المنتدى :
كتب الأدب واللغة والفكر
موضوع كتابي , دراسة في التجربة الصوفية للدكتورة نهاد خياطة
*** إذا قال الصوفي: لا أرى شيئا غير الله، فهو في حال وحدة شهود. وإذا قال: لا أرى شيئا إلا وأرى الله فيه، فهو في حال وحدة وجود. وهذا أوجز تبسيط ممكن لهذين الإصطلاحين اللذين يختزلان التجربة الصوفية في كل أبعادها. فحال وحدة الشهود هي حال الفناء، وحال وحدة الوجود هي حال البقاء. والبقاء والفناء متلازمان وكذلك وحدة الشهود ووحدة الوجود: فإن كنت فانيا عن شيء فإنك لابد باق بغيره، أو كنت باقيا في شيء فأنت لا محالة فان عن سواه. وهذا أمر طبيعي، بما أن الإنسان عاجز عن جمع همته، أو تسليط انتباهه، على أكثر من موضوع واحد في نفس اللحظة. هذه الورقة التي أكتب عليها إن فكرت فيها ( طولها، عرضها ، لونها، إلخ...)، تعذر علي أن أكتب عليها، وإن فكرت في الكتابة أو فيما أكتب، تعذر علي التفكير في الورقة. في الحالة الأولى ، يقال في المصطلح الصوفي: أنا باق في الورقة، فان عن الكتابة، وفي الحالة الثانية، يقال: أنا فان عن الورقة، باق بالكتابة.
*** مثال آخر، كثيرا ما يذكره الصوفية في تصانيفهم، ما قاله قيس ليلى لما سئل عن ليلى أين هي؟ أجاب: أنا ليلى. فقيس، لما قال ما قال، كان فانيا عن نفسه، باقيا بليلى.
*** قلنا إن الفناء والبقاء متلازمان: فلا فناء بلا بقاء، ولا بقاء بلا فناء. والفناء الصوفي تخصيصا، هو فناء عن الخلق وبقاء بالحق. والصوفي أبدا ما بين فناء وبقاء. لكن بقاءه ليس دوما بقاء بالحق، لاضطراره، بحكم بشريته، إلى الإنصراف إلى بعض شؤونه اليومية، فهل يقال، في هذه الحالة، إنه باق بهذه الشؤون، فان عن الحق؟
تخلصا من تعبير " الفناء عن الحق" الذي لا يليق بالصوفي، بل لا يليق حتى بالمؤمن غير الصوفي، أن يتفوه به أمام الحضرة الإلهية، اصطلح الصوفية على تسمية هذه الحال بمقام " الفرق" في مقابل مقام "الجمع": " فإثبات الخلق من باب التفرقة، وإثبات الحق من نعت "الجمع"
*** ووحدة الشهود نوع من التوحيد يختلف عن توحيد الإيمان الذي نصت عليه الشريعة، من حيث إن التوحيد الأول توحيد يقيني، تجريبي، أو ذوقي، على حد المصطلح الصوفي. بينما التوحيد الشرعي إيماني، نقلي، يلتمس إليه الدليل بالنظر العقلي. وعلى هذا فإن التوحيد الشهودي، أو وحدة الشهود، حال أو تجربة، لا فكر ولا اعتقاد...
*** وقال الشبلي، وغلا في توحيده غلوا أدى به إلى تكفير الموحد: من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن سكت عنه فهو جاهل ومن وهم أنه واصل فليس له حاصل، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل، ومن ظن أنه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد، وكلما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم.
مفتاح توحيد الشبلي هو العبارة الأخيرة التي تفيد استحالة توحيد المحدث ( الخلق) للقديم ( الحق)، لأن توحيد المحدث محدث مثله، فهو - بهذا الإعتبار - عدم أو بحكم العدم، وإثبات وجود آخر مع الله الذي له وحده الوجود، شرك أو إلحاد - على حد تعبير الشبلي - وهذا ما أدى ببعضهم إلى القول : ما وحد الله غير الله.
*** ... بعبارة أخرى، إن الفناء أو وحدة الشهود هو امتصاص التجليات الإلهية في مبدئها، أو هو اختزال الدائرة في نقطة المركز، بينما البقاء هو شيوع المبدأ الإلهي في تجلياته، أو هو اندياح نقطة المركز في الدائرة. في الحالة الأولى يغيب الخلق في الحق، وفي الثانية يتجلى الحق في الخلق. والخلق والحق أبدا ما بين غياب وتجل. وهكذا لا يصح أبدا الإعتماد على أحد طرفي المعادلة وإهمال الآخر.
*** ... والحق - تعالى - هو الذي يحيي ويميت، ويفني ويبقي، وينفي ويثبت. فإذا مات الانسان عن أنيته حيي بالله، وإذا فني عن نفسه بقي في الله، وإذا نفى وجوده ثبت بالله، بذلك يكون كل فعل من أفعاله، وكل قول من أقواله، من الله وبالله ولله، ويكون القائل والفاعل، بل والموحد هو الله
*** يتمسك الصوفية تمسكا شديدا، من حيث مفهومهم لله، بالعقيدة الإسلامية الأصلية القائمة على تنزيه الله عن الحوادث والممكنات. ولذلك إذا فهمنا كلمة الحلول Pantheism على معناها الحقيقي وهي( القول بأن الله متحد بالعالم في الزمان والمكان اتحادا تاما وحصريا)، لم نجد فيهم من يعتقد بشيء كالحلول، على الرغم مما يقال عنهم خلاف ذلك ...
*** وقد جمع ابن عربي التنزيه والتشبيه: ( ... وبالجملة فالقلوب به هائمة والعقول فيه حائرة، يريد العارفون أن يفصلوه تعالى بالكلية عن العالم من شدة التنزيه فلا يقدرون، ويريدون أن يجعلوه عين العالم من شدة القرب فلم يتحقق لهم ، فهم على الدوام متحيرون: فتارة يقولون هو وتارة يقولون ما هو وتارة يقولون هو ما هو. وبذلك ظهرت عظمته تعالى)
*** إن نظرية وحدة الوجود قد نأت بنفسها عن عقيدة الحلول لاعتمادها المعيارات الثلاثة المتقدمة، وهي: اتصاف الله تعالى بالقدم ونفي المحايثة المطلقة عنه والوجوب الذاتي.
أما الحلولية فيرون أن الله والعالم واحد في كل وجه: فإن كنت تقول بقدم الله فمعنى قولك أن العالم قديم أيضا، وإن قلت أن الله واجب الوجود بذاته فمعنى ذلك أن العالم واجب الوحود بذاته أيضا. كذلك لا تقول الحلولية بمباينة الله عن العالم بل بالمحايثة المطلقة ولا بانفصال الله عن عالم الزمان والمكان، بل بانحصاره فيه تماما.
*** في ختام هذا البحث، لا نجد خيرا من إيراد مقطع للشيخ الأكبر لخص فيه مذهبه في وحدة الوجود، من حيث العلاقة بين الحق والخلق، لعل الكثيرين من الشعراء الحديثين يغبطون الشيخ عليه:
لو علمته لم يكن هو
ولو جهلك لم تكن أنت،
فبعلمه أوجدك،
وبعجزك عبدته.
فهو هو لهو، لا لك
وأنت أنت، لأنت وله
فأنت مرتبط به،
ما هو مرتبط بك.
الدائرة، مطلفة، مرتبطة بالنقطة.
النقطة، مطلقة، ليست مرتبطة بالدائرة.
نقطة الدائرة، مرتبطة بالدائرة
*** يقول السراج الطوسي في "لمعه ": ..فالشطح لفظة مأخوذة من الحركة لأنها حركة أسرار الواجدين إذا قوي وجدهم فعبروا عن وجدهم بعبارة يستغرب سامعها.
لكن السراج، رغم غرابة العبارة الشاطحة، يحذر السامع لها من إنكارها، فالسامع - في نظره - إما هالك أو ناج: هالك بالإنكار، أو ناج " برفع الإنكار عنها والبحث عما يشكل عليه منها بالسؤال عمن يعلم علمها، ويكون ذلك من شأنها"
وهو يسوغ الشطح ويعده أمرا طبيعيا، موضحا ذلك بالمثال التالي: ألا ترى أن الماء إذا جرى في نهر ضيق فيفيض من حافتيه يقال شطح الماء في النهر، فكذاك المريد الواجد إذا قوي وجده ولم يطق حمل ما يرد على قلبه من سطوة أنوار حقائقه فيترجم عنها بعبارة مستغربة مشكلة على مفهوم سامعيها إلا من كان من أهلها ويكون متبحرا في علمها.
ثم يختتم السراج الطوسي الباب الذي عنونه في " لمعه" بعنوان كتاب تفسير الشطحات الذي ظاهرها مستشنع وباطنها مستقيم، محذرا من ليس له قدم في علوم القوم أن ينكر عليهم فيقول: " ومن لم يسلك سبلهم، ولم ينح نحوهم ويقصد مقاصدهم، فالسلامة له في رفع الإنكار عنهم، وأن يكل أمورهم إلى الله تعالى ويتهم نفسه بالغلط فيما ينسبه إليهم من الخطأ.
***يقودنا تعريف الشطح على النحو المتقدم إلى شرح لفظة جاءت فيه وهي: " الوجد"، التي يعرفها صاحب اللمع نقلا عن أبي سعيد الأعرابي بقوله: (الوجد ما يكون عند ذكر مزعج، أو خوف مقلق، أو توبيخ على زلة، أو محادثة بلطيفة، أو إشارة إلى فائدة، أو شوق إلى غائب، أو أسف على فائت، أو ندم على ماض، أو استجلاب إلى حال، أو داع إلى واجب، أو مناجاة بسر، وهي مقابلة الظاهر بالظاهر، والباطن بالباطن، والغيب بالغيب، والسر بالسر، واستخراج مالك بما عليك مما سبق لك لتسعى فيه، فيكتب لك بعد كونه منك، فيثبت لك قدم بلا قدم، وذكر بلا ذكر.)
*** وفي تعريف الوجد يقول أبو القاسم القشيري: " الوجد ما يصادف قلبك ويرد عليك بلا تعمد ولا تكلف. وينقل عن أستاذه أبي علي الدقاق قوله: " كل وجد فيه من صاحبه شيء فليس بوجد.
أي أن العفوية ركن أساسي في الوجد وإلا فهو دعوى وتكلف، وانه لا دخل للإنسان أو لإرادته في حصوله، وهو غالبا ما يحصل عند انتقال الصوفي من حال ساكنة إلى حال محركة، بتأثير وارد من واردات الحق تعالى على قلبه فيستثير كوامن الشوق إلى الوصول...
*** هذا الحشد الكبير من الشطحات المنسوبة إلى الصوفية ولا سيما أبي يزيد البسطامي والحلاج والشبلي وغيرهم، ليس من الضروري أن تكون كلها صادرة عنهم تخصيصا. بل نحن نذهب إلى أنها جاءت بفعل قانون " تلاقي الأطراف" الذي عبر عن نفسه من خلال آلية إسقاط جرت على ألسنة العامة ونسبتها إلى صوفية مشهود لهم برسوخ القدم في ميدان التصوف. فالعامي لو أراد ان ينسب شطحا لنفسه لقوبل بالرفض والشجب، لكنه حين ينسبه إلى أبي يزيد مثلا حري به أن يقابل بقبول...
***ليس التصوف فكرا أو مذهبا ابتدعه العقل، بل هو خبرة داخلية لا خيار فيها لمختبرها، وكل ما يفعله العقل حيالها هو أن يتلقاها ويصفها ويعبر عنها. فالصوفي صاحب موهبة، تماما كالشاعر والرسام والموسيقي والروائي. ولئن كان هؤلاء أحرارا نسبيا في التعبير عن موهبتهم على النحو الذي تسمح به أدواتهم، إلا أن الصوفي وأداته اللغة ومناخه الدين ، ليس حرا في التعبير عن تجربته إذا جاء تعبيره هذا مصادما أو منافيا للشريعة التي نزل بها الوحي الإلهي.من هنا كان التنظير للتجربة الصوفية الذي يرمي إلى التوفيق بين الحقيقة والشريعة وإلغاء التعارض بينهما، فكانت مؤلفات من مثل " الرسالة القشيرية" لأبي القاسم القشيري و" قوت القلوب" لأبي طالب المكي و" اللمع" للسراج الطوسي و" التعرف" للكلاباذي، إلى ما سواه كثير.
علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة - هكذا كان يقول أبو القاسم الجنيد البغدادي شيخ هذه الطريقة، وهي الطريقة التي مازال الصوفية حتى عصرنا الحاضر يترسمونها ويلتزمون قواعدها في الأصول والفروع. فالصحيح بإطلاق هو الشريعة المتمثلة في الكتاب والسنة، وعلى محك منها يعرف صحيح القول من زيفه، وحقه من باطله. يقول أبو سعيد الأعرابي: " كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل"، أي أن كل معرفة حصلها الصوفي من تجربته تخالف في مضمونها أو مدلولها قاعدة شرعية أو أمرا إلهيا أو سنة نبوية فهي باطلة لا يصح الأخذ بها ولا الركون إليها. وقريب من هذا قول أبي سليمان الداراني: " ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما ، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين، الكتاب والسنة". حتى أبو يزيد البسطامي وقد كان من أكبر الشاطحين يحذر من الذين أوتوا الكرامات ولا يراعون أحكام الشريعة وكان يقول: " لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة"
|