابكت من دون أثر للتردد أو الشك .
- أحبك ايف .. لكنك بالتأكيد تعرفين هذا .
- أنا ... لكن ...
وتمنت ايف لو تستطيع ترجمة أفكارها في نوع من الشكل المفهوم .
- أعرف أنك أحببتني من قبل .. حين كنا معا .. لكن , منذ ذلك الوقت ..
هنا خذلها صوتها تماما , ثم رجفت حنجرتها وهي ترى وهج العاطفة على وجهه .
- يا إلهي ... ايف .. هل تظنين أنني توقفت عن حبك ؟
إذا كانت ترتاب بذلك , فلا مجال للشك الآن ... لقد كانت مخطئة ...
كانت مشاعرها مطبوعة بوضوح على قسماته القوية .
بدأت تتمتم : " كايل ... "
لكنها لم تستطع أن تستمر فقد خذلها صوتها مجددا .
- أوه ... اللعنة ..
تقدم ليجلس إلى جانبها وهو يمسك يدها , وقد أنبأتها قوة القبضة عن إحساسه : " لم أخطط أن أقدم على الأمر بهذه الطريقة ... "
مد يده الأخرى إلى جيبه : " هل تتذكرين أنني وعدتك في حفلة عيد ميلادك بهدية تفوق الزهور قيمة ؟ "
ظهرت على وجهه ابتسامة سريعة ساخرة وفاتنة دون حدود .
- على الأرجح تظنين أنني لا أفي بوعدي ... وأقسم أنني كنت أنوي أن أبر به ... لكنك كنت غاضبة بحيث أعدت التفكير ...
ولم يبد لي الوقت مناسبا ... لكن , حين وافقت على المجيء إلى هنا , فكرت ...
استجمع قوته بابتسامة صبيانية كان لها تأثير مدمر على ايف .
قال بلمسة ساخرة : " أنا ضائع .. ألقي اللوم على أعصابي .. ايف لقد سألتك هل تحبين ارتداء الألماس , لو منحتها لك ..."
أحست ايف وكأنها تتلقى عدة ضربات قوية على رأسها , فاستحال عليها أن تفكر بجلاء .. كانت بالكاد قد استعادت رباطة
جأشها بعد توتر كايل حتى أيقظ ذكر الألماس كل اهتمامها فاضطربت وجف فمها فجأة .
لا يمكن أن يعني .. هل يمكن ؟ ليس الآن .. ليس وهي على هذه الحالة من الارتباك الكامل ... بالكاد تعرف كيف تفكر , هذا عدا بماذا يفكر .
لكن كايل كان قد أخرج يده من جيبه , ثم مدها نحوها وهو يفتح أصابعه المطلوبة ويكشف عن علبة كحلية صغيرة . كانت تعرف أنها لا يمكن أن تحوي سوى على غرض واحد , إلا أنها لم تكن تملك فكرة هل تتشوق إليه أم تخشى من رؤيته .
- ايف .. حبيبتي .. هل تعودين إلي ؟ هل تضعين هذا الخاتم مجددا وتكونين زوجتي ... و ... ؟
- كايل .
وكان صوتها أجش متكسرا , هو كل ما قدرت عليه .. مرة أخرى خذلها صوتها وهي تتلفظ باسمه ولم تعد تعرف كيف تكمل .. شعرت وكأن المشاعر القوية التي تختزنها , تجمعت في عقدة واحدة قوية في حلقها حتى منعت أي كلام من الخروج .
- أوه .. أعرف أنه ليس الوقت المناسب .. فالوقت مبكر جدا , ومتأخر جدا , معا .. كان يجب أن أنتظر حتى تشعري بسعادة
أكبر داخليا .. أو أن أسألك مباشرة , ومنذ سبعة أسابيع .. لكن الحب ليس هكذا , الحب لا يعرف وقتا ... لا يجلس بنظام في زاوية ما بانتظار أن تحتاجي إليه .. إنه يقفز ويصدمك في الوجه , بينما لا تتوقعينه .
كانت ضحكته أشبه بابتسامته السابقة , مهتزة قليلا وفيها شيء من السخرية بالنفس .
لقد تقرر مصيري منذ ثلاث سنوات ونصف حين وقعت شقراء جميلة عن السلم المتحرك بين ذراعي مباشرة .
- أنت .. أحببتني ...
كانت ايف لا تزال تجد مشكلة في فرض النظام على أفكارها الحائرة .. وبدأ أن عقلها يتأرجح من إحساس إلى أخر.
- لقد ظننت أنني مجنون بحبك .. لكنني لم أكن أعرف نصف الحقيقة .. أما حين رحلت , فأدركت ما أشعر به حقا .. ولم أعد أعرف كيف أعيش من دونك ...
أنبأتها المشاعر الفجة في عينيه , كيف أحس حين اكتشف رحيلها , ووبخها ضميرها بوحشية لفكرة أنها مسئولة عن الألم الذي حفر جوانب قلبه .
- همست : " أنا .. آسفة "
وشد قبضته على يدها .
- لا بد أنك كنت تملكين أسبابك .. وكم أتمنى لو أعرف ذنبي .. لن يقودنا هذا الطريق إلى أي مكان ايف .. فالسنتان الماضيتان منذ تركتني كانتا أطول أوقات حياتي . وعرفت أنك لا تريدين مني أن أجدك .. لكنني لم أستطع التوقف عن البحث , لم أكن
أعرف أنني أبحث عن " ايف مونتاغوي " ولا عن " جانفياف بوكانن " ... لكنني ,. حين قرأت أول فصول كتابك , أحسست وكأنني ضربت بمطرقة , ظننتك تتعمدين إثارتي وتسخرين مما كان ..
قاطعته بلهفة : " لا يمكنني أن أفعل هذا ! "
وهز كايل رأسه متفهما : " أعرف .. لكن منذ ذلك الوقت , لم أعد أفكر بشكل صحيح .. فجئت أبحث عنك .. وكنت غاضبا .. مستعدا للقتل "
تمتمت : " كان يبدو عليك هذا "
وتذكرت العنف الذي كان بالكاد سيطر عليه , ,هالة الخطر التي أخافتها كثيرا .. المشكلة أن جزء من تلك الهالة ما زال موجودا .. لكن قوة حبها له كفيلة أن تمحو كل شيء .. لكنها لن تتمكن من محوها إلى الأبد إلا حين تعرف لما هجرته ..
أكمل كايل : " لكن , حين أغمي عليك .. ذعرت للطريقة التي تصرفت بها .. وعرفت أنني كنت أكذب على نفسي بالتظاهر
أنني أكرهك , وبموت حبي لك . كنت أعرف أنه لا زال موجودا , قوي أكثر من أي وقت مضى .. بل أقوى بكثير .. ثم قال لي جيم إنك فقدت ذاكرتك .. "
هز كايل رأسه الأسود في إيماءة كشفت كل الارتباك والكرب اللذين أحس بهما في تلك اللحظات .
- لم أعرف ما العمل .. لم أعرف هل فقدت ذاكرتك حقا , أم أنها مجرد طريقة تقولين فيها إنك لم تعودي تريديني .. لم أكن
أعرف هل كان السبب ذنب اقترفته , وإذا كان هذا هو الحال , هل أذهب وأتركك بسلام ؟ .. لم أعرف هذا أيضا , وحين اقترحت أن نتعامل مع الأحداث بروية , بد لي الأمر بمثابة طوق النجاة , وتمسكت به , ثم فيما بعد , ملكت الوقت لأفكر وأهدأ , فسعيت إلى نصيحة أخصائي , وأقسمت أن آخذ الأمور بروية شديدة وثابتة , وأن أمنحك كل الوقت الذي تحتاجين إليه.
مرة أخرى التوى فم كايل بابتسامة ساخرة :
- لكنني لم أتمكن من هذا تماما ... أحيانا كنت أضغط عليك بقوة ... وأتطلب منك أكثر مما تستطيعين أن تقدمي .. وكنت أحس إحساسا رهيبا فيما بعد .
لكنه لم يتصرف هكذا إلا مدفوعا بقوة مشاعره , وهاهي ايف تعرف هذا الآن .
قال كايل ساخرا : " وها أنا أضغط عليك مجددا .. أليس كذلك ؟ ها أنا ذا أطلب منك أن تعودي وتعيشي معي كزوجتي , حتى إنني لا أعرف مشاعرك نحوي "
- هذا أمر بسيط ... فأنا أحبك كثيرا كما تحبيني تماما ....
ستكون حمقاء لو حاولت الإنكار الآن , إنها تعرف أن هذا يظهر في توهج عينيها , واللون الدافئ على خديها , والابتسامة المشرقة التي لا يمكن أن تمنعها بأي شكل .
- وسأتخلى عن أي شيء في الدنيا لأقول نعم , أعود إليك .. فهذا ما أريده من كل قلبي . لكن أظن أنني بحاجة إلى مزيد من الوقت .
واغترفت في سرها أنها لا تحتاج إلى وقت لتتخذ قرارها , فهذا مقرر سلفا .. هذا إذا كان من قرار تتخذه حقا , حقا , فما إن أدركت كم تحبه , حتى أرادت أن تقضي بقية حياتها معه , ستفعل أي شيء ليبقيا معا إلى الأبد .
لكن الأمر ليس بسيطا إلى هذا الحد .
ليس من حقها أن تقبل طلب كايل .. ما من شيء يجبرها أن تكون زوجته .. في وقت لا تعرف لماذا تركته أصلا , أو كيف شعرت نحوه خلال الأسابيع القليلة التي سبقت هربها من المنزل .. وحتى تتلقى الرد , لن تستطع إلزام نفسها به .. ليس لأنها لا تثق بكايل , ب لأنها لا تستطيع الثقة بنفسها . لقد جرحته سابقا بقسوة , ولن تتحمل أن تجرحه مرة أخرى ,
فهي تحبه كثيرا , وتفضل أن تحرم نفسها من السعادة إلى جانبه , على أن تخاطر بعواقب تتأتي على عودة ذاكرتها.
لكن الأمر صعب جدا ! فجأة , انهمرت دموع المرارة التي كانت تهددها , وهذه المرة , لم تستطع أن تسيطر عليها .
قال كايل بصوت حاد وقلق : " أوه ... ايف! يا إلهي ... حبيبتي لا تبكي ! "
وضمها بين ذراعيه , وهو يسحقها على صدره القوي .
- أوه .. كايل ... لا يجدر بالأمر أن يكون هكذا ! لقد أعلن كلانا حبه للآخر .. أنت تريد عودتي , وأنا أريد العودة .. وعلى هذه اللحظات أن تكون الأروع . بل إحدى أسعد لحظات حياتنا .. لكن , بما أنني أجهل ذلك الجزء الضائع من
ماضي , فقد انقلب كل شيء إلى كابوس ...
هدأها كايل : "هس ... حبيبة قلبي "
كان صوته أجش حافلا بالمشاعر التي تماثل مشاعرها .. وأحست بيديه على شعرها , وهما تبعدان الخصل الذهبية عن وجهها .. وتلقت مداعبة ناعمة مواسية ..
لكن , بعد ثانية , وخلال طرفة عين , انقلبت هذه المواساة الرقيقة , إلى وق باهر .. كانت ايف مرهقة جدا , واستنزفت
عاطفتها , ولم تفكر حتى بأية كوابح .. لكن كايل كان هو من انتزع نفسه بعيدا بأنفاس خشنة , ثم رفع يده إلى شعره قبل أن يحيط خصرها بذراعيه ويشدها قريبا منه حتى سمعت ضربات قلبه المتسارعة وهو يكافح ليسيطر على نفسه .
قال وكأنه يقسم بعمق : " لو تزوجتني , فسأمنحك مستقبلا تنسين معه أن ليس لك ماضي "
وأحست ايف أن قلبها أخذ يخفق متثاقلا استجابة لرنة صوته ...
قالت وهي تتوسل بهمس : " كايل .. أخبرني عن نفسي .. أي حادثة سعيدة ..."
- صادفتنا الكثير من الأيام السعيدة .. صدقيني .. مثل المرة الأولى ...
قاطعته بحدة : " لا ! "
ما كانت تريد هذا .
- أخبرني .. أخبرني كيف كانت .. علاقتنا .
كانت لحظات الصمت استجابة كايل الفورية , بدا لها أنها تمتد إلى ما لا نهاية , فانتظرت وقد فرغ صبرها . كان إحساسها يزداد مع كل لحظة تمر .
وظنت أنه لن يرد عليها .. حينها , تنحنح بخشونة . وقال بصوت أجش :
- كنت رائعة .. وخجولة في البداية .. وبريئة . لكن مع ازدياد ثقتك بنفسك , أصبحت متفتحة .. ومعطاءة ..
طعنتها لهجته الحساسة في القلب مباشرة . أحست بما تشاركاه يوما , شعور لا تعرف الآن عنه شيئا .. لم تكن العاطفة
المشبوهة في شقة كايل تماثل الأمان المتوهج للحب حيث لا كوابح , ولا تردد . فالحب هو علاقة شخصين في اتحاد مكتمل . شعرت بذراع كايل تشد حولها , ودفء جسده القوي إلى جانبها , وأدركت أخيرا بما لا يدع مجالا للشك , أن القول لها ليس كافيا ... يجب أن تعرف .. وأن تعرف الآن .
بدأ كايل يقول : " أنت ... "
لكنها تلوت تحت ذراعه , ورفعت يدها لتضغط أصبعها على شفتيها وتسكته .
همست : " لا تقل المزيد يا كايل .. لا تقل لي حبيبتي .. بل أظهر لي !"
في هذه الليلة وحدها على الأقل , ستنسى الماضي وغموضه , ستنسى المستقبل ومخاطره المحتملة .. في هذه الليلة ستعيش لحاضرها , ولا شيء غيره .. هذا الحاضر هو كل ما تريده . *********
كانت ايف في الحديقة حين رن جرس الهاتف . تردد صداه داخل المنزل الفارغ فسارعت إلى الردهة لترفع السماعة : " آلو؟ " .
أرجوك ربي . ليكن المتصل كايل ! لم تستطع أن تصدق أن أربعا وعشرين ساعة مرت منذ غادر إلى لندن .. لقد اشتاقت إليه كثيرا , حتى أنها أحست أن عمرا بكامله مضى منذ الليلة الماضية .
- هل أستطيع أن أتكلم نع السيد جنسن أرجوك ؟
سرت في ايف موجة خيبة أمل وهي تسمع صوت امرأة في الطرف الآخر من الخط .. إنه ليس كايل , فهو مشغول جدا
ليتصل بها .. أو ربما يكمل عمله في لندن , أو لعله عائد الآن إلى نورفولك .
- أنا آسفة .. لكنه اضطر إلى السفر إلى لندن .. لأزمة تتعلق بعمله .
ولم تستطع أن تخفي رنة الأسى في صوتها , فاستعادت ذكرى الأمسية السابقة , حين قاطع وجبتهما المتأخرة اتصال
هاتفي مماثل , ليخترق الجو الدافئ السعيد .. كانت لا تزال تسمع الانزعاج في صوته , ونفاذ الصبر الذي يكاد لا يسيطر عليه .
قال بحدة : " لكن , ألا تستطيعين التعامل مع المسألة كاتي ؟ بالتأكيد ...؟ ... أوه أجل .. حسن جدا إذا كنت تظنين أنه بالغ الأهمية "
وما لبث أن ترك السماعة بصدمة قوية , واستدار إلى ايف : " أنا أسف جدا حبيبة قلبي ..."
لم يرغب في الذهاب فورا .. فاضطرت إلى حثه , تؤكد له أنها لا تمانع أبدا , بينما كانت تمانع , كثيرا .. فرسمت ابتسامة مزيفة وأخبرته أن يسافر فورا بدل الانتظار حتى الصباح كما قرر .
واندفعت تجادله : " بهذه الطريقة , ستكون في المكتب باكرا , وتنهي كل أعمالك ثم تعود إلي في المساء باكرا .. أما إذا ذهبت غدا , فلن تصل إلى هناك قبل منتصف النهار , وعلى الأرجح لن تتمكن من العودة إلى البيت قبل السبت على
الأقل"
ورفضت إظهار كربها , بينما كانت تدفعه نحو السيارة .
- سأعود في أسرع وقت ممكن .. حتى ولو اضطررت إلى القيادة ليلا .
وتوسلت إليه :" قد السيارة بحذر .. وعد إلى البيت سالما "
ألتمعت عيناه لتظهر كم عنت له كلمة " البيت " .. ثم وعدها بعمق: " سأفعل "
لكن جمود غريبا تولاه فجأة وهو ينظر بعمق إلى وجهها , حتى أصبحت نظرة قاتمة مفكرة .
- حين تعود , لدي كلام جدي أقوله لك .. علي أن أطلعك على بعض الأحداث .
لم تنتبه لجملته الأخيرة حقا .. ولم تدرك ايف إلا الآن هذا الإحساس بالخسارة , الذي راح يمزقها فيما سيارته تبتعد . ضحلت كل الأفكار الأخرى من رأسها , وعرفت بخوف وتوتر ماذا كان يعني .
- آلو ؟
عادت ايف إلى الحاضر بسرعة وأدركت أن المرأة على الخط الآخر عن الهاتف قد تمتمت بشيء آخر ..
- أنا آسفة .. فأنا لا أعرف موعد رجوعه .. اسمعي سيدة الدرسون .. أنا جين .. هل أستطيع أخذ رسالة ؟
- أوه .. هكذا إذن .. لم أكن أعرف .. حسن جدا ,أطلبي منه فقط أن يعلمني متى أبدأ العمل مجددا ؟ لقد قال لي أن آخذ
إجازة هذا الأسبوع , وأنه سيتصل بي حين يريدني أن أعود .
- حسن جدا .. سأقول له ... سأطلب منه الاتصال بك ما إن يصل إلى هنا .. الليلة ربما .
أعادت سماعة الهاتف إلى مكانها . وكانت تتجه إلى المطبخ حين هبطت عليه الحقيقة الكاملة , وكأنها النور الذي يعمي البصر , في غرفة شديدة الظلام .. فتسمرت في مكانها كالميتة في ذهول مصدوم .
قالت بصوت مرتفع : " سيدة الدرسون " وارتجف صوتها بالمشاعر :
" سيدة الدرسون "
لقد عرفت اسم المرأة , وعرفت صوتها ! عرفت أن المرأة التي كانت تكلمها هي المرأة التي تأتي لتنظيف المنزل وتعتني
به . ولقد تكلمت معها بصفتها " جين " لا " ايف " بل " جين " , الاسم الذي كانت تستخدمه قبل أن تلتقي كايل .. قبل أن تفقد ذاكرتها .
- أوه .. يا إلهي !
ارتمت ايف على كرسي قريب , إذا لم تقو ساقاها على دعمها . السيدة الدرسون .. جين ! لقد استعادت ذكرى أخرى .
لكن , كيف تتذكر عاملة التنظيف في وقت لا تذكر فيه أدنى التفاصيل عن كايل , هذا الرجل الذي عاشت معه في الماضي والذي تحبه الآن بكل جوارحها ؟ كيف يمكن لهذه الشخصية الثانوية من ماضيها أن تتغلغل إلى عقلها , بينما أهم إنسان
في حياتها لا يزال لغزا بالنسبة لها ؟
ألا أنها تقيم في " منزل مونتاغوي " لأكثر من أسبوع , بدأ الجدار بينها وبين ذكرياتها يضعف تدريجيا بحيث أصبح
للأسماء هويات , مثل السيدة الدرسون ؟ أيعقل أن هذا قد بدأ يتسرب عبر الشقوق بين حجارة الجدار ؟
لكن , في هذه الحالة لم تتذكر كايل ؟ فهو أكثر من تحب ويعني لها الكثير .
أم أن العكس هو الصحيح ؟ وفجأة , طالعها أسم إحدى الأخصائيات التي دأبت على القول أن فقدان الذاكرة لا ينتج عن سبب جسدي في العادة أبدا .. وإنما سبب عاطفي .. ومن المحتمل أن يكون نتيجة محنة ما , محنه لا يحتمل من يعانيها أن يتذكرها .
- لا !
أطلقت ايف صرخة , وهي تدور حول الغرفة بقلق . كانت مصعوقة , ومكروبه جدا , حتى عجزت عن البقاء من دون
حراك . إذا كانت لا تستطيع أن تتذكر كايل , فهذا يعني بالتأكيد أن المحنة التي ألمت بها , أيا كان سببها , تتعلق بالرجل الذي تحب .. وهي لطالما شكت في هذا الاحتمال . لكن تعرفها إلى السيدة الدرسون الآن بدأ وكأنه يؤكد نظريتها .. وما إن أدركت الأمر حتى أطبق على قلبها إحساس قاس , بارد كالثلج .
منتديات ليلاس
ما السر الذي يجب أن تكشفه عن الرجل الذي منحها قلبها ؟ هل ستدمر الحقيقة حبها الجديد , آمالها بالسعادة ؟ لقد وعدها كايل بمستقبل... لكن هل يمكنه أن يحافظ على وعده أن القدر سوف يخطو إلى الأمام , ويثبت أن آمالها مبنية على أساس واهن ؟ ومع دلالات التحذير عادت آخر كلمات كايل لتعذبها , وتتردد كالصدى مرات ومرات داخل رأسها حتى
يتضاعف إنذارها بالشر مع كل ترديد .. " حين أعود ... لدي حديث جدي .. علي أن أطلعك على بعض الأحداث "
ماذا يريد كايل أن يقول لها بالضبط ؟ اجتاح جسمها إحساس رهيب من الخوف , ليحيل الدم في عروقها إلى جليد.. أسرار
يجب أن تعرفها بعد ؟ ما هو المدفون في ماضيها ؟
في هذه اللحظة , شعرت بقدرة أقل على التعامل مع هذا كله , فعادت إليها ذكرى الحلم الذي راودها في الليلة السابقة ,
ليلاحقها مجددا . كان كابوسا لاحقها خلال الأيام الأولى لسكنها مع دايان وجيم .. وكم من ليال استيقظت فيها من جراء
هذا الكابوس متعرقه ومرتجفة .
في الحلم , كانت وحيدة , في ممر مظلم طويل , لا تسمع إلا نحيب يائس يقطع نياط القلوب .. ولم تكن قادرة على تحمل هذا الصوت المعذب.
كانت تبح بذعر لتجد مصدره , تفتح باب بعد باب , لتجد كل غرفة فارغة دائما , وراح ذلك النحيب الرهيب يتردد في أذنيها طيلة الوقت .
لكن حلم ليلة أمس . كان مختلفا قليلا .. وللمرة الأولى , تعرفت إلى المنزل في الحلم . كان منزل مونتاغوي .. اعتقدت أن هذا أمر طبيعي , لاسيما بعد أن أمضت أسبوعا عاطفيا متأزما هنا , لكن الصدمة المرعبة هو إدراكها أن الإنسان الذي كان يبكي , لم يكن , إلا هي بنفسها .
ولم تبرز ايف من الظلال السوداء التي ملأت أفكارها , إلا بعد أن أمسكت أصابعها مقبض الباب البارد , واكتشفت , دون وعي , أن حركتها قد أوصلتها إلى الطابق العلوي . فسارت كالعمياء , من دون إحساس بالاتجاهات , إلى خارج غرفتها
في مواجهة الباب المقابل .
لكن , لماذا هذه الغرفة بالذات ؟ حاولت أن تفتح الباب , بدون جدوى . ثم تذكرت أن الغرفة مجرد مستودع , لم تؤثث بعد , كما قال كايل .
لكن في المنزل غرف عديدة أخرى لم تؤثث كذلك , ومفتوحة تماما .
أخذت ايف ترتجف بوعي فجائي بارد , وقلبها يخفق بإثارة مخيفة وهي تدرك أن هذه البقعة بالذات هي التي راودتها في حلمها , حيث تصغي إلى ذلك النحيب الرحيب الذي يقطع القلوب .. في مكان ما من الزوايا الخفية في ذهنها , مكان معتم . أدركت أن في الغرفة سر بالغ الأهمية .. أرادت أن تدخلها بأي طريقة .. يجب أن ترى ما هو وراء هذا الباب الموصد..
دخلت غرفة كابل وهي بالكاد تعي ما تفعل وعيناها تبحثان بذعر في كل مكان .
همست لنفسها : أرجوك , أرجوك .... أرجوك ربي ! أرجو ألا يكون كايل قد أخذ المفتاح معه !
استقرت خيبة الأمل فيها وهي تدرك أنها لا ترى شيئا وأن المفاتيح ليست موجودة .. لكنها لن تتراجع الآن ... فلا بد من أنها موجودة في مكان ما ! وبحركات مرتجفة , أخذت تفتح الأدراج عشوائيا , وهي ترمي الملابس من دون اهتمام ,
وتتركها كبعثرة أينما كان .. لكن , مرة أخرى كان بحثها غير مجد .. وأخيرا لم يبق أمامها سوى الخزنة ...
ترى , ماذا كان يرتدي بالأمس ؟ بيدين مرتجفتين فتشت , من دون أن تعرف ما تبحث عنه .. سترة جينز .. هذه السترة ! وما إن هزتها حتى سمعت صوت معدن خفيف في جيبها , فانحبست أنفاسها في حلقها .
يا إلهي .. أرجوك فلتكن هي .. أرجوك !
وعضت على أسنانها على شفتها السفلى بقوة .. وانتزعت السترة من التعليقه وراحت تبحث في جيوبها .. وما لبثت أن أفلتت منها تنهيدة ارتياح بينما كانت أصابعها تطبق فوق مجموعة المفاتيح الباردة الصلبة ..
بدت له الرحلة قصيرة من غرفة النوم إلى الباب المقفل , وكأنها بطيئة بطيئة . كانت قدماها تجرانها بألم , غير أنها
وصلت في النهاية .. وهنا , عانت من جديد لتبقي يدها ثابتة وهي تدس المفتاح الأول في القفل .
وترقرقت في عينيها دموع ملتهبة لإدراكها أن المفتاح غير مناسب ..
و غشي بصرها وهي تتعثر في محاولات فاشلة .
- أوه .. هيا ... هيا !
صدح صوت المفتاح الأخير وهو يدور في القفل , حتى خرق صمت المنزل . وللحظات طويلة مضطربة , نظرت ايف إلى قفل الباب قبل أن تجمع أعصابها , وتدير المفتاح مرة أخرى ثم تدفع الباب إلى الأمام .
لم تكن الغرفة غرفة مستودع .. واجتاحها الدوار وهي تقف مسمرة في الباب .. وواضح أنها مؤثثة مثلها مثل الغرف الأخرى
.. تأملت ورق الجدران برسومات للغيوم والبالونات الطائرة , كان الأثاث صغير الحجم حديثا جدا . أما السجاد ذات اللون الأزرق فكانت تتوهج في شمس بعد الظهر المبكر , فيما النور يتسلل من النافذة لينسكب على خزانة البطانيات حين ترتفع
الألعاب زاهية لم تلمس بعد .. أما في وسط الغرفة ..
وفجأة دوى في رأسها طنين ألف نحلة غاضبة , فتقدمت إلى الداخل ببضع خطوات مترددة مرتجفة .. وامتدت يداها أمامها
وكأنها تسعى إلى شيء يدعمها .. ثم اقتربت من مهد صغير من خشب الصنوبر , فتصاعدت آهة , بل صرخة عويل وكأنها أنين حيوان يعاني ألما شديدا .. وبمزيج من الصدمة والرهبة , أدركت أن الصرخة خرجت من فمها , تماما كما في الحلم .
أوصلتها بضعة خطوات إضافية إلى السرير الصفير , فتمسكت يداها بأطرافه بقوة حتى هددت بتحطيم الخشب . ثم أبصرت التعاليق المتحركة المبهجة التي تتدلى من السقف .. واللحاف الرائع الألوان ...
وفجأة , ظهر الرباط المفقود .. وطالعها جسم صغير نائم برضى , وقد لفه الدفء , وشعر أسود ناعم يرتاح على الملاءة الزرقاء الشاحبة , ورموش طويلة فوق خدين زهريين.
في تلك اللحظة .. تهاوى الجدار داخل رأسها وولى إلى الأبد , ليطلق من وراءه سيلا من الذكريات راحت تتدفق إلى تفكيرها دونما هوادة , فتدمرها , وتمطر ذهنها بقوة الإعصار , إلى أن أطلقت صرخت يأس , ووقعت على الأرض .. فيما يد الظلام تحيط بها .....
10 - تهاوى الجدار
"ايف .... ايف ... حبيبتي ...!!!""
في البداية لم تعرف مطلقاً هل الصوت نداء حقيقي ام انه مجرد صدى في رأسها
لكنها احست ان ذراعين جبارتين تحملانها و تضمانها الى صدر قوي .
لم تكن تعرف هل فقدت الوعي ام ان التفكير والاحساس قد هجراها ..
لكنها كانت غارقة في طوفان من الذكريات التي اكتسحتها دون رحمة ,
وكل ما تعيه هو خفقات قلب كايل في أذنها وصوته يهدهدها بلطف ... فتهالكت على صدره بتنهيده وهي لا تستطيع ان تقاوم عاصفة الذكريات ..
وهاجمتها الصور ... فأبصرت المناظر السعيدة من ايامها الاولى مع كايل وقد اصبح وجهه الآن اكثر قوة في رأسها وكأنه لم يختف عنها يوماً ...
وعاشت مجدداً ذكرى لقائهما يوم تعانقا للمرة الاولى ,
اضافة الى السعادة في حفل زفافهما وانتقالهما الى نورفولك ..
واخيراً تذكرت الوقت الذي عاشت فيه هنا مع كايل في هذا المنزل الرائع وفرحهما الغامر حين اكتشفت انها حامل , وقمة السعادة التي عرفتها وهي تعيش مع طفلهما الذي ينمو في داخلها ...
لكنها , تلقائياً عرفت كذلك لماذا محى عقلها كل ذلك الماضي ولماذ خبأ عنها الرعب الذي هربت منه ..
وراحت تبكي بصوت مرتفع :
" اوه ... بن .... بن ! طفلي الصغير ! ."
" هس .... حبيبتي !".
كان صوت كايل حافلاً بعذاب يماثل عذابها . واشتدت ذراعاه حولها :
" يا الهي .. لم اكن اريدك ان تكتشفي الامر بهذه الطريقة !
كنت سأخبركِ كل شئ هذه الليلة ... اردتكِ ان تعرفي بلطف .. لا كالمرة السابقة
وعرفت ايف ماذا يعني ,
وتجلت "المرة السابقة " بشكل معذب ...
فاستعادت الذكرى المتوحشة يوم استيقظت متأخرة ذات صباح بارد لتدرك بدهشة ان طفلها البالغ من العمر عشرة اسابيع لم يزعجها كعادته او يطالب بالطعام بإلحاح صاخب ..
وعاشت مرة أخرى تجربة الرحلة المرعبة من غرفتها الى غرفة الطفل ,وهي تفكر انه نام طوال الليل للمرة الاولى ...
ثم توقفت عند الباب ورأت رأيه الصغير الأسود الشعر يستلقي فوق ملاءة زرقاء شاحبة .. فيما بقية جسمه مخبأ تحت اللحاف البراق الألوان ...
" هيا ايها الكسول .. انه وقت الطعام ."
وتقدمت الى الامام وهي تمد يديها لترفعه .. وهي تشعر ان في الامر سر ,
جسده بارد بشكل غير طبيعي ووجهه الصغير ازرق ,
وهنا ,, ادركت ما يجري ,
فتأوهت مرة أخرى :
" اوه ... بن .. بن !! ."
واحست بنفسها تتأرجح بين ذراعي كايل المواسيتين ...
اما ما تلا هذا فضباب معذب ... تذكرت صدمة كايل وذعره , ومحاولاته العقيمة في انعاش الطفل ,, الطبيب , الشرطة , واخيراً تلك الكلمات الرهيبة ,, الكريهة و المروعة ,,
رغم كل التعاطف الذي ظهر فيها ..
" موت سريري .. ما من طريقة للمعرفة ..ما كان يمكنكما ان تفعلا شيئاً ."
ثم , فيما بعد النصيحة المستحيلة ...
" حاولا مجدداً ...."
كيف يمكنها ان تحلم بالمحاولة مجدداً وقلبها مات مع بن.. وهو مدفون معه في ذلك القبر الصغير ؟؟
" طفلي ." !!
" اعرف حبي .. اعرف .... "
تأثرت كلماته بنبرته المرتجفة فبدت غير مفهومة تقريباً , و رغم ذلك خترقت ضباب الألم الذي ملأ رأس ايف ..
فأعادها من الماضي الة الحاضر بارتجاج عنيف , فرفعت اليه رأسها وهي لم تزل بين ذراعيه , نظرت الى وجهه للمرة الاولى لتطالعها خطوط الدمع اللامعة على خديه :
" اووه .. يا الهي ..!!"
ترافقت شهقتها مع انفاس كئيبة مؤلمة , فها هي اخيراً , لا تتذكر فحسب ,
بل تتعامل مع الاحداث الماضية من منظورها الصحيح ,
لا مغشاة بألمها هي ,
رفعت يداً , وهي غير قادرة على اخفاء ارتجافها لتلمس خده بلطف , وتجذب العينين القاتمتين الى عينيها الزرقاوين المليئتين بالأسى ,
ثم صححت كلامها بنعومة :
" طفلنا !!."
ورأت رأسه يتراجع الى الخلف اعترافاً بأهمية كلماتها ..
حاول ان يتكلم .. فابتلع ريقه و تحركت شفتاه ,,
لكن الصوت لم يتشكل ,
ومع ذلك افهمها الصمت المؤلم معاناته تماماً ..
" اوه ... كايل ... انا آسفة ,,, آسفة جداً !."
هز رأسه الاسود الشعر بقوة ..
" لقد كنتِ تعانين الماً عظيماً .. "
خرجت الكلمات من حنجرة جافة أجشة .. وبلغ ترددها حداً طعن قلب ايف مباشرة ..
قالت بلطف :
" وانت كذلك ,, لكن بؤسي اعماني عن رؤية ذلك ...
كنت عملياً وكفؤاً .. بارداً كما ظننت ..."
وخذلها صوتها وهي تتذكر كيف ظنت ان كايل لا يشعر بالحزن لخسارة طفلهما كما شعرت هي ,,
وبينما انقلبت هي الى اسوأ .. تحوّل هو الى الامور العملية ,, فنظم الجنازة , ودفن نفسه فس العمل ..
لقد اعماها حزنها عن رؤية الألم الذي يخفيه وراء مظهره الهادئ ....
هدوء كان مجرد قناع فرضه لمصلحتها , بينما كان يتمزق إرباً طيلة الوقت من غير ان يتمكن من إظهار حزنه كما فعلت .
اما هي فظنت انه لا يعير الحادثة اهتماماً ...
" كان علىّ ان ادرك انك تحبه ايضاً .. وانك تعاني بقدر ما اعانيه ... لكنني لم استطع ان افكر بجلاء ,, بل لم استطع التفكير اطلاقاً ."
" اعرف ... فكرت انني لو تركتكِ لحزنكِ فسوف تتخلصين في النهاية من هذا الحزن ."
هكذا راح يدعمها بهدوء , يتصرف كما يجب , يحمل كل المسؤولية عنها , ليتركها اسيرة لألمها .
ولم تدرك الا الان في هذه المرحلة الجديدة من علاقتهما انه قد اتخذ الخطوات العملية التي تساعدها ,
وحاول التخفيف من الضغط اليومي عنها قدر ما يستطيع ومنحها الوقت الذي تريده ...
لكنها اساءت تفسير اعماله
و ظنت انه يحاول السيطرة على حياتها ...
همست ايف :
" انا لم اشكرك حتى ."
وخشيت فجأة من ان تلتقي بعينيه لءلا تتذكر انها لم تترك له مهمة القيام بكل شئ فحسب , بل انها تركته , لتضيف المزيد من الالم الى المه ..
في الماضي شبهت حالتها كمن ينظر الى مرآة من دون ان يرى سوى نفسه ,
لا لسبب الا لانها الوحيدة التي ينظر الى المرآة ...
اخيراً , تحطمت تلك المرآة .
عندها فقط رأت انها كانت تعكس ما فيها , طوال الوقت كانت خائفة من ان تثق بكايل ...
خائفة مما قد تكتشفه عنه ,
خائفة من ذنبه الذي دمر علاقتهما ,
بينما في الواقع رأت الصورة رأساً على عقب .
واغفلت عن الحقيقة التي تقول انها هي المسؤولة عن ذلك الضرر .
سالت , هرباً من ضمير المعذب :
" لماذا لم تقل لي شيئاً ؟."
" لم أجرؤ .. اعتقدت انه خطير جداً .. لقد اوضح لى الاخصائي انه من المخاطرة ان اصدمك بالذكريات ... وان التحدث اليك عن الطفل ... طفل لا تتذكرينه , قد يكون فوق احتملك ."
وبالطبع لم يشك احد غير كايل انه لها ولد ,, حتى الاطباء اهتموا بحالتها العقلية اكثر من حالتها الجسدية , وفي وقت كان من الواضح منذ البداية انها لم تعان اذى جسدياً .. بل مجرد محنة عاطفية حجبت كل الذكريات حتى اسمها .
" ايف "
وصمت كايل ثم اخذ نفساً عميقاً متحشرجاً . اجفلت ايف وهي بين ذراعيه .. وقد عرفت غريزياً ما هو قادم , فاضطربت اعصابها بشدة وهي تدرك ان الرد لن يكون سهلاً ....
" حبيبتي ... هل كانت المشكلة تتلخص في بن .... وبرودتي فقط ؟
لماذا رحلتِ ؟؟ لماذا ......"
ولم يكمل السؤال ... فقد خذله صوته ,
لكن ايف لم تحتج الى النهاية .....
فعلى اي حال لقد ظلت في " منزل مونتاغوي " لأكثر من شهر بعد موت بن ....
بضعف امتدت يداها الى كايل , فقبض عليهما بأصابعه الدافئة القوية وهو يشجعها على المتابعة :
" حين مات بن ,, لمت نفسي , ظننت انني اقترفت ذنباً ما ..
او انني لم اقم بواجبي.... وانني لو فعلت لما حدث .......
وترددت ... كانت تسعى جاهدة الى السيطرة على اعصابها ,
لكن بدون جدوى ,, وتشابكت اصابع كايل مع اصابعها بينما اندست يده اليسرى لترفع رأسها ,
فالتقت عيناها بعينيه الابنوسيتين العميقتين المتفحصتين ...
تمتم :
" خذي الامور ببساطة يا حبيبتي ... استطيع النتظار . امامنا وقت طويل ."
ما ان سمعت كلماته حتى غمر كيانها احساس مذهل من السلام والثقة ... سوف ينتظر .... ما عليها الا ان تقول له ذها , و سيكون كل شئ على ما يرام ,
تحولت فجأة الى القناعة التامة بأنه سيكون الى جانبها مهما حدث ...
" ثم حين ابتعدت عني .... احسست .. ان ..... ان .............
ومن صوت كايل توقعت ما كان على وشك ان يقوله ...
ما كان عليها ان تتابع ...
لكنها مضطرة الى الكلام اراحة لضميرها ...
" انك تلمني كذلك ..
" اوه ... ايف . حبيبتي ... ابداً ...
لكنني لم اتمكن من الكلام معكِ .. لم اكن اعرف كيف اتواصل معكِ
لقد قال الاخاصائي انك ستتوصلين الى تخطي المصاعب وحدكِ .. وهكذا انتظرت ...."
ولقد انتظر .... وبصبر لا حدود له ,
راح يتعامل مع حزنه في الوقت عينه .
اما هي , فكانت منغلقة في بؤسها , فلم تستطع ان تتلمس الحب الذي أظهره لها عبر حساسيته المتسامحة , واخفائه لحزنه ,
بل كان دائماً موجوداً اذا احتاجت اليه ...
وكشف عن قوة وتفهم فسرته هي على انه عدم اكتراث قاسي القلب ..
قالت :
" كنت مقتنعة ان موت بن كان ذنبي .... ثم شعرت انني خذلتك كذلك , حين تركت هذا يحدث ...."
حين لم تتمكن من المتابعة صرخ كايل :
" او ايف .... حبي ! ."
وضمها بين ذراعيه مجدداً , وهو يقبل الدموع التي تسللت الى خديها ........
واكمل :
" موت بن لم يكن ذنب ا حد ."
ارتجف صوت ايف وهي تطافح لتسيطر على نفسها :
" اعرف ....اعرف ...... لكنني في ذلك الوقت كنت ابحث عن اعذار ....... عن شئ افسر فيه الرعب الرهيب العشوائي الذي قتل طفلاً في الاسبوع العاشر من عمره ,
واصبحت مقتنعة انك لن تحبني بعد الان ,
وانني لن اسبب لك سوى المزيد من المعاناة .........
واحسست ان كل ما استطيعه هو الرحيل .......
والامل انك ستكون سعيداً مع غيري ........ وربما ترزق بطفل آخر ..............
لذا ......... لم اهتم بتوضيب حاجياتي .
بل اخذت فقط ما كنت ارتديه .... حتى انني تركت حقيبة يدي لان المال فيها مالك ........."
" لكن ايف ... حبي ...... كان من المستحيل ان اكون سعيداً مع سواكِ
كانت السنتان الاخيرتان جحيماً من دونكِ ... ولو كنت اعرف حقيقة مشاعركِ لقلتُ لكِ هذا يومها .............. وما كنت تركتكِ ترحلين .... لكنت ربطتكِ بسلاسل من ذهب ......
ظهرت عبر دموعها ابتسامة ضعيفة للمبالغة في كلام كايل , ورفعت يدها تلامس خده بلطف .
" وانا ما امكنني ان اكون سعيدة من دونك . وكما تعرف , كان والداي باردين لا يعرفان معنى العاطفة .....
حين التقيت بك , تغيرت حياتي تماماً ,
من دونك , لم يكن لحياتي معنى ... وهذا ما ادركته في ذلك المقهى في العشر من أيّار ... يوم ميلادي ...........
قاطعها بلطف :
" انه الذكرى السنوية ليوم تأكدت فيه من حملك . ولا عجب ان يكون ذهنكِ المسكين المكدوم قد احترق وقرر انه اكتفى ....... واتمنى لو كنت اعرف مشاعرك فقط , كي استطيع ان اساعدكِ ..........."
" لكنك كنت تظن انه سيساعدني ... لقد توليت كل الامور العملية التي لا استطيع التعامل معها ..
كان يجب ان نكون فيه متقاربين , ابعدنا حزننا عن التواصل .... يا الهي ... ايف .......................... لو منحتني فرصة اخرى ........
وضعت ايف يدها على شفتيه تسكته :
" كايل ... حبيبي .. ما هذا القول ؟
الا تعرف ان هذا ما اريده اكثر من اي شئ في الدنيا ؟ و انا يجب ان نكون معاً ؟ "
احست بشفتيه تطبعان قبلة حارة على اصابعها .. فخفت وتيرة الالم الذي سببته وفاة بن , ذلك الطفل الذي احباه معاً و فقداه معاً ...
" انت من عليه ان يمنحني فرصة اخرى .... على اية حال ,
انا التي تركتك ,, لكن في اعماق قلبي كنت اعرف انني لن استطيع العيش من دونك .
وعرفت هذا مجدداً هذه المرة ,
ربما لهذا كنت اخاف منك في لا وعيي .
وهذا ما حدث في الماضي ففرصتي الوحيدة مستقبل سعيد معك .
الا انني كنت ابعد عن السعادة لانني اجهل لماذا تركتك قبلا ...
لهذا لم اقل لك كم اتمنى ان اعود واعيش كزوجة لك مجدداً .."
تراجع رأس كايل الى الوراء بحدة وسأل :
" وهل اردتِ هذا حقاً ؟".
" طبعا حبيبي ...
اردت ان اقضي بقية جياتي معك واحاول ان اشفي الجرح الذي حدث , على اساس الوعد بما هو قادم ..."
رأت النور المتوهج في عينيه ينعكس في قلبها نوراً أكثر تألقاُ . وعرفت انهما سينسيان كل مشاكلهما ويخلقان معاً مستقبلاً زاهراً ...
قالت تمازحه :
" اذن ..... هيا ..... اين تلك السلاسل الذهبية التي تهددني بها ؟".
منتديات ليلاس
اكد لها كايل وهو يضمها بين ذراعيه مجدداً :
" لا احتاج اليها ....
فقوة حبي تربطكِ بي ...
تمسك بكِ ولا تفلتكِ ابداً ............
" قوة حبي تربطكِ بي .... تمسك بكِ ولا تفلتكِ ابداً ....."
عادت تلك الكلمات الى ذهن ايف فيما هي مستلقية على كرسي الاستراحة في الشمس تراقب كايل وهو يسير نحوها فوق المرجة الخضراء ...
كانت الكلمات ما تزال واضحة وكأنه قالها في الامس .
وها هو يقولها في هذا الصباح بالذات , و هو يعطيها هديتها السنوية ..
أضاءت وجهها ابتسامة سعادة صافية وهي تتحسس السلاسل الذهبية الخمس حول عنقها . واحدة عن كل سنة من زواجهما منذ التقيا من جديد .
" والآن , لماذا ارتسمت هذه الابتسامة التي تشبه ابتسامة القطة و قد اكلت الجبن على وجهكِ .... عجباً ؟ "
وغاص كايل على العشب بجانبها مكملاً :
" الا تظنين ان الوقت قد حان لتطلعيني على سرك ؟
نحن الآباء بحاجة الى تحذير مسبق , وعرفين هذا ,
كما انه علينا ان نخبر باتريك ..... متى ؟ ".
لم يتوسع كايل في سؤاله ,
وعرفت ايف انه ليس مضطراً , فمن المستحيل ان تخفي سراً عن هذا الزوج الشديد الملاحظة ...
قالت بنعومة :
" في شهر كانون الثاني ... ومن الممكن ان يتصادف مع عيد ميلاد بن ."
كانت قد ا صبحت قادرة على التلفظ باسم ابنها الميت الآن بأقل حزن ...
سيبقى له دائماً مكان مميز في قلبيهما ....
لكن الزمن قام بشفاء أسوأ الآلام , وهما الآن يملكان الكثير مما يشكران عليه ..
قال كايل ممازحاً :
" انه الوقت المناسب ... ستحقق هذه القصة أفضل المبيعات ."
قالت محتجة :
" يا مراقب الارقاء ! لماذا اثقلت على نفسي يوماً بجعلك ناشري , اضافة الى زوجي ؟."
قال بخبث :
" هذا لانكِ تحبينني .. ولا تنسي ,, لولا قصتكِ الاولى لما وجدتكِ ثانية ."
وكيف لها ان تنسى هذا أبد الدهر ؟
لو لم تكتب اول كتاب وترسله الى مؤسسة جنسن للنشر لما عرفت أبداً السعادة التي تملا الآن كل لحظة من حياتها ,
لقد شهد الكتاب الاول بعد ان عدلت فيه الاحداث الشخصية نجاحاً مذهلاً , اطلقها في عالم مهنة جديدة
" كيف تظن ان بات سيتعامل مع فكرة اخ او اخت جديدة ؟
اتجهت عينا كايل الى ابنه القوي البنية وهو يلعب مع جرو اقتناه حديثاً , تحت مراقبة مربية مخلصة .
كان اسمر كأبيه , لكن له عيني ايف الزرقاوين ...
لقد ادخل باتريك الفرح الكبير الى حياتيهما منذ ولادته قبل ثلاث سنوات ...
من الطبيعي ان ايف عاشت الاشهر الثلاثة الاولى في خوف دائم من تكرار تاريخ بن ,
لكن لفرحها الشديد , عاش الطفل الصغير و تطور ليصبح صغيراً قوي البنية .
" سيطير ابتهاجاً ... مثلي انا .. "
تنبأت ايف باحساس كايل وقد شعرت بالدفئ في صوته , والتوهج في عينيه و الرقة في يديه ...
قال:
" لم اكن اتمنى هدية عيد زواج افضل من هذه ... ولا زوجة افضل .... في الواقع ............؟.
وكانت تنهيدته تعبر عن رضى عميق :
" ........... لا يمكن ان اتمنى حياة افضل ."
ولا كان هي باستطاعتها ان تتمنى الافضل ...
وفكرت ايف بهذا في سرها بينما كانت شفتا زوجها تهبطان على شفتيها بقبلة حارة ,
احست معها ان دمها بدأ يغلي بتأثير لا دخل له بدفئ الشمس .
تمتم كايل :
" اعتقد ان الوقت قد حان لنرحل الى المنزل ...
على اية حال تحتاج السيدات الحملات الى الراحة ."
لكنها عرفت من رنة صوته ان تلك اراحة لم تكن تجول في فكره ..
احتجت ايف ضاحكة :
" كايل !! وماذا سيظن ابننا باتريك ؟".
للحظة اتجهت عينا كايل الى ابنه ,
ثم عاتا الى وجهها المتورد , وما لبث ان تمتم بصوت اجش :
" سأقول لكِ ماذا يظن ....
سيظن ان والده يحب والدته كثيراً ....
وسيكون على حق تمـــــاماً ".
تمــــــــــــت