منذ اللحظة الأولى التي قرأت فيها عن هذا الإنفجار الرهيب والذى أثار ولا يزال يثير جدلاً واسعاً فى الأوساط العلمية حتى الآن ... وأنا يشغلنى هذا الإنفجار المشابه للإنفجارات النووية ... رغم حدوثه قبل معرفة البشر للانفجارات النووية بأكثر من خمسة وثلاثين عاما ...
وعلى مدى ما يقرب من قرن من الزمان اختلف العلماء فى تفسير سبب هذا الانفجار ... فمنهم من أرجعه إلى جرم سماوى (( نيزك أو مذنب )) انفجر فى تلك المنطقة الغير مأهولة من غابات سيبيريا ... ومنهم من أرجعه إلى انفجار سفينة فضائية تعمل بالوقود النووى !!! ... ولكل تفسير شواهده وأدلته ... وهذا ما يثير الحيرة !!!
ودعونا نرجع للبداية ... والبداية كانت فى يوم 30 يونيو من عام 1908 م ... وبالتحديد في تمام الساعة الخامسة وسبع عشرة دقيقة ... وفى حوض نهر تونجوسكا Tunguska بمنطقة كراسنويارسكى Krasnoyarskiy بأعماق سيبيريا حيث تنتشر غابات التايجا (( أشجار الصنوبر )) ...
وفى خضم الهدوء الذى يسبق العاصفة دوى الإنفجار ... إنفجار رهيب مدوي ارتجت له المنطقة كلها بعنف ... وارتفعت كتلة هائلة من اللهب إلى عنان السماء ... كتلة أكد شهودها العيان من الفلاحين الروس أنها أضخم وأغرب كتلة نيران رأوها في حياتهم ... حتى خيل للجميع وكأن الشمس قد هبطت على الأرض ... حيث أضاءت السماء بوهج ساطع ... وهج أحال مساء تونجوسكا إلى نهار ... بل أضاء روسيا كلها حتى صباح اليوم التالى !!! ... وبلغ شدة وهج هذا الإنفجار العظيم إلى حد إمكانية قراءة الصحف فى انجلترا فى منتصف الليل ... وأضاءت سماء استوكهولم فاستطاع بعض المصورين هناك التقاط الصور بدون فلاش بكاميراتهم محدودة الإمكانية فى ذلك الوقت !!! ... وحظى الألمان بنهار دام لـ 24 ساعة !!! ... وشعر أغلب سكان المعمورة وقتها باهتزاز الأرض تحت أقدامهم !!! ... ولفحت النيران الفلاحين على بعد عشرات الكيلو مترات من موقع الإنفجار !!! ... كل هذا ذكره الشهود وأكدته الصحف والوثائق في ذلك الوقت ...
اقتباس:
((باكرا في صباح الثلاثين من يونيو(حزيران)، شوهدت ظاهرة غير عاديةهنا في إحدى قرى سيبيريا، فقد شاهد الفلاحون شيئا يلمع بشكل ساطع في كبد السماء. وكان ساطع جدا بحيث تعذر التحديق إليه بالعين المجردة، وعند الأفق، ظهرت في اتجاهالجسم المضيء نفسه غيمة سوداء صغيرة، وعندما اقترب الجسم الساطع من الأرض، بداوكأنه انشق إلى غبار، وتكونت مكانه غيمة كبيرة من الدخان الأسود. وسُمع انفجار مدو،كما لو أنه ناجم عن انهيار صخور كبيرة، فارتجفت الأبنية، واندفع بقوة لسان متشعب مناللهيب نحو الأعلى عبر الغيمة، فهرع القرويون نحو الشارع مرعوبين، وأجهشت النساءالمسنات بالبكاء، فقد اعتقد الجميع أن نهاية العالم قد أتت. ))
هذه خلاصة لتقرير صدر في صحيفة (( سبير )) ، في إركوتسك.، روسيا، في 2 يوليو ( تموز ) من عام 1908م .
قدر العلماء قوة هذا الإنفجار بأنه يعادل أضعاف قوة إنفجار قنبلة هيروشيما الذرية بـ 600 : 1000 ضعف ... أي أن قوته تساوي قوة 600 : 1000 قنبلة ذرية !!!
وبلغ من تأثير هذا الإنفجار أن دارت موجته التضاغطية حول الكرة الأرضية مرتين ... !!!
فكيف حدث هذا الإنفجار الرهيب ؟؟؟!! .....
ومن أين اكتسب هذه القوة الهائلة التى لم يعرفها العالم قبلها قط ؟؟؟!! ... وفى زمن ما قبل اختراع القنابل الذرية أو النووية أو الهيدروجينية بعشرات السنين !!!
وقتها ... ولأن الناس أعداء ما يجهلون ... ويميلون دوماً إلى الفزع والخوف ... فقد سيطر على عقولهم أن هذا الإنفجار هو إنذار من السماء ... كخطوة أولى فى فناء العالم !!!
فى ذلك الحين … تجاهلت كل الجهات الرسمية في (( روسيا القيصرية )) أمر إنفجار سيبيريا … نظراً لانشغالهم بالأوضاع السياسية التى اضطربت بشدة بعد أن سيطر الراهب الغامض (( راسبوتين )) على القيصر والقيصرة … وأصبح صاحب الكلمة الأولى فى القصر … ومع انشغال موسكو بالسياسة وانشغال الشعب الروسى بالمتاعب والأوجاع … تعاملوا مع أمر الإنفجار باعتباره مجرد ظاهرة غير مفهومة … ولا تستحق الدراسة أو البحث أو حتى معرفة أسبابها !!!
كل ما حدث آنذاك … هو أن شكل مجموعة من العلماء الروس رحلة استكشافية … بصفة غير رسمية … وعلى نفقة أفراد البعثة لتفقد موقع الإنفجار … ولم تكد البعثة أن تصل إلى حوض نهر تونجوسكا … حتى أصابتهم بعض الأمراض العنيفة … مما أدى إلى موت إثنين منهم هناك … وإصابة الآخرين بنوع غريب من القروح والتي فشلت كل محاولات علاجها … حين عودتهم إلى موسكو … مما أدى إلى تفاقم أمراضهم ووفاتهم جميعاً خلال شهرين … مع عدم إمكانية الأطباء تشخيص أمراضهم … التى لم يذكرها أي مرجع علمي طبي من قبل !!!
راحت بعدها قصة إنفجار سيبيريا تهدأ … مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وتخلص مجموعة من النبلاء من الراهب (( راسبوتين )) … ثم قيام الثورة البلشيفية عام 1917 م … لتستقر نسبيا الأوضاع السياسية في روسيا …
وفى عام 1921 م بدأت أولى الأبحاث العلمية الجادة عن إنفجار سيبيريا … على يد العالم السوفيتي الشاب (( ليونيد كوليك )) … وانطلق بحثه من طرف خيط قوى لتفسير سبب الإنفجار … عندما سمع من الشهود العيان أن جسماً شديد الإضاءة هبط من السماء قبل الإنفجار … بسرعة رهيبة وميل واضح … وبدا لهم هذا الجسم شبه اسطواني منتظم قبل أن ينسحق محدثاً الإنفجار المدوي … وأخذ (( كوليك )) يجمع المعلومات من هنا وهناك … وكل أمله القيام برحلة لموقع الإنفجار … وظل طوال 6 سنوات يبحث عن تمويل مادي لرحلته … حتى كلفه (( فيدور كواليسكي )) من أكاديمية العلوم السوفيتية بالقيام بالرحلة العلمية لمعرفة أسباب الإنفجار … مع موافقة الأكاديمية على تمويل الرحلة .
وفى أوائل عام 1927 م انطلق (( كوليك )) مع أفراد بعثته حتى وصل إلى حدود غابات (( التايجا )) وكانت منطقة رهيبة تثير الرعب في النفوس آنذاك … واستمرت رحلتهم الشاقة التي ذاقوا فيها الأمرين وسط أصقاع سيبيريا عبر أعمق أعماق (( التايجا )) … حتى وصلوا إلى حدود نهر (( ميكيرتا )) … وهناك كانت بداية آثار الإنفجار …
كانت كل الأشجار فى المنطقة قد اقتلعت من جذورها وتراصت على نحو منتظم ومتوازي … وكانت كلها تلتزم باتجاه واحد … فكل قمم الأشجار كانت تتجه إلى الجنوب الشرقي … وجذورها تتجه إلى الشمال الغربى … حيث مركز الانفجار حتماً … وكلما توغلوا أكثر نحو مركز الإنفجار كلما ظهرت علامات الإنفجار أكثر شدة وبشاعة … رغم مرور 19 عام على الانفجار نفسه … مما أثار الرعب في قلوب أفراد البعثة فرفضوا الاستمرار فى الرحلة !!! … وحاول (( كوليك )) حثهم على مواصلة الرحلة … إلا أنهم رفضوا بإصرار … فعادوا جميعاً إلى موسكو … ولم ييأس (( كوليك )) بل أخذ يجمع مرافقين جدد … ليعاود الكرة !!!
وفي شهر يونيو من نفس العام 1927 م ... بدأ رحلته مرة ثانية ... وتوغل الفريق الجديد فى (( التايجا )) حتى وصلوا إلى منطقة تسمى (( المراجل )) ... عند حوض نهر (( تونجوسكا )) ... وكان كل شئ يؤكد أنهم فى مركز الإنفجار ... فالأشجار المقتلعة كانت متراصة على نحو منتظم تاركة فيما بينها دائرة واسعة للغاية وخالية تماما ... عدى بعض الأشجار التي ظلت واقفة على حدود الدائرة الخالية من النباتات والأشجار والأعشاب وحتى الحشرات ... مع نمو نباتات غريبة وغير مألوفة عند الحدود القريبة خارج الدائرة ... وانتشار القروح على حيوانات الرنة التى تحيا بالقرب من المنطقة ... ثم انتشرت الحالات المرضية بين أفراد الفريق العلمي ... المغص والاسهال المعوي والتقرحات الحادة ... فعاد (( كوليك )) وفريقه إلى موسكو ...
وخرج (( ليونيد كوليك )) من رحلتيه فأصدر كتابه (( انفجار سيبيريا ... التفسير الحاسم )) والذى أكد فيه أن سبب انفجار (( تونجوسكا )) أن نيزكاً ضخماً من الصلب قد هوى على المكان وانفجر مسببا كل هذا الدمار ... وعلى الرغم من أنه لم يستطع تفسير الأعراض المرضية لكل من يقترب من منطقة الإنفجار ... والتى أدت إلى وفاة أفراد الفريق الأول ... ولا الأمراض التي اصابت فريقه العلمي نفسه ... كما أنه لم يفسر ما أصاب تلك النباتات المتحورة الغريبة عند مركز الإنفجار ... إلا أنه كان مطمئناً إلى أن حل لغز الإنفجار الغامض يكمن في نيزك من الصلب !!!
إلا أنه عقب إصداره للكتاب إندلعت الحرب العالمية الثانية ... وفجرت أمريكا فى عام 1945 م قنابلها الذرية فى (( هيروشيما )) و (( نجازاكي )) ... وكان لدراسة آثار تلك الإنفجارات الذرية وتأثيرها الإشعاعي ... ومقارنتها بانفجار سيبيريا الغامض ... أبلغ الأثر في ظهور تفسيرات أخرى لأسباب هذا الإنفجار ... وربما تكون أكثر منطقية !!!
يتبع