و أخيراً سألته :
" هل تشعر بأي ندم ؟ .. أقصد ألم تشعر مطلقاً بأنك افتقدت البيت ؟ "
ضحك (كوين) , و قال: " هذا هو بيتي " .. و أصدر إيماءة واضحة تشمل ما هو أكثر من المنزل , و تابع : " كنتُ أعود إلى أميركا في مهمات عمل , ولكنني لم أذهب إلى كونكت كت منذُ أعوام .. إلى أن اتصل بي (آلن) و أخبرني عن ...
تغير وجهه .. واكفهرت قسماته .. كان قد نسيا لدقائق قليلة , سبب لقاءهما ..منتديات ليلاس
الآن و هي تنظر إليه ... أدركت (بيج) أن سلامهما الهش قد تحطم ! ..
قال بهدوء : " أنتِ امرأة متعددة المواهب . لم ألحظ بأنكِ تستطيعين أداء تلك المهمة الجديرة بالتصديق بادعاء الإصغاء إلى قصة لم تكن بالغة التشويق "
قالت بسرعة : " لم أدع ذلك . لقد كانت شيقة .. إنها توضح الكثير من الأمور عنك "
و ضع كأسه على المائدة , وقال : " أي أمور ؟ "
" مجرد ... أمور .. أقصد أنك تختلف كثيراً عن (آلن) " .
كان خطأ أن تفوهت بذلك .. رأت ذلك في إمالته المفاجئة لرأسه .
و تمتم " هذا صحيح " ..
و أخذ الكأس من بين أصابعها المضطربة , وتابع : " أنا لا أشبه أخي في شيء "
دق قلبها بجنون , وقالت : " (كوين) .. أرجوك "
" أهكذا خدعت ذلك المسكين يا (بيج) ؟ .. الثرثرة الدافئة .. والأسئلة عن طفولته ؟ "
" لم أفعل ذلك "
" إن سلب لبي ليس سهلاً إلى هذه الدرجة " , وانفرجت شفتاه كاشفة عن أسنانه , وأضاف :
" و أنا لستُ بنصف صبره "
" (كويــــن) "
" إذا وضعتُ خاتمي في إصبع امرأة .. فأتوقع أن تكون كلها لي "
"كيف تغير بهذه السرعة ؟ ..
حدقت (بيج) في وجهه الغاضب ..
منذُ لحظات كانت تلقي بنظراتها على الرجل الذي قابلته في قاعة الرقص بملهى هانت ..
إنه الآن شخصاً آخراً .. غامض و مخيف ..
همست بقوة : " لا تفعل "
ولكنها كانت متأخرة جداً .. لقد جذبها بالفعل بين أحضانه ..
وقال بهدوء : " أنتِ تريدين خاتم زواجي .. ما معنى ذلك في رأيك ؟ "
وثبت نبضاتها عندما طافت عيناه بجسدها , وقال :
" الجحيم .. لقد انتظرتُ طويلاً فعلاً "
" لاااا "
ضمها إليه في عناق ساحق .. مخدراً صرختها التي لم تصل إلى حلقها حتى ..
أحست بقسوة يديه .. و عطش جسده إليها .. و هي تقف متصلبة بين ذراعيه الغاضبتين ..
زمجر : "لا داعي لهذه الألعاب معي "
لمعت الدموع في عينيها .. أحست بالمهانة والذل وهي عند يديه ..
حدق فيها .. و تمتم بلعناته ..
قال بصوت خشن : " لا تبكِ .. جولييت
جلب الاسم معه قورة حلوة من الذكريات .. وقد تذكرها هو الآخر بدوره ..
ثم خبا الإشراق الوامض في أعماق بحار عينيه ..
غطى فمه فمها و هو يحتويها بين ذراعيه .. دار بها المنزل مثلما حدث ليلة أمس ..
ليلة الأمس ..
ليلة الأمس كانت منهكة و خائفة .. و قد قدم ذراعاه لها السلوان ..
أما الليلة فقد كان ذراعاه تذكيراً بما ينتظرها معه ..
لن ينتهي هذا الأمر إلا بالوقوع في شركه و مبتغاه .. ولن يكون ذلك إلا في وحشية غضبه و نزعته الإمتلاكية ..
همس : " لا مزيد من الألعاب يا (بيج) .. إنه وقت المكافأة "
و طافت يداه بجسدها في تهور محموم .. كانت تعبث في شعرها في قسوة بالغة ..
بينما تقلصت هي من الخوف والرعب الذي ملأ قلبها .. جراء لمسته التي كانت تُشعل فيها الحب منذُ أيام قلائل ..
طارت أفكارها إلى تلك المرة الوحيدة التي كادت تنساق فيا وراء رغبتها مع ذاك الرجل في نيويورك .. كانت ذكرى للألم و الخزى .. للأحلام التي ماتت مواجهة للواقع المسموم ..
كانت تظن أنه لا يوجد أسوء من ذلك .. لكنها أدركت خطأها لدى لمسات (كوين) الخشنة ..
كان هذا أسوأ ..
إنه أساء الاستعمال ذلك السلطان الطاغي , الذي كان يسيطر عليها في لقاءها الأول مع (كوين) ..
لقد استغل الفتنة التي سرت بينهما وحولها إلى سلاح ضدها .
أغمضت عينيها و وقفت جامدة بين ذراعيه بلا حراك ..
و أخيراً رفع رأسه وحدق فيها ..
قال بحدة : " قبليني أيتها اللعينة .. أين كل تلك النيران التي أذكرها ؟ "
و تحركت يداه تضمها من جديد ..
قال بصوت أجش : " لقد كنتِ تُريدين مني الحب عندما ظننتِ أنكِ لن تريني مرة أخرى .. ماذا حدث يا جولييت الجميلة ؟ ألا يمكنك مجارة رجل يعرفك على حقيقتك ؟ "
همست : " افعل ما تريد , و تخيل أن هناك من يجاريك "
أشاحت بوجهها عنه و أغلقت عينيها و هي تبكي بدموع حارة في صمت .. منتظرة انتهاء هذا الكابوس ..
خيم الصمت فترة .
وفجأة .. لفظها (كوين) من بين ذراعيه ..
" انظري إلي يا (بيج) " ..
وببطء , ودون رغبة .. ركزت عليه عينيين ممتلئتين بالدموع الصامتة ..
تهدلت خصلة من الشعر الداكن على جبهته ..
قال في همسة خشنة : " لن يجدي ذلك نفعاً .. أنتِ تظني أن بإمكانك إنزالي إلى شيء أحقر من الإنسان .. إلى رجل يأخذ امرأة بين ذراعيه في صمت .. "
برقت عيناه , و أضاف : " لكني لن أتيح لكِ ذلك "
و فجأة تقدم منها و قبض على كتفيها و جذبها إليه في خشونة , وقال :
" عاجلاً أو آجلاً .. ستحتاجين إلى رجلاً .. مثلما حدث ليلة أن التقينا .. وعندما تفعلين ..
سأكون هنا ..
و سأبادل حبك حباً .. حتى تتوسلي لي أن أبتعد ..
و عندها ..
تركزت عيناها على وجهه .. وهمست من بين دموعها :
" و عندها ؟؟ ..
لم ترغب في سماع بقية كلامه .. لكن كان لابد من أن تسمع ..
غاصت يدا (كوين) في جسدها ..
ثم دفع بها قائلاً :
" و عندها , أكون قد تحررتٌُ منكِ أخيراً .....
(( لماذا لم تخبريني؟ ))
من المذهل أن يستطيع شخصان يعيشان في منزل واحد صغير .. أن يتجنبا بعضهما إذا قصدا ذلك فعلاً ..
في اليوم التالي نقل (كوين) حاجياته إلى حجرة الضيوف .. و بعدها أصبحت (بيج) تراه بالكاد ..
في البداية ..كان وقع خطواته خارج بابها يحبس أنفاسها في حلقها .. ولكن مشيته لم تكن تضطرب على الإطلاق .. كلن يغادر المنزل قبل موعد نزولها في الصباح .. ولا يرجع مطلقاً حتى وقت متأخر..
بعد العاشرة في العادة , فأصبح من السهل تفادي اللقاء في المساء ..
كانت هي تتناول عشاءها في السابعة , وتذهب لحجرتها في التاسعة .. و طبعاً كان من النادر أن يلتقيا في الصالة .. أو لدى الباب .. بينما كان هو ملتزماً في بروده .. طبعاً هذا الجو خلق ما يشبه الهدنة بينهما نتج عن عما حدث في السابق ..
مر أسبوع ثم أسبوعان .. أحياناً .. كانت (بيج) تظن أن (كوين) قد نسي وجودها .. لكن هذا مستحيل .. لابد أنه كان واعياً لوجودها مثلما هي واعية لوجوده .. لا يمكن أن تسره الحياة بهذه الطريقة حبيساً مع غريبة في منزله وعلى العكس ما كانت تراه بدأت تأمل في الخلاص .. لم يكن (كوين) أبله , عاجلاً أم آجلاً سيضطر للاعتراف بأن هذه المهزلة الزواجية لا معنى لها .. و عندئذ سيطلق سراحها لابد أن يفعل ذلك
إنه الشيء الوحيد الذي يبدو معقولاً .
تزايدت أمالها مع مرور الأيام ..
ثم في صباح يوم ما .. تحطمت كل هذه الآمال .. كانت تحث الخطى في طريقها , لحضور محاضرة في المتحف البريطاني .. أصبحت تهوى استكشاف المدينة كوسيلة لتقل الوقت ..
إن لندن مكان رائع ..
هكذا حادثت نفسها .. وهي تغلق أزرار معطفها قبل خروجها .. لا عجب أن اختار (كوين) الحياة هنا ..
كان يمكنها أن تسعد هنا ..
فقط لو
فقط لو
" سيدة فولر .. أنا سعيدة أن لحقت بك قبل خروجك
التفت (بيج) مندهشة إلى مدبرة المنزل
كانت (نورا) أبرع من أن تعلق على الترتيبات الخاصة بنوم مخدومها ولكن منذ انتقال (كوين) إلى حجرة الضيوف وهي تعامل (بيج) بلامبالاة مهذبة ..
" سأتأخر عن موعدي يا (نورا) ألا يمكن الانتظار "
هوت (نورا) رأسها وقالت :
" إنه بشان حفلة العشاء مساء السبت ..
حدقت (بيج) قي المرأة بإنشداه و قالت :
" حفلة عشاء ؟ "
" نعم يا سيدتي .. هل سيكون تناول الطعام وقوفاً أم جلوساً .. سنحتاج إلى مساعدة إضافية في حجرة الطعام .. يمكنني الترتيب لذلك إذا أردت .. ولكن متعهد الأطعمة يفضل أن يخطر قبلها بأيام قليلة "
هزت (بيج) رأسها :
" أنا لا اعرف شيئاً عن خطة السيد (فولر) ليوم السبت يجب عليك أن تسأليه "
قالت (نورا):
" لقد فعلت .. وقد قال أن تقرير هذه الأمور يرجع إليكِ .. هناك ستة مدعوين للعشاء .. هل تريدين الشراب والخبز المحمص المغطى بالجبن أو ...
قالت (بيج) بصوت قوي :
" أنتِ على خطأ .. أنا لا شأن لي بذلك "
هزت مدبرة المنزل رأسها , وقالت :
" أنا لم أخطئ يا سيدتي "
و التقت عيناها بعيني (بيج) , بينما تابعت :
" صدقيني يا سيدة (فولر) لقد كنت بمثل دهشتك "
تسربت حمرة الخجل إلى خدي (بيج) :
" حسنا (نورا) سأنظر في الأمر "
ظلت المحادثة الغريبة عالقة بذهنها .. طوال اليوم ..
ماذا يعني ..
كانت تعرف أن (كوين) يستضيف عملاء من خارج المدينة من وقت لآخر .. لقد تصادف أن سمعته يحادث فندق كونوت .. مرات عديدة لحجز موائد للعشاء .. لكنه لم يسبق وان يحضر ضيوفه للمنزل على الإطلاق وحتى إذا فعل فلا دور لها في مثل هذه الترتيبات .. هل من المؤكد أن (نورا) قد أخطأت فهم تعليمات (كوين)
لم ترى (بيج) بديلاً عن مواجهة ذلك المغرور .. و أن تطلب إليه أن يوضح ذلك الأمر لمدبرة منزله ..
جلست في حجرة الجلوس .. تنتظر عودة الأسد في تلك الليلة ..
نهضت عندما سمعته يدير المفتاح في الباب .. جف حلقها وعلت دقات قلبها ..
" تكوني بلهاء "
هكذا قالت لنفسها وهي تلتقط أنفاسها وتأخذ طريقها إلى الباب ..
" (كوين) .. أريد أن أتحدث معك لحظة "
تجعد أنفها .. وهو يتبعها إلى حجرة الجلوس .. كانت تفوح منه رائحة شراب قوية تخالطها رائحة عطرية غامضة ..
سألها من دون تكلف وجمود ..
" ماذا حدث ؟ "
قالت :
" لقد سألتني (نورا) عن عشاء تزمع إقامته و قد قلت لها أنها أخطأت ..
" إنها لم تخطئ "
و اجتاز الحجرة إلى خزانة زجاجات الشراب , و أضاف : " سيكون هناك ستة أفراد .. بما في ذلك أنتي و أنا .. أظن أنه ينبغي أن نعد شيئاً غير رسمي .. ولكن القرار الأخير لك " .
حدقت فيه (بيج) مندهشة .. بينما يصب لنفسه . . كأس من البراندي وقالت :
" لكن ... لكن ... هذا شيء غير وارد يا (كوين) .. أنتا وأنا لسنا .. لا يوجد لدينا سبب لإقامة عشاء .. آه
تجرع السائل الكهرماني جرعة واحدة وقال :
" لدينا جميع الأسباب يا (بيج) .. نحن متزوجان "
طافت نظرته الباردة على جسدها في بطء , وأضاف :
" هذا منزلنا .. أنا أتكفل بفواتير كل شيء .. ماذا تفعلين أنتِ بالتحديد ؟ "
" لا تتجاوبي مع الإغراء "
هكذا حادثت نفسها .
" أنا أفكر في الذهاب إلى إحدى الوكالات والبحث عن وظيفة ..
ضحك (كوين) وقال : " إنهم لا يعلنون عن حاجتهم لنساء بمثل مهاراتك يا محبوبتي ..
اللعنة عليك يا (كوين) "
وضع كأس البراندي على البار و قال بصوت أجش :
" إن لديكِ وظيفة فعلاً .. أنتِ زوجتي "
تلاشى غضبها وراء إحساس الخوف الذي سرى بدمائها , و قالت :
" ظننت أننا سوينا الأمر "
اجتاز الحجرة في خطى واسعة و قبض على كتفيها .. ثم سألها بتأوه :
" سويناه ؟ "
أصبحت رائحة الخمر أقوى ..منتديات ليلاس
و أدركت أنه شرب منه الكثير قبل أن يشرب البراندي ..
التوى فم (كوين) بابتسامة قاسية , و قال :
" يا جميلتي جولييت , لم ننته من الموضوع , ولكننا سنفعل .. أعدك أنه سيحدث في يوم من الأيام "
نظرت في عينيه مباشرة .. وقالت بتردد :
" لقد .. لقد أسرفت في .. الشراب ! "
تفاجأ (كوين) لهذه اللفتة منها .. و لكن ضاقت عيناه و هو يقول لها :
" إن أفعالي شيء خاص بي . "
أومأت (بيج) له وقال بتحد :
" بالضبط .. وبالمثل حفلة عشاؤك .. أنا لن ..
شهقت عندما اشتدت قبضة يديه على كتفيها , وقال :
" يا لإرادتك اللعينة .. لقد أمضيت الأسابيع الأخيرة كغريب في بيتي .. ولستُ معجباً بذلك "
و هوت يداه فجأة إلى جانباه , و أضاف :
" إنه الوقت الذي تؤدين فيه دورك هنا .. أنا أنتظر أن تتناولي عشاءك معي في كل سهراتي "
" لماذا ؟ .. أنت و أنا ..
زمجر بصوت عال :
" أنا و أنتِ متزوجان يا (بيج) .. و هذا يعني أن نتناول العشاء معاً .. ونتحدث معاً .. ويرانا الناس معاً .. لقد مللتُ انتحال الأعذار بشأن غياب عروسي .. كانت عادتي أن استقبل ضيوفي في منزلي "
و ابتسم ببرود . ثم تابع : " سيكون من الصعب أن أتقبل وجودك في حجرتك بينما أتناول عشائي مع الضيوف "
" لا شأن لي بكل ذلك .. "
" لقد حان الوقت أن ترتفعي لمستوى تعاقدنا وتبدئي تمثيل دور زوجتي المحبة "
و سدد نظراته إلى عينيها قائلاً :
" بالتأكيد أن إنسانه بمواهبك تستطيع ذلك "
"هذا مستحيل .. أنت لا تتوقع منــ ..
" أنا أستطيع .. بل و أتوقع بالفعل يا (بيج) .. إن الكياسة ثمن ضئيل بالنسبة للنقود التي أودعها لحسابك في البنك , أليس كذلك ؟ "
أحست بوجهها يلتهب إزاء ابتسامته الساخرة و أخيراً .. أصدرت إيماءة مبتسمة ..
" حسناً .. ماذا تريدني أن أفعل ؟ "
تلاشت ابتسامته .. و ظنت للحظة .. كاد يتوقف فيها قلبها .. أنه سيأخذها بين ذراعيه .. تسارعت أنفاسها ..
لقد مضى وقت طويل منذ آخر مرة لمسها فيها .. ولكن لا يزال بإمكانها تذكر إحساسها بجسده , وطعم قبلته ..
غير أن كل ما فعله (كوين) هذه اللحظة معها .. أن حك يده بخفة إزاء وجنتها ..
" فقط ما تستطيعين عمله يا جولييت الجميلة .."
كان صوته رقيقاً .. مشوباً بلمحة من الإعياء , لم تتوقعها مطلقاً ..
و ارتفعت عيناها ببطأ إلى عينيه ..
همست :
" (كوين) ؟ "
" ما الأمر يا (بيج) ؟ "
" أنا .. أنا سأفعل ما تريده
لاح العبوس في عينيه , وقال ببطء :
" حقاً ؟ "
ثم عاد البرود يغلف كلماته , وهو يضيف لها :
" حسناً .. يمكنك البدء بتناول الإفطار معي في الغد .. يمكننا عندئذ بتناول الحديث عن حفلة العشاء "
أومأت (بيج) له .. و بعد فترة صمت .. استدار (كوين) وهو يقول لها :
" حسناً "
غمرتها الرائحة العطرية مرة أخرى ..
فجأة أحست كأن قبضة قوية اعتصرت قلبها ..
عطر ..
عطر امرأة !! ..
إلا أن ذلك لا يهمها .. فليكن مع من يشاء ..
لكن رغم ذلك .. رقدت (بيج) نصف متيقظة في تلك الليلة ..
تعذبها صورة نساء مجهولات , يرقدن في رضا , بين ذراعي زوجها ..
انضمت له في الصباح التالي .. ومرة أخرى على العشاء في المساء ..
جلسا متقابلين في صمت , كأنهما غريبين يتقاسمان مائدة في المقهى ..
إلى أن وضع (كوين) فنجان قهوته الفارغ و نظر إليها ..
" سيكون من الصعب أن نتحدث في وجود الضيوف ونحن لا نعرف عن بعضنا شيئاً "
أجابت (بيج) بجفاء :
" ليس لدينا ما نقوله "
كان وجه (كوين) متجهماً , وقال :
" إذن سنجد شيئاً "
كانت أحاديثهما الأولى مناقشات متكلفة عن الطقس و الأحداث الجارية .. ثم صار الأمر سهلاً عندما اكتشفا غراماً مشتركاً برسوم الكاريكاتير السياسية ..
و في صباح يوم ما سألت (بيج) عن كتاب مصور قد عثرت عليه في المكتبة ..
" هل هي صورك ؟ "
أومأ (كوين) , و أجاب :
" لقد حملت الكاميرا كهاو , لعدة أعوام .. أنا لستُ ماهراً جداً .. "
قالت بسرعة دون تفكير و هي تقلب نظرها بين صفحات الكتاب :
" بل أنت ماهر فعلاً .. "
ثم توردت وجنتاها , وأضافت :
" أقصد أنني لا أعرف الكثير عن التصوير الفوتوغرافي , ولكن صورك تتميز بالإثارة "
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مسرورة , وقال بهدوء :
" حسناً .. شكراً لك "
و عرض أن يريها معمل التحميض الخاص به في بيته بالدور السفلي منه ..
كانت معرفتها بالأفلام تبدأ وتنتهي عند كونها تأتي معبأة بإتقان في علب صفراء صغيرة .. و تدخل بحذر إلى الحجرة الصغيرة المظلمة .. و كانت تعتقد أن ما يحدث في تلك المحاليل الكيماوية ليس إلا معجزة من صنع إنسان
في اليوم التالي وكان يوم السبت .. التزم (كوين) الصمت مرة أخرى أثناء الإفطار إلى أن وضع فنجانه فجأة ونظر إليها ..
" سأذهب لالتقاط بعض الصور في حديقة هايد بارك .. هناك مهرجان للطائرات الورقية و .. "
تابعت عيناه عيناها وسألها : " هل يهمك أن تأتي معي ؟ لستِ مضطرة بالطبع أن ..
قالت (بيج) بسرعة :
"بالطبع .. أود ذلك كثيراً " , وابتسمت له بطريقة لم تفعلها على الإطلاق و تابعت :
" شكراً أن طلبت مني مصاحبتك "
ستظل تذكر هذا اليوم على أنه نقطة تحول كبيرة في حياتها ..
لقد استنفذ (كوين) في هذا اليوم ثلاثة أفلام , ثم اشترى لها طائرة ورقية من أحد الباعة .. و خلال دقائق كانت تلك الطائرة التي تتخذ هيئة التنين .. تلمع بألوان زرقاء وحمراء فضية .. محلقة فوق رأسيهما ..
ضحكا يومها كأنهما طفلين .. و أرخيا للتنين ياردات قليلة .. وراقباه وهو يطير فوق قمم الأشجار
لكن عندما اقتلعت الريح خيط الطائرة فجأة .. أحست (بيج) ببؤس كئيب ..
قالت بحزن صادق :
" لقد فقدتها .. أوه (كوين) .. أنا آسفة "
ابتسم (كوين) بهدوء و قال لها :
" أنا لستُ آسفاً .. لقد كان يوماً رائعاً "
أحست أن وجهها بدأ يلتهب .. و قد حادثت نفسها بأن ذلك من تأثير نفحة الهواء البارد .. ولكن , عندما حان وقت انصرافهما .. بدا من الطبيعي أن تتشابك أصابعهما و هما يسيران نحو السيارة ..
بعد ذلك صار من الصعب ملاحظة الطرق التي انفتح بها كل منهما على الأخر .. ولكن أدركت (بيج) أن هذا اليوم قد ترك أثراً طيباً على وقت عودة زوجها إلى المنزل ..
صحيح أنه نادراً ما كانا يخرجان لتناول العشاء خارجاً .. مفضلين تناوله في دفء المكتبة .. إلا أنه و في كثير من أمسيات إجازة (نورا) , كانت (بيج) تصر على القيام بعمليات الطهي !
قالت له في إحدى الأمسيات أثناء تناولهما عشاءهما المكون من فطائر البيتزا و حساء السمك :
" أنا أحب الاهتمام بأمور المطبخ "
و عندما أثنى (كوين) ببعض الكلمات على وجبتها البسيطة تلك .. امتلأ قلبها بالفرحة ..
بعد العشاء كانا يجلسان بجوار المصطلى ..
كانا يقرآن ..
علمها لعب الشطرنج .. و شجعها عندما هزمته أول مرة .. رغم شكها القوي أنه تركها تفوز عليه..
أصبحا يذهبان سوية إلى الحفلات الموسيقية في باربيكان .. أخذا يترددان على المسارح وسط المدينة..
و في إحدى الأمسيات التي كان يسقط فيها المطر رذاذً ..سارا على مهل خلال ضاحية ماي فير الهادئة .. يتضامان في بهجة تحت مظلتهما الواسعة ..
تحدثا في كل شيء .. ماعدا ما جمعهما في الأساس ..
كم من المرات التي ودت فيها (بيج) أن تتحدث معه عن ذلك .. لقد كانت تريد أن تترك الماضي كما هو:
((مجموعة غامضة من الظروف التي فرضها عليهما الآخرون ..)) ولكنها كانت مترددة ..
و أخيراً ..
و في إحدى الأمسيات .. فتحت الموضوع ..
" لقد حادثت والدي اليوم .. لقد قال أنه ممتن ...
برقت عينا (كوين) بالتحذير , وقال :
" أنا لا أريد امتنانه و لا امتنان أي شخص آخر "
و أشاح بوجهه عنها ..
ولكن بعد لحظة , سألها :
" كيف كان يومك ؟ "
و سرعان ما استجابت لقصده الواضح لتغيير ذلك الموضوع الذي كان مشحوناً بدرجة تثير الإحساس ..
كان الأمر أسوأ عندما ذكرت آلن .. عندما وصل خطاب منه , أخذه (كوين) إلى المكتبة و أغلق الباب , تفحصت (بيج) وجهه بقلق لدى خروجه .. وعندما لم تستطع تحمل صمته لفترة أخرى ..
سألته جزافاً :
" كيف حال آلن ؟ "
" بخير "
" هل هو ...
قال بحدة : " لا أريد أن أتحدث عن آلن .. هل تفهمين ؟! "
قالت في نفسها : أنا فهمت ..
لقد تحسنت علاقتهما .. ولكنها لا زالت هشة و غامضة , لا معنى لها لنكأ الجراح القديمة ..
و في ظلام الليل .. سمعت تحذيراً لصوت صامت بأن تجاهل الأمور لم يكن مثل التفاهم بشأنها ..
و لكن مع شروق الشمس .. رأت أن شكوكها كانت بالنسبة لها شيئاً سخيفاً ..
المهم أنها و(كوين) كانا يقتربان من بعضهما بدرجة أقوى ..
كان ذلك بالطبع لتتمكن من القيام بواجباتها العلنية كزوجة له .. ولكن باستثناء حفلة العشاء الأولى تلك .. لم يريا أي إنسان أخر سواهم ..
لقد كانا كمن يعيشان في عالم خاص بهما ..
عالم تدب فيه الحياة بمجرد أن تسمع صوت مفتاح (كوين) وهو يدور في الباب كل مساء عائداً من عمله ..
وجدت (بيج) نفسها تلقي بنظراتها إلى ساعتها بعد ظهر كل يوم .. متسائلة عما إذا كان سيأتي مبكراً أم متأخراً ..
مبكراً يعني حوالي الساعة السادسة .. لم يسبق أن عاد إلى المنزل قبل ذلك ..
و عندما تحين هذه الساعة تكون قد اطمأنت إلى إعداد النيران في المكتبة وبدلت ملابسها ..
في عصر أحد أيام لخريف الباردة .. كانت قد أعدت النيران .. ولم تكد تبدأ في صعود الدرج مهرولة حتى سمعت الباب يُفتح ويُقفل ..
توقفت في منتصف الدرج .. و حدقت في (كوين) مندهشة عندما توقف في المدخل ينظر نحوها ..
قالت بلهجة مرتبكة :
" لقد عدت ! "
كان ينظر إليها باستغراب .. و أجرت يدها على شعرها في خجل , وقالت :
" أنا أيضاً عُدت لتوي .. كنتُ في محلات فيكتوريا و ألبرت و قد أصابني المطر بالبلل "
يا إلـهي .. إنها تهذي كما هي دائما ً .. ولكن تلك النظرة من عينيه .. كانت قد أثارتها بالفعل ..
تابعت حديثها : " لم أدرك أن الوقت تأخر إلى هذه الحد "
كانت ابتسامة (كوين) لطيفة وهو يقول لها :
" لقد عدتُ مبكرا لأنني رأيت أنه سيكون من الرائع أن نقوم بنزهة بالسيارة قبل العشاء "
لماذا كان يحدق فيها ؟ ..
إن به شيئاً مختلفاً هذه الليلة .. ولكن ما هو ؟
ابتلعت (بيج) رقها لترطب حلقها الجاف .. ثم قالت بحذر :
" أنا أرغب في ذلك .. فقط أعطني دقيقة لأبدل ملابسي و .. "
أسكتتها نظرته , و قالت :
" حسناً .. دعنا نذهب " .
في الجاجوار .. شحب الإحساس السلس بزوال الكلفة الذي نما بينهما خلال الأسابيع الأخيرة ..
كان حديثهما متكلفاً .. و عندما توقفا للعشاء في ملهى , من الطراز المنسوب للملكة إليزابيث , يشرف على نهر التايمز .. كان هذا الإحساس قد اختفى تقريباً ..
خيم عليهما الصمت طويلاً .. بعد أن أمرا بطعامهما .. إلى أن سألها (كوين) بخفة :
" هذا مكان عتيق جميل .. أليس كذلك ؟ "
أومأت (بيج) موافقة :
" نعم إنه رائع "
" هل تريدين مزيداً من الشراب ؟ "
" لا .. شكراً "
اتصل الصمت بينهما مرة أخرى .. عندما وصلت وجبتهما .. وجدا فيها شيئاً يلهيهما عن ذلك الصمت .. ولكن (بيج) لم تستطع أن تأكل ملء فيها .. وعندما اقترح (كوين) أن ينصرفا .. كادت أن تسقط كرسيها في اندفاعها للنهوض ..
قال باقتضاب :
" لقد تأخر الوقت "
أومأت هي موافقة .. و لأول مرة أحست بشوق بالغ لعزلة حجرة نومها ..
زفرت أنفاسها في ارتياح عندما وصلا للمنزل .. كان هناك شيئاً ما بينهما .. ولكن لم تدري بالضبط ما كنهه ..
أغلق باب المنزل خلفهما .. و عند أول درجة للدور الأول , قالت له :
" طابت ليلتك .. شكراً لك على هذه النزهة الرائــ ....
" ربما قد ترغبين في بعض البراندي قبل أن تخلدي للنوم ؟ "
هزت (بيج) رأسها , وقالت بلطف رافضة الدعوة :
" لا , شكراً سوف أخلد للنوم فوراً .. أنا تعبة حقاً "
أومأ (كوين) رأسه , قائلاً :
" كما ترغبين "
استدارت و بدأت في صعود الدرج .. لقد أحست أنه خلفها مباشرة .. يتبعها ..
نعم .. لقد وجد (كوين) نفسه يتبعها إلى حجرتها من دون سبب ..
كادت أن تقول له ..أنه من السخيف أن تعيش في بيته بينما ينام هو في حجرة أخرى بمفرده ..
ولكن شيئاً ما حذرها من الجدال مع هذا الرجل القوي ..
بدأت نبضة في حلقها تخفق عندما فكرت فيه وهو يراقب ردفيها وساقيها وهي تصعد أمامه ..
و عندما وصلا إلى الطابق العلوي .. أسرعت إلى باب حجرتها المغلق ..
" (بيج) ! "
كان صوته هامساً مبحوحاً ..
" (بيج) ! "
استدارت قائلة له :
" طابت ليلتك " ..
بدا كل شيء كأنما يحدث في بطء مصطنع .. نظرت له و رأت النيران الغامضة في عينيه ..
و عندما وضع يده على ذراعها ..فهمت كل شيء فجأة ..
يبدو أن الإحساس الكهربائي الذي جمعهما معاً .. قد بدأ يومض في الهواء المشحون ..
(كوين) يريدها الآن .. و هي أيضاً تريده بشده ..
لقد قادت الأسابيع الماضية شعورهما إلى هذا الإحساس .. غير أنه أدرك هذا قبلها ..