المنتدى :
الارشيف
مختارات: رواية:(جيوب مثقلة بالحجارة ) - ( فرجينيا وولف)
رواية:(جيوب مثقلة بالحجارة ) - ( فرجينيا وولف)
"رواية لم تكتب بعد"
تأليف: فرجينيا وولف
ترجمة وتقدمة: فاطمة ناعوت
مراجعة وتصدير: د. ماهر شفيق فريد
إهداء:
يلزم أن تحددي خانة بيضاء
على مسافة معقولة
من حصوات رابضة في قاع النهر.
حصوات
ترقب الواقفة على الشاطئ
مشجوجة الرأس
تسمي الأشياء بأسماء جديدة
لأن معجمها
- الذي جلبته من التبت-
لا يناسب سكان المدينة.
ف. ناعوت
من قصيدة " جلباب أزرق"
-------------------------
تصدير
بقلم: د. ماهر شفيق فريد
يلتقي القارئ- على الصفحات التالية- بثلاثة نصوص: " رواية لم تكتب بعد"، وهي رواية قصيرة أو نوفيللا للروائية الإنجليزية فرجينيا وولف، ومحاورة تخيلية مع المؤلفة، وتقدمة بقلم المترجمة تحمل عنوان " جيوب مثقلة بالحجارة" في إشارة إلى انتحار فرجينيا وولف المأساوي قبل خمسة وستين عاما.
الرواية مروية بضمير المتكلم، ومسرح أحداثها- إن صح أن فيها أحداثا - عربة قطار يمر بالجزء الشرقي من الريف الإنجليزي، منطلقا من لندن. والراوية (الأغلب أنها امرأة) تشترك في العربة مع خمسة مسافرين لا يلبثون أن يهبطوا - واحدا في إثر آخر - في محطاتهمـ فلا يتبقى معها سوى امرأة تختار الراوية أن تدعوها " ميني مارش". وتتخيل الراوية مواجهة كبرى بين هذه العانس الفقيرة، ميني مارش، وزوجة اخيها المدعوة " هيلدا". وثمة لمحات عن ميني مارش بأعين الآخرين، إلى جانب عيني الراوية: فالعاملون في المستشفى يتعجبون من نظافة ثيابها الداخلية مما يدل على أنها( وإن تكن رقيقة الحال) سيدة حسنة التربية. ولا تلبث تخيلات الراوية الصامتة أن تقاطع وتنزل إلى الآرض من سبحاتها في الفضاء عندما تروح " ميني مارش - إذ تستعد لأكل وجبتها الخفيفة: بيضة مسلوقة - تعلق بصوت عال: البيض أرخص!". وعلى طريقة تداعي الآفكار، التي شهر بها جويس وفرجينيا وولف ووردورثي رتشاردسن، يستثير الفتات الأصفر والأبيض المتساقط من البيضة سلسلة من الصور.
*** هذه - باختصار - قصة إنجليزية مغروسة في تربتها المحلية، ولا سبيل لتذوقها تذوقا كاملا - فثمة مستويات عدة للتذوق - إلا إذا كنت قد ركبت قطارا إنجليزيا يخترق بك الريف الإنجليزي، وخالطت ركابه، وعرفت كيف يعيش هؤلاء القوم وكيف يفكرون ويشعرون ويسلكون.
لكن الرواية - وهنا مكمن تشويقها وفرادتها - ثمرة حساسية حداثية تخترق طرائق السرد التقليدي والوصف الخارجي ( على طريقة آرنولد بنيت وجولز ورذي وه.ج.ولز، ممن اشتدت المؤلفة في نقدهم)، وتحطم قواعد المنظور ( أستعير العبارة من يوسف الشاروني) ، لكي تنفذ من قشرة المظاهر الخارجية إلى اللب الروحي العميق، إلى مركز الآرض الباطني الموار بالحرارة والجيشان والإنفعال. هذه بمعنى من المعاني ميتا رقصة، بمعنى أنها انكفاء على الذات الداخلية، وتأمل من جانب الراوية لطريقة كتابة رواية.
*** الحوار التخيلي الذي يعقب الرواية، نقلته فاطمة ناعوت عن شبكة الإنترنت ثم قامت بترجمته. وهو يلقي أضواء على جوانب من حياة فرجينيا وولف وفكرها وفنها...
*** " رواية لم تكتب بعد" - مثل أغلب أعمال فرجينيا ولف - قصيدة نثر متطاولة، وجوهرة محكمة الصنع أحسن الصانع نحتها، ولكنها - إلى جانب إنجازها التقني، بل قبل ذلك - رحلة في أعماق النفس، تصطنع منهج المونولوج الداخلي وتتوسل بتدفق تيارالشعور والصورة الشعرية المحلقة والأسلوب الانطباعي إلى الغوص على أعماق الشخصية، وما تموج به من صفاء وكدر، وما يعتريها من تقلبات متصلة.
هذه روائية مرهفة الحس، حادة الذكاء ( كان عارفوها يخشون سخريتها اللاذعة)، مصقولة الأسلوب، مدربة الحساسية، تستحق أن يذكر اسمها - في نفس واحد - مع عمالقة الرواية السيكولوجية من أمثال هنري جميز، وكونراد، وجويس، ولورنس، وبروست.
هذا - في تصوري - كتاب يقدم للقارئ متعة ثلاثية:
فهناك أولا فن فرجينيا ولف القصصي الذي يمتاز بتقمصه دخائل النفس وقصده في التعبير وخلوه من الزوائد والحواشي.
وهناك ثانيا تقدمة فاطمة ناعوت الجامعة بين سعة المعرفة بموضوعها والقدرة على تقمص خبرة الكاتبة على نحو يجعل من التقدمة أثرا فنيا، بحقه الخاص، ليس فيه دوجماطية النقاد الأكاديميين، ولا سطحية النقاد الإنطباعيين.
وهناك ثالثا قصة فرجينيا ولف في ثوبها العربي الراهن، حيث جاورت المترجمة فيه أمانة النقل مع طلاقة الأداء.
-------
** المؤلفة في سطور:
فرجينيا ولف ( 1882 -1941) أديبة إنجليزية، ابنة لزلي ستيفن محرر " معجم السير القومية " ، في 1912 اقترنت بليونارد ولف، وهو صحافي وكاتب. كانا يديران مطبعة هوجارث التي نشرت اغلب كتبها. ادرك الناس أن روايتها الاولى " الرحلة البحرية إلى الخارج" 1915 عمل مرموق، وسرعان ما اردفت النجاح الذي لاقته برواية " الليل والنهار" 1919، ثم رواية " غرفة يعقوب " 1922. في هذه الأثناء كانت قد نشرت تجارب أخرى عديدة مكتوبة على نحو جيد، جمعتها في كتابها المسمى " الإثنين أو الثلاثاء" 1921. وبهذا الاسلوب الجديد كتبت رواياتها التالية: مسز دالواي 1925، " نحو المنارة" 1927، و - إلى حد ما - " أورلاندو" التي تعد " سيرة " 1928. من بين رواياتها الخيرة نالت رواية " السنون " 1937 استحسان النقاد ( وكانت دائمة الجدل معهم). بدلا من أن تكتب روايات تستخلص أفكار شخوصها مما يقولونه أو يفعلونه، أو تقدم تسجيلا لفكار افرادها نستشف منه طرازهمـ اختارت أن تكتب روايات يتكشف الفكر فيها على نحو دقيق إلى الحد الذي تفقد معه الكلمات والأفعال كثيرا من أهميتها. تكمن قيمة كتبها - جزئيا - في فهمها لهذه الشخصيات التي تكتب عنها، وجزئيا في التوفيق الذي كان يصاحبها في استخدام الكلمات. جعلتها هذه المزايا من أحسن نقاد الدب في زمانها، وقد نشرت مقالات نقدية هي : القارئ العادي 1925، القارئ العادي ( الجزء الثاني) 1932. غرقت قرب لويس بمقاطعة سسكس في الثامن والعشرين من مارس عام 1941، وأثبت قاضي التحقيق في الوفيات أنها انتحرت. (انظر دائرة المعارف البريطانية - مجلد 23- ص 733 جامعة شيكاغو، طبعة 1945)
----------
- تقدمة المترجمة:
*** فرجينيا وولف،" الثورة الهادئة"، بتعبير مايكل بننجام وكما وصفها بعض أصدقائها المقربين. وهي أحد أهم القامات في الأدب الإنجليزي ورواده في حركة التحديث الروائي. صنعت إسهاما مهما في تغيير شكل الرواية الإنجليزية إذ نجح حسها التجريبي في تطوير الأسلوب الشعري خلال السرد القصصي والروائي عبراعتمادها التقنيات التجريبية مثل: المونولوج الداخلي/ الانطباعية الشعرية/ السرد غير المباشر/المنظور التعددي/ إضافة إلى ما يعرف نقديا ب" تيار الوعي"
يعتمد منهجها الكتابي على استشفاف حيوات شخوصها من خلال الغور داخل أفكارهم واستدعاء خواطرهم وهو ما يسمى " استثارة حالات الذهن الإدراكية" حسيا ونفسيا، والذي يشكل نموذجا لطرائق تداعيات الوعي البشري. تفعل وولف ذلك من خلال رصد وتسجيل لحظات الوعي المتناثرة داخل الذات وداخل المخ البشري لتعيد ترتيبها وفق صورة تشكيلية ترسمها وولف بحنكتها الروائية.
تلتقي تقنياتها تلك مع تقنيات كل من " بروست" و " جويس"، متجاوزة بذلك التقنية التقليدية في القص والرواية، التي انتهجت الوصف الخطي المتنامي زمنيا والرصد الموضوعي للحدث، والتي ميزت رواية القرن التاسع عشر.
عمد أسلوبها إلى تصاعد الوعي الذهني لشخوص روايتها في تزامن مع التصاعد السردي للحدث. الكتل الزمنية تتراص متوازية في الذاكرة وبالتالي في الرؤية الدرامية. المشاهد غير المكتملة تتقاطع وتشتبك لتخلق لوحة أرحب وأشد تعقيدا. التنوع الأسلوبي للقص داخل الرواية الواحدة يذكر القارئ دائما أن ثمة خطا شعريا أو خياليا متورط في العمل.
إن تبني تيار الوعي في السرد القصصي والذي يتراوح بين التفاصيل الدنيوية اليومية العادية وبين الإسهاب الغنائي إضافة إلى الخبرة العالية بطرائق تشكل المشهد، هما من أهم أدوات وولف الكتابيةـ التي أظهرت لقارئها مدى أهمية استغلال وتنمية قدرات المخيال التشكيلي في حياتنا اليومية، كما هو لدى المبدع، في بناء النص.
اشتهرت وولف باستدعاءاتها الشعرية التي تستخلصها من ميكانيزم التفكير والشعور البشري. كانت، مثل بروست وجويس، قادرة بامتياز على استحضار كافة التفاصيل الواقعية والحسية من الحياة اليومية، غير أنها دأبت على انتقاد أسلوب مجايليها " آرنولد بينيت" و" جون جولز وورثي" بشأن اهتمامهما البالغ برسم واقعية ميكروسكوبية وثائقية مفرغة من الفن، وهو ما انسحب عليهما من روائيي القرن ال19. كانت ترى أن الواقعيين المعاصرين الذين يزعمون الموضوعية العلمية الحيادية هم زائفون بالضرورة، طالما لا يعترفون بحقيقة أنه لا حياد تاما في الرؤية، لأن " الواقعية" يتم رصدها على نحو مختلف باختلاف راصديها. الأسوأ من ذلك، من وجهة نظرهاـ أن محاولتهم الوصول للموضوعية العلمية الدقيقة تلك غالبا ما ينتج عنها محض تراكم زمني للتفاصيل.
كانت وولف تطمح إلى الوصول إلى طريقة أكثر شخصانية وأكثر دقة كذلك في التعامل مع الواقع روائيا. لم تكن بؤرة اهتمامها " الشيء" موضوع الرصد، ولكن" الطريقة التي يرصد بها الشيء من قبل " الراصد". وقالت في هذا الأمر:" دعونا نرصد الذرات أثناء سقوطها فوق العقل بنفس ترتيب سقوطها، دعونا نتتبع التشكيل مهما كان مفككا وغير مترابط التكوين سنجد أن كل مشهد وكل حدث سوف يصيب رمية في منطقة الوعي"
قارن النقاد بين كتابات وولف وبين ما أنتجه فنانو ما بعد الإنطباعية post-impressionism في الفن التشكيلي من حيث التأكيد على التنظيم التجريدي لمنظور الرؤية من أجل اقتراح شبكة أوسع للدلالات والرؤى.
تعتبر وولف -إلى مدى أبعد من أي روائي آخر باستثناء جويس- أول من أنتج الرواية الإنجليزية الحديثةـ التي نأت بشدة عن الشكل التقليدي المطمئن آنذاك منذ القرن التاسع عشرـ بكل ما تحمله تلك الرواية من ملحمية البطولة، وفرط العاطفة، والإعلاء الأخلاقي المتزمت، وكذا رؤاها الجامدة المتجمدة الدوجمائية/ ثم الهيكل الكلاسيكي الثابت: استهلال مباشر واضح، متن وذروة، ثم نهاية ختامية تبشيرية أو إصلاحية.
أضحت الرواية في يد وولف أكثر بريقا والتباسا وتوترا، موشاة بخيط رهيف من الفوضوية والتحرر والشعرية أيضا، كما أنها اهتمت بالأساس بالبشر المهمشين أو الذين يعانون من مشاكل نفسية ما. لم تهتم كثيرا بكتابة رواية تبشيرية أو إصلاحية، لكنها عمدت إلى إظهار كيف تنصهر الحياة في ألوانها الخاصة بكل ما فيها من تقاطعات اليومي البسيط والعميق الفلسفي. وبطبيعة الحال استمرت الرواية التقليدية تكتب منذ وبعد عصر فرجينيا وولف، لكنها بعد وولف لم تعد مطلقا كما كانت.
آمنت وولف بأن الرواية التي كتبت في عصرها وما قبله: ببنائها المحكم وزخم العاطفة والحماس بها، كانت تتصل بالعالم وبالبشر على نحو عبثي. وشبهت ذلك بقارب مليء بالمستعمرين والمبشرين الذين يغامرون باقتحام دغل متشابك وكثيف بقصد غزوه وإخضاعه.
وتقول وول عبر رواياتها إن العالم أشد ضخامة وتعقيدا وغير قابل للاختراق والإخضاع على أي نحو، وإن القيمة الجمالية الفنية هي الهدف الأوحد للقص، ولذا فإن أي كاتب يحاول أن يطهر الدغل من أشجار كرمه او من نباتاته الشيطانية المتسلقة سوف يثير ذعر الضواري والوحوش ولن يسلم من غضبتها. كأنما يحاول أن يفرد طاولة للشاي أمام تلك الكواسر ثم يذهب في شرح البروتوكولات والتقاليد حول ما يجب وما لا يجب فعله من تقاليد المائدة. هذا ما يفعله الكاتب حين يكتب تلك النهايات السليمة والنافعة الطوباوية ذات الطابع الاصلاحي.
قدمت وولف شهادة للعالم، عبر كتاباتها، رصدت وسجلت فيها طرزه ونماذجه، لكنها لم تسع مطلقا إلى تقويمه أو إخضاعه ضمن أي منظومة خاصة، لأنها آمنت أن الكون ينتج نظامه الخاص بنفسه. من أجل هذه الرؤية الحداثية، اتهمت وولف دائما، من قبل الإصلاحيين، بأنها تكتب من أجل لاشيء.
الملمح الأساسي لعبقرية وولف، الظاهرة منذ بداية مشروعها الأدبي، هو اصرارها على تأكيد مراوغة العالم بوصفه أوسع وأكثر تعقيدا من أن نضع اشتباكاته تحت بؤرة النقد من خلال أية حياة فردية: " جرب أن تدخل " وعي" إنسان، أي إنسان، وسوف تجد نفسك فورا منقادا إلى حيوات العشرات من البشر الآخرين الذين يكملون ويتقاطعون مع حياة هذا الإنسان، كل على نحو مختلف."
فهمت وولف أن أية ( شخصية) كتبت عنها، حتى الشخصيات الهامشية، كانت ( تزور) روايتها من خلال ( رواية ) ذاتية تخص تلك الشخصية، وأن تلك الرواية غير المكتوبة تضم إلى جانب مشروعها الرئيس، آلام وأقدار تلك الشخصية: هذه الارملة، أو ذلك الطفل، أو تلك العجوز المسنة، أو حتى المرأة الشابة التي لم تظهر في رواية " الخروج في رحلة بحرية" إلا في مشهد عبورها الحديقة العامة فقط.
بعد روايتين تقليديتين نسبيا، بدأت وولف في تطويع مداخلها التي مهدت لها اللعب على بنية مخيالية أكثر رحابة حيث:
- التطور المشهدي المتصاعد حل محله التشكيل عن طريق التراص الرؤيوي.
- الإشتباك المباشر مع الواقع والتراكم الزمني بهما التراوح الملتبس للعقل بين الذاكرة وبين الوعي.
ومن ناحية أخرى يربط المشهد المركب للتيمة الرمزية بين شخوص ليس من علاقة واضحة بينهم في القصة ذاتها.
كل تلك التقنيات ألقت على عاتق القارئ متطلبات جديدة في فن التلقي من مقدرة على تخليق وإعادة بناء الصورة الكلية من جزئيات متناثرة ليست بادية الصلة. من هنا كانت صعوبة قراءة فرجينيا وولف.
*** مشكلات الهوية ومدى التحقق والإخفاق لدى شخوص سردها هي الهم الثابت لدى وولف والمحرك الأول وراء تلك الإزاحات المنظورية في أعمالها. ولذا غالبا ما تلجأ وولف إلى تجسيد الشخصيات غير المتحققة وغير المكتملة ومن ثم إلى البحث عن الشيء الذي سوف يحقق اكتمالها.
ترتكز كتابة وولف على لحظات الوعي العليا، وبالمقارنة ببعض أعمال جويس التي تتناول البصيرة كنوع من القوى الأسطورية، نجد أن وولف تعالج الأمر كملكة ذهنية حين يفعل العقل أقصى طاقاته ليعتمد الخيال.
لا أحد يقرأ وولف بغير أن يؤخذ بالإهتمام الفائق الذي تعطيه للمخيلة الإبداعية. فشخوصها الرئيسيون يفعلون حواسهم فيما وراء المنطق العقلي، كما أن أسلوبها السردي يحتفي بالدوافع الجمالية التي تنظم الأبعاد المتنافرة في كل متناغم متسق. ترى وولف أن الكائن البشري لا يكون مكتملا إذا لم يشحذ طاقاته الحدسية التخيلية في أقصى درجاتها.ومثل كل كتاب الحداثة، نجد وولف مفتونة بالعملية الإبداعية في أعمالها، فنجدها حينا تصف كفاح الرسام من أجل بناء لوحته في " صوت المنارة" وفي حين آخر تجسد حال الكاتب وانهمامه من أجل بناء روايته، كما في " رواية لم تكتب بعد" التي تناولناها بالترجمة. غذ تحاول وولف في هذين العملين استكشاف طرائق تخلق العمل الإبداعي في مخيلة العقل البشري.
فقد لاحظت وولف أنه لا يمكن لقارئ الرواية ( المكتملة) أو لمشاهد اللوحة التشكيلية ( المكتملة) أن يستقرئ خطوات ميكانيزم هذا التخلق الإبداعي المعقد: الملاحظة، الغربلة، التنظيم الإحداثي والحدثي( من إحداثيات وحدث)، رسم خريطة العلاقات والتاويلات..إلخ، ثم الصياغة وإعادة الصياغة حتى يكتمل العمل فنا سويا. فالعقل البشري يقوم بأشد العمليات تعقيدا لتنظيم الوعي وافدراك مع الملموسات، الأمر الذي لا يمكن رصده أو نقله بشكل كلي وتام داخل إطار وصفي محدد مهما بلغت دقته. ومن هنا جاءت فكرة هذه الرواية التي لم تكتب بعد.
في " رواية لم تكتب بعد" ترصد وولف حالات التخلق الذهني لجنين رواية في طريقها للتخلق عن طريق أخذ القارئ عبر بدايات رواية لم تكتمل بعد، راصدة كيف يمكن أن تكتمل على أنحاء متباينة. تتحرك القصة أماما وخلفا بين حائطين من الخيال والواقع، كل يسهم في احتماليات الرواية ليحفر نهرا من الإقتراحات وافقتراحات البديلة، كل ذلك يتم داخل ذهن الرواية التي تختبر وتعالج كل الرؤى الممكنة اتكاء على مراقبتها شخصية امراة معينة تجلس امامها في غحدى كبائن القطار عبر رحلة إلى جنوب لندن. على الجانب الاخر، ترصد الرواية كل الكلمات الفعلية والإيماءات التي يأتي بها راكبو نفس الكابينة، ومن ثم ترسم - ذهنيا - اقتراحات متخيلة لكل منهم عبر خلق روائي تم من خلال الملاحظة، التقمص العاطفي، وتجسيد ما تشاهده خلال الرحلة ليتفق وتصورها المبدئي. يظهر هذا في آلية استدعاء التداعيات الذهنية للمحيطين من خلال قراءة أفكارهم وسلوكهم ثم التعامل ذهنيا ونفسيا مع تلك التداعيات.
ترسم وولف عملية الخلق افبداعي كتجربة كاملة خاطئة يتم استبدالها، ثم تصحيح النغمة ودرجة التماسك الدرامي، فمثلا لابد أن يجد الراوي جريمة متخيلة ارتكبتها البطلة " ميني مارش" لتتفق الحال مع ملامح الأسى المرسومة على وجهها،كذلك استبدال نبات السرخس بنبات الخلنج ليكون أكثر مناسبة مع المشهد المرسوم ( بمعرفة الراوية) فيكتمل على نحو أفضل، إضافة أو طرح شخوص للرواية. ولا تغفل وولف حساب" الراوية" ذاتها كقوة دافعة في العمل، بالرغم من سعيه عادة في معظم الروايات، أعني الراوية، إلى التعالي فوق الحدث والشخوص، حيث يبدأ من أرض الرصد الصلبة، بعين العليم غير المتورط، لكن روح الفنان وولف أجبرتها على الضلوع في الدراما طوال الوقت كراو غير عليم ومشارك ومتورط في الحدث.
ومثلما فعل بودلير في قصيدة " النوافذ" حين اعتمد الخيال كحيلة ذهنية لانتزاع الأمن من الحياة وخلق شيء من الثقة بالنفس، أكدت وولف في تلك الرواية على حتمية انتصار روح الخلق الإبداعي داخل الفنان على روح العدمة والقنوط التي تصيب المبدع أحيانا. فكلما أثبتت حكايتها الأولى فشلها وتراءى لهما كم أن حبكتها تبدو مضحكة سرعان ما تستجيب لروح المبدع داخلها وتشرع في نسج حبكة جديدة.
في هذه النوفيللا الثرية غزيرة التفاصيل، التي هي مشروع رواية لم تكتمل وفي ذات الوقت عمل مكتمل البنية على نقصانه المتعمد، نلمس اشتجار البعاد الكثيفة للواقع الموضوعي، مع الراوية والناقد في آن، مع المحلل الذاتي داخل الراصد، بما لا يعطي مجالا للنهاية أن تكتمل. يتنامى الهاجس الإلهامي داخل المبدعة التي تنشد " عالما رائعا، مشاهد ملونة، وشخصيات اسطورية تنتظر ان تخلق" لتقف الرواية على الحافة الحرجة بين النقص والإكتمال.
*** عملت وولف على تطوير تقنياتها الأدبية فكرست قلما نسائيا رفيعا يناقش وينتقد هموم المرأة وحياتها في مقابل الهيمنة الذكورية وسيادة وجهة نظر الرجل في الواقع والوجود والكتابة.
في مقالها " السيد بينيت والسيدة براون"، ساجلت وولف بعض الروائيين الواقعيين افنجليز مثل جون جولز وورثي، ج ويلز وغيرهما، حيث اتهمتهم بمعالجة القشور واللعب فوق منطقة السطح، بينما ينبغي من أجل اختراق العمق، تقليص المساحة المحظورة في تناول الحياة، والإستفادة من أدوات الكتابة المتاحة مثل تفعيل تيار الوعي، والحوارات الذاتية للشخوص، وكذا الإنصراف عن السرد الخطي والبناء الهندسي للحدث والزمن.
*** إبان الإجتياح النازي، أعدت وولف وزوجها المؤن واتخذا تدابير الإستعداد حال الخطر. فاتفقا على تصفية نفسيهما جسدياـ عن طريق الإنتحار بالغاز السام، إذا ما هوجما من قبل النازيين( نظرا لكون زوجها يهودي الأصل)
لم تكن ظلال الخوف من الإجتياخ النازي بكل ما تحمل من رائحة الموت وحدها التي مثلت شبحا ضاغطا على روح وعقل فرجينيا. فقد أثقلت المراة بحوادث فاجعة كثيرة ليس بدءا بموت أمها المبكر ولا بموت أبيها البطيء ولا شقيقها المحبوب، ولا انتهاء بالأصدقاء الذين كانوا يذهبون إلى الحرب ولا يعودون بعد ذلك أبدا. فكانما كان الموت يترصدها كما ترصد محيطها فقررت أن تذهب إليه بدلا من أن تنتظر مجيئه على مبدأ " بيدي لا بيد عمرو"
*** حين استشعرت أن ضربة عقلية أخرى في طريقها إليها، أثقلت فرجينيا وولف جيوب ثوبها بالأحجار وأغرقت نفسها في نهر " أوزو" بالقرب من منزلها ببلدة " سسيكس" في 28 مارس 1941. وكانت قد انتهت لتوها من مسودة كتاب " بين فصول العرض"
وجدت بين أوراقها رسالتان تعلن فيهما عن انتحارها، إحداهما لشقيقتها فنيسا والآخرى لزوجها. الآولى بتاريخ يسبق توقيت الانتحار بعشرة أيام مما يشي بأن محاولة فاشلة للانتحار قد تمت في ذاك التوقيت، سيما وقد عادت مرة إلى البيت مبتلة الثياب من جولة لها على الآقدام وفسرت بأنها سقطت في الماء.
في رسالتها الأخيرة لزوجها كتبت وولف:
" أيها الأعز، لدي يقين أنني أقترب من الجنون ثانية. وأشعر أننا لن نستطيع الصمود أمام تلك الأوقات الرهيبة مجددا. فلن أشفى هذه المرة. بدأت أسمع الأصوات ولم يعد في وسعي التركيز. لهذا سأفعل الشيء الذي أظنه الأفضل. لقد وهبتني أعظم سعادة ممكنة. كنت دائما لي كل ما يمكن أن يكونه المرء. لا أظن أن ثمة زوجين حصلا ما حصلناه من سعادة إلى أن ظهر هذا المرض اللعين. لقد كافحت طويلا ولم يعد لدي مزيد من المقاومة. أعرف أنني أفسدت حياتك، لكنك في غيابي سيمكنك العمل. وسوف تواصل العمل، أعرف هذا. أنت ترى أنني حتى لا يمكنني كتابة هذه الرسالة على نحو سليم. لم أعد أستطيع القراءة. ما أود أن أقول هو أنني أدين لك بكل سعادة مرت في حياتي. لقد كنت صبورا إلى أقصى حد، وطيبا على نحو لا يصدق.أود أن أقول هذا - كل الناس يعلمون هذا. إذا كان ثمة من أنقذني فقد كان أنت. كل شيء ضاع مني إلا يقيني بطيبتك. لا أستطيع أن أستمر في إفساد حياتك أكثر." ف. و .
بعدما أنهت تلك الرسالة، غادرت منزلها الريفي في رودميل في الساعة 11:30 صباحا، ومعها عصا التجوال، عبرت المرج الذي يفصل بيتها عن النهر، ثم أثقلت جيوب معطفها بالأحجار.
لم ينتشل جثمانها حتى يوم 18 أبريل، حين اكتشفته مجموعة من الصبية أسفل مجرى النهر. تعرف زوجها على الجثمان، ثم أجري التحقيق في اليوم التالي في " نيو هافين" وجاء الحكم حسب الصياغة القياسية في ذاك الوقت بأنه" انتحار أثناء حال اضطراب في الميزان العقلي"
في " برايتون" يوم 21 من أبريل، تم إحراق الجثمان في عزلة وصمت، ثم نثر رماده تحت إحدى شجرتي الدردارحول منزلها.
*** فسر انتحارها تلك السمة التي صبغت أعمالها من الغموض والتركيب. وأعيد قراءة كتاباتها من جديد على ضوء انتحارها كمحاولة استكشاف للمأساة التي عاشتها وولف.
-------------
- متن الرواية:
*** الحياة هي ما تراه في عيون الناس/ الحياة هي ما يتعلمونه ويكتسبونه، وما اكتسبوه وتعلموه بالفعل، وأبدا، بالرغم من هذا يحاولون إخفاءه، ويجتهدون في التوقف عن الوعي ب ــــــــــــــ بماذا؟ الحياة تشبه تلك التي تبدو لنا.
*** الثالثة من مساء أحد أيام ديسمبر، تمطر رذاذا خفيفا، ضوء يأتي من الآسفل من نافذة سقيفة محل بيع الأقمشة، وآخر من الأعلى يأتي من غرفة نوم الخادمةــــــــــــــ هذا الضوء انطفأ. فلم تجد المرأة شيئا تنظر إليه.
خواء اللحظةــــــــــــ، والآن، في أي شيء تفكرين؟
( دعوني أختلس النظر إليها، إنها نائمة أو تتظاهر بأنها نائمة، إذا، ترى فيم يمكن أن تفكر في الثالثة ظهرا أثناء الجلوس جوار نافذة قطار؟ الصحة، المال، الفواتير، أم تفكر في الله؟)
أجل ميني مارش تصلي لربها، وهي تجلس على هذه الحافة من المقعد وتنظر صوب أسطح أبنية "إيسبورن". هذا مناسب جدا، ولعلها نظفت الزجاج أيضا، لترى الله على نحو أفضل.
لكن أي رب ترى؟ من هو إله ميني مارش؟ إله الشوارع الخلفية ل " إيستبورن"، إله الساعة الثالثة من بعد الظهر؟
أنا أيضا أنظر إلى أسطح الأبنية، أنظر إلى السماء، لكن، آه يا عزيزتي ــــــ يا لرؤية الآلهة! لابد أن ربها يشبه الرئيس كروجر( بول كروجر : رجل دولة وقائد سياسي كان مناهضا للنفوذ البريطاني في جنوب إفريقيا..) أكثر مما يشبه الأمير ألبرت ( الأمير ألبرت، زوج فيكتوريا ملكة بريطانيا، كان شخصية محبوبة مشهور باعتداله السياسي) هذا أكثر ما يمكنني منحه، أراه يجلس فوق كرسي في عباءة سوداء، ليس في مكان بالغ العلو، ربما يمكنني أن أدبر له غيمة أو غيمتين كي يجلس فوقهما، بعدها ستتدلى يده بهدوء من الغيمة قابضة على عصا، الصولجان، أليس كذلك؟ــــــــــ سوداء، غليضة، ومليئة بالأشواك ــــــــ.
عجوز شرس وطاغيةـــــــــــت إله ميني مارش! أتراه هو الذي أرسل الحكة والبقعة والرعشة؟ أمن أجل ذلك كانت تصلي وتدعوه؟ إذا الشيء الذي حاولت محوه من فوق زجاج النافذة كان بقعة من الخطيئة! أوه، ميني مارش إذا ارتكبت جريمة ما!
*** لا أحد يرى، لا أحد يهتم. عيون الآخرين هي سجوننا، أفكارهم هي أقفاصنا. ..
*** غير أن النفس حين تتحدث إلى النفس، من يكون المتكلم؟ ـــــــــــ الروح المدفونة؟ النفس التي أقصيت، وأزيحت عميقا، في عمق السرداب المركزي لكهوف الموتى؟ النفس التي اعتمرت الوشاح الحاجب وتركت العالم ــــــــت نفس جبانة ربما، لكنها جميلة على نحو ما، لأنها تحلق حاملة مشكاتها المنيرة بغير توقف أعلى وأسفل الدهاليز المعتمة.
------
*** أفترض أن مفتاح الكتابة يكمن في أن تكون وحيدا...
*** أظن أن كل الزوجات والأزواج لديهم " لغة سرية" خاصة بهم، حتى وإن لم يدركوا دائما أنهم يتكلمون بها. تتزايد الشفرات والرموز بين الناس، وهم يطورون طرائقهم الفطرية في التواصل فيما بينهم.
*** الكتابة تجعل كل شيء قويا ومشحونا بالعاطفة.
|