الفصل السابع
" مرحبا ، فيك ." قال الشاب الذي ترجل من الطائرة وانظم إليهما . وعلى الرغم من أنه حيا فيك فقد حدق بسارة ولم يزح نظره عنها .
" سارة ... لاري ." قدمها فيك باختصار ...
" أهلاً ، لاري ." ابتسمت له سارة رداً على ابتسامته . " لقد تعرفنا على بعضنا من خلال الهاتف ، لقد دعوتك خصيصاً لحضور المهرجان ، هل تذكر ؟" ما الذي يجعل شكله صبيانياً ؟ هل هو النمش الذي يغطي وجهه؟
قال لها بصوتٍ منخفض :" تُذكَريني ؟ وكأني نسيتك ! لقد كنت منتظراً هذا اللقاء ، اليوم ..." توقف عن متابعة الكلام وظهر الاحمرار الشديد على وجهه المنمّش . دهشت سارة وهي تنقل نظرها من رجل إلى آخر ، لرؤية تعابير الغضب على وجه فيك . وبدا على وجه لاري الاحراج وأخذ بالاعتذار :" لم أعرف انك و فيك ..."
أجاب فيك بصوت مكبوت :" إنّ سارة تعمل عندي في الكرم ... فقط ."
" هذا صحيح ." ابتسمت سارة للاري ، في محاولة لتخفيف شعوره بالاحراج ، لأنه لم يرتكب أي خطأ يستحق عليه نظرة الغضب هذه ، من فيك . " لقد أتيت من انكلترا كي أقضي عطلتي بالعمل هنا ." قالت له :
" وأنا أتمتع بكل لحظة هنا ."
طرأ تغير زئبقي في مزاج فيك ، عندما اقتربا من الطاولة التي تحلق حولها المتذوقون وأخذ يمزح ويتحدث مع المدعوّين فيما كانت عيناه تلمعان بالسعادة والانشراح .
صب فيك الشراب في الأكواب وانتظر حتى تناول الجميع أكوابهم من على الطاولة ليرفع كوبه ويقول :" لنشرب نخب الوادي السعيد ."
" نخب الوادي السعيد ." نادى الجميع وراء فيك ودوت قرقعة الكؤوس عندما ارتطمت بعضها ببعض . ودهشت سارة التي انظمت إلى كورس المنادين . وهي تشاهد فيك يحدق بها ، بدل أن ينظر إلى الذين تحلقوا حوله وهم يدعون له أطيب التمنيات . لما1ذا تشعر بهذه الاثارة اللذيذة والمجنونة ؟ انها لم تحتسي شرابها بسبب انشغالها بالعزف والغناء .
هل تلوم الحر أم الشراب على ما تشعر به ؟ لا ... يجب أن تعترف لنفسها ، ان سبب شعورها هذا ، هو جاذبية فيك الساحرة التي ، برغم صفاته السيئة ، أسرت قلبها الشارد .
عادت إلى رشدها وتذكرت ، يا للسماء ، لقد اطلق الاسم الذي اقترحته على الشراب الجديد ، هل هي اقترحته فعلاً؟
انفصلت سارة عن الزمرة التي كانت تقف معها وعادت إلى موقعها في ظل الشجرة والتقطت الغيتار . وتعالت هتافات الاعجاب والتصفيق بين كل مقطع وآخر من الألحان التي كانت تعزفها ، ولم يتركوا لها وقتاً للراحة .
" المزيد ، المزيد ." ردد الجميع ما عدا فيك ، الذي رأته مندمجاً بالحديث مع عدة رجال ، بدا عليهم انهم مزارعو عنب أتوا من مناطق أخرى كي يشاركوا في الاحتفال.
استمرت سارة بالعزف والغناء ، حتى ساعة متأخرة برغم أن معظم المدعوين توقفوا عن الاصغاء إلى أغانيها . ما عدا لاري الذي استمر بالاصغاء على الرغم من انشغاله بالحديث مع معارفه من حين إلى آخر . ومع مرور الوقت ، ألفت منظره وهو يقترب منها ، ويحمل إليها أحياناً ، كوب عصير مثلجاً.
" لماذا لا ترتاحين قليلاً ." رجاها بصوت صبياني.
ضحكت سارة وهزت برأسها . وعندما تلاشت الأنغام ، ابتسمت له بإغراء وقالت :" انهم يدفعون لي أجراً كي أعزف وأغني ، ألا تعرف ذلك ؟"
عندما ألقت ، فيما بعد ، شمس الأصيل أشعتها البنفسجية على التلال المحيطة بهم ، رأت سارة عدداً من الأشخاص يمدون الطعام ، الذي حضرته كيت ، على طاولات النزهة ، وتصاعد الدخان ، قريباً منهم ، من موقد المشاوي .اكتفت سارة بالبقاء مكانها ، وعزفت موسيقى خفيفة لهم خلال تناولهم الطعام . ثم أصر لاري عليها ، أن تذهب معه لينضما إلى احدى الزمر التي تحلقت حول الطعام ولكنها هزت برأسها ، مما جعل شعرها البني ينسدل كالحجاب على وجهها . " أنا لست جائعة ." أجابته.
استدار لاري مبتعداً عنها ، وقد بانت على وجهه الخيبة .
" إذاً ، سأنتظرك هناك !"
" ربما انظم إليك فيما بعد ." نادته سارة.
" لن تنظمي إليه ، وأنت تعرفين ذلك ." هذه النبرة الممغوطة ثانية ! نظرت سارة إلى الأعلى ورأت فيك يقف إلى جانبها ." لأن الاستمتاع بمذاق اللحم لا يكون إلا فور الانتهاء من شوائه ، وليس بعد ساعة أو أكثر !"
انحنت سارة على الأوتار ." بالفعل أنا لاأريد ..."
الآن !" أخذ بيده القوية الغيتار منها وألقى به على العشب.
لا جدوى من معاندته . " أنت الذي تأمر هنا ." قالت سارة باستسلام وسمحت له بمرافقتها وهو يفسح لها الطريق بين المدعوّين إلى طاولة الطعام.
رأت سارة رجلاً عملاقاً ، أشقر الشعر ، يقف إلى جانب الطاولة ، خاطبه فيك ، عندما اقتربا :" كيفن ، هذه سارة ."
نظر كيفن إليها باهتمام ." إذاً ، أنت الفتاة التي وظفها فيك في الكرم هذا الصيف ." صوته أجش بنبرة بطيئة برغم صغر سنه ... لم يتجاوز العشرين إلا بقليل ... " كان يجب أن أعرف ، من خلال حديث فيك عنك ...!"
نظرت سارة إلى فيك متسائلة عما يعنيه كيفن . ولاحظت من انطباق شفتيه ولمعان عينيه الداكنتين انه يستمتع بمجرى الحديث وانها لن تعرف أبداً ما الذي قاله عنها لهذا الرجل.
أخذ فيك ، بعد لحظة ، سارة من ذراعها وسارا نحو موقد المشاوي ، حيث اختارت طبقاً من بين أصناف السلطة الموضوعة على الطاولة قرب الموقد ، ورأت أن كيفن قد لحق بهما ووقف إلى جانبهما ، وتعلو وجهه اللطيف ابتسامة ودية . " أنت تستمتعين بالحياة هنا ، أليس كذلك ؟ هل كان فيك قاسياً معك ؟" سألها وهو يغمز بعينيه.
" كلا ، ليس في العمل ..." وتوقفت سارة عن متابعة الكلام خوفاً من أن تقول ما يجول في فكرها . ثم استطردت :" العمل في الكرم كان ممتعاً للغاية بالنسبة لي ." ولم تجد حاجة لاخفاء نبرة الحماس في صوتها :" خاصة ، عندما تنضج العناقيد تحت شمس صيف نيوزيلندا ، فيما الناس يرتجفون برداً في بلدي ، انكلترا ." ما ذكرته الآن كان على الأقل ، صحيحاً . وقعت نظرتها الضاحكة على لاري ، الذي انظم اليهم ." وقد شاهدت الآن ، للمرة الأولى في حياتي ، طائرة الميكرولايت الخفيفة !" ابتسمت للاري . " لم أصدق ، للوهلة الأولى ، ان هذه الطائرة خفيفة ، لقد بدت هشة وهي تحلق فوق التلال ، قد أطلب من لاري أن يأخذني على متنها في نزهة ."
" لا داعي لأن تسألي ؟" انشرح وجه لاري المنمّش .
" اختاري أي يوم ، وأفضل أن يكون قريباً ، ما رأيك في نهاية هذا الأسبوع ؟"
نظرت سارة بابتسام إلى من حولها ." أخبروني ، هل أنا حقاً شجاعة ، أم غبية ؟ ما الفرق ؟ على أي حال سأقبل دعوته للقيام . بهذه النزهة !"
"لا داعي لأن تسألي؟" انشرح وجه لاري المنمّش."اختاري أي يوم , وأفضل أن يكون قريباً, مارأيك في نهاية هذا الأسبوع؟"
"لا" دوى صوت فيك مغلقاً المجال أمام أي نقاش. استدارت الوجوه المندهشة والتي خيم الصمت عليها, باتجاهه, وتعالت أصوات الاعتراض من الموجودين :"لا تكن متزمتاً على هذه الصورة يافيك! لاتفسد على الفتاة متعة الطيران!"
لاحظت سارة نظرته العميقة الخارقة عندما سألها :" هل أنت حقاً تريدين الطيران على متن الميكرولايت ؟"
ترددت لحظة في الاجابة .وقد حيرها التأثير الساحر الذي يشع من نظرته.
منتديات ليلاس
وتذكرت كيف اندهشت عندما رأت الطائرة الهشة والمكشوفة تقلع في الهواء وتهبط بسلام.هل تسطيع هذه الآلة الطائرة حمل راكب آخر ؟ تضاربت الاحتمالات في رأسها ولم تستطع أن تبعد عن مخيلتها الانطباع الأول الذي كونته عن الطائرة, على انها لعبة أولاد مصنوعة من قطع الخشب والألومينيوم.لأنها لو فعلت لاستطاعت أن تستجمع شجاعتها وتوافق على ركوبها.
"كنت أعلم انك ستفكرين ثانية في قرارك."
قررت سارة على الفور, خلاف مانوت عليه, عندما شاهدت السخرية التي ارتسمت على شفتي فيك ."حسناً , أنا لم أغير رأيي." قالت وهي تجهد كي يأتي صوتها ثابتاً.
"سوف تكون النزهة تجربة رائعة." أضافت بثقة لم تكن تشعر بها:"وسوف أكتب عنها في رسائل أبعثها إلى بلادي."
"أنا آسفة!" قالت سارة عندما لاحظت تعابير الندم التي ظهرت على وجة فيك بسبب جملته الأخيرة,والتي وضعت حداً نهائياً للجدال حول النزهة الجوية التي عزمت على القيام بها . ورأته ينظر إلى لاري ويقول:" ان سارة تعمل في نهاية هذا الأسبوع... بعض الأمور التي تتعلق بالتعبئة ووضع الملصقات ومايتبع ذلك .كما أتوقع وصول رحلات سياحية وزبائن... وقد وجدت من خلال خبرتي ان موسيقى الغيتار تضيف جواً خاصاً على المكان ... ويجب أن ننتهي من طلبات التصدير أيضاً."
فتحت سارة فمها كي تتكلم ولكنها لم تفعل, هذه هي المرة الأولى في حياتها التي لم تستطع فيها الكلام.نظرت اليه شزراً. كيف يجرؤ على التدخل في شؤونها الخاصة؟
تسارعت الأفكار في رأسها .هل هو ينتقم منها لأنها رفضت تلبية مطالبه في الحفلة الموسيقية؟ هي تعرف , بالتأكيد,انه ليس بحاجة لها في نهاية
الأسبوع ! برغم مابدا من خلال نبرة صوته انه يعني فعلاً ماقال." تستطيع سارة القيام بهذه النزهة في وقت لاحق." أضاف بلامبالاة.
خيم صمت على الزمرة المتحلقة وسكت الكلام والضحك.شحب وجه لاري بعدما فهم مغزى كلام فيك. عندما يكون الأمر متعلقاص بهذه الفتاة, ولو في أيام العطل, فالأمر يعود للمدير , وبالنسبة له ... الشغل , شغل... ولكنه رد على فيك بانشراح:" يجب علينا أن نؤجل هذه النزهة, كما يبدو لي."
ترك فيك , فيما بعد, الزمرة وذهب إلى غرفة الاستقبال وأدار جهاز الستيريو , وسرعان ماصدحت الألحان الراقصة الشعبية واختلطت بضحكات ومسامرات الموجودين.وضع لاري يداً على ذراع سارة وقال متنهداً:" لسوء الحظ , يجب أن أعود للمدينة."
"ماذا تعني؟" سألته سارة بتعجب
"أنظري إلى هناك." تتعبت سارة إشارة يده إلى حيث بدت الشمس الغاربة وكأنها كتلة نار حمراء لوحت الأفق باللون البرتقالي الملتهب.
" إن قيادة طائرة الميكرولايت ليست لعباً ومتعة فقط." وأضاف بحسرة:" يجب أن أطير قبل حلول الظلام, اسمعي."
قال باستعجال:"سوف ألتقي بك ثانية, أليس كذلك؟."
واستطرد قبل أن تتمكن في الجواب:" هنالك شيء." شد على يدها بقبضة دافئة."...هل تمانعين إذا طلبت منك ؟ ليس إلا ... " لعق شفتيه وقد بدا الانفعال عليه."...ما أعنيه."
وأضاف بسرعة فجائية:"هل توجد علاقة عاطفية بينك وبين فيك؟" ازداد صوته انفعالاً:" أتعرفين ما أعني, أتفهمين مقصدي؟"
"فيك؟" قالت سارة وهي لاتصدق ماسمعت :"انه رئيسي، وأنا ما أكاد أعرفه, هذا كل مافي الأمر."
"لقد فهمت." ظهر على وجه لاري الارتياح."إذاً, سوف أراك ثانية؟"
"إذا شئت ذلك!"
"رائع!" ردّ لاري بانشراح:" صدقيني إذا قلت لك , انه لو لا الظروف لما ذهبت الآن. والأمر يهون لو كنت سأراك في نهاية الاسبوع." تنهد بعمق واستطرد:" ولكن يبدو أن المدير لايستطيع الاستغناء عن خدماتك هذا الاسبوع. ومايطلبه يحصل عليه!" تهدج صوته ،فجأة :" هل ستعلمينني إذا تغيرت الأمور, وأصبحت حرة في نهاية الاسبوع؟ اتصلي بي على الهاتف, كيت عندها الرقم. وسوف آتي وأقلك على متن الطائرة ونذهب في نزهة... ليس عندك فكرة كيف يبدو الريف جميلاً عندما تنظرين إليه من أعلى. وتشاهدين قمم الجبال وكأنها هامات, والغنم والماشية في مراعيها كأنها بقع على السهول الخضراء.شد على يدها."وسوف أبرهن لك..." خفت صوته تدريجياً:"عِديني انك ستحاولين جهدك للمجيء .وانك سوف تتصلين بي عندما تسنح الفرصة...."
"حسناً. أعدك بذلك." ولكنها كانت متأكدة أن الفرصة لن تسنح , واحتمال أن يعدل فيك عن قراره ويسمح لها بأخذ عطلة في نهاية الأسبوع , معدومة تقريباً.وهي لاتبالي كثيراً لهذا الأمر, وكل ماتهتم له هو معاملة فيك المتسلطة ,معها, والتي تكاد أن تصيبها بالجنون . وأقسمت في نفسها على أن تنتقم للطريقة التي عاملها بها اليوم , وماعليها إلا الانتظار.
"عمت مساء ياسارة , أكره أن أتركك هكذا!"
وماكادت ان تسمع سارة كلام لاري, لأنها كانت تراقب فيك من زاوية عينها, وهو يقف قريباً من زمرة مزارعين يتكلمون عما حدث بينها وبين فيك. وبحركة لا شعورية, أرادت أن تظهر له ان بستطاعتها جذب الرجال الآخرين , ورفعت رأسها إلى الأعلى وقالت بنعومة :"عمت مساء, يالاري." ورماها لاري بقبلة في الهواء.
"أراك قريباً." قال لها من فوق كتفه بينما استدار مبتعداً.وعلى الفور اختفى عن أنظارها بين الناس الآخرين.
"هل ترقصين, ياسارة؟"
أدارت سارة رأسها لترى من دعاها إلى الرقص, وشاهدت كيفن ينحني فوقها.تمالكت نفسها بسرعة وابتسمت له ."هيا بنا." وسرعان ما اتخذا مكاناً لهما بين الراقصين, تحت الأضواء المعلقة فوق رؤوسهم.
"هل تعرف." تمتمت سارة:"اني رقصت على هذا اللحن في الليلة التي سبقت سفري من انكلترا إلى هنا؟ ويبدو انكم هنا, تتابعون أحدث الألحان التي تنتشر هناك."
"أين استمعت إلى هذا اللحن؟" سألها كيفن.
"في حفلة خاصة, أقامها صديق لمناسبة عيد ميلاده الحادي والعشرين." شردت أفكار سارة , وشعرت بالسخف لأنها فضلت المجيء إلى هذا الوادي المنعزل الذي يبعد آلاف الكيلومترات عن أي مكان, ولأنها ترقص على العشب الجاف في ليلة صيف , وفي ظل التلال المحيطة بالوادي. بدلاً من البقاء هناك.ومن الغرابة أن تشعر بكل هذه السعادة هنا...
برغم كثرة أصدقائها في انكلترا.... وبأنها في بيتها وبين أهلها . فيما عدا فيك , لاتفكر به... ان عنده حب التملك على صورة مزعجة . وهمس صوت من أعمق أعماقها , وهو أيضاً ذو جاذبية فتاكة ويشع برجولة ساحرة , تشع منه قوة عندما تتواجدين معه في نفس الغرفة تجعلك بلا حول ولا قوة...
وهذا التسلط وفوة شخصيته ! لقد أطلق شعب الماوري لقباً على مثل هذا النوع من الرجال إما تكرهه من أول نظرة أوتقع صريعاً في حبه .بالنسبة لها... انها تكرهه!
مشت سارة مع كيفن عندما خيم الظلام على المكان , إلى غرفة الاستقبال فيما كانت الموسيقى الصادرة عن جهاز الستيريو تصدح في سكون الليل. تبين لسارة أن كيفن راقص بارع , وان خطواته تتمايل, على أرض الغرفة بخفة, مع ايقاع اللحن.واحتفظ كيفن بسارة كشريكته في الرقص لحناً بعد آخر , وكان ذلك بالنسبة لها أمراً جميلاً ,لأن آخر شيء كانت تتمناه هذه الليلة هو أن ترقص مع فيك , فيما عدا .... ذكرت سارة نفسها , أن الرقص سيتيح لها الفرصة كي تفهمه...بأي وسيلة ,كيف تشعر نحو ترفعه وتدخله في شؤونها الخاصة.
أدركت سارة , لاحقاً خلال السهرة , انه لم يكن هناك من داع لشغل بالها, لأنها لم تره يقترب , بتاتاً من حلبة الرقص.
أنبت سارة نفسها, لماذا , بحق السماء , تفكر به على الدوام؟ كان كيفن آخر من غادر الحفلة , عند انتهائها واتجه المدعوّون نحو سياراتهم وشاحناتهم وسيارات اللاندروفر.
وجدت سارة الزمرة من النساء ، عندما دخلت مطبخ المنزل الكبير . كيت ، تنظف الصحون والأواني النظيفة على الرفوف ، فيما كانت امرأتان آخريان تضعان فضلات الطعام في أكياس القمامة ... وفتى كانت سارة قد لاحظته ، باكراً ، يساعد فيك في شواء اللحم على الموقد ... ينظف الأرض.
" مرحباً." حيتهم سارة ، وأعجبها الغتى الذي يرتدي بنطال جينز ضيقاً ، ويبلغ من عمره الخامسة عشرة وتعلو وجهه النضر ابتسامة لطيفة.
" هذا بول ." قالت كيت وهي تدير رأسها نحو سارة ، انه احد أفراد عائلتنا الكبيرة ، ولكن لا نراه كثيراً ، لأنه يقيم مع عائلته بعيداً ، على الجزيرة الجنوبية ."
ضحك الفتى وقال:" من الآن وصاعداً ، سوف ترينني كثيراً ، يا عمتي كيت ، ولا أستطيع الانتظار أكثر كي أسرد عليك الأخبار المثيرة ! أمي سوف تطير من الفرح عندما تسمع ذلك ."
خيم الصمت على الجميع فيما استطرد بول :" لقد وافق فيك على اعطائي عملاً هنا ، في الصيف وحتى يحين موعد دخول الجامعة ." لمعت عيناه
بالحماس ." وهل تعرفون ؟ لقد اخترت التخصص في مادة الكيمياء ، وقد قال فيك ان التخصص في هذه المادة سيفيدني كثيراً في المستقبل!"
وغمز بعينه ضاحكاً ." لا أحد يعرف متى يأتي الحظ ! ولكن ، حسبما أخبرني ، يجب أن أجتهد وأدرس بجدية وبأقصى طاقاتي وبلا تباطوء . وأن أحصل على علامات جيدة . وقد أعطاني الدافع الذي به أستطيع أن أصمد في وجه السنوات القادمة المرهقة . وسأبرهن له عن استطاعتي ذلك ! ان فيك هو صنف من الرجال ، يجعل أصدقائي على استعداد للتضحية بعين وضرس مقابل العمل عنده في العطلة الصيفية . انه مستقيم ، لا يحب التلهي وإذا قال فيك شيئاً ... فهو يعني ما يقول !"
وافقت سارة بصمت على جملة بول الأخيرة ، فيما كانت تلتقط منشفة صغيرة كي تنشف بها الفناجين والأكواب ، ثم تابعت الاصغاء إلى حديث بول.
" وقد قال فيك أيضاً، إنه يجب علي أن أمسك الخيط من أوله وأتعلم كل ما استطعت عن هذه الصناعة خلال العطل الصيفية . وقد سره اني حصلت على رخصة قيادة السيارات، لأني أستطيع أن أساعده في مجالات أخرى مثل ذلك ... كما أستطيع أن أصرف قليلاً من الوقت في المخزن. أوه ، لا
أستطيع الانتظار حتى يحين الغد وأبدأ بالعمل!"
غداً ! شعرت سارة بالبرد يسيري في عروقها .المخزن, وضع الملصقات... وهي عندها أيضاً إجازة سوق دولية.
ولكن فيك لم يطلب منها القيام بهذه الأعمال.وهي لم تتحدث بشأنها معه. هل هذا يعني أن الفتى... وهو أحد أفراد العائلة... سيحل مكانها في الكرم؟هل هي تخطت الحدود في تحديها لمطالب رئيسها المتسلط؟ وأصبح من المحتمل أن يستبدلها بهذا الفتى, المتشوق لتعلم صناعة الشراب؟ وهويعتبر فيك مثاله الأعلى مع انه لم يقابله إلا في فترات قصيرة ومتباعدة ولم يعرفه جيداً.لاشك ان فيك ناقم عليها جداً لعدة أسباب, ولكن أن يستبدلها... وغمرها فجأة شعور بالضياع والخواء , أعياها.
"أنت واقعة في الحب دون شك!" انتبهت سارة عندما سمعت هذا الكلام من باتي, ذات الوجه الضاحك :"لقد جففت طبق السلطة ثلاث مرات متتالية, وإذا كان هذا السبب تأثير كيفن عليك ..."
"تبدين مرهقة." رمقت كيت سارة بنظرة حادة عندما لاحظت توتر أعصابها :"لقد اشتغلت طوال النهار فيما البقية تمتعت بالحفلة..."
أوقفت سارة بسرعة,تدهور معنوياتها وقالت:"ولكنني متعت نفسي أيضاً! وكان رائعاً.حقاً ,أن أعزف وأغني خلال الحفلة..." توقفت عن متابعة
الكلام عندما شاهدت فيك يقف بباب المطبخ المفتوح وبدا عليه انه فَرحَ بكلماتها الأخيرة .
أصابها الهلع, في ذات اللحظة, وتمتمت بصوت خافت :"لقد آن الأوان كي أخلد إلى النوم." رمت المنشفة التي بيدها على الأرض, وتخليت للحظة ان فيك كان على وشك الوقوف في طريقها , لكنه أفسح لها المجال كي تمر.وهرعت مسرعة إلى الخارخ وطواها سكون الليل المظلم.
شعرت سارة لمسة على ذراعها قبل أن توشك على الوصول إلى كوخها ورأت فيك يسير إلى جانبها...لم تسمع خطواته عندما أتى من خلفها لأنه سار على العشب الندي...
"عندما تعزفين على الغيتار, تجعلينه يصدح بالغناء." قال بنبرة مفعمة بالحماس:"هل فكرت باحتراف الغناء والعزف يوماً؟" ان آخر شيء كانت تتوقعه من فيك أن تحظى بتقديره المخلص على الجهد الذي قامت به في الحفلة, ومع ذلك فهو فعلاً يعني مايقول.ولكن إذا استطاع تجاهل كل شيء آخر , فكرت سارة, فهي تستطيع ذلك أيضاً! وأجابته بلا مبالاة :"لم أفكر جدياً في ذلك,لانه لم يكن عندي قط , الوقت أو المال من أجل دراسة هذا الفن!"
"كان يجب أن تفعلي, إن موهبتك طبيعية!"
وصلا إلى الكوخ, وعلى منصة الدار الصغيرة, استدارت لتصبح وجهاً لوجه معه."أنا سعيدة لتمتعك بغنائي!" موجة من الحيرة جعلت أفكارها تضطرب بجنون.وتنفست بعمق وسألته"إذاً ليس هناك من شكاو؟"
"فقط أمر واحد...." اقترب منها خطوة.وهذا جعل قلبها ينبض، فجأة، بشدة:"أخبريني, هل أعطيت لاري موعداً كي تذهبي معه في نزهة على متن طائرته ؟" نبرته الممغوطة كانت أكسل من أي وقت مضى, ولماذا تشعر ان هذا السؤال ملغوم ويلفه الغموض؟
"لاري؟" حاولت جاهدة كسب الوقت وقد أدركت ان الفرصة قد حانت كي تنتقم من فيك.... واغتنمتها.."أوه، أجل , اننا بانتظار يوم مناسب كي أطير معه في هذه الآلة الخفيفة المضحكة."
"لاتذهبي." قال بلهجة أمر شديدة وغير اعتيادية.مما جعل سارة تحدق به مذهولة حقاً, يالجرأته! رفعت سارة ذقنها الصغيرة تحدياً,لقد حان الوقت لتلقينه درساً!
"ولماذا لا أذهب؟" صرخت به , ومدت يدها إلى مقبض الباب كي تفتحه ولكن فيك خطا نحوها وسد الطريق عليها.
"لقد وعدت لاري بالطيران معه يوماً ."أضافت وهي تتصنع الهدوء:"وأنا أنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر!" سارة، في الحقيقة ، نسيت الموضوع تماماً. " وإذا كان ما يقلقك هو الخطر الذي يمكن أن أتعرض له !" قالت بتعالٍ :" فاطمئن بالاً ، لأن سجل لاري في الطيران لا غبار عليه ، وبالنسبة لي فأنا لا أخاف ركوب المخاطر ... أبداً."
" ولكن أنا الذي أخاف !" صر فيك على أسنانة بشراسة .
" أريدك أن تفهمي جيداً ! أنت لن تطيري معه في هذه الآلة السخيفة ... الميكرولايت ... لا في الوقت الحاضر ولا فيما بعد !"
" يا للسماء ." قالت باستياء :" وماهو السبب ؟"
" لأني لا أقبل بذلك !"
" لا تقبل ؟" انفجر كل ما كتمته في قلبها في وابلٍ من الكلام :" كما أخبرتك ، سابقاً ، اني أختار الألحان التي أعزفها وأختار الفساتين التي أرتديها ، فأنا أيضاً أختار أصدقائي !" ولأنها شعرت أن صمته ... بطريقة ما ... هو أكثر رهبة من الكلام الساخر الذي كانت تتوقعه منه ، أضافت دفاعاً:" إني أعمل هنا فقط ، كما تعرف ! وأنت لا تملكني !"
علا الاحمرار وجهها ." على أي حال ..." نظرت إليه بارتياب ." ... لماذا قلت للاري انك لا تستطيع الاستغناء عني في عطلة الاسبوع ؟"
" لقد سمعتني حينها ." قال بهدوء :" ضغط العمل ." لماذا لا تثق بهذه النغمة في نبرة صوته الممغوطة ؟
" أنا أتعجب ، وأريد أن أسألك عن أمر ؟" وبدا انها لا تستطيع منع تدفق الكلام الغاضب من فمها :" لماذا اتخذت هذا الموقف العدائي من لاري مع انه لم يفعل شيئاً وبدا لي انه رجل لطيف جداً...؟"
" أوه ، انه رجل لطيف بالتأكيد !"
" إذاً ماهي المشكلة ؟"
" انها جزء من اتفاقنا عندما حصلت على العمل هنا . هل تذكرين ." مرة أخرى ... لاحظت سارة التهكم في صوته :" أن احتمال العمل في عطل نهاية الأسبوع هو وارد دائماً ..."
" إنه فقط احتمال !" رمت سارة فجأة ، كل منطق في الهواء .
" أنت لا تزال غاضباً ، لأني رفضت أن أنشد أغنيتك الخاصة اليوم ، وأن أعدل البرنامج الموسيقي لأجلك !" حدقت به والشرر يتطاير من عينيها .
هز فيك كتفيه." أنا أستطيع الانتظار ..."
" تنتظر ! كيف بامكانك التكلم هكذا !" انفجرت به غاضبة .
" بعد ... بعد ..." ذهلت وهي تسمع نفسها تضيف :" ... كل ما فعلته معي ، اليوم ؟"
أجابها بصوت هادئ ورصين :" ما الذي تعنينه بكلامك ؟"
" وكأنك لا تعرف ." قالت بصوت متهدج فيما كانت تحاول أن تمنع دموعها التي كادت أن تنهمر . وأحست ، دفعة واحدة ، بالهوان وبأن مشاعرها قد جرحت . وطغى عليها الغضب ." لقد تحدثت مع بول ، منذ قليل ، لقد كان مسروراً جداً لأنك أعطيته عملاً في هذا الموسم . العمل الذي أشغله أنا !" أهتز صوتها وهي توجه له هذا الاتهام :" كيف تستطيع أن تفعل شيئاً كهذا ؟" صرت على أسنانها كي تمنع نفسها عن الكباء ." كما انك لا تبالي بما يحدث لي !"
غمرها ، دفعة واحدة ، احساس بالخيبة والاحباط بسبب التراكمات العاطفية طوال هذا اليوم الطويل ، ومسحت بيدها الدموع التي سالت على خديها ." لا أحد ... لقد ظننت ..."
تعثرت بالكلام كالسكارى :" أنا أعني ، إذا كنت بحاجة إلى شخص يحمل رخصة قيادة صالحة ، فأنا عندي هذه الرخصة ، ولم أعتقد في البداية ان ذلك يهمك ..."
" لا يهمني ؟ منك ، يا سارة ؟" أخذتها الدهشة بفعل الدفء المفاجئ في نبرته الخشنة ، ولكن نبرته تبدلت بعد لحظة وأصبحت عادية . وقالت سارة في نفسها ، لا شك انها تخيلت هذه الرقة غير المتوقعة منه . أن يكون رقيقاً معها ؟ فيك ؟ لا شك انها فقدت صوابها !
أفاقت من تأملاتها وعادت للإصغاء إليه :" لقد أسأت الفهم تماماً ، وتشابكت أفكارك . صدقيني ، اني أحتاج للمساعدة في العمل ، من أي جهة أتت !"
" أوه ." تنهدت سارة باطمئنان ." لقد ظننت انك استغنيت عن خدماتي ."
" استغني عنك يا سارة ؟" لم تستطع سارة سماع هذه الكلمات جيداً لأنه تمتم بها بصوت خافت ، وخيل لها ، بعد دقيقة ، انه لم يقلها . يبدو انها في هذه الليلة ، تفترض كل الاحتمالات غير المعقولة ، مثل النغمة العاطفية في نبرات فيك الخافتة ، وانه سوف يطردها من العمل ، لأنه أعطى عملاً لفتى من عائلته .
" هل فهمت الموقف الآن ؟" أعادتها ، نبرته الممغوطة إلى الواقع .
" أوه ، أجل ، أجل ." أكدت له وهي تشعر بالسعادة ، وانتظرت أن يقول لها انه لايعترض على قيامها بنزهة مع لاري في طائرة الميكرولايت ولكنه بدلاً من ذلك تمتم بشيء غير مفهوم ، ثم قال :" تصبحين على خير يا سارة !" واستدار على نفسه بزاوية حادة وابتعد بخطوات طويلة متمهلة ... وابتلعه سكون الليل.
" هل رأيت فيك هذا الصباح ؟" رفعت سارة رأسها عن طاولة المكتب عندما دخل بول المكتب ." هنالك من يطلبه على الهاتف ..."
" لقد ذهب مع فتاة تدعى لين ، لقد اتصلت به وذهبا منذ وقت طويل ، وقد قال انه لن يعود قبل حلول المساء . لقد مرت عليه في الصباح واقلته معها في سيارتها ... أوووو ! ما أجملها ! شقراء ومغرية ! إن فيك يعرف كيف يختار فتياته !"
لم تفهم سارة السبب لشعورها المفاجئ بالخيبة والحزن . الخبر ليس مفاجئاً ، لقد أخبروها مراراً عن العلاقة الغرامية المتقطعة بين فيك ولين ! وفي الوقت نفسه لا يعني فيك لها شيئاً ... هل هذا معقول ؟ ولماذا تشعر بالغضب والاحباط ؟ بالطبع ان الذي يزعجها هو انه سمح لنفسه بالقيام بنزهة في نهاية الأسبوع بينما منعها في الوقت نفسه من الذهاب مع لاري . قالت بصوت مرتفع :" هل ترك لي أي خبر ؟"
" كلا ، ولا حتى كلمة ."
غمرتها موجة من الاستياء .
" وهكذا لا يبقى للاشراف على العمل إلا أنا وأنت !" قال بول وهو يشعر بأهميته :" وبالنسبة لي ، لا بأس بذلك ، فأنا سعيد لوجودي هنا ، وليس عندي من مكان آخر أذهب إليه ، ليس بلا جواز سفر ."
كانت سارة ما تكاد تصغي إلى صوته الطفولي ، لقد ترك لها أمر التعامل مع الرحلات السياحية التي يحتمل وصولها في غيابه ، وهذا أمر يناسبه . لأنه لم يترك لها فرصة للاختيار . ولم يترك لها أيضاً توجيهات خاصة . لا شك انه كان متلهفاً لهذا اللقاء غير المتوقع مع الفتاة التي لايزال يحبها إلى درجة نسي معها كل شيء آخر . أطبقت شفتيها بقسوة ، حسناً ، في الامكان أن يلعب أثنان هذه اللعبة ! نظرت من خلال النافذة ! يوم صاف ، بدون رياح ، وسماء زرقاء براقة . انه يوم مثالي للطيران بالميكرولايت . ولِمَ لا ؟وهي غير مُجْبِرة على الانصياع لأوامر فيك . قالت سارة في نفسها . وإذا كان غيابها عن الكرم سيكلفه خسارة عدة زبائن مهمين ، فالغلط ، غلطه !
التقطت بعد دقيقة ، سماعة الهاتف وطلبت رقماً مكتوباً على دفترها .
" هالوا ؟" سمعت صوت لاري عبر الهاتف .
" هذا أنا ... سارة ..."
وجدت سارة المرأة المسنة في المطبخ وهي تُقطع حبوب فاكهة الكيوي التي أرسلتها باتي ... وهي غير صالحة للتصدير إلى الأسواق العالمية ...لتصنع منها المربى .
" سيأتي بعد قليل ويأخذني في نزهة على متن طائرته ، الميكرولايت ." قالت سارة لكيت :" سيصل في الحال ." ظهر في عيني كيت عدم الرضى ." لن يكون فيك مسرورا لهذا العمل ." قالت وقد علا محياها الاستياء :" أظن انك تعرفين انه سيمضي هذا النهار مع لين !"
ولكن سارة لا تريد سماع أي شيء عن لين . واعتلى وجهها الاحمرار .
" أعرف انه لن يكون مسروراً ." وافقت على كلام كيت برقة .
" ماذا سيحدث ..." رمقت كيت سارة بتحدٍ ." ... لو وصلت رحلة سياح ولايوجد أحد هنا كي يهتم بهم ؟"
كان رد سارة جاهزاً على هذا السؤال :" لقد راجعت جدول الرحلات ، وليس عندنا أي حجوزات مسبقة لهذا النهار ."
" لا أحد يعرف بالتأكيد متى تصل الرحلات ." أضافت كيت وهي تحاول أحباط همة سارة :" خاصة ، في يوم جميل كهذا ، أتمنى أن تكوني على معرفة بما أنت في صدده ، ولا أتعجب من معارضة فيك لهذه النزهة على متن الطائرة الصغيرة ، لأنك بذلك ، تجازفين بحياتك..." نظرت سارة إلى كيت وكأنها لا تصدق ما سمعت :" أجازف بحياتي مع لاري ؟ الرجل الذي سجله خالٍ من أي حوادث ..."
" سجله ، هذا كل مافي الأمر ! ولكن لكل شيء أوان ..."
" حسناً ، على أي حال ، أنا ذاهبة !" ولم تندهش سارة عندما لم تلقي عليها كيت تحية الوداع .
كانت سارة واقفة على العشب عندما هبطت الآلة الطائرة بجناحيها العملاقين ذويْ اللون الزهري ، من السماء الصافية وتسارعت فوق العشب حتى توقفت.
قفز لاري ، بعد لحظة ، من الطائرة ، وهرع نحوها والحماس يعلو وجهه ." انه لرائع حقاً ، أن أراك ثانية ! كدت أن أفقد الأمل في أن تتصلي بي من أجل هذه النزهة ، أما الآن ..." خفف الدفء العاطفي في نبرة صوته من ألم جروحها وشعورها بالخيانة اللذين لا يفارقانها.
" هيا ، تسلقي !" ساعدها لاري في تسلق الطائرة والجلوس في أحد المقعدين المثبتين على اطار من الألومينيوم ، وخيل لسارة ان المحرك من خلال الصوت الذي أحدثه ، هو آلة لجز الأعشاب برغم قوته التي توازي قوة المحركات الكبيرة ." ابتسمي !" اخرج لاري من جيب بنطاله الجينز
آلة تصوير . ابتسمت سارة فيما كان يلتقط لها الصورة . " اني ألتقط هذه الصورة ، كي أؤكد لنفسي ، فيما بعد ، ان هذه النزهة كانت حقيقة وليست خيالاً!"
تسلق لاري الطائرة وجلس في المقعد الآخر . " خسناً نحن جاهزان للتحليق . وسمعت سارة صوتاً خافتاً من خلال السماعة التي وضعتها على أذنيها فيما كانا يرتفعان فوق الأعشاب .
لم تشعر سارة بالخوف عندما حلقا عالياً في الجو .
والآن أصبح باستطاعتها أن ترى أشياء كثيرة في الأسفل .
المساحات الخضراء الشاسعة ، ومراعي الغنم المنتشرة هنا وهناك ، وأشجار الماكروكاربا الباسقة التي تغطي المنحدرات الجبلية . ثم وجدت نفسها تنظر إلى بساتين البرتقال وفاكهة الكيوي ، ومزارع الغزلان المحاطة بأسلاك عالية ، ثم رأت منظر البحر المتماوج ، فيما كانت أشعة الشمس المنعكسة على صفحته تتراقص وتتمايل ... وشد نظرها الشاطئ الرملي الذي يمتد إلى ما لانهاية.
هبط لاري بطائرته فوق منطقة معشوشبة ومنبسطة ، ثم مشيا فوق تلال رملية انتشر عليها العشب البحري ، وشعرت سارة برذاذ ماء البحر يلامس وجهها واستنشقت رائحته المالحة .
قال لها لاري فيما كانا ينحدران باتجاه الشاطئ :" هل تبحثين عن مخبأ تبدلين فيه ثيابك ، انظري حولك !"
" أوه ." نظرت إليه سارة متسائلة ثم ضحكت ." لقد فهمت الآن ، ما كنت تعني !" أضافت بعد أن رأت شجرة بوهوتكوا العملاقة تعلو فوقهما مباشرة ، وتنحدر جذورها المكشوفة على الرمل ، مثل الأفاعي .
استدارت سارة بخفة خلف جذع الشجرة الضخم وشعرت بالارتياح للتخلص من ملابسها غير المريحة ، مستبدلة بها مايوه البيكيني الذي شعرت به بالحرية والانطلاق ، وضعت ملابسها داخل فتحة في الجزع ولحقت بالاري الذي كان ينتظرها على الرمل ... رجل طويل القامة ونحيل، سمرته الشمس ويبدو وسيماً في شورت السباحة المقلّم بألوان براقة .
لاحظت سارة ان المكان جميل بصورة لا تصدق عندما تأملت فيما حولها . سماء زرقاء صافية تشعر أن باستطاعتك مد يدك لسمها . بحر تتموج انعكاساته مثل تموج الالماس . ولم تشاهد إلا قلة من المتنزهين ، الذين أتوا كي يستمتعوا بهذا الشاطئ الخالي من أي عيب . ورأت في البعيد سابحين يمتطون البحر على متن زلاقات الموج .
وعائلات تحتفل وهي متحلقة حول خيمة منصوبة أو لاندروفر متوقفة على الرمال . ورأت الكثير من طيور النورس تصرخ وتحلق فوق الأمواج . وأتتها خاطرة من حيث لا تدري ... لو كان فيك معها هنا بدلاً من لاري ... دفعت سارة بعيداً عنها ه1ذه الخاطرة السخيفة . إن فيك يمتع نفسه ، في الوقت الحاضر مع لين ، تذكري ذلك !
" تعالي معي !" أمسك لاري بيدها وسارا معاً فوق الرمال الذهبية وغطسا في الزبد الذي تكوّن على الطرف الشاطئ ، وسبحا بعيداً.
شاهدت سارة ، فجأة ، موجة عالية تقترب بسرعة نحوها . وفي لحظة ، أفقدتها قوة هذه الموجة توازنها .
وشعرت انها تغطس تحتها إلى أعماق المياه الزرقاء .
وفيما كانت تتحرك تحت الماء على غير جدوى ، أمسكت بها يد لاري القوية وسحبتها إلى سطح الماء . مسحت الماء عن عينيها ، وتنفست بصعوبة ، ودفعت بشعرها المبلل والمنسول على وجهها إلى الوراء.
استطاعت سارة ، بعد وقت قصير ، بتوجيه من لاري ، السيطرة على توازنها في مواجهة الأمواج العالية وتعلمت كيف تنزلق معها . واجها الأمواج مرة بعد مرة بانتظار الموجة العالية التي تحملها وتلقيهما على الشاطئ .
ان التلاعب على الأمواج هو وسيلة جيدة ، قالت سارة في نفسها فيما كانت تنتظر بين موجة وأخرى ، للتخلص من التفكير بفيك وبمشاكسته ... مؤقتاً ، على الأقل .
أخيراً ، سبحا فوق المياه الضحلة إلى الشاطئ وارتميا على الرمال الحارة ، وتركا للشمس مهمة تجفيفهما .
سوف أتذكر دائماً هذا اليوم ، عندما أعود إلى انكلترا ، فكرت سارة . الشاطئ المنعزل ، وأشعة الشمس البراقة ، والاسترخاء تحت السماء الصافية ، وطعم الملح عندما يجف الماء عن جلدها . ولكان نهارها قد اكتمل لو كان فيك برفقتهما ... ما هذا الذي تفكر به ؟
" أعطيك قرشاً ثمناً لأفكارك !" أسند لاري نفسه على مرفق يده وحدق بها.
" أفكر في أشياء تافهة !"
" إذاً ." قفز واقفاً وتسلق المنحدر ." لن أتأخر عنك ." راقبته سارة وهو يسير فوق التلال ويتخطى بساقيه الطويلتين المسمرتين الرمال المتحركة بخفة ومن دون جهد.
عاد إليها ، حاملاً معه صندوقاً من الكرتون ، فتحه أمامها بوقار مصطنع وقال :" الغداء جاهز يا سيدتي !"
" أنا لاأصدق عينيّ." اختارت سارة سندويشاً من الصندوق ." لم أكن أظن انك وجدت وقتاً ، كي تجهز الطعام ."
" هذا صحيح ، لم يكن عندي الوقت !" أجاب وناولها عصير الفاكهة المثلج :" لقد حدث كل شيء بسرعة ، هذا الصباح ، ولكن والدتي هرعت لنجدتي ."
" والدتك ؟" لم يخطر ببال سارة ... بطريقة ما ... ان لاري يقيم مع عائلته . وبدا لها أن لا أهمية لذلك . فاهتمامها منصب على فيك وحده ، أو كان منصباً بصيغة الماضي ، كان هي الكلمة المعبرة ... وشعرت فجأة ان مذاق الطعام اللذيذ في فمها أصبح مثل مذاق نشارة الخشب.
عندما انتهيا من الطعام ، غطسا مرة ثانية في البحر وسبحا إلى البعيد ، حيث المياه عميقة ، وانتظرا الهجوم التالي للموج العالي كي يحملهما إلى الشاطئ . عادا إلى الشاطئ بعد فترة وارتميا على الرمال مستلقيين على ظهريهما فيما كانت أشعة الشمس تلفح وجهيهما . ولم تصدق سارة ، عندما نظر لاري إلى ساعة يده ... وأخبرها عن الوقت . كيف انقضى كل هذا الوقت من دون أن تشعر بمروره ؟
استرخت سارة بشعور لذيذ من الراحة ، وكانت على وشك أن تغفو عندما أحست بلمسة فوق شفتيها ، فتحت عينيها وشاهدت لاري منحيناً فوقها .
" لا تفعل !" تملصت منه بحركة سريعة وقفزت واقفة على قدميها .
حدق بها لاري ، وعيناه الداكنتان تنطقان بالدهشة والغضب ." لقد ظننتك معجبة بي ؟"
" أنا معجبة بك ، بالطبع ! انه فقط ..."
تغير لون عينيه، دفعة واحدة ، وبدا عليه التفكير العميق .
" هنالك رجل آخر في حياتك ، أليس كذلك ؟ رجل ما في انكلترا ينتظر عودتك إليه وهو يعد الأيام بفارغ الصبر ..."
ضحكت سارة من هذا الاحتمال . " ولكني لا أعلم بوجود مثل هذا الشخص ."
" إذاً ، رجل ما ، هنا ؟" تابع لاري باصرار .
" كيف يمكن ذلك ." ولكن لسبب ما لم تستطع سارة أن تنظر في عينيه وأشاحت بنظرها عنه فيما كانت صورة معينة تستولي على ذاكرتها ... فيك ، بجسمه المتناسق ، وسمرته الجذابة وابتسامته التي تستطيع أن تفعل
الأشياء بعواطفها برغم القرارات التي اتخذتها بأن لا تسمح لنفسها التأثر بها إلى هذه الدرجة.
" طالما الفرصة متاحة لي ." قال بصوت خافت جداً.
تحول لاري ثانية إلى مرافق مسلٍ وغير متطلب عندما رجعا إلى الطائرة عبر تلال الرمال المتحركة . كانت الشمس على وشك الغروب عندما ظهر لهما الكرم من الأعلى ، وبعد دقيقة ، سمعت سارة حفيف الهواء على الأشجار والمنازل والسيارات فيما كانت الطائرة تهبط متسارعة على الأرض .
ساعدها في النزول من الطائرة ، وودعته باختصار ، فيما كانت التلال خلفهما تكتسب لون الغروب الأرجواني.
" انتظري ." وضع لاري يداً على ذراعها وأوقفها :" هل تقبلين بالذهاب معي ثانية ؟ وهل ستتصلين بي في أقرب فرصة تجدين بها نفسك حرة من العمل ؟"
أجابته سارة ضاحكة :" لقد فعلت هذا ، ألم أفعل ؟"
بدا على ملامحه الانشراح :" لقد كان صوتك هذا الصباح ، أجمل صوت سمعته في حياتي ، لا تنسي ..."
" لن أنسى ، مع السلامة ." كانت على وشك الابتعاد عنه ، عندما عانقها ، ثم أفلتها فجأة ، ورفع يده بالتحية وتسلق الطائرة .
وقفت سارة تلوح بيدها حتى حلقت الطائرة الزهرية اللون في الهواء واختفت خلف التلال . ولما استدارت وجدت نفسها وجهاً لوجه مع فيك الشاحب والمتشنج الذي قال بصوت متهدج :" لقد عدت! أنت متأخرة ، وقد أرهقني القلق عليك ." هذه المرة ... لا يمكن أن تسيء فهم هذه التعابير التي تنم عن شعوره بالراحة لعودتها سالمة . " يا للجحيم ." مرر يده على خصلة من شعرها ." لا تفعلي ذلك ثانية !"
حدقت سارة به متعجبة . لماذا ينفعل وكأن عودتها سالمة تعني له الكثير ، الكثير جداً . ولكن بالطبع ، ذكرت سارة نفسها بعد لحظة ، قلق لأنه لا يريد أن يخسر مساعدته في الكرم ، وخاصة فتاة تهتم كثيراً بانتاج الشراب.
عادت سارة من تأملاتها وتابعت الاصغاء إليه :" لقد وجب علي الذهاب مبكراً هذا اليوم ، صديقة لي ..." لماذا يخبرها عن لين ؛" جاءت على غير موعد . لقد تزوجت بهدوء من رجل قابلته في رحلتها الأخيرة إلى الخارج . لقد عرفا بعضهما لوقت قصير ولكنها أخبرتني انهما متفاهمان جداً ، على أي حال ، قرر زوجها أن يترك عمله في انكلترا كمحاسب ،
وينشئ هنا ، في نيوزيلندا كرم عنب ، ويجرب حظه في صناعة الشراب ، زوجها يملك رأس مال قليلاً وقد عثرا على قطعة أرض في الجنوب قد تكون مناسبة بما عليها من منافع وبيت . وكانت معروضة للبيع بالمزاد ، هذا اليوم . ولم يبق عندهما الوقت . لهذا تركا لي أمر الكشف على الأرض وفحص ملاءمة تربتها ومناخها لزراعة العنب ، ومدى تعرضها للشمس وكل ما يستتبع ذلك . وجدت أن الأرض صالحة للإستثمار ومن النوع الذي كانا يسعيان له . وقد أخبرتهما أن يتكلا على الله ويبتاعا الأرض ، وأضفت على ذلك مباركتي لهما ."
" أوه ." غمر سارة احساس مفاجئ وغامض من السعادة .
" ثم عدت إلى البيت بأسرع وقت ممكن ." قال فيك :" لأجد انك ذهبت مع لاري ." نزلت غشاوة على وجهه وركزت على كلامه كي تستطيع سماع صوته الخافت :" لقد كان يوماً شاقاً وعندما تأخر الوقت ... هل لاحظت أن هذه الطائرة بمحرك واحد فقط ، وإذا تعطل ...؟"
" حسبما أخبرتني كيت ، رحلتان فقط ." هز كتفيه إشارة على عدم المبالاة:" سيرجعون إذا كان الشراب يهمهم ."
هل الذي يتكلم معها ، هو فعلاً فيك ؟ ما تكاد سارة تستطيع أن تصدق أذنيها ، ثم قالت وهي تشعر بالضياع :" إذاً ، أنت لا تمانع إذا أخلدت للراحة الآن ؟"
" أمانع ؟" بدت عيناه أكثر رقة ." أنا لاأمانع بأي شيء ، بعد أن عدت سالمة لي !"
قفز قلبها عدة قفزات ثم استقر ، غبية ! أنبت نفسها لو أتت هذه الكلمات من أي رجل آخر ، لكانت حملت مغزى عاطفياً ، ولكنها أتت من فيك ... انه يهنئ نفسه لأنه لم يخسر عاملة ممتازة .
أثار هذا التفكير غضبها ولمعت عيناها الخضراوان ، " لم أكن أعرف أني مهمة لك إلى هذه الدرجة ؟" صرخت في وجهه ، وبعد دقيقة ، أصبحت على استعداد لدفع أي ثمن كي تسترجع هذه الكلمات . لم يزعج نفسه بالرد عليها بل اكتفى بالنظر إليها بصمت وبتعابير لم تستطع قراءتها . غمرتها الحيرة وتمتمت :" من الأفضل أن أخلد إلى النوم ." وهرعت مبتعدة .
استمرت في التفكير بفيك وهي في طريقها إلى الكوخ . لا شك انها تخيلت هذه الرقة في مشاعره نحوها . وعندما دخلت الكوخ ، أحست فجأة، بالفراغ ، وغير واعية حيال أي شيء . لو فقط ... فجأة ... ضربتها الحقيقة ، وكأنها لكمة عنيفة . انها تهيم برجل لا يمكن أبداً أن يبادلها الحب ، ولاشك أنه عندما يعرف حقيقة وضعها هنا ، سوف يحتقرها وينبذها . ولكنه لن يعرف ، أقسمت في نفسها ، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً ، وليساعدها الله.
لماذا لم تتبين هذه الحقيقة من قبل ؟ أن فيك يعني لها الكثير ، انه حياتها ومع ذلك لم يبق لها إلا أسابيع قليلة قبل أن ترحل من هنا إلى الأبد .
أخذت أطراف الصورة تتوضح في مخيلتها ، الأيام الرائعة التي فقدت جمالها بسبب غياب فيك عن الكرم . ثم سعادتها المفاجئة حين تشاهد سيارته تتوقف أمام المخزن عندما يعود . أن تراه ، أن تكون معه ، أن تعمل إلى جانبه ، أصبح الآن كل عالمها . وهي لم تكن مع فيك غير فتاة مشاكسة ، وموظفة صعبة ... برغم انها تتعلم بسرعة وخلصة لعملها.
اجتاحت موجة من الألم قلب سارة ، لو كان عندها شيء من الكبرياء واحترام النفس لحزمت امتعتها وعادت إلى انكلترا على متن أول طائرة مغادرة . ولكن المشكلة ، فكرت ببرود ، انها لا تتمتع بهاتين الصفتين . في الوقت القصير الذي بقي لها عطلة العمل في الكرم . لن تستطيع تحمل فراق فيك حتى ليوم واحد . المهم أن تبقى بالقرب منه ... كم هي غبية !