كاتب الموضوع :
amedo_dolaviga
المنتدى :
المخابرات والجاسوسية
2 - حي على الجهاد..
* الانتقال، من مرحلة طباعة وتوزيع المنشورات، المناهضة للاحتلال الصهيوني، إلى مرحلة الكفاح المسلَّح، ليس بالأمر الهين أو البسيط أبداً؛ فالأمر ليس مجرَّد رغبة عارمة، تدفعك للانتقال من نقطة إلى أخرى، ولا هو مجرَّد تحوّل في مسار الأحداث..
إنه - في الواقع - منعطف بالغ الحساسية والخطورة، والانتقال بالأحداث كلها، من مواجهة محدودة، قد تثير في نفس العدو قيراطاً من الغضب، إلى مواجهة عنيفة، ستفجِّر في أعماقه آلاف الأفدنة من الثورة، وستجعله يضاعف وحشيته وشراسته ألف ألف مرة، ليبحث عن أولئك المسلحين بأى ثمن..
والكل يعلم ما الذي يمكن أن يعنيه مصطلح (أي ثمن)، في ظروف وأيام سوداء عسيرة كهذه!!..
لذا، فالقرار الذي اتخذته مجموعة (العريش)، بالانتقال إلى مرحلة الكفاح المسلَّح، كان قراراً مصيرياً وخطيراً..
إلى أقصى حد..
فمن الناحية العملية، وباستثناء خبرة (عبد الحميد) المحدودة، كمجَّند سابق، ومتطوِّع في الدفاع المدني، كانت المجموعة كلها تجهل كل شيء عن الأسلحة أو المتفجرات، واستخداماتها الآمنة والفعَّالة..
ثم إنها كانت تفتقر إلى الأسلحة والذخائر اللازمة، للانتقال إلى هذه الخطوة الحاسمة الحازمة..
ولكن القاعدة تقول: "اسع يا عبد، وليكن الله (سبحانه وتعالى) في عونك"..
ففي نفس الوقت، الذي تقرَّر فيه الانتقال إلى تلك المرحلة المسلَّحة، عثر أحد أفراد المجموعة على عدد من قذائف الهاون، مدفونة في أرضية مبنى مهجور، على ساحل البحر..
واجتمعت المجموعة كلها، وقرَّرت الحصول على تلك القذائف، واستخدام المتفجرات داخلها، لصنع القنابل التي يحتاجون إليها، في مرحلة الكفاح المسلَّح..
وفي الصباح التالي، اتجهت المجموعة كلها إلى الشاطئ، وبدت أشبه بفريق من الشباب العابث، يعدو ويمرح على الرمال، في حين كان الواقع أن معظم الأفراد يجذبون انتباه العدو بعبثهم المصطنع، في الوقت الذي يفحص فيه (عبد الحميد) القذائف، وينقلها إلى الحقائب، بمعاونة صديق عمره وزميله (سعد)..
ويضحك الحاج (سعد)، عندما يصل بروايته إلى هذه النقطة، قبل أن يعلِّق قائلاً: إنهم كانوا مجانين بحق، عندما حملوا قذائف الهاون في حقائبهم العادية، التي عبروا بها نقاط التفتيش الإسرائيلية، ليصلوا سالمين إلى منزل والدته، التي أخفوا لديها قذائفهم (دون علمها بالطبع)..
ومع اطمئنانهم على وجود القذائف، بدأ أفراد المجموعة يخططون لأوَّل عملية مسلحة، تعلن عن وجودهم، وعن انتقالهم إلى تلك العملية الجديدة..
وبخبرة (عبد الحميد)، ومعاونة خاله وصهره الحاج (عطا الله محمد الرطيل)، أخرجت المجموعة المادة المتفجِّرة من قذائف الهاون، وحصلت على الصواعق الناسفة، وبعض أنواع الفتيل المختلفة، استعداداً لنسف الهدف الأوَّل..
ففي تلك الفترة، كان العدو قد افتتح مكتباً في مدينة (العريش)؛ لجلب العمال للعمل في قلب (إسرائيل)، بأجور مغرية للغاية، في وقت لم تكن هناك فيه عمالة كافية، في (إسرائيل) نفسها..
وقرَّرت المجموعة نسف مكتب العمل الإسرائيلي، كرمز لرفض التعاون مع العدو، وتحذير لكل من تسول له نفسه العمل لديه..
ودوى أوَّل انفجار، في قلب (العريش)، بعد سقوطها في قبضة العدو الصهيوني..
وتم نسف مكتب العمل الإسرائيلي ليلاً، حتى لا يصاب في العملية مدني واحد من أبناء (العريش)، ولو بالمصادفة البحتة..
وفهم العدو الرسالة، واشتعل غضبه أكثر وأكثر، وانطلق جنوده كالوحوش الكاسرة، يقتحمون المنازل، ويعتقلون المواطنين، ويهددون ويتوعدون الكل بالويل والثبور، و...
ووسط كل هذا، قامت مجموعة العريش بالعملية الثانية..
كان مكتب بريد (العريش) يقوم بصرف رواتب العمال، الذين يعملون في قلب (العريش)، لذا فقد قام بعض أفراد المجموعة، ومنهم (فضل عبد الله)، و(سعد عبد الحميد)، بإلقاء عبوة شديدة الانفجار ليلاً، داخل مكتب البريد، لتنفجر انفجاراً عنيفاً، أيقظ (العريش) كلها، وأعلن مرة أخرى أن (مجموعة العريش) ما زالت قوية صامدة، تبر بذلك القسم، الذي أقسمته يوماً، على ألا يهنأ للعدو بال في (سيناء) أبداً..
وجن جنون سلطات الاحتلال في (العريش)، وراحت مرة أخرى تهدِّد وتتوعَّد، وتعتقل، وتستجوب بمنتهى العنف والشراسة والوحشية، في نفس الوقت الذي بدأت فيه تتبع سياسة جديدة، تعتمد على نقل الأعمال الإسرائيلية إلى (العريش)، بدلاً من نقل العمالة إلى (إسرائيل).
كان هذا، بالنسبة لها، حلاً مثالياً، لامتناع أبناء (العريش) عن السفر إلى (إسرائيل)، وتوفيراً لنفقات رجال الأعمال الإسرائيليين، في الوقت ذاته..
وبدأت المصانع الإسرائيلية تنتقل إلى (العريش)، ومن بينها مصنع أثاث إسرائيلي شهير، يُدعى (كاتلا)..
وانتظرت مجموعة (العريش)، حتى استقر المقام للمصنع، واستعد لإخراج أوَّل إنتاجه، ثم هاجمته فجأة بمتفجراتها، في نفس الوقت الذي هاجمت فيه مبنى الإدارة المدنية للعدو، والذي يقع في المنطقة نفسها..
وقبل أن يبدأ العدو تحقيقاته، بشأن نسف المصنع، وانفجار مبنى الإدارة المدنية، فاجأته مجموعة (العريش) بعملية أخرى، أكثر جرأة وخطورة..
لقد نسف بعض عناصرها قاعدة برج اتصالات رئيسي، يحمل الكابلات التي تربط العدو بقياداته، في قلب (إسرائيل)..
وأصلح العدو البرج، ووضع عليه حراسة مشدَّدة، ولكن أبطال مجموعة (العريش)، الذين ذاقوا حلاوة النضال والنصر، قرَّروا تحدّي العدو، وإفقاده الشعور بالأمان تماماً، فنفذوا عملية ثانية ناجحة، ونسفوا قاعدة البرج نفسه مرة أخرى.
ويبتسم (فضل عبد الله)، عندما يتذكَّر تلك المرحلة، ويقول: إن نجاح عمليات المجموعة، ضاعف من حماسها ونشاطها، وجعل كل فرد من أفرادها يفكِّر طوال الوقت في هدف جديد، يمكن تدميره، لإثارة غضب العدو وحنقه، وبث الرعب في عروقه، وإقناعه بأن أيام الأمن والهدوء والاستقرار قد ولّت إلى الأبد، ولن تعود مرة أخرى.. أبداً..
وفي كل مرة، كانت المجموعة تجتمع، فيطرح كل فرد من أفرادها الهدف الذي اختاره، وتدور بينهم محاورات ومناقشات، حتى تتفق الآراء كلها على هدف واحد..
ثم يتم التنفيذ..
وفي كل عملية، كان أفراد مختلفون يقومون بالمهمة، في حين يتولَّى الآخرون مهام الحماية، والتغطية، وتنظيف الأرض بعد العودة..
ويضحك الحاج (سعد)، وهو يقول: "إنه كان القاسم المشترك، في معظم العمليات"، ويضيف (فضل) أنه كان يشعر دوماً بالاطمئنان، عندما يصحبه في العملية عم (سعد)، الذي يكبره بعشر سنوات تقريباً..
وعلى الرغم من الحملات المسعورة، التي قام بها العدو؛ للبحث عن المسئولين عن هذه التفجيرات، ومحاولاته المستميتة لكشف أمرهم، نفذت مجموعة (العريش) عملية أخرى، ونسفت برج كهرباء مجاور لمحطة التوليد الكهربي شرق (العريش)، كان يقوم بتغذية معسكرات العدو، وثلاجات حفظ الأطعمة، الخاصة بالجيش الإسرائيلي..
وفي هذه العملية، استخدم أفراد المجموعة، ولأوَّل مرة، مؤقتاً زمنياً بسيطاً، ابتكرته قريحة (عبد الحميد)، من أدوات بسيطة للغاية..
وبدأ الإحباط واليأس يتسلَّلان إلى أعماق سلطات الاحتلال، التي عجزت تماماً عن كشف أفراد المجموعة، أو إيقاف عملهم، على الرغم من وصول فريق تحقيق خاص من (تل أبيب)، بذل جهداً خرافياً، واستخدم أساليباً غاية في العنف والوحشية، لاستجواب كل من وقع في يده، دون طائل.. ومع عنف العدو، وشراسته المتزايدة المتصاعدة، قرَّرت المجموعة نقل عملياتها خارج نطاق (العريش)، لتشتيت انتباهه، وإبعاد أنظاره عن المدينة لبعض الوقت..
في تلك الفترة، كان العدو يجهِّز الأرض؛ لإقامة قاعدة جوية، في منطقة (الجورة)، بالقرب من قرية الشيخ (زويد)، التي تبعد خمسة وثلاثين كيلو متراً عن (العريش)..
وبقِلة منظمة، وأسلوب دقيق مدروس، يستحق الاحترام والإعجاب، راقبت المجموعة المنطقة لعدة أيام، قبل أن يقوم بعض أفرادها بزرع لغم مضاد للسيارات، في مدق ترابي، يستخدمه العدو لبلوغ المنطقة يومياً..
وانفجر اللغم، لينسف واحدة من سيارات (الجيب) العسكرية للعدو، ويقضي على من فيها تماماً..
وفي الوقت نفسه، وقبل أن يلتقط العدو أنفاسه، قامت المجموعة بنسف خط مياه رئيسي، يمد مطار (العريش)، ومنطقة (بغداد)، و(الجفجافة) ووسط (سيناء) بالحياة..
وفي هذه المرة، تم استخدام عبوتين ناسفتين، من مادة شديدة الانفجار، بحيث يتم انفجارهما في آن واحد..
ونجحت العمليتان، على الرغم من حراسات العدو واحتياطاته، وأصدرت القيادة العسكرية الإسرائيلية بياناً بهما، كما أصدرت بياناتها عن كل العمليات السابقة أيضاً..
وانتشى أفراد المجموعة بتلك البيانات، التي اعترف فيها العدو بخسائره وببطولتهم، على الرغم من وصفه لهم بالإرهابيين..
ويهزّ الحاج (عبد الحميد) رأسه، وهو يقول: "إن ما يقال عن تفوّق جهاز المخابرات الإسرائيلي مجرّد وهم، فقد تم استجواب أفراد المجموعة عدة مرات، من قبل محترفين إسرائيليين، دون أن يوجه لنا اتهام واحد، مما يعني أنهم لم يكونوا بالكفاءة اللازمة لكشف أمرنا."..
ومع الانتصارات المتوالية، قرَّر قائد المجموعة (عبد الحميد الخليلي)، ضرورة إجراء اتصال مباشر، مع المخابرات الحربية المصرية..
وكان هذا يعني ضرورة السفر إلى (القاهرة)، في أقرب وقت ممكن..
وبوساطة خطابات سرية، واتصالات غير مباشرة، تلقّى (عبد الحميد) دعوة من بعض أقاربه، لزيارتهم في (القاهرة)..
ولأن ملفه لم يكن يحمل أية اتهامات لدى الإسرائيليين، حصل (عبد الحميد)، قائد مجموعة (العريش) وعقلها المفكِّر، على تصريح بالسفر إلى (القاهرة)، عن طريق منظمة الصليب الأحمر..
وفور وصوله إلى (القاهرة)، اتجه (عبد الحميد) مباشرة إلى اللواء (محمد عبد المنعم القرماني)، محافظ (سيناء)، ليشكره على كل ما قدّمه ويقدِّمه لأبناء المدينة المحتلة، والذي لم تنسه مجموعة (العريش) أبداً، ولم تتوقَّف عن تقديم الشكر والاحترام والتقدير من أجله، حتى هذه اللحظة..
وبعدها، وبأقدام ثابتة، وصورة واضحة جلية، اتجه (عبد الحميد) إلى المخابرات الحربية المصرية..
وكان اللقاء هناك حاراً بالفعل..
فالمخابرات كانت تتابع عمليات (مجموعة العريش)، بكل الاهتمام والتقدير، وتسعى بكل طاقاتها، وبكل إمكانياتها، لتحديد أفرادها، وإيجاد وسيلة للتعاون معهم، ومدهم بكل ما يحتاجون إليه، من خبرة وعتاد ومعدات..
وكانت صعوبة كشفهم هي أكبر دليل، لدى المخابرات الحربية، على براعة أفراد المجموعة، والتزامهم، وقدرتهم على مراوغة العدو الصهيوني، في قلب الأرض المحتلّة..
أما (عبد الحميد)، فيقول: "إنه قد انبهر تماماً، عندما وجد في المخابرات الحربية المصرية ملفات كاملة عن كل أفراد المجموعة، مع إشارة إلى احتمال كونهم ضمن (لجنة أبناء سيناء الأحرار)..
لحظتها شعر (عبد الحميد)، على حد قوله بالفخر والزهو والاعتزاز، لأن مخابرات وطنه كانت أبرع من مخابرات العدو، على الرغم من وجودها على بعد آلاف الكيلومترات من (العريش)..
ولحظتها أدرك أيضاً أن التعاون سيكون حتماً مثمراً..
وإلى أقصى حد..
وفي المخابرات الحربية، تحدَّث الرجال مع (عبد الحميد) طويلاً وكثيراً؛ ليضعوا النقاط على الحروف، ويرسموا معاً خطوات المرحلة القادمة، وقواعد العمل في فترة الانتظار، وعندما تحين ساعة الصفر، التي ينتظرها كل مصري بفارغ الصبر..
كانت المعلومات عديدة وغزيرة ومرهقة، ولكن عقل (عبد الحميد) المدرَّب بالفطرة، والمنمَّق بدقة مدهشة، استوعب الأمر كله، وعاد إلى (العريش)، وهو يحمل الأنباء الطيبة لأفراد المجموعة..
إنهم يعملون الآن تحت علم الوطن، وتحت إشرافه ورعايته أيضاً..
وكانت مفاجأة قوية وسعيدة للجميع..
مفاجأة جعلتهم يقررون القيام بعملية جديدة، أكثر قوة وتأثيراً، لإعلان أنهم كفء لما اختارهم له الوطن..
ومع ما وصلهم من إمدادات، وما أتيح لهم من إمكانيات جديدة، وقع اختيار أفراد المجموعة على معسكر هام لجيش الاحتلال، يقع خارج المدينة، في منطقة تعرف باسم (الأبطال)..
كان ذلك المعسكر الهام هو نقطة التقاء خطوط السكك الحديدية، القادمة من (غزة)، و(إسرائيل)، ومركز تشوين هام وخطير جداً لجيش الاحتلال، وتحيط به منطقة خالية كبيرة، لا تسمح بالاقتراب منه، أو الهجوم عليه، بأية وسيلة من الوسائل..
ولكن الأبطال وجدوا وسيلة، لتدمير معسكر منطقة الأبطال..
فبعد مراقبة شديدة وطويلة، تم رصد وتحديد سيارة الخدمات الخاصة بالمعسكر، والتي تتردَّد على سوق المدينة بصفة شبه يومية، وتم تحديد مسارها، وأماكن توقّفها لفترات طويلة..
وبعد فترة ليست بالقصيرة، تم وضع خطة العمل، وقام (عبد الحميد) بإعداد عبوة شديدة الانفجار، وتزويدها بمؤقِّت زمني، معد بحيث ينفجر مع دقات منتصف الليل؛ لضمان تواجد السيارة داخل المعسكر، ثم أضاف إلى العبوة لاصقاً مغناطيسياً، لتثبيتها أسفل جسم السيارة..
وفي اليوم المحدَّد للتنفيذ، توقَّفت السيارة في شارع 23 يوليو كعادتها، فقام بعض أفراد المجموعة بالإحاطة بها؛ لحجبها عن الأنظار تماماً، في حين قام أحدهم بتثبيت العبوة الناسفة أسفلها، بوساطة اللاصق المغناطيسي، وعندما تأكَّد من أن لديه المزيد من الوقت، أخرج من جيبه حبلاً متيناً، وأحكم به تثبيتها في موضعها..
وانتهت السيارة من مهمتها، وعادت إلى المعسكر، الذي اطمأن العدو إلى تأمينه وحمايته، نظراً للعراء والفراغ المحيطين به..
وعند منتصف الليل تماماً، انفجرت العبوة شديدة الانفجار، ونسفت السيارة، بل سحقتها سحقاً، قبل أن تمتدّ إلى ما حولها، وتكبِّد العدو خسائر فادحة، وقضت في دقائق معدودة على ثقته في نفسه، وفي إجراءاته الأمنية كلها..
السؤال الذي ظلّ يشغلني، وأنا أسمع هذه القصة، من أفواه أبطالها، هو كيف تحوَّل هؤلاء المدنيون، إلى فدائيين مدربين على هذا النحو، بحيث يتعاملون مع الأسلحة والذخائر والقنابل، كما لو كانوا من المحترفين؟!
وببساطة مدهشة، يجيب الحاج (عبد الحميد): "لقد قمت بتدريبهم، على استخدام المتفجرات وإلقائها..".
وعندما سألته، أين كان يفعل هذا، وكيف، ابتسم (فضل)، وهو يجيب: "ربما لن تصدق، ولكننا كنا نتدرَّب على إلقاء القنابل، على شاطئ البحر، وتحت مسمع وبصر العدو الصهيوني نفسه"..
تُرى هل أدهشك هذا الجواب، وأثار انبهارك أيضاً، كما حدث معي؟!..
الواقع أن الأمر بسيط للغاية، وجرئ للغاية أيضاً، فالحاج (عبد الحميد) اصطحب أفراد المجموعة إلى شاطئ البحر، وراح يدرِّبهم على إلقاء الأحجار، بنفس الأسلوب الذي سيتبعونه لإلقاء القنابل، والعدو الصهيوني يراقبهم في لا مبالاة، باعتبارهم بعض الشبان، الذين يتقاذفون الأحجار للهو والعبث على الشاطئ..
فكرة عبقرية، وبسيطة، ومبهرة تماماً بحق!!..
لقد ألقى الرجال الأحجار على الشاطئ، وحوَّلوها في عقولهم وأصابعهم إلى قنابل، ألقوها فيما بعد على رءوس العدو وأهدافه..
ألقوها، ليتحوَّلوا من مدنيين إلى محترفين في مجالهم، بكل معنى الكلمة..
وكمحترفين، كانت عقولهم تبحث في كل يوم عن أهداف جديدة، تثير غضب وجنون العدو أكثر وأكثر، على الرغم من ثورته العارمة، عقب كل عملية، وحملاته المسعورة ضد المواطنين الأبرياء، واعتقالاته التي تتوقَّف أبداً..
ولكن ذات مرة، اختار الهدف نفسه بنفسه..
فعندما قرَّرت سلطات الاحتلال استبدال البطاقات المصرية في (العريش)، ببطاقات هوية إسرائيلية خاصة، حدَّدت فترة قصيرة للغاية لإجراء هذا الاستبدال، وهدَّدت في الوقت ذاته، كل من لا يحمل بطاقة الهوية الإسرائيلية بالاعتقال، مما أدى إلى تزاحم المواطنين عند منافذ استخراج تلك البطاقات الجديدة..
ومن بين هؤلاء المواطنين، كان الشيخ (جاد)..
والشيخ (جاد) هذا رجل دين محترم، أبى عليه إيمانه، كما أبت عليه وطنيته، أن يستسلم للاحتلال الصهيوني، فظلّ يهاجمه في خطبه دوماً، على منبر صلاة الجمعة، ويدعو للكفاح والجهاد ضده، حتى أثار حفيظة سلطات الاحتلال وحنقها، وأصبحت تنتظر فرصة لإيذائه، تحت أي مسمى كان..
وأثناء الازدحام والطوابير، أمام منافذ بطاقات الهوية، تجاوز الشيخ (جاد) الصفوف، دون أن يعترض على هذا مواطن واحد، لما يكنونه له من احترام وتبجيل وتقدير، و...
ولكن فجأة انقض جندى إسرائيلى يُدعى (حسون)، على الشيخ (جاد)، وراح يوسعه ضرباً، بكل ما يملأ نفسه من حقد ومقت وغطرسة.
وهنا، تفجَّر غضب عارم في قلوب ونفوس أفراد المجموعة، واجتمعت أنظارهم، دون أن يتبادلوا كلمة واحدة، ليتفقوا في صمت على الهدف التالي..
الهدف البشري.
* * *
|