الفصل الثالث
" حسناً ي سارة, هذا كل مافي الأمر." ووقفت سارة عندما لاحظت ان المقابلة قد انتهت.
" اذاً لم يكن لديك مانع." عرض عليها فيك:" سآخدك في جولة للتعرف على المكان ولتشاهدي الكوخ الذي ستقيمين فيه. مهلاً,دعيني أحمل هذه عنك!" تقدم فيك من حقيبة سفرها الموضوعة على أرض الغرفة, بينهما . انحنت سارة إلى الحقيبة وبلمح البرق , واقتلعت عنها الملصق الذي كتب عليه اسمها الحقيقي , بأصابع مرتجفة.منتديات ليلاس
" إني أحتاج إلى منديل."بررت سارة حركتها.
توقفت سارة فجأة بينما كان ينزلا الدرج, عندما أخترق السكون صدى اطلاق نار متتابع "اسمع." استدارت نحو فيك وقد اتسعت عيناها ." انهم يطلقون النار قريباً من هنا!"
ضحك فيك وقال:" لاتقلقي, هذه الأصوات ليست صوت اطلاق نار , انها تأتي من آلة الفزاعة.انها تطلق هذه الأصوات على مراحل زمنية , كي تفزع الطيور وتبعدها عن العناقيد . ولكنها تألف هذه الأصوات بعد حين ولاتعود تؤثر فيها. ولهذا وضعنا فوق العرائش , هذه السنة , شباك تغطيها .لقد آن أوان القطاف ولانريد ان تتلف هذه الطيور جزءاً من المحصول."
قاد فيك سارة , عندما وصلا إلى الطابق الأرضي نزولاً عدة درجات الى القبو وفتح لها بابه الخشبي .بخلاف جو الخارج المعرض لأشعة الشمس الساطعة وحرارتها, وبدا بارداً ورطباً. وكان مليئاً بالخوابي الخشبية والمعدنية.
" بعد القطاف, نضع العنب في خواب صغيرة من الفضة كي نعصره.لقد فات الزمن على استعمال خوابي الفولاذ الذي لايصدأ."
قال فيك وهما يسيران بين الصاديق المعبأة بزجاجات الشراب." الشراب الأحمر يحتاج إلى وقت كي يصبح صالحاً للشرب, سنة القطاف سنتان للتخمير وثلاث للتعتيق."
خرجا بعد فترة, من القبو ومشيا تحت أشعة الشمس, نزولاً على المنحدر الذي يقود إلى العرائش في اسفل الوادي.
"شيد القبو الذي شاهدته تحت المنزل, على طريقة المدرسة الأوروبية." قال فيك وقد دب الحماس فيه:" وأنا مقتنع بذلك تمام الاقتناع ! فمنتج الشراب الجيد يقيم دائماً فوق معمل التقطير ويشرف من هناك على كل شاردة وواردة , زراعة العرائش , قطاف العنب , ملصقات القوارير والتسويق وهذا بالطبع يأخذ كل وقته ويصيبه بالإرهاق, ولكن هذا لايهم! إذا كان ذلك يعني , ان كرمك هو محور حياتك كلها , وهذا ما أعيش أنا من أجله."
كانت نبراته العميقة تنم عن الولع الشديد بمهنته, واعترى سارة شعور بأنه قد نسى وجودها معه تماماً, ولكنها عادت وأعارت انتباهها لما كان يقول:" الرجل الذي زرع هذا الكرم, اتى من دالماسيا, قليل المال, كثير الطموح.بدأ حياته الجديدة في نيوزيلندا بالعيش في خيمة, يجمع الصمغ الكاوري من الأرض إلى الشمال من هنا, ولما تحقق حلمه بشراء قطعة الأرض هذه, استورد شتلات كرمة من بلاده وزرعها هنا. وكان قد صمم
حينذاك على ألاّ يكون كرمه عادياً وتجارياً. أكمل شريكي , الطريق وحافظ على هذه التقاليد, وقد علمت معه وقتاً طويلاً وكافياً كي استوعب معظم أفكاره وأساليبه.لقد أراد أن تصبح كروم صن فالي متخصصة في الأنواع الممتازة من العنب." توقف فيك لحظة عن الكلام ليمتع عينيه بمنظر الكرم المترامي في الأسفل ثم تابع:" إن انتاج أصناف كثيرة ومتنوعة, يربك مخططات المنتج وطموحاته ويلهيه عن النوعية والجودة بشكل عام, وأنا أُفضل أن أُنتج صنفاً واحداً ممتازاً , على أن أنتج عشرة أصناف من النوع القليل الجودة." ان فيك ملتزما نهائياً بالعيش والعمل في الكرم , فكرت سارة بأستياء وأصبح من الصعب عليها الاستمرار في الاصغاء إلى ما يقول. من الزراعة إلى القطاف ومن التعبئة الى التسويق.
" ان مهنة صناعة الشراب لم تكن عملاً تجارياً قط, بالنسبة لي, بل كانت اسلوب حياة جديرة بالعيش."
اسلوب حياة ! جهدت سارة كي تبعد عنها الشعور بالذنب وعدم الارتياح اللذين اثارتهما كلماته.أشارت إلى شتلات الورد المزروعة في نهاية كل صف من العرائش وقالت:" اخبرني , هل شتلات الورد هي عادة أوروبية أيضاً؟"
نظر فيك إلى حيث أشارت وقال :" نعم لقد خمنت , لاروز هي بالفعل كلمة من اللغة الفرنسية القديمة, وبالنسبة لي , الوردة هي علامة الكمال!"
"حقاً ؟"رمقته ضاحكة."لم أكن أعتقد أنك رومانسي إلى هذا الحد كي تزرع الورد بين العرائش....."
" إنها عملية." نبرته الباردة جمدتها." إذا تعرضت العرائش للاصابة بأي مرض.فذلك يظهر على شتلات الورد اولاً."
"أوه!" شعرت بالارتياح لانضمام الكلب السلوقي الأسود إليهما. انحنى فيك وربت على رأسه ثم قال لسارة "نسميه سام." ثم اتجها نحو العرائش الواقعة في أسفل المنحدر. تمتمت سارة وهي تقطع الصمت الذي خيم بينهما :"يبدو لي أنها زرعت بطريقة هندسية جيدة, كل هذه الصفوف من العرائش المتسلقة المنحدرات حتى أعلى التل."
أوضح فيك :"لقد مددنا الصفوف من الشمال إلى الجنوب كي تتعرض العرائش لأكبر قدر من أشعة الشمس."
أدارت بنظرها إلى الوراء وأشارت إلى المباني الواقعة قرب المنزل:" هل تصنعون الشراب وتخزنوها هناك؟"
"هذه ليست من تقاليد صن فالي. عندما شيد ستيفن المنزل الكبير , كان ينوي أن يتبع الاسلوب التقليدي لصانع الشراب, أن يعيش فوق المصنع
ويراقب كل شيء عن كثب فيما يتعلق بالعمل , وفيما يتعلق بالعائلة أيضاً." شعرت سارة بأسوداد عينيه فجأة :"للأسف لم تتحق هذه الأمنيات لستيفن , كما تحققت لجده الذي بدأ كل شيء , فهذا الرجل العتيق استطاع أن يروض طبيعة البراري, اقتلع النباتات البرية , وزرع أشجار الماكروكارب, كي تشكل حاجزاً في وجه الرياح, هل تعرفين , يا سارة؟ أن اسلوب الحياة العائلي كان السبب في نجاحه, لقد اشتغل الرجل العتيق وعائلته في الأرض من دون توقف معظم حياتهم وانتصروا في النهاية " رمقته سارة في تعجب وتساءلت:" هل تعني بذلك ان زوجته وأولاده اشتغلوا معه, طيلة حياتهم ؟"
"لِمَ لا." أغاظتها نبرته الهادئة.
اصطنعت التأسف وقالت:"لايبدو لي ان زوجته قد تمتعت..."
" ولكنها كانت متفقة معه ولم تكن تتمنى أكثر من أن تعمل وزوجها جنباً إلى جنب, وفيما بعد عمل الأولاد إلى جانبها.هذا ما أرداته بالفعل!"
" اراهن انه لم يصارح الفتاة التي كان ينوي أن يتزوجها."
عارضت سارة :" بأنها ستعيش معه اسلوب حياة كهذه وانها ستعمل من دون توقف إلى الأبد."
رأت سارة السخرية التي ارتسمت في عينيه الداكنتين." ولماذا يصارحها؟ لقد كان يعرف أن لاشيء سيمتعها مثل هذا الاسلوب من الحياة الى جانب القناعة التي تستمر معها طول الحياة , حتى في يومنا هذا...."
"في يومنا هذا ." أوه , لقد أثار غضبها! هل أن الصدمة التي تلقتها اليوم بالاضافة إلى الإحباط الذي تعاني منه هما سبب إثارة حنقها؟ انه يتهكم عليها, وهي متأكدة من ذلك, فلم يكن عليها إلا ملاحظة بريق عينيه.ثم أضافت: " إنك لن تجد , أبداً فتاة ترضى بذلك , إلى الأبد؟"
"لا أستطيع الموافقة معك." قال فيك بنبرته الممغوطة:"ان اثنين يحبان بعضهما البعض ويريدان العمل معاً..."
لم تسمح سارة لنفسها بالنظر إلى عينيه الساخرتين."أنت لن تعثر أبداً على مثل هذه الفتاة التي تتكلم عنها بحماس.أي فتاة تقبل أن تكون على هذه الصورة تكون ساذجة وبسيطة , تفكيرها يرجع إلى العصر الفيكتوري, لا تعشق في هذه الدنيا إلا العمل. تفعل كل مايُطلب منها وتعمل ليلاً نهاراً كي ترضي زوجها؟" وأضافت وقد أحست بروح الانتقام :" كل هذا من دون أجر أيضاً!"
"ماذ تعني الأجور..." رفع فيك حاجبيه.".... عندما تكونين شريكة في هذا الاسلوب الرائع للحياة , وحيث توزع المتع والأسهم والأرباح سواسية؟
قالت سارة وهي تشعر بالتشاؤم :" إذا كان هناك من متع وأرباح ! لماذا تدافع بكل هذه القوة عن هذه الفتاة الغامضة المفترضة , على أي حال؟ لاتقل لي إنك قد عثرت على مثل هذه الفتاة ؟"
لمعت عيناه وبان عليه تفكير عميق ثم أجاب :" أنا أعمل لأجل ذلك." رمقته سارة بنظرة وهي غير مصدقة ماتسمع."يقولون في البلاد المنتجة للشراب الواقعة على البحر الأدرياتيكي.... إذا أردت بلوغ الكمال فيما يتعلق بالشراب, فكل شيء تعمله , يجب أن تعمله بالحب."
رمقته بارتياب , ولكن ملامحه الساحرة لم تنم عن شيء ومن دون مقدمات , خطر في بالها احتمال, لو لم يتدخل القدر, هل كانت شقيقتها كاتي أتت إلى نيوزيلندا وتزوجت ستيفن واقتنعت بالعمل إلى جانبه في الكرم؟ لقد كانت مغرمة به حتى الموت . ولم تتجرأ سارة على افتراض الجواب.
"هذا صحيح." شيء ما في لهجة فيك الخافتة كان يزعجها بشكل غريب ولم تعرف ماهو أسرعت بتغيير الموضوع ." هيا ننزل إلى الوداي وتلقي نظرة على العرائش , هل من مانع؟"
"لا , هيا بنا." نزلا المنحدر العشبي ركضاً, وتوقفا عندما وصلا إلى أول العرائش التي تفصل بينها ممرات عشبية وحيث كان عدد من الطيور يرفرف فوق الشباك التي تغطي العرائش كانت درجة الحرارة مرتفعة جداً بين العرائش وشعرت سارة أن خصلاً من شعرها التصقت بجبينها بفعل العرق . ورأت العناقيد الأرجوانية المتدلية فوق بعضها . ونسيت كل شيء للحظات حتى وجود فيك معها من جراء تمتعها بهذه الأجواء.
"سترين الكثير منها غداً." قال لها فيك:"دعينا نذهب الآن إلى المبنى الزجاجي."
قادها فيك إلى غرفة الاستقبال الطويلة , عندما دخلا المبنى الزجاجي . ورأت ان في جدرانها صفاً من النوافذ تدلت عليها عناقيد العرائش المزروعة حول المبنى والمتسلقة سقفه . كما رأت عدداً من الطاولات الصغيرة بجانب الجدران وحولها عدد آخر من الكراسي .كما رأت مقصفا متكاملاً في نهاية الغرفة.
"لنذهب الآن إلى المكتب .انه مكتب تقليدي وعملي."
اخبرها فيك عندما خرجا من غرفة الاستقبال .ألقت سارة , في المكتب , نظرة سريعة على ما حولها ورأت طاولة مكتب مهترئة , وأكواماً من دفاتر المحاسبة وطلبات البيع وملفات مراسلات تراكمت عليها , ووجدت أيضاً آلة كاتبة وخزانة للملفات عن تقديم الجوائز لصناعة الشراب. وإلى جانبها شهادات مؤطرة , ولاحظت ان احدى هذه الشهادات قد أعطيت
مؤخراً, وفيما تشهد أن شراب صن فالي الأحمر أصبح على رأس لائحة المنتجات المصدرة من نيوزيلندا في هذه السنة.
وإلى جانب كل هذا رأت عدداً من العلب والصناديق الفارغة متناثرة فوق أرض الغرفة.
مرة أخرى , قطعت عليها , نبرة فيك المطاطة , أفكارها:" هل تجدين هذه الآلة الكاتبة ملائمة لك؟"
" أوه , نعم , لابأس بها." كانت سارة تفكر في سرها أن نوافذ المكتب بحاجة إلى النتظيف , والأوراق المتناثرة على طاولة المكتب بحاجة إلى توضيب وتنسيق كي يسهل عليها العمل.
"هذا كل شيء ."قال فيك :" لنذهب الآن إلى الكوخ."
تسارعت خطوات سارة عندما اقتربا من المبنى الحجري الصغير , ورأت أن مدخله حجب بالكامل عن النظر ببعض الأغصان المتشابكة . وسطحه كان مغطى بعريشة كبيرة , فيما القت نبتة البوغنفيلا بأزهارها الأرجوانية على الفراندا.
" يبني سكان جزر البحر الأدرياتيكي , تقليدياً , منازلهم من الحجر أو القرميد." لمحت سارة أسنان فيك البيضاء القوية حين تكلم :"ومن أمثال أهل هذه الجزر.... نحن اليوغسلاف عندما نبني شيئاً , فنحن نبنيه جيداً!"
" وأنت؟" ولأن الجواب على ماسوف تسأله يعني لها الكثير , وجدت سارة صعوبة في ابقاء نبرتها هادئة وغير منفعلة :" هل أتيت من تلك البلاد , أيضاً؟"
"هذا ليس بالأمر الذي يمكن تحديده," قال بنبرة فاترة:"أنا أعرف أنه أصلي البعيد, أعني بُعد القرابة."
"كم هو ... بعيد؟" أتت كلماتها من حلق جاف ولكنه لم يلاحظ تهدج صوتها.
هز كتفيه دلالة على الاستخاف ." ستيفن كان الحفيد المباشر للمالك الأصلي للكرم. أما أنا فقد كنت قريباً بعيداً لأخيه, الذي أتى إلى نيوزيلندا قديماً وقام بزراعة كرمه الخاص!" ضحك فيك :"أعتقد اني ورثت فقط الاسم وغريزة حب صناعة الشراب . ايفان العتيق نجح في صناعة الشراب في النهاية ." رمق سارة بنظرة تحدٍ.:"عندما أحسن الفعل , وتزوج فتاة انكليزية, وصلت لتوها إلى نيوزيلندا على متن سفينة... هل أسبب لك الضجر"
"لا , لا , أبداً , فهذا يختلف عن كل شيء عرفته , انه بالنسبة لي عالم جديد تماماً." لم تستطع سارة أن تدع نظرها يتلاقى مع نظراته وشعرت
بالاحمرار يغطي وجنتيها .ما هذا الشيء الغريب الذي يربكها في هذا الرجل؟ ان أقصر تعليق منه يربك صوابها ." ماذا كنت تقول...؟" وشكرت ربها لأن صوتها عاد إلى طبيعته.
" عن الفتاة الانكليزية؟" هذه المرة استطاعت تفادي نظرته الساخرة ." لو سمحت لي بالقول ." نبرته المطاطة حولت شعورها من الارتباك إلى الانزعاج ." لقد كان سعيد الحظ بالعثور عليها قبل أن يحظى بها أحد شبان المدينة . كان يحتاج بشده إلى زوجة تساعده في الكرم وفي تلك الأيام كانت الفتيات العازبات اندر من أسنان دجاجة."
رمقته سارة بنظرة استياء وقالت:" لو أن الفتيات عرفن ماسيكون مصيرهن هنا لكُنَّ حتى هذا الوقت الحاضر , اندر من أسنان دجاجة .لم يترك هذا العتيق ايفان.... كما تسميه.... لهذه الفتاة فرصة للتعرف على رجل آخر والاختيار." وقبل أن يتمكن من متابعة سخريته منها ومن أفكارها , قالت:"دعنا ندخال الكوخ, هيا؟ لا أستطيع الانتظار أكثر ,كي أرى أين سأقيم."
" لِمَ لا؟" فتح الباب لها ودخلا . حاولت سارة في بادئ الأمر تدقيق نظرها ليتكيف مع ضوء الكوخ الخافت، و ولكن فيك عبر الغرفة في لحظة ورفع الستائر عن النوافذ وفتحها ليسمح للنسيم المعطر برائحة الزهور بالدخول إلى الغرفة .
" إنه مكان جميل ." تمتمت سارة وهي تنظر إلى أعمدة السقف وإلى الجدران المطلية بالجص الأبيض, رأت في الغرفة أريكة بالية وخزانة مليئة بالأواني الخزفية وطاولة طعام وكراسي.
" المطبخ من هنا" جرها فيك من يدها خلف ستارة فاصلة, ورأت لدهشتها مطبخاً نظيفاً جداً , مجهزاً بالأدوات الكهربائية بما فيها الثلاجة.
فتح فيك احدى الخزائن ورأت سارة على الرفوف الشاي والسكر والحليب المجفف والبسكويت والقهوة والعسل .
" عندنا الكثير من المأكولات المثلجة في براد المنزل الكبير . أطلبي من كيت كل ماتحتاجين . فهي معتادة على خدمة المقيمين هنا في موسم القطاف."
دخلا إلى غرفة النوم عبر باب غرفة الجلوس . ووجدت سارة سريرين عليهما أغطية من الكروشيه وتلاعب الهواء بستائر النايلون عندما فتح فيك نوافد الغرفة, وإلى جانب الغرفة حمام مع رشاش الماء الساخن والماء البارد ومنافع, ورأت مالم تتوقع وجوده , غسالة ثياب أوتوما تيكية.
قال فيك لسارة عندما عادا إلى غرفة الجلوس :" أعتقد ان كل ماتحتاجين إليه موجود في هذا الكوخ."
استطاعت أخيراً , أن تظهر على وجهها ابتسامة خفيفة وأن تجيب بصراحة :" نعم أعتقد ذلك , هذا المكان مريح جداً."
"حسناً , إلى اللقاء في السابعة صباحاً , لاتنسي الكريم الواقي من الشمس والقبعة... وكل شيء."
" لن أنسى ." مرة أخرى ارتسمت على وجه سارة علامات التمرد ومرة أخرى كانت تعني بكلامها انها لن تنسى العمل والقطاق ولا يدخل ضمن ذلك بالتأكيد, استعمال الكريم الواقي.
راقبت سارة باستياء , الرجل الطويل الذي كان يعبر الممر عائداً إلى المنزل والكلب السلوقي يسير خلفه .من بين جميع الرجال الذين قابلتهم وحاولوا التدخل في حياتها , كان هذا الرجل هو الأكثر وقاحة . من المفترض أن تطيعه في شؤون العمل وواجباته , فهو المشرف على العمل ورئيسها , ولكن كيف يتجرأ على اعطائها أوامر شخصية مثل وضع الكريم! بخلاف ذلك , فهي تريد اكتساب اللون البرونزي في أقصر وقت ممكن وهذا يعني التعرض لأشعة الشمس لأطول وقت, لا أن تلف جسمها بالملابس وتغطي بشرتها بالمساحيق الواقية, فهذان الشيئان هما في أسفل قائمة اهتماماتها. رفعت سارة ذقنها عفوياً، دلالة على التحدي وقالت في نفسها , غداً في الصباح ستوضح لفيك انها ليست بصدد اطاعة أوامره أو الأخذ بنصائحه.
سمعت سارة قرعاً على الباب عند الأصيل في هذا اليوم الصيفي الطويل, ولما فتحته وجدت كيت واقفة بالباب وهي تحمل بعض المناشف .
"تفضلي بالدخول!" قالت سارة وهي تنحني على جهاز المذياع لتخفف صوته .
"سوف تحتاجين إلى المناشف ." تفادت كيت , تلاقي نظراتها مع نظرات سارة :سأضعها في الخزانة."
"شكراً لك." ابتسمت سارة لها.
" لم آت إليك بغية جلب المناشف فقط." تكلمت كيت وراسها لايزال داخل الخزانة , مما جعل صوتها , وكان أحداً يحاول اخماده:" أنا مازلت أشعر بالأسف لما بدر مني هذا الصباح , لقد أطلقت العنان لغضبي ! وأريد أن أوضح الأمر . وأن اخبرك ...."
" لاعليك, أنسي ذلك." شعرت سارة بالارتياح لأن ضوء الغروب الخافت ساعدها في اخفاء تعابير وجهها :"لا يوجد داعٍ...."
ولكن كيت رفضت أن تترك الموضوع ." نعم هناك داعٍ لذلك , لقد أخطأت الظن وعندما قلت إن اسمك هو سارة, وإنك أتيت من انكلترا . لقد ظننت انك سارة الأخرى." أحست ان لهجة كيت تغيرت دفعة واحده واصبحت أكثر حده وعدائية."لم أكن لأترك تلك الفتاة تتخطى عتبة الباب من دون أن أحذرها من الاسترسال في مخططها, ولم أكن لأدعها تحصل على مرادها , انها..."
"عن إذنك ." قاطعتها سارة بيأس:" هل تريدين شرب القهوة؟"
رفضت كيت العرض بحركة من يدها:"لا، شكراً ... حسناً , وكما كنت أقول , حدث كل هذا منذ زمن بعيد. ستيفن , ابن أختي , الذي يملك هذا الكرم , قرر في أحد الأيام أن يقوم برحلة إلى أوروبا, بعد أن أمضى سنين عديدة يعمل في صن فالي, كي يتعرف عن كثب إلى الوسائل الحديثة في زراعة العنب. وفي طريق عودته , بقى في لندن عدة أسابيع, تعرف خلالها بفتاة انكليزية....كان اسمها كاتي....وفي وقت قصير أعلنا خطبتهما." لاحظت سارة أن كيت أطبقت شفتيها حنقاً وهي تتابع :"أوه ،هذه الفتاة كانت تعرف تماماً ماتريد , عندما استطاعت اقناعه بالزواج منها بعد ثلاثة أسابيع من لقائهما."
أرادت سارة الاعتراض على ماتقوله كيت, ولكنها امتنعت عن ذلك وجهدت لتركز أفكارها المضطربة على ما تقوله هذه المرأة بلا رحمة.
"لقد غرق ستيفن من رأسه حتى اخمص قدميه في الحب,أو هو ظن ذلك. عندما رجع إلى صن فالي كان رأسه مليئا بمشاريع مستقبيلة . وقد صمم على أن يبني منزلاً جديداً ليكون جاهزاً للسكن عندما تصل كاتي إلى البلاد ويتزوجها , فقد كان لايتحدث إلا عنها." تغيرت نبرات صوتها الغاضبة فجأة وأصبحت ناعمة :" لقد كانت صدمة قاسية عليه عندما علم انها قتلت في حادثة تصادم وهي في طريقها إلى المطار."
لم تستطع سارة العثور على الكلام المناسب كي ترد به على كيت. ولكنها لم تهتم لذلك , لأن كيت تابعت سرد قصتها بعينين مليئيتن بالقسوة والتحامل:"على أي حال , كانت لكاتي التي تكلمت عنها شقيقة صغرى تدعى سارة, وأنا أحتفظ في مكان ما هنا بصورة لها مع شقيقتها كاتي وستيفن.إنها فتاة نحيلة القد, شعرها مجدل خلف رأسها مثل ذيل الحصان.لقد حشرت نفسها في الصورة بينهما. ويبدو, من الصورة , أن هذه الصغيرة ماكرة جداً, لقد كانت دائماً تتملقه..."
" ماذا تعنين بقولك؟" قاطعت سارة وقد أصابتها الحيرة من كلام كيت السريع." إنها كانت تتملقه؟"
أوه , أنت تعرفين , لقد استمرت في كاتبة الرسائل له, سنة بعد سنة, بعد وفاة شقيقتها ثم اتبعتها بارسال بطاقات التهنئة بعيد الميلاد لسنوات عدة.كانت تحاول اذكاء نار الذكرى في رأسه , وأن تبقى في وجدانه!"
حتى لو حاولت سارة, لما استطاعت الكلام, لأنها كانت تشعر بالاختناق. وكانت كيت تتكلم بسرعة انفعالية, ما الذي تقوله الىن؟ شيئاً ما عن الوصية؟ "وهكذا عندما مات ستيفن فوجئنا بأسوأ شيء يمكن أن يقع! فعلى مابدا , كتب ستيفن وصية في لندن حينذاك وفيها يهب كل ما يملك إلى الفتاة التي كان ينوي أن يتزوجها , وفي حال وفاتها ينتقل الميراث إلى أقرب أقربائها. وهكذا ورثت الصغيرة كل شيء وهي التي عرفها طفلة لوقت قصير ومنذ زمن طويل .لاشك انها أصبحت فتاة شابة الآن وأراهن انها لاتزال تتمتع بهذه الإرادة الشيطانية . وفي اعتقادي ان شقيقتها كاتي كانت قد أخبرتها عن الوصية قبل وفاتها.وهي بالطبع لم تنس ذلك, أكاد انفجر من الغيظ." قالت كيت وقد ازداد غضبها وانفعالها :"عندما أفكر أن كل هذا المكان قد اصبح ملكاً لها، وكل ذلك, لأن الوقت لم يسنح لستيفن كب يكتب وصية جديدة."
" وماذا عن فيك.....؟"
لم تستطع ان تخفي نبرة الخوف في صوتها , ولحسن الحظ لم تلاحظ كيت, الفرق.
"فيك أصغر عمراً من ستيفن , انه شاب ويعشق العمل في الكرم, عندما رجع ستيفن من أوروبا , اتخذ فيك مساعداً له , ودربه على كل مراحل صناعة الشراب, من زراعة الشتلات إلى تعبئة القوارير , وبعد ذلك أصبحا شريكين متساويين في صن فالي, ليس قانونياً بالطبع , لأنهما لم يجدا الوقت لكي يجلسا مع المحامين وينظما الأوراق القانونية . وكان مفهوماً عند الجميع , ان ملكية الكرم بكامله تنتقل إلى فيك في حال حصول حادث ما لستيفن .أما الآن...." خفت صوت كيت تدريجياً وخيم صمت بينهما.
سألت سارة كيت عن أمر كان يدور في مخليتها:" هل توجد صلة قربى بين فيك وستيفن؟" هل من المعقول أن يكون هذا الصوت الأجش والغليظ الصادر عنها هو صوتها؟
ترددت كيت قليلاً:" إنه من الأقرباء البعيدين , ابن , ابن, ابن عم أو شيء مثل هذا, من المضحك أن يكون هذا الجزء البسيط في عروقه من الدم اليوغسلافي هو الذي أكسبه كل خبرته وعشقه لصناعة الشراب . والتي
لايملكها إلا اليوغسلافيون الاصليون . وبرغم بُعد قرابتهما فقد كان ستيفن يعتبر فيك قريبه الوحيد . وكان يهتم به ويحترمه.
كانت الصدمة مروعة عندما مات ستيفن فجأة . كل واحد كان يعرف ان من البديهي أن يرث فيك صن فالي ، ولكن الآن ... وهذا ما يجعل الجو مشحوناً بالتوتر . صن فالي تختلف عن غيرها من معامل الشراب الموجودة في هذه المناطق . انها أصغر كثيراً من المعامل الأخرى . أما فيك ... حسناً ،أؤكد لك القول أن صن فالي بالنسبة له ليست كرم عنب وصناعة عملاً يقوم به فحسب ، انها محور كل حياته ،أما الآن ، فأنت قد فهمت ..." ألقت كيت بنظرة وَجِلة من تحت أهدابها ." ... لماذا تصرفت معك على هذا الشكل عندما قابلتك في الصباح؟"
" لاتقلقي ." حاولت سارة أن تجعل صوتها رقيقاً وودياً :" بالنسبة لي ، لقد نسيت ما حدث هذا الصباح ." وفكرت في نفسها ، هل هي تستطيع بالفعل أن تنسى ما حدث؟
عندما استيقظت سارة بعد ليلة طويلة قلقة ، قضتها متقلبة في فراشها ، شعرت للوهلة الأولى بالاستغراب لوجودها في مكان غير مألوف . ثم أدركت سريعاً ونظرت إلى ساعة المنبّه الموضوعة على الطاولة بجانب السرير ، انها نسيت أن تضبط المنبّه بسبب انفعالها واضطراب أفكارها . مع ذلك كان لايزال هناك متسع من الوقت لكي تصل إلى الكرم في الوقت المحدد ! صبت لنفسها كوباً من اللبن وهي لاتزال مرتدية ثياب النوم، وحمصت قطعة من الخبز وحضّرت فنجاناً من القهوة ، ثم بدأت تبحث عن شيء ترتديه بين ملابسها القليلة . كانت مصممة على أن ترتدي ملابس تشكل تحدياً لأوامر فيك المتعجرفة . اختارت قميصاً من اللون الأصفر لا يغطي إلا القسم الأعلى من صدرها ، وبنطالاً قصيراً (شورتاً) ملائماً معه. هكذا تستطيع أن تفهم فيك وجهة نظرها ازاء أوامره وهو الذي يعتبر نفسه السلطة العليا في ما يجب أن ترتديه الفتيات أو في ما يجب وضعه من مساحيق على بشراتهن . زمت سارة شفتيها وقالت في نفسها ، آن الآوان لفيك كي يعرف حجمه الحقيقي.
بعد قليل ، مشت سارة على الطريق المنعطفة المغطاة بالأعشاب لتنضم إلى النساء الأخريات اللواتي تجمعن عند بداية صفوف العرائش ، فيما كان فيك يوزع عليهن سلال البلاستيك الزرقاء.
عندما اقتربت منهن ، قابلتها ابتسامات الترحيب وردت عليهن بتلويحة من يدها وابتسامة ." هذه هي سارة ." قدم فيك سارة للأخريات.
"أهلاً يا سارة ، أنا سعيدة لوجودك معنا ! تعالي وانضمي إلينا !" تلقت سارة هذه التحيات المرحبة بها ومن ثم تفرقن في كل اتجاه بين العرائش للبدء في قطف عناقيد العنب.
وقف فيك وحده ، يبدو منشرحاً وحنوناً ، ولكنه لم يفت سارة رؤية انطباق شفتيه الشديد على بعضهما ولا شرر الغضب المتطاير من عينيه الداكنتين.
تعمدت سارة أن تمشي نحوه ببطء ، على العشب الرطب من جراء الندى ، واصطنعت ابتسامة ." أرجو ألاّ أكون قد تأخرت عن العمل."
" لا ، أنتِ لم تتأخري ." نظرته الباردة كانت مخيفة .
" حسناً ، لقد كنت خائفة من ذلك ." رمقته بنظرة من تحت أهدابها وقررت أن تأخذ زمام المبادرة :" أنت لاتبدو انك راضٍ عن أي شيء!"
التعابير التي ظهرت على وجه فيك كانت رائعة ." نعم أنا غير راضٍ ، ولا تدّعي انك لا تعرفين لماذا !" نظرة الاستخفاف التي رماها فيك بها ، ضايقتها تماماً ." أنا غير راضٍ عن هذه الملابس غير الملائمة ليوم عمل تحت أشعة الشمس المحرقة . ومن دون الكريم الواقي أيضاً!"
" هذا صحيح ." وافقت سارة معه ." من دون الكريم الواقي."
تحولت نبرة صوته ، فجأة ، إلى برودة الفولاذ ." لماذا لم تفعلي كما طلبت منك ؟ لماذا لا تحمين نفسك من الشمس؟"
رفعت سارة ذقنها الصغير ." أنا غير ملزمة بأن أفعل ما تطلب مني!"
" حقاً؟" نبرته المطاطة كانت تنطق بالعدوانية .
برغم ما صممت عليه ، في قرارة نفسها ، في أن لاترتبك أمامه وأن لا تضعف تحت تأثير قوة شخصيته ، فقد صعقها شعاع حقل قوته وسيطرته الذي أحست به في الدقائق الأولى من لقائهما الأول . ذكّرت سارة ، بتردد ، نفسها بأن فيك هو رئيسها في العمل وأرادت استدراك ما قالت ولكنها أخطأت ثانية عندما قالت :" على أي حال أنا غير ملزمة باطاعة أوامرك في ما يتعلق بي شخصياً."
" اسمعي ...!"
كان فيك في قمة الانفعال وأحست سارة في لحظة مجنونة ، انه أصبح على استعداد لضربها . ولكن بدلاً من ذلك أمسك معصمها بشدة آلمتها . وأحست أن أصابعه قد انغرزت في جلدها . وحاولت بشراسة التخلص من قبضته.
" دعني أذهب ،أنت تؤلمني !"
ترك فيك يدها ولكن غضبه لم يفتر . أخّت سارة نفساً عميقاً وسريعاً ؛ هل هي تخطت الحدود في تحديها له ؟ هل هي ذهبت بعيداً في ذلك الأمر حتى
تثير كل هذا الغضب الذي اقترب من حافة استعمال العنف ؟ ونظرت إلى معصمها الذي ما زالت آثار أصابعه ظاهرةٌ عليه وقالت :" كل هذا الغضب لأني أردت تعريض بشرتي ، قليلاً ،لأشعة الشمس ، هذا أمر سخيف!"
" هذا ما تظنين ." أجابها فيك بصوت لاذع كالسياط.
" هذا تماماً ما أظنه ." لم تشعر بمثل هذا الغضب في حياتها تجاه أي انسان ." أشعة الشمس ، وكثير منها ، هو ما أسعى إليه في هذه البلاد ، فلماذا أحمي نفسي منها الآن؟"
" لأني طلبت منك ذلك ..."
" وأنا لا أخاف مناوراتك المرعبة ..."
" أنت لا تخافين ، ها ." كز على الكلمات بشدة :" إذا هيا إلى العمل ."
احمرت وجنتا سارة غضباً وأجابت :" هذا ما أنوي أن أفعله تماماً!" ورمت برأسها إلى الوراء تحدياً ، مما جعل شعرها يتطاير حول خديها . انحنت والتقطت سلة البلاستيك الكائنة على الأرض قرب قدميها ، ومن دون أن تنظر إلى الوراء ، أسرعت باتجاه أقرب عريشة . وجدت سارة العمل ممتعاً في الساعات الأولى . وراقبت العاملات كيف ينتقين ويقطفن العناقيد الناضجة وهن يتنقلن ببطء من عريشة إلى أخرى . وكان بامكانها اخفاء ضيقها لولا خوفها من العناكب المعششة بين العناقيد والحشرات التي تطير حولها.
" يا إلهي ، يبدو أن هذا اليوم سيكون حاراً محرقاً." قالت فتاة كانت تعمل بالقرب من سارة :" أنظري إلى هذا !"
نظرت سارة إلى حيث أشارت الفتاة ورأت ميزان حرارة معلقاً على عمود في منتصف صف العرائش.
" أنت جديدة هنا ، أليس كذلك ؟" سألتها الفتاة النيوزيلندية بلطف.
" نعم ." توقفت سارة لحظة كي تضع العناقيد التي قطفتها في السلة ." أنا من انكلترا ، هل تصدقين ذلك؟"
ضحكت الفتاة :" أوه ، أنا أصدق ، بمجرد أن أنظر إليك ، إذا كنت لا تمانعين في اخبارك؟"
" بالطبع لا!"
" في نهاية هذا اليوم ستبدين كالدجاجة المشوية بسبب حروق الشمس ." ثم أضافت بشيء من الدهشة :" ألم يُعلِمك فيك عن الملابس التي تلائم العمل في القطاف ، وعن طرق الوقاية ؟"
رفعت سارة رأسها قليلاً ، وأدركت ان هذه الحركة قد أصبحت عادة
عندها منذ وصولها إلى نيوزيلندا ." نعم ، لقد فعل وقد أجبته بأني غير ملزمة بإطاعة أوامره في هذا الشأن !" ولم تستطع سارة أن تخفي نبرة التحدي في صوتها.
ضحكت الفتاة الأخرى وقالت :" اذاً ، هكذا تصرفت ؟ اسمعي ، أنا أحمل بلوزة بكمين طويلين للاحتياط ، كما جلبت معي الكريم الواقي ، أنت على الرحب في استعمالهما إذاً..."
" لا ، شكراً." هزت سارة رأسها ." سأكون بخير ، لكني لا أستطيع الانتظار طويلاً كي أكسب اللون البرونزي مثل بقية العاملات هنا ."
ظهرت الجدية على وجه الفتاة المرح ." سيكون ذلك مؤلماً للغاية ..."
" لايهم ذلك ." قالت سارة بخفة :" إن ما أسعى إليه جدير بدفع ثمن كهذا ." وأضافت وهي تغير الحديث :" أخبرني ، ما هي هذه الطيور الصغيرة التي ترفرف بين العرائش؟"
أدركت الفتاة أن لاجدوى من متابعة الحديث حول الملابس وحول خطر حروق الشمس في هذه البقعة من جنوبي الباسيفكي والثغرة في طبقة الأوزون ." يسمون هذه الطيور ذيل المروحة ، إنها طيور جميلة أليس كذلك ؟"
ولكن سارة لم تسمع شيئاً في هذه اللحظة ، وفجأة ، ترددت صرختها في أجواء المكان :" النجدة " وقفزت متراجعة ، فتعثرت بسلة العنب ، التي انقلبت ونثرت العناقيد التي فيها على الأرض . اتسعت عيناها وهي تحدق بخوف ودهشة في حشرة كبيرة سوداء ذات قرنين طويلين وخطرين.
هرعت إليها الفتاة التي كانت تتحدث معها ." أنظري ."
قالت سارة وهي ترتجف من هول الصدمة ، ثم صرخت ثانية وهي تشاهد قرنيها العدائيين يتجهان نحوها :" إلى هذه الحشرة اللعينة ..."
" ما الخطب ؟ من أطلق صفارة الإنذار ؟" أتى فيك مسرعاً من بين العرائش باتجاهها ." هل هذه أنت يا سارة ؟" وقف إلى جانبها ." هل لسعتك العنكبوت؟"
" ليست عنكبوتاً ..." قالت وهي ترتجف من الخوف :" انه هذا الشيء اللعين والمخيف ، لقد زحفت من داخل العريشة وهاجمتني !" فركت سارة رسغها في موضع اللسعة التي بانت احماراراً على جلدها.
" يبدو انك هززت عشها ." قال فيك :" دعيني أرى موضع اللسعة ."
مدت يدها إليه . ونظر إليها ضاحكاً ." لا شيء خطراً أو جدياً أصابك من هذا الشرس الذي لا رحمة في قلبه ، هذه العنكبوت العنيفة تبدو مخيفة
أكثر مما هي الحقيقة ، ما يجعلها مخيفة هو قرنا الاستشعار الطويلان . إذا حشرت في زاوية ، تلسع ولكنها تكون خائفة منك أكثر من خوفك منها."
" لا شك انها كذلك ." أحست سارة بالحاجة لضرب نفسها لأنها جبانة . صرخت وتأوهت وأقامت الدنيا وأقعدتها بسبب حشرة غير مؤذية ، حسناً ، تقريباً غير مؤذية ، ومن السخرية أن يكون أول من هرع إليها هو رئيسها فيك وشهد على جبنها وخوفها الذي لا داعٍ له!
" خذي قسطاً من الراحة في الظل ." قال :" سأجلب علبة الاسعافات الأولية من البيت ، احتياطاً." قادها بين العرائش إلى ظل شجرة ، وفي هذه المرة لم تعترض سارة على طريقته المتعجرفة في التصرف معها.
شعرت سارة ، في الظل ، بالهواء المنعش المعطَر برائحة الصنوبر. وأحست بالراحة عندما ألقت بنفسها على العشب الأخضر . ولم تشعر بالوقت يمضي إلا عندما عاد فيك ومعه انبوبة من مرهم طبي.
بينما كان فيك منحنياً فوقها ، يضع المرهم المُعَقِم فوق البقعة الحمراء على رسغها ، لامس شعره الأسود خدها ، وأحست ان لمسته قد هزت أعماقها بطريقة لم تستطع معها السيطرة على نفسها . شكراً للسماء لأنه استعمل لمسته في ازالة نتائج اللسعة . رفعت رأسها في هذه اللحظة ورأت لبرهة الشرر يتطاير من عينيه وأدركت انه أحس بتأثير لمسته عليها ، يا للعنة ! وسارعت بشراسة إلى القول :" لقد هزتني هذه التجربة ، أنا غير متعودة على وجود حشرات بهذا الحجم ." ... أو متعودة ‘لى رجل يستطيع التأثير على عواطفي بلمسة من أصابعه ... فكرت سارة في سرها.
نفضت سارة من رأسها هذه الأفكار بسرعة ، وعادت لتستمع إلى النبرة المطاطة .
" ستتعودين عليها ." تمتم وكأنه يتحدث إلى شخص آخر :" هل تشعرين بتحسن ؟ هل يمكنك العودة إلى العمل ؟ إذا كنت تفضلين ..."
" بالطبع أستطيع العودة إلى العمل ." أكدت سارة له ووقفت ، دلالة على قدرتها :" لقد ضيعت الكثير من الوقت !"
بينما كانا يسيران معاً للالتحاق بالعاملات اللواتي كن يتحركن ببطء بين العرائش ، تساءلت سارة في ما إذا تخيلت ، رؤية نظرة اعجاب في عينيه.
ارتفعت درجة الحرارة ورطوبة الجو غلى درجة الاختناق عندما اقتربت الشمس من قرص السماء الزرقاء الصافية ، وبَدأت سارة تشعر باحتراق بشرتها وذراعيها ورقبتها ، وأخذت تمسح العرق الذي كان يتصبب منها.
جلبت كيت للعاملات في الكرم عصير الفاكهة اللذيذ والمثلَج ، عدة مرات خلال النهار ، وجلست سارة في فرصة الغداء بجانب الأخريات في ظل شجرة عملاقة وشاركتهن الطعام وشرب العصير المثلَج.
كانت رفيقاتها في العمل ، مجموعة من الفتيات المرحات وقد ألقين عليها أسئلة متلهفة عن انكلترا ، وهل شاهدت مسارح لندن ومعارضها الفنية ، التي كنَّ قد قرأن عنها في المجلات السياحية ؟
هزت سارة رأسها نافية :" أنا لم أكن أعيش في لندن ، إلى جانب ان الانتقال إلى لندن والاقامة ليلة واحدة في الفندق لمشاهدة عرض مسرحي ، هما أمر باهظ الكلفة ."
" نعم ، أنا أصدق ذلك ." لقد علقت احدى الفتيات على ما قالته سارة عن جانب من الحياة في لندن لا يعرفنَّ عنه شيئاً :" لا شك انك قترت على نفسك كثيراً كي توفري ثمن التذكرة إلى نيوزيلندا لتمضي العطلة ؟"
حولت سارة نظرها عنهن وقد شعرت بالأحراج ، وأخذت تقتلع العشب الذي تحت قدميها . شعرت بالإعياء قليلاً لأنها تخدع هاتيك الفتيات الطيبات اللواتي ساعدنها في قطف العنب ، وأبدين اهتماماً بسلامتها من أشعة الشمس على بشرتها الانكليزية الناعمة .
قطعت ضحكة نسائية على سارة تأملاتها الغير سارة .
" من حسن حظك يا سارة ، انك لم تُأخذي بجريرة الفتاة التي ورثت صن فالي !" جمدت سارة وتوقفت اللقمة في حلقها .
" يقال انها تعيش في انكلترا ." أكملت الفتاة حديثها :" ولكن إذا كانت بالفعل تقيم هناك ، فإن المحامين لا يستطيعون اعثور عليها ، لقد مضى أكثر من سنة على وفاة ستيفن ، وربما لن يعثروا عليها أبداً ..."
" وبهذا ، يستطيع فيك أن يبقى في صن فالي إلى الأبد وتبقى الأمور على ماهي عليه ." قالت فتاة أخرى :
" إن الأمور لن تبقى كما هي ." تدخلت ثالثة في الحديث :" هو فعلياً المدير والمشرف على الكرم ، ولكنه ليس المالك ، برغم أن من حقه أن يكون المالك ولكنه ليس كذلك . هو سيستمر في ملء الفراغ الحاصل حتى ظهورها ."
همس صوت نسائي آخر ، بنعومة :" ربما تأتي إلى هنا ويقع فيك في حبها بجنون ، ويتزوجان ويصبح شريكاً حقيقياً ثانية ، كما كان الحال مع ستيفن."
" لا تتكلمي بهذه البلاهة !" ارتفعت عدة أصوات دفعة واحدة :" هل حقاً تعتقدين ان فيك سيبتلع كبرياءه ويسترجع حقه في الكرم بهذه الطريقة ؟
سيكون في موضع ... مغتصبي الثروات ... على أي حال ، ستكون هذه وجهة نظره ."
" ولكن صن فالي هي محور حياته كلها ، ومن الممكن ..."
" أبداً!"
" ولكن إذا أحبها ، أحبها فعلاً ، وأنا أعني ..."
" لن يهمه ذلك في شيء ، ليس فيك ، تصوري أن يطلب من الفتاة التي تملك المكان أن تتزوجه ! هذا آخر شيء يمكن أن يفكر به ، حتى ولو كان يحبها لدرجة الجنون ، أنت تعرفين مدى كبريائه !"
ط مهما يكن ." تدخلت فتاة جديدة في الحديث بصوت هادىء :" ربما لايزال يحب لين ." أثارت هذه الجملة انتباه سارة وأخذت تنصت باهتمام ، لم تستطع منع نفسها عنه .
" كلاهما لم يتزوجا حتى الآن ، أنتنَّ تعرفنَّ هذا النوع من العلاقات الغرامية ، عندما لا يبدو على الطرفين انهما سعيدان مع بعضهما ، ومع ذلك يفتقدان بعضهما البعض عندما يفترقان !"
اختلطت الأصوات في أذني سارة ، كانت تشعر بغرابة .
تقريباً مريضة . برغم انها لم تقل ذلك لأحد . شعرت بوجع قاتل يضرب صدغيها ، وأصبحت لسعة العنكبوت التي ظنت انها لن تسبب لها المشكلات أشد ايلاماً من قبل.
قطع صوت ودي عليها أفكارها :" هل تؤلمك لسعة العنكبوت ؟" سألتها فتاة حمراء الشعر ذات وجه مستدير .
" سأضع مرهماً على موضع اللسعة !" سحبت الفتاة أنبوبة من جيب بنطالها الجينز القديم وأخذت تضع منه على البقعة الحمراء على رسغ سارة ." ستكونين على ما يرام ، أليس كذلك ؟" ولكن نبرة صوتها اللطيفة تحولت فجأة إلى نبرة هلع لأنها رأت لون سارة قد شحب تحت لون الاحتراق على خديها .
تمالكت سارة نفسها ومرت لحظة الشعور بالدوخة ." أنا بخير ... أقسم بذلك!"
بعد ذلك ... لم تستطع سارة أن تتذكر إلا القليل عن عصر ذلك اليوم الذي بدا بلا نهاية . شعور مشوش بالحرارة والألم والإرهاق . انتهى العمل أخيراً ، وتسلم فيك آخر كمية من العنب ووضعها على الجرار وأخذها إلى القبو ، وتعثرت وهي تسير على الطريق إلى الكوخ كالعمياء . وترمي بنفسها على السرير عندما وصلت . مغبّرة ، منفوشة الشعر ، ملطخة بالبقع من عصير العنب الأحمر ، ومبللة بالعرق. لم تشعر سارة إلا بوجع
رأسها ، والألم في ظهرها والأحساس بأن جلدها كله قد شُوي على النار شيّاً . مع حلول الأصيل برد الجو قليلاً ومع ذلك كانت تشعر بارتفاع درجة الحرارة ، وتشعر بالعطش أكثر فأكثر.
وفي وقت ما ، خلال ساعات الليل ، انطبع في ذاكرة سارة الهاذية ، يدان تضعان كوباً من الماء على شفتيها الجافتين وصوت آمر يقول :" اشربي هذا ، سيخفف عنك الحمى ."
وشعرت بقطعة قماش باردة ، توضع على جبينها الذي يؤلمها ، وبأغطية سرير باردة . وأحست بمرهم يلامس بشرتها . بعد ذلك دخلت في غيبوبة أراحتها من العذاب.
الفصل الرابع
استيقظت سارة من غيبوبتها ، فيما كانت السماء موشاة باللون الزهري ، وبقيت من دون حراك ، تحاول أن تتذكر من خلال أفكارها المشوشة ، ما حدث لها في الساعات الأخيرة التي مضت .
كانت متأكدة من أمر واحد فقط ، أنها تشعر بوهن . وضعت قدميها على أرض الغرفة وأحست أنها مترنحة قليلاً . شعرت سارة بالعطش ودلفت إلى غرفة المطبخ المجاورة لغرفة النوم ، توقفت هناك ! هل هي لا تزال تعاني من الهذيان ؟
تساءلت وهي تحدق في فيك الذي رأته مستلقياً على جانبه اليسر على الأريكة ، وكان شعره مشعثاً ومايزال يرتدي ثياب العمل المتسخة ، التي كان يرتديها بالأمس.
مشـت ، إلى حنفية الماء ، حافية القدمين وملأت كوباً من الماء البارد . حاولت أن لاتحدث أي صوت لكي لا توقظ فيك ولكن عندما استدارت وجدته يراقبها باهتمام.
" سارة ، هل أنت بخير الآن ؟" سألها وقفز على قدميه ولاحظت أن عينيه تلمعان بعاطفة لم تستطع تفسيرها . هل هو الاطمئنان ؟ مستحيل ! قالت سارة في نفسها.
" نعم ، بالطبع أنا بخير ." دفعت بشعرها المثقل بالغبار والعرق إلى الوراء . " ماذا تفعل هنا ." سألته بغباء ، ثم استدركت بعد ثوان وتكلمت ببطء :" لقد فهمت ... لقد أمضيت الليل كله ، هنا؟"
" هذا صحيح ." مرة أخرى سمعت هذه النبرة المطاطة :" لقد كنت بحاجة إلى من يسهر عليك ، لأنك كنت غائبة عن الوعي وتهذين ."
رفعت سارة حاجبيها المثقلين تعجباً :" كنت أهذي ؟"
قرعت أجراس الخطر في رأسها على الفور . هل ذكرت في هذيانها ما يمكن أن يفضح سرها ويهدم كل مخططاتها ؟
قالت وهي تتنفس بصعوبة :" ماذا كنت أقول في هذياني ؟ أعني ، ربما ، هل نطقت بكثير من التفاهات؟"
" بالتأكيد فعلت ، كنت كمن ينادي بوقوع جريمة قتل غامضة وتصرخين طالبة المساعدة من العناكب التي تلاحقك في غرفة ما . كان صوتك أشبه بصوت ممثلة تقوم بدورها في فيلم رعب! وقد وجدت من الأفضل أن أبقى إلى والتأكد من سلامتك."
تنهدت سارة بارتياح . كل شيء على ما يرام وسرها لا يزال بأمان . جلست على الكرسي الذي كان بجانبها وشربت الماء البارد ." أنا لم أفهم بعد ، ما الذي حصل لي ليلة البارحة ."
" لقد اصبت بضربة شمس! هذا كل ما في الأمر ."
وانتظرت أن يؤنبها ويقول - لقد حذرتك – ولكنه لم يفعل.
" لقد اعترتك حمى قوية استمرت عدة ساعات ، وكما يظهر الآن ، فإنها زالت عنك."
" يا إلهي ." صرخت سارة وهي ترى انعكاس صورتها في المرآة ، شعرها الأشعث ، عيناها المحاطتان بدوائر سوداء ، وجهها وذراعاها وكتفاها مصبوغة بلون قرمزي بشع . " كم أبدو قبيحة !" شهقت واستدارت نحوه :" برغم ذلك ، ساساعد في القطاف اليوم ! وسأكون في أفضل حال بعد أن أستحم بالماء البارد ." ادركت سارة فجأة أنها لم تخيب أمل فيك فيها ، على الرغم من أنها خيبت أمله فيها بشكل سيىء ، وهو لا يعرف بخداعها المستمر . " يجب أن أعود إلى العمل . لقد أعطيتك وعداً."
نظر إليها مُقيماً ." لا قطاف اليوم ." قال لها وشعرت أنه يعني ما يقول ." انسي ذلك ." قاطعها عندما لاحظ أنها اندفعت للاعتراض :" لقد استبدلتك بفتاة أخرى اليوم !"
" ولكن ماذا أستطيع أن أعمل ، إذاً؟"
" لا ضرورة ، لأن تعملي أي شيء اليوم ." استغربت سارة رقة صوته ." إن الغد ليس ببعيد ، كي تعملي ثانية ."
" انا لا أقبل بذلك ." أصرت سارة بعناد :" أريد العودة إلى العمل ، اليوم ."
هز فيك كتفيه العريضتين . " بامكانك الذهاب إلى المكتب ساعة أو ساعتين ، إذا شئت ، ووجدت أن صحتك قد تحسنت كفاية ." لقد تحول ثانية إلى رئيسها في العمل ، دفعة واحدة ، وبدأ يتكلم بنبرة باردة وعملية وواقعية ! هل من المعقول أن يكون هو الرجل نفسه الذي سهر عليها طول الليل ؟
" شكراً." قالت سارة بصوت متعثر .
بانت على وجهه ضحكة متهكمة وكسولة يبدو انه يحتفظ بها لأجله فقط ." شكراً ... على ماذا ؟"
ترددت لحظة ." أنت تعرف ." واضافت بصوت خافت :" لأنك ساعدتني في التغلب على ضربة الشمس."
" أوه ، من أجل ذلك ." ظهرت ابتسامة حائرة على فمه ." لم أفعل أكثر من ابقاء التنين بعيداً."
لمعت عينا سارة الخضراوان وابتسمت له باغراء ." مثل فارس الأحلام الذي يأتي مرتدياً دروعه البراقة ، أليس كذلك ؟" وتنمت سارة فجأة لو قُطع لسانها قبل أن تتلفظ بهذا الكلام وهي ترى النظرة الباردة التي كان يرمقها بها.
" يمكنك القول ، إنه شيء من هذا القبيل ، كيت مدت يد المساعدة أيضأً ." نبرته الخالية من أي تعبير جعلتها تشعر وكأنها طفل تلقى التأنيب تواً من شخص راشد ، وسرت في نفسها ، لأن لون الاحتراق القرمزي قد أخفى احمرار وجهها من جراء تدفق الدم إلى وجنتيها.
يا للسماء ! كانت سارة تغلي في داخلها ، هل أساء فهم كلامها وظن انها تستميله ؟ لا شك أنها ردة فعل عادية عنده وهو الذي اعتاد ملاطفة الفتيات الحالمات اللواتي وقعن تحت تأثير جاذبيته ورجولته ووسامته . أما هذه الفتاة – سارة -؟ أبداً ! سيكون صعباً عليها طوال الأسابيع القادمة أن تحتفظ بسرها وأن تعمل إلى جانبه في آن ، ومن دون أن تضيف إلى ذلك خطر التشابك العاطفي . لأن هذا سيعقد الأمور كثيراً . وهي لا تعرف حتى هذه اللحظة إذا كان منجذباً إليها بصراحة ، اعترفت سارة في نفسها ، ليس هناك من شيء لا تستطيع معالجته.
انتبهت سارة ثانية لنبرات صوته العميقة ، إذ قال :" عليك أن تستريحي اليوم وباستطاعتك تسلَم العمل في المكتب وفي المخزن حيث تقومين بخدمة الزبائن ، من الآن ... حسناً؟ سوف أراك في الغد !"
" لا ." ردت عليه بحزم :" سوف تراني اليوم."
" إذا كنت واثقة من قدرتك على ذلك ." قال بعد تردد.
وأقسمت سارة في نفسها أنها سمعت كلاماً لم ينطق به :" انت لا تتعلمين أبداً ، أليس كذلك يا سارة ؟"
" بالطبع يمكنني ذلك ! أنا الآن في أحسن حال !" قالت سارة بثقة وبصوت مرتفع.
" أنت ، بالتأكيد ، مثل الشيطان ، لا يمكن معاقبته ." قال لها ضاحكاً بسخرية وخرج من الكوخ.
قالت سارة ، وقد أصبحت بمفردها في الغرفة ، في نفسها . إنها يجب أن تتحسن وتعود لها قوتها ، وإن الاحساس بعدم التوازن سيزول عنها سريعاً ، وكل ما يهمها الآن هو أن تبرهن عن نفسها وعن مقدرتها أمام رئيسها الذي لا يُحْتَمل .
ازال الحمام البارد بقع عصير العنب والغبار والعرق عن جسمها ، وشعرت بالنضارة والحيوية ثانية . وتحول شعرها بعد غسله بالشامبو
والماء البارد إلى خصل حريرية الملمس ، جففت نفسها بإحدى المناشف التي جلبتها كيت وعالجت حروق الشمس المؤلمة على بشرتها الحمراء ، بعد أن وجدت على الطاولة مرهماً كان له فعل ساحر على خديها الملتهبين. كم هي مدهشة الطريقة التي يخفي الماكياج بها ، العيوب التي خلفتها الشمس على جلدها ، قالت سارة في نفسها بعد أن وضعت قليلاً من الماكياج ولكنها بررت لنفسها ، أن اللون البرونزي الذي تريد اكتسابه بسرعة لتظهر مثل نساء نيوزيلندا ورجالها يستحق دفع مثل هذا الثمن.
ارتدت سارة ملابسها الداخلية وحمالة صدر ، ثم ارتدت بنطال جينز حول خصرها النحيل ، وقميصاً قطنياً أبيض اللون بكمين طويلين وياقة عالية ، لقد تعلمت درساً في وقاية ذراعيها وكتفيها . حضرت قليلاً من القهوة ، وحمصت قطعة من الخبز الأسمر ، وضعت عليها مربى فاكهة الكيوي الذي عثرت عليه في الثلاجة .
منتديات ليلاس
خرجت سارة ، في الهواء الطلق المنعش ، واتجهت تحت سماء صافية على طريق مظللة بالأشجار إلى غرفة المكتب.
لم تشاهد أحداً عندما وصلت ، وجلست إلى طاولة المكتب أما الآلة الكاتبة . تفحصت سارة الآلة لتتعرف عليها وبعد قليل شعرت بالثقة لاستعمالها . ركزت اهتمامها على الفواتيرالمبعثرة على الطاولة وحين انتهت من ترتيبها حسب الحروف الأبجدية ، رأت ظلاً ظهر في باب المكتب المفتوح ، ودخل فيك ، بعد لحظة ، متمهلاً واتجه نحوها .
" سارة !" قال فيك مستفهماً.
" لا تتعجب ." وحاولت أن ترميه بأحلى ابتساماتها ." لقد قلت لك إني سآتي اليوم."
وقع نظره على الفواتير الموضوعة بترتيب وقال :" يبدو أنك لم تضيعي أي وقت ." شعرت سارة بسرور غير عادي وهي تلاحظ تعبير الرضى والدهشة في نبرته ." ولهذا نستطيع ، كبداية ، أن نرسل هذه المجموعة بالبريد فوراً."
أضاف فيك وانحنى مقترباً منها حتى أحست برائحة العطر الرجالي تنبعث منه :" من الأفضل أن تتأكدي من بعض الفواتير التي جرت تصفيتها في الأسبوع الأخير ."
" سأفعل ذلك ." وحين نظرت إليه أحست بأنها وقعت ثانية تحت التأثير الكلي لعينيه المليئتين بعاطفة لم تستطع تفسيرها ، واخترقت أعماقها ، ليته لا يحس بارتباك مشاعرها وبالإثارة الغريبة التي تعتريها في مثل هذه اللحظات
قالت سارة في نفسها بعد أن لاحظت أن نبرة صوته المطاطة لم تتبدل ، ومايزال يتكلم كمدير يشرح مهمات عمل الموظف الجديد ، إنه لاداعي للقلق من مشاعره نحوها.
" تعالي معي إلى المخزن ." قال فيك . " سوف أشرح لك وسائل البيع المشبعة هناك."
قاد فيك سارة إلى غرفة المخزن الصغيرة حيث رأت الجدران المغطاة بالرفوف المليئة بقوارير الشراب المختلفة.
" إن عملية البيع هنا ،ليست معقدة ، فالأسعار لا تختلف من صنف إلى آخر باستثناء شراب فاكهة الكيوي . أنا أشتري الكيوي من مزرعة الجيران ، عندما لا تكون بالجودة والحجم المطلوبين للتصدير إلى أسواق العالم."
" ليس من داعٍ لترتيب الأصناف المختلفة ." تابع فيك توجيهها :" باستثناء قواير شراب الكيوي ، الغريبة الشكل ، فإن الصنف الوحيد والمهم هنا هو شراب صن فالي الأحمر!"
" أنا أعرف ." نظرت إليه بسخرية . " للحصول على الكمال في الشراب ... يجب التركيز على صنف واحد فقط ، هذا ما أخبرتني به."
نظر إليها فيك باعجاب وقال :" أنت تتعلمين بسرعة ."
لم تستطع سارة أن تميز ما إذا كان يسخر منها أم لا ، ولكن كي تكون على جانب من الأمان ، قررت أن تلقنه درساً . حاولت إضفاء خفيفة على صوتها وقالت :" أستطيع أن اقترح شيئاً قد يحسن المبيعات ، أعني ..." تجاهلت سارة نظرة الاستخفاف والتهكم التي رماها بها وأكملت وهي تشير بيدها إلى النوافذ الصغيرة العالية ." ... انظر إلى كل هذه القذارة ، هذه النوافذ تحتاج إلى تنظيف جيد ، وبلاط الأرض يحتاج أيضاً إلى مسح والتلميع ." ثم أضافت بشيء من الانفعال :" لو كان هذا المكان ملكي ..." وتوقفت عن الكلام فجأة ، وقد ارتاعت لهول ما كادت أن تتفوه به ، ولدهشتها لم يبدُ على فيك أنه تأثر بالتغير المفاجئ في نبرة صوتها.
فيك اكتفى بالتمتمة وكأنه يتكلم مع شخص آخر :" سأطلب من كيت أن تنظف المكان."
قدحت عيناها شرراً وقالت :" هل أنت متأكد أنها ستفعل ذلك؟"
عض على شفتيه بشدة . لقد أثارت غضبه ثانية ! تذكري ! أنّبت سارة نفسها ، بأنك محظوظة للحصول على أي نوع من العمل هنا . المشكلة يا فتاتي أنك اعتدت على فكرة أن الكرم هو ملكك ، وأنك بالفعل الآمرة الناهية هنا ، انسي ذلك في الوقت الحاضر !
" صباح الخير ." ألقى صوت نسائي التحية ، ورأت سارة كيت تدخل المخزن . وقع نظر كيت الماكر عليها وقالت :" كيف تشعرين الآن ، يا سارة ؟ لم أكن أتوقع رؤيتك اليوم في المكتب؟"
" أنا بخير الآن ، شكراً لك ." من كان يصدق ، تأملت سارة ، أن هذه المرأة الصغيرة ، ذات المزاج السيء ، التي كانت أول من قابلها عندما وصلت إلى صن فالي ، ستكون عطوفة وحنونة على هذه الصورة ؟ بقد سهرت عليها ليلة أمس لتساعدها في التغلب على الحمى التي اعترتها . أفاقت سارة من تأملها وقالت بصوت مرتفع :" هذا ما يجب أن يكون عليه بفضل رعايتك الجيدة لي طوال الليل ، والمرهم الطبي الذي مسحتِ به جلدي وخفف الكثير من آلام الحروق."
" أنا؟" تساءلت كيت في دهشة :" لم أكن أنا ..." رمقت سارة فيك بذهول وتلاقت نظرتها مع نظرته الساخرة ، وتمنت لحظتها لو لم تنظر إليه . عادت بأفكارها إلى كلام كيت السريع :" لا تشكريني على ذلك ، فقد كنت أعاني من ألم في الرأس ليلة أمس ، بل أشكري فيك الذي سارع إلى مساعدتك وبقي إلى جانبك طوال الليل . وأعطاك الأسبرين ، كل ساعتين لتخفيض درجة حرارتك ، كل ما فعلته هو جلب الأدوية والشراشف النظيفة من خزانة المفروشات ، عدة مرات خلال الليل."
أوه، لا.شعرت سارة بعياء قاتل عندما أدركت أن فيك هو الذي وضع المرهم الشافي على جسدها المحترق . لماذا لم تهتم كيت بهذا الأمر؟ ولاحظت ، وقد اعتراها الغضب الشديد ، أن فيك يسجل دائماً النقاط عليها بطريقة أو بأخرى ، وهذا وضع ... أقسمت في نفسها على تغييره بسرعة!
تطايرت نار خضراء من عينيها وهي تحدق به ، وكما توقعت ، بدا فيك كأنه يستمتع باضطرابها ، هذا الشيطان! وغمرها شعور من الغضب الشديد وعضت على شفتها السفلى ، وصممت على أن لا تدعه يستمتع بشدة غضبها منه.
شعرت سارة بنظرة كيت الفضولية . لم يكن في استطاعتها إلا التحديق به في صمت . ولم يفد بريق عينيه في اخماد غيظها.
لم تلاحظ كيت أن شيئاً يجري بينهما وتابعت حديثها مع سارة بانشراح :ط من محاسن القدر ، بأن نحظى بهذا الطقس! عدة أيام مثل اليوم ونستطيع أن ننتهي من قطاف الموسم ! ويمكن التكهن أن هذه الأيام المشمسة ستستمر إلى أبعد من ذلك ."
" في المناسبة .ط قال فيك :" لقد تسلمت سارة مهام المكتب ومخزن الشراب." ثم استدار نحو سارة :" أريد منك أن ترسلي دعوات المهرجان
وأن تتصلي بصحف المدينة وتعلميها بتاريخ يوم مهرجان الشراب الذي يقع في نهاية الأسبوع. اتصلي أيضاً بمتعهدي الحفلات الذين تعاقدنا معهم السنة الماضية .حاولي الاتصال هاتفياً بما أمكن من المدعوين ، وفي حال لم تستطيعي الاتصال هاتفياً ، ارسلي إليهم الدعوة بالبريد . لقد رتبت شؤون الحفلة ، دارين سيقوم بالغناء . لقد تعاقدت معه في مهرجان العام الفائت ، سأتصل به وأخبره رغبتي في التعاقد معه لمهرجان هذه السنة وأؤكد على مجيئه وأن يجلب غيتاراً معه . إنه شخص ، من الصعب الاتصال به."
" لقد عمل معنا لفتر من الوقت ." أخبرت كيت سارة .
" عندما كان يلائمه ذلك ." قال فيك بلهجة جافة :ط ستجدين قائمة بأسماء المدعوين إلى يوم المهرجان في درج طاولة المكتب ، وسأراجعها معك فيما بعد ، يا سارة !"
قالت كيت متأملة بعد أن ترك فيك المخزن :" لا أحد يستطيع منع نفسه من الإعجاب بدارين ، له اسلوب خاص ، وغناؤه يدخل القلوب ويأسرها . ولكن مشكلته ، هي عدم إمكان الاعتماد عليه . يشتغل فترة من الزمان في مكان ثم ينتقل فجأة إلى مكان آخر ، لا يمكن الاعتماد عليه أبداً ، فيك تماماً." رق صوتها عندما ذكرت اسم فيك ." عندما يكون الأمر متعلقاً بأي شيء في صن فالي هو بالفعل ..." وتعثرت كيت في العثور على الكلمة المناسبة .
" ملتزم باخلاص ." أكملت سارة الجملة عنها وزمت شفتيها ." لقد لاحظت ذلك ."
" سوف تستمتعين بيوم المهرجان ." قالت كيت :" يأتي الناس فيه من أنحاء البلاد كافة ، كل سنة ، إنه يوم للفرح !"
طلبت سارة هاتفياً ، فيما بعد ، أول اسم موجود على قائمة المدعوين وسمعت صوتاً مرحاً يجيبها .
" مرحباً ، أنا لاري ماتيو ."
" مرحباً أنا أتصل بك من كروم صن فالي ." قالت سارة بصوت واضح :" وأريد أن أعلمك أن يوم انعقاد مهرجان الشراب السنوي هو الثامن عشر من هذا الشهر . طلب فيك مني أن أخبرك أنه يتوقع قدومك لحضور المهرجان ، هل ستحضر ؟"
" وهل ستحضرين أنت ؟" أجابها الصوت الصبياني باهتمام.
" بالطبع ، أنا أعمل هنا ."
رنت ضحكته عبر الهاتف :" هل قدمت من انكلترا مؤخراً ؟ لقد عرفت ذلك من صوتك . لا تقلقي ، سأكون عندكم يوم المهرجان ، ولو لكي أتشرف بمعرفتك فقط ، ماذا قلت ، اسمك ؟"
" لم أذكر اسمي بعد ، اسمي سارة ."
" اسم جميل ، إنه يعجبني ، حتى ولو كنت بنصف جمال صوتك ..."
" مع السلامة يا لاري." كانت سارة ما تزال مبتسمة عندما وضعت سماعة الهاتف مكانها.
عملت سارة خلال الصباح على الاتصال بمعظم المدعوين الموجودة أسماؤهم على القائمة . وبينما كانت تتصل بأحد المدعوين ، لمحت فتاة مبتسمة ذات شعر قصير تقف في باب المخزن وتنظر إليها . وكان من الواضح أنها حامل .
" مرحباً." قالت الفتاة وهي تدخل المخزن :" أعتقد ، أنك سارة ، الفتاة الإنكليزية ؟"
" أجل أنا ." أجابتها سارة بود وانفتاح :" لقد حصلت على العمل هنا منذ البارحة ."
" أعرف ، لقد سمعت كل شيء ، اسمي باتي ، وزوجي يدعى بيل ، نحن جيرانكم ، ونملك بستان فاكهة الكيوي ، ألا تعرفين ؟ يا إلهي ." قالت باتي وهي تلاحظ وجه سارة المحترق :" لقد حصلت على جرعة كبيرة من أشعة الشمس المحرقة بالأمس ! هل كنت تعملين بين العرائش وتقطفين العنب ؟"
أومأت سارة برأسها إيجاباً.
" ألم يحذرك فيك من مغبة التعرض لأشعة الشمس المحرقة في هذا الجزء من العالم ؟" قالت باتي وهي غير مصدقة أن فيك لم يحذرها .
" للحقيقة ..." شعرت سارة بالاعياء من جراء الحديث في هذا الموضوع الذي أصبح له نغمة مألوفة وحاولت تفادي نظرات باتي الفضولية .
ولكن باتي ضحكت وقالت :" لعل فيك كان مضجراً ، أليس كذلك ؟ هل كان يوزع نصائحه المجانية ؟ استطيع تصور ذلك ، إنه هكذا في بعض الأحيان ، ولكنه شخص رائع ولن تجدي شخصاً أفضل منه كمدير عمل . هل ستبقين معنا طويلاً ؟" وقبل أن تتمكن سارة من الجواب ، أضافت باتي :ط إنها عطلة عمل ، أهذا كل مافي الأمر؟"
" سأبقى فترة الصيف فقط ." وقالت في سرها ، إذا كنت سعيدة الحظ ! " أريد أن اكتسب الخبرة في هذه المهنة ." اعترى صوتها الحماس :" وأتعلم
كل ما يمكنني عن زراعة العرائش ، صناعة الشراب والتعبئة ... كل شيء ."
" يبدو لي أنك واثقة من نفسك ، هل تخططين لامتهان هذه الصناعة ؟"
" لا ، لا ." وقالت سارة في نفسها إن عليها أن تحترس من زلات اللسان .
ولم يكن هناك من داعٍ لتحذير نفسها ، لأن باتي نسيت الموضوع في دقيقة ، بينما كانت تدفع بشعرها الناعم المنسدل إلى خلف أذنيها وتقول :" أوه ، لقد نسيت تقريباً ما جئت من أجله ، أريد زجاجة من شراب فيك الأحمر المشهور ، لقد دعونا بعض الأصدقاء على العشاء هذا المساء ، هم يفضلون هذا الشراب على غيره . هل تعرفين أن فيك قد ربح الجائزة القومية لأفضل إنتاج من الشراب الممتاز ، وهذا أمر رائع بالنسبة لكرم صغير مثل هذا ، ألا تعتقدين ذلك ؟"
لم تستطع سارة الإجابة ، لأن الاعياء قد أصابها بسبب ترداد مثل هذا الكلام على مسامعها ، عن قدرة فيك واخلاصه وتفانيه في العمل ، وعن شرابه الأحمر المشهور . ولكنها تمتمت بعد ثوان :" سأجلب لك زجاجة ." ومشت نحو أحد الرفوف لتتناول من منه إحدى الزجاجات.
دفعت باتي ثمن زجاجة الشراب وكانت على وشك الذهاب عندما توقفت وقالت وهي تدير ظهرها :" سارة هل سمعت قصة صن فالي؟" ومن دون أن تنتظر جواباً استطردت :" من العدل أن يكون الكرم ملكاً لفيك ، عوضاً عن أن يكون المدير فقط ، وعلى أساس مؤقت فقط ! وكان سيصبح المالك فعلاً لو عدل ستيفن وصيته ، فهو كان يتكلم دائماً عن فيك على أساس أنه وارث الكرم ، ولكن الوقت لم يتسن له كي يعدل وصيته ، هل تصدقين ، أن كل شيء هنا سترثه فتاة ما من انكلترا ، كان ستيفن قد قابلها عدة مرات منذ سنوات طويلة ؟"
لم تجد سارة كلاماً ترد به ، ولحسن الحظ لم تنتبه باتي إلى صمتها ." أسوأ ما في الأمر هو أن فيك متعلق جداً بهذا المكان وهو بالنسبة له ، ليس بيته ومكان عمله فقط ، إنه محور حياته كلها ، وهو لا يفكر إلا بالكرم وخاصة بعد ما جرى بينه وبين لين ..."
" لين ؟" سألت سارة .
" الفتاة التي كانت مخطوبة إليه ، لقد فسخا الخطوبة في ذات اليوم الذي عرف فيه فيك أنه لن يرث الكرم . أنا شخصياً أعتقد أن ذلك من حسن حظه ، إنه أفلت من تلك الفتاة ." اضافت باتي :" لين حصلت على لقب ملكة جمال نيوزيلندا في تلك السنة وهي جميلة الشكل . بالطبع . ولكنه جمال بارد مثل تمثال . على ما أعتقد ، فيك لا يزال يحبها وعلى الرغم
من كل شيء انتهى بينهما ، عندما فسخا الخطوبة منذ سنة . لم يبدُ عليه أنه أظهر اهتماماً بفتاة أخرى . يا للسماء ..." نظرت إلى ساعة يدها وأكملت :" ... هل مضى كل هذا الوقت ؟ بيل سيكون في البيت الآن ، يجب أن أسرع ! أراك قريباً !"
رمقتها سارة تبتعد وهي تشعر بعدم الارتياح ، أفكارها تتسارع متضاربة وقد غمرها الاحساس بالذنب والمرض وشعور غريب من الندم . هل يجب أن تعترف لفيك بالحقيقة ، وتتنازل عن حقها في ملكة الكرم ؟ يبدو أن هذا ما يجب أن تفعله ، ولكن برغم ذلك ... انتظري ، صرخ صوت ما في داخلها ، لا تتعجلي الأمور ، دعي كل شيء على حاله حتى نهاية فصل الصيف . وتصرفي ، وكأن شيئاً لم يحدث ويغير شعورك بشأن الميراث ، كأي فتاة أخرى جاءت من انكلترا لتعمل وتمضي عطلتها في آن واحد .
وفيما كان النهار الطويل يجر نفسه جراً ، اقتصرت سارة على القيام بمهام المكتب فقط ، وكانت تقنع نفسها أن الحرارة المزعجة في المخزن هي أفضل بمئات المرات من الحر القاتل والرطوبة المرتفعة بين صفوف العرائش حيث العاملات يقطفن العنب في هذا الوقت . شعرت مرة أو مرتين ، في فترة العصر ، بالغثيان ، ولكنها قاومت ولعنت نفسها لتعثر أصابعها وارتكابها أخطاء مطبعية على الآلة الكاتبة التي كانت تزداد مع الوقت .
" لقد حان وقت الذهاب ." قال صوت رجالي عميق . نظرت سارة إلى الأعلى ورأت فيك يقترب منها بمشيته المتهملة القوية ، انشرحت باقتراحه ، على كل حال ، لا ضير من إطاعة أوامر كهذه فهي لمصلحتها ، وليس لهذه المرة فقط .
" هل تريدين تناول بعض المرطبات ." قال لها وهو يصب عصير المانغا في كوب من الزجاج ، ثم قدمه لها . أحست سارة بشعور لذيذ بينما كان العصير المثلج يرطب حلقها .
صب فيك كوباً من العصير لنفسه وألقى بنفسه على مقعد .
" كيف كان سير العمل بالنسبة لقائمة المدعوين ؟" سألها فيك .
" إنها جاهزة للارسال بالبريد ." أجابته وقد أدهشها كيف اختلف إحساسها وكأن حيويته قد لفحها وأعطاها جرعة كبيرة من القوة.
" عظيم ." وضع فيك كوب العصير على الطاولة ." لقد اتصلت بدارين وتكلمت معه ، لقد وقع له حادث تصادم مع شاحنة وتجطمت سيارته ثانية ، قال لي إنه لم يصب بأذى يذكر ، ولكنه ترك المستشفى لتوه وربما لا يستطيع المشاركة في مهرجان هذه السنة ، ثم اتصلت بعدد من الفنانين
الآخرين كي يحلوا مكانه ولكني لم أوفق ، لسوء الحظ ، مع أحد ، ولذا ..." ظهرت على محياه ابتسامة تأسر الألباب جعلت عواطفها تدور حول نفسها برغم تصرفاته المزعجة ، وهي حالة نفسية جديدة على سارة ، وقد يحدث بسببها شيء . جهدت كي تركز على ما يقول :" ... من هنا يبدأ دورك وتظهرين في الصورة ."
" أنا ؟" سألت وهي تحاول أن تستجمع أفكارها :" هل تعني أنك ستحتاج إليّ في يوم المهرجان كي استقبل الزائرين وأغني لهم ؟"
" من المحتمل ." عيناه الداكنتين لمعتا ." إذا لم يتمكن دارين من الحضور ، هل من الممكن أن تأخذي مكانه وتغني للزائرين ؟ كل ما أطلب منك أن تغني بضع أغنيات ، واحدة منها أغنية خاصة ، من النوع الفولكلوري."
و أضاف برعونة :" لا أعتقد أنه أمر يصعب عليك اداؤه ؟"
" لقد وعدت ان أغني وأعزف الغيتار في المناسبات ."
قالت سارة باحتراس :" هل هذا هو كل المطلوب مني ؟"
" المطلوب منك ، يا سارة ؟" لاحظت لبرهة الشرر في عينيه الذي خمد على الفور ." أغنية واحدة فقط ." مَطَ فيك نبرته .
" في الوقت الحاضر ." وقبل أن تتمكن من التعليق ، أكمل فيك حديثه :" لقد جلبت لك النوتة الموسيقية كي تتدربي عليها وتؤلفي اللحن ، وأعتقد أنك ستعشقين هذا اللحن بمجرد أن تجربي غناءه ."
" أخذت سارة بتردد النوتة الموسيقية من يده وتفحصتها وقالت باندهاش:
" إن كلمات الأغنية مكتوبة بلغة أخرى ."
" لقد كتبت الترجمة الإنكليزية بقلم الرصاص تحت أسطر اللغة الأجنبية ."
رمقته سارة باستغراب :" هل هذه الأغنية ، يوغسلافيه ؟"
" شيء من هذا القبيل ، إنها عن الأيام الصعبة التي عانى منها المستوطنون الأوروبيون الأوائل عندما استقروا في هذا البلد ، وهو يا يشبه وضعك الآن ." رفع فيك حاجبيه ببراءة خادعة وأضاف :" الم تذكري أنك تنشدين الأغاني الفولكلورية والأهازيج وكل هذه الأنواع؟"
" نعم ، لقد ذكرت ذلك ولكن ..."
استمر في كلامه غير مبالٍ بمحاولتها الاعتراض :" لقد فرض ستيفن إنشاء هذه الأغنية كل سنة في يوم مهرجان الشراب احتفالاً بانتهاء موسم القطاف . وقد أصبحت تقليداً متبعاً." وأضاف بصوت عميق :" وخاصة في هذه السنة . لأنه سيكون آخر مهرجان أحضره في صن فالي!" خيم الصمت بينهما بعد هذه الكلمات فلم تتجرأ سارة على الاسترسال في التفكير على هذا النمط.
حسناً ، لقد اهتممنا بكل شيء تقريباً." شعرت سارة ببوادر التمرد على تصرفاته المترفعة وعلى نبرة – افعلي ما أقول – التي كانت أقرب إلى الأمر المباشر منها إلى طلب.
" لا ." لمعت عيناها الخضراوان تحدياً. لماذا يجب عليها أن تنشد أغنيته الغربية غير المألوفة ، فقط لأنه طلب منها ذلك ، لا بل أمرها بذلك ؟ قالت بحزم :" عليك أن تجد شخصاً آخر كي ينشد هذه الأغنية ."
زم فيك فمه غضباً وتقلصت عضلات وجهه ." هذا جزء من اتفاقنا ن أم هل نسيت ؟ط ذكَرها فيك باتفاقهما.
" أوه ، أنا اتذكر وعدي لك بالغناء وعزف الغيتار ."
انفجرت سارة وقد عاقها التنفس :"ولكن فقط الأغاني المألوفة لي أو الأغاني الميلودية التي كتبتها بنفسي."
رمقته بنظرة من انتصر في معركة ." هل تذكر ذلك ؟" لكن ازرقاق وجهه لم يترك عندها انطباعاً بأنها سجلت نقطة عليه .
" أما أن يكون الأمر ، أن أنشد أغنية كتبت بلغة أجنبية ، حتى ولو ترجمت ، وأن أعزف لحناً لم أسمعه قط من قبل ..."
أطلقت سارة العنان لمشاعرها ولم تستطع التوقف :" ... فقط لأنك ..." بدأ صوتها بالتعثر وأسرعت بالمتابعة :" ... تريد مني ذلك ! حسناً ، إني أرفض ذلك ، سأقوم بالغناء ، كما وعدت ولكني لن أغني غير الأغاني التي أعرفها ."
" أحقاً ما تقولين ." كان الغضب ينضح من تعابير صوته .
" لو لم تكوني على قائمة المرضى ..."
" ماذا كنت ستفعل ؟" تابعت سارة التحدي :" تجبرني على قبول منطقك ؟ تطردني من البيت ؟" يا للسماء ، ماذا يحدث لها لو فعل ذلك ؟ فكرت سارة باستياء في نفسها وأقفلت فمها .
ولكن بدلاً من طردها قال فيك لها بنعومة قاتلة :" احتفظي بالنوتة الموسيقية ." وبرزانة وهدوء دس ورقة النوتة في جيب بنطالها .
" ستغيرين رأيك في هذه الأغنية عندما تتحسن حالتك النفسية ."
" لن أغير رأيي ، انت تعرف ذلك ؟" ولكن لماذا تجد سارة نفسها ترتجف.
مدحت سارة نفسها على دفاعه المتوسل ، ولكنه أدار لها ظهره وخرج من دون أن ينبس بكلمة أخرى . وفجأة شعرت بالوحشة والوحدة والفراغ القاتل تخيم على الغرفة ، أبعدت بسرعة هذا الشعور عنها . لقد سئمت بما فيه الكفاية ، ترفع هذا الرجل الذي لا يأبه لشيء وكبرياءه وسيطرته من دون أن تضيع وقتاً ، هرعت للخروج من المخزن وأغلقت الباب وراءها.