الجزء الثالث عشر...
ألم يعصر قلبها, و يسكب دمعها, ليخلف قلباً مهشماً, هشمه الحبيب, فما أقصاه من حبيب....
- لا أعلم لماذا فعلت بي هكذا يا تامر, أعطيتكِ كل شيء, و لم أطلب منك سوى أن تعطيني قلبك, لكنه بدل أن تعطيني إياه, أعطيتني ألام لا يدوى, كم أكرهك يا تامر, كم أكرهك, خنتني, وطعنتني في ظهري, و سلبت مني ابني, أكرهك, أكرهك.
.................................
لحظة الانتظار ما أقصاها, و ما أوجعها, تسلب روح الإنسان رويداً رويداً , لتزيد من عذابه....
- بقت ساعة, يا الله أنقذه , أنقذه وأعيده إلينا سلاماً. ( قلتها أم تامر, و هي رافعة يديها تضرعاً لرب العباد)
- أفففففففففف, كلاهما لازالا مغلقان هاتفهما, لماذا ؟
- حاول مرة أخرى.
- اتصلت بهم مليون مرة , لا فائدة, دائماً هكذا عندما نحتاجهما لا يكونان معنا.
- حسنا, أجلسي يا رنا, لن ينفعك المشي يمنتاً ويساراً هكذا.
- لا أستطيع, لا أعلم أشعر بأني عاجزة, أريد أن أفعل شيئاً, لا أستطيع أن أرى أبي هكذا و أضل جالسة. ( قلتها بصوت ينذر بالبكاء )
قامت أم تامر, واقتربت من ابنتها التي تكاد تنهار, و تفقد جلدها, وأحاطتها بذراعيها, و ضمتها إلى حضنها, لتدخل السكينة في قلب ابنتها الذي حاصره الخوف من كل جانب, و قالت لها بصوت جاهدت من أجل أن يكون قوياً, لكي تمد صغيرتها بالأمل:
- بإذن الله أبوك سوف يكون بخير, فأباك رجل قوي, فلا تخافي عزيزتي.
غرست جسدها بحضن أمها فهو منبع الآمان لها....
................................
صمت لم يكون يريده, كان ينتظر جواباً شافياً يعيد إلى قلبه الأمل...
- ألن تقول شيئاً؟
ألتفت ناحيته, وأعطى البحر الثائر ظهره, وقال بصوت ذو نبرة غريبة:
- ماذا تريدني أن أقول لك يا تامر؟
- رأيك يا خالد.
أنزل رأسه لبضع ثواني, ومن ثم رفعه ليرميه بكلماته :
- أنت تعلم جيداً رأيي, لكنك في الحقيقة لا تريد أن تسمع رأيي بل تريد أن تسمع الآتي, أنت ترديني أن أقول لك بأنك أنت الضحية الوحيدة, بأنهن هن اللاتي آذينك, في حين أنك أنت لم تفعل لهن إلا كل خير, أليس هذا الكلام الذي تريد أن تسمعه يا تامر؟
قام من على تلك الرمال الدافئة, و وجهه يخط قسمات الضيق, ومن ثم قال:
- ظننتك بأنك سوف تفهمني, يبدو بأني أخطأت.
وأعطاه ظهره و شرع بالسير بعيداً عنها, لكن صوت خالد رافقه, ليتسلل إلى طبلتي أذنيه رغماً عنه:
- نعم أهرب كعادتك عندما تواجه الحقيقة, لكن حل الهرب لم يكون يوماً حلا مناسباً, لا بد من يوم سوف تندم على هربك, و سوف تجبر في النهاية على مواجهة حقيقتك.
أكمل المسير كأنه لم يسمع شيئاً....
..................................
كانت جالستاً في تلك الزاوية, التي رغم الإضاءة التي تحيط بها, إلا أنها تشعر بأن ظلمة خانقة تشد الخناق عليها, لتخنقها, و تسلبها أنفاسها....
- هند....
رفعت رأسها لتكشف عن وجهه سلبت منه الحياة... ارتعبت ريم عندما رأت وجه صاحبتها ... فهرعت إليها و جلست بالقرب منها... أحاطتها بيدها... و قالت :
- عزيزتي هند, ما الذي جرى؟
كانت في عالم آخر... عالم من الظلمة ... التي تبعث منها الأحزان... فلم تصلها كلمة مما قالتها صاحبتها... فهي في عالم آخر... غير هذا العالم... لهذا ضلت تنظر إلى صاحبتها بعينيها الواسعتين... بدون أن تنبس بكلمة...
ضلت ريم تانهال عليها بالأسئلة ... و هند مكتفية بالنظر إلى صاحبتها ... و الصمت .... لكن صمتها لم يطل ... فدمعها تفجر دفعت واحدة ... ليجيب عن كل أسئلة ريم ....
وألقت برأسها على صدر ريم, التي استقبلتها بحفاوة, و طوقتها بكلى يديها... لتجد نفسها هي الأخرى تسكب الدمع... فالموقف لا يوجد مكان فيه للكلمات.....
.................................
بعينين مفتوحتان أوسع ما يكونان, وبذهول مصبوغ بالصدمة قالت:
- عمي أصيب بجلطه!!! كيف و متى؟
- اهدئي أرجوك يا نجوى, فهذا ليس جيد لصحتكِ.
- لماذا لم يخبرني أحد؟
- لم نرد إزعاجكِ
- يا الله, أهو بخير الآن؟
- نعم , الحمد لله, لقد تعد مرحلة الحرجة.
بوجهه بدأت تنتشر فيه معالم الراحة, و الطمأنينة, قالت:
- الحمد لله, لم تخبريني, كيف حصل له هذا, كيف أصيب بالجلطة ؟
قطبت حاجبيها وهي تقول بصوت يشتعل كراهية:
- من غيره, تلك التي تدعى هند, بتأكيد هي السبب بأن يصاب أبي بالجلطة.
- رنا, لا تتهمي المرأة هكذا.
- منذ دخلت حياتنا, انقلبت حياتنا رأساً على عقب, في البدء أخذت أبي منا, ومن ثم أقنعته بأن يطلق أمي, و الآن جعلته يقاطعنا نهائياً, وكما يبدو بأن مخططها الآتي بأن تقتله لكي تتحرر منه و ترثه.
- رنا, ما هذا الكلام, لا تجعل قلبكِ أسوداً هكذا.
قاطع حديثهما صوت قرع الباب...
أخذت تنظر رنا ناحية نجوى باستغراب و هي تسألها قائلة:
- أتنتظرين أحدهم ؟
هزت نجوى رأسها بلا و هي تقول:
- كلا.
ومن ثم قالت بصوت عالي:
- من هناك ؟
رد عليها صوت رجولي:
- أنا خالد, هل يمكنني الدخول؟
تبادلت كلاهما نظرات التعجب و الاستغراب, قبل أن ترد عليه نجوى بنفس طبقة الصوت:
- لحظة فقط.
ومن ثم انتشلت حجابها الذي كان موضوعاً على الطاولة المجاورة لها, في حين أن رنا سألتها و على محياها لمسة من التعجب:
- ماذا يردي هذا؟
ردت عليها و هي تعدل من حجابها:
- لا أعلم.
ومن ثم أذنت له بدخول:
- تفضل.
دخل الغرفة وهو مطأطأ رأسه ناحية الأرض, و في يده باقة من الورد الطبيعي التي فاحت رائحة العطرة, و بصوت بالكاد يسمع :
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ردت كلهما:
- و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
- كيف حالك يا نجوى و يا رنا؟
ردت كلاهما:
- بخير الحمد لله.
وأردفت نجوى:
- كيف حالك يا خالد؟
- الحمد لله بخير, الحمد لله على السلامة, و بإذن الله يعوضكِ بغيره, المهم صحتك.
بوجه بدأت تعابير الحزن تتفشى به قالت نجوى:
- الله يسلمك, تفضل.
- لقد أحظرت هذه الباقة المتواضعة.
- لم يكن هناك داع لذلك .
- أنه لا شيء. ( ومد يده لتمسك بها رنا)
- شكراً لك خالد.
قالت رنا:
- سوف أقوم بوضعها في المزهرية.
- فأمسكت بالمزهرية القابعة على الطاولة المجاورة لنجوى من اليمين, ومن ثم توجهت ناحية الحمام, ليصبحا لوحدهما نجوى و خالد...
- تفضل خالد. ( وصوبت يدها ناحية الكرسي المقابل لها )
- شكراً.
جلس على الكرسي و هو مازال منكساً رأسه ناحية الأرض..
- أتريد أن تشرب شيئاً؟
- لا شكراً, في الحقيقة يا نجوى أنا ..... ( تملكه الارتباك, و بعثر كلماته و أفكاره ) أنا جئت... جئت ...
أخذت تنظر أليه نجوى باستغراب, و هي تراه مرتبك, فحاولت أن تساعده على الكلام, فقالت:
- خيراً يا خالد, ماذا هناك؟
بعد تنهيدة طويلة قال:
- أنا في الحقيقة ... في الحقيقة أخطأت في حقك...و أريد أن أعتذر.
وزاد من انحناء رأسه ناحية الأرض...
رفعت حاجبيها إلى أعلى و هي تحدق به بتعجب... وسألته بصوت يميل إلى الاستغراب مما دخل الأذان:
- تعتذر مني, لماذا؟!!!
أزدرد ريقه بصعوبة, فحلقه جف من الرعب مما هو ناوون على قوله:
- أنا ... أنا كنت ...كنت أعلم بزواج تامر... لكن ...لكن أقسم لكِ بأني حاولت أن أردعه ... لكن بلا فائدة....ومن ثم ... حاولت أن أخبركِ لكن تامر أجبرني على أن أحلف بألا أخبركِ... ومن ثم ماذا سوف أقول لكِ ... بأن زوجكِ تزوج من غيرك... هذا صعب... حقاً أنا كنت في موقف صعب ... صعب... لكن هذا لا يبرر تصرفي... كل الأعذار لا تغفر لي عملتي.... فأرجوك ِ سامحني ... فأنا متضايق من تصرفي... فعذريني ....
أول ما تناهى إلى مسمعه... صوت نفسين يسحب ... ليليه زفرة مصحوبة بكلمات ... مغلفة بهدوء أعصاب:
- لا داعي لتعتذر... لأنك لم تفعل شيئاً خطأناً لكي تعتذر منه.... المجرم الأول و الأخير هو تامر.... لقد غدر بي ... و بحبي له.... ( لجأت لصمت فدموعها تحاول أن تباغتها و تنسكب )
صمتها طال... فخاف أن تكون تشتكي من شيء... فرفع رأسه .... لتقع عينيه عليها .... و دمع قد انتصر على دروعها .... ألمه ما رآه ... فأنزل رأسه على الفور... وقال:
- أنه لا يستحق أن تبكي عليه.. فدموعك أغلى من أن تنسكب على تامر.
رفعت رأسها هي الأخرى ... لتجده قد قام من على كرسيه.... ويقول:
- يجب أن أذهب الآن... أرجوك ِ أعتني بنفسك...
هزت رأسها بنعم, وأردف قائلة:
- شكراً لك على زيارتك.
من تحت ذلك الهم الذي كان يعتلي وجهه... شقت ابتسامة طريقها على شفتيه ... لتنشر السكينة و الطمأنينة في روحه...
- مع السلامة.
- مع السلامة.
أخذت تتبعه بعينيها ... وهي في داخله تتساءل... : ( ألازال هناك أناس شرفاء مثله...)
- يا لهو من رجل.
انتشلها من تساؤلها صوت رنا ... فوجهت بصرها ناحية مصدر الصوت لتجد رنا واقفة أمام باب الحمام... فقالت:
- كنت تتنصتين إذا؟
..............................................
- شدة و تزول يا أم تامر.
- بإذن الله يا أبو عادل.. بإذن الله.
- أين عمر و تامر؟
ارتبكت ... و لم تعلم ماذا تقول له ....:
- في الحقيقة يا أبو عادل .... لا أعلم ... نتصل بهما وهواتفهما مغلقه. ( وازدردت ريقها )
لم يعجب أبو عادل ما سمعه ... فهز رأسه ... و قبل أن يرد ... قاطعه صوت الباب و هو يفتح....
ليكشف من وراءه عن نجوى التي كانت على الكرسي المتحرك و رنا التي كانت وراء الكرسي المتحرك....
وقت عينا رنا على آخر شخص تريد أن تراه في هذا العالم .... لقد قضا عليها مجلد رأيته بابتسامته الساحرة التي تعتلي وجهه ... تسمرت مكانها ... و شل تفكيرها ... و هي تنظر إليه وهو مقبل عليها...
- السلام عليكم يا بنات .
- و عليكم السلام يا عمي. ( جاء الرد من نجوى , في حين أن رنا ضلت صامتة بلا حراك )
- السلام عليكم نجوى , السلام عليكم رنا.
تسلل إلى مسمعها صوته ليقضي على حاسة السمع لديها ... و يزيد من معاناتها ....
- وعليكم السلام حسن, كيف حالك؟
- بخير, الحمد لله , كيف حالك أنتِ, لقد سمعة بالذي جرى, أنا آسف حقاً, بإذن الله الله يعوضكِ؟
بابتسامة صفراء ردت عليه, وأردفت قائلة:
- بإذن الله.
رفع رأسه , لتشتبك عينيه العسليتين بعينيها, لتكتمل المجزرة .... و تنضم عينيها في عداد المصابين من سهامه ....
- كيف حالكِ رنا؟
لم يرده رد منها ... مما زاد من تعجب الجميع ....
قالت أم تامر... محاولة تدارك الأمر:
- رنا ... ردي على حسن و عمكِ.... رنا ....
بصوت شخص عاد من عوالم أخرى قالت, بصوت ضائع في أفكار مشوشة , و قلب ينبض بسرعة البرق:
- ها .... أمي ...ماذا هناك؟
- ردي على عمك وحسن, فهما يسلمان عليكِ.
أنزلت رأسها باستحياء ... و قالت بصوت مخنوق من الخجل:
- وعليكم السلام.
- ماذا بكِ بنيتي, هل أنتِ تشكين من شيْ؟
زاد لون وجهها احمراراً وهي تسمع سؤال عمها الذي لا تستطيع أن تجاوبه بالحقيقة... فأنقذتها نجوى من هذا الموقف المحرج بقولها:
- المسكينة لم تنم منذ البارحة, لهذا هي تعبة , ومشوشة الفكر, وأيضاً خوفها من حالة عمي.
- آه ... لا داعي للخوف يا بنيتي , أخي قوي , و الحمد لله تجاوز مرحلة الخطر, لهذا اذهبي و ارتاحي في بيتكم.
قالت نجوى مؤيدة:
- هذا صحيح رنا, يجب أن تذهبي و تأخذي قصدا من الراحة , فأنتِ تحتاجينه.
وغلفت يد رنا التي على الكرسي المتحرك بيدها .. لتعيدها من عالمها ... إلى عالم الواقع...
وجدتها رنا فرصة لتهرب من هذه الغرفة التي تكاد تنهار عليها .... و تتحرر منه .... فهزت رأسها , وأردفت بصوت متداعي من التعب الداخلي:
- عن إذنكم.
وخرجت برجليه المرتعشتان, وما إن أغلق الباب الذي يفصل بينها و بينه , حتى التهمت الهواء التهاماً, وانهارت دروع الصمود أمام دموعها الساخنة, التي حرقة وجنتيها.
.....................................
مدت يدها المحملة بكأس من العصير... تبعتها بكلماتها:
- تفضلي هند, فعصير الليمون سوف يهدأ أعصابكِ.
هزت رأسها بلا ... و هي تقول:
- ليست لديه رغبة بشرب شيء.
- لكن عزيزتي...
بترت جملتها...:
- أرجوكِ ريم, حقاَ أنا لا أشتهي شيئاً.
هزت رأسها بأسى, و هي تجلس بجوارها, وقالت بنبرة صوت حزينة:
- إلى متى سوف تضلين هكذا؟
- حتى أطمأن عليه.
- قلت لكِ بأني ذهبت إلى الطبيب, و قد قال بأنه تجاوز مرحلة الخطر.
أنزلت رأسها إلى أسفل, و قالت:
- لكنه لا يزال في المستشفى, لن أطمأن عليه حتى أراه و أكلمه, رغم أنني أعلم بأنه لن يرغب بالحديث معي, و لا حتى أن يراني. ( قلتها و عبرة تسللت على طرف عينها )
وضعت ريم كأٍس العصير بالطاولة المجاورة لها, وأخذت نفساً عميقاً , قبل أن تقذف هند بسؤلها الناري:
- هند أأنتِ تحبين غسان ؟
.....................................
وضعت كفها على ظهريه, و هو جالس متسمر كالتمثال, سند ذقنه على يديه المتعانقتان, هائم بعينيه في ألا شيء, فعلقه لازال يعيد شريط تلك اللحظة عندما رأى تلك النظرة التي خرقت قلبه إلى نصفين ....
فقالت له مستفسرة:
- أين كنت لليلة البارحة, لقد قلقة عليك كثيراً, عندما لم تعد للبيت.
كانت كلماتها كالشرارة التي أشعلت بركانه الذي أخمده بالمال فترة طويلة... فتمرد على عقله... واتحد مع قلبه... لينفجر عليها قائلاً:
- كفى ... كفى .. لم أعد أحتمل... لم أعد أطيق الحيات معكِ.. خسرت حياتي و عمري معكِ... و خسرت حب حياتي بسببك و بسبب جشعي... فاتركيني وشأني... وأريحيني من بأوسي .... لم أعد أطيق الحياة بدونها ... لم أعد أعيش كإنسان بدونها ...لم أعد قادراً ... لم أعد ...فكفى ...كفى...
وهجم على ذالك الباب الفخم... و فتحه بسرعة .... وهو يردد :
- لم أعد أطيق العيش بدون هند ... لم أعد ....
وهي من شدة الصدمة شلت حركتها ... و تسمرت مكانها ... و الذهول يجتاح قسمات وجهها ... الذي أعيته السنين ....
يتبع ....