2_ معاً فوق السحاب
ذهولها التام هو ما دفعها لتطيعه ما إن فتحت الباب حتى شعر رافايللو بارتياب مفاجئ هل يمكنه المضي بذلك حقاً ؟ هل يمكنه أن يتزوج هذه .. هذه .. راح يبحث عن الكلمة المناسبة نعم هذه الخادمة ؟ أيفعل ذلك مهما كانت الأسباب ؟ رؤيتها مرة أخرى جعلته يدرك حالة الفاقة المزرية التي تعيشها كانت ماغي ترتدي قميصاً متهدلاً وبنطلون واسع أما شعرها البني فمضموماً إلى الوراء برباط مطاطياً وقد بدا وجهه نحيلاً وأحاطت هالات سوداء في عينيها باختصار يمكنه القول أنها أقل النساء جاذبية ممن وقعت عليهن عيناه على الإطلاق .
منتديات ليلاس
حسناً ! هذا ما يجعل منها مناسبة لتلك المهمة إنها النقيض لأماندا خياره الأول و الآن بدلاً من أن يصطحب معه إلى المنزل فتاة فائقة الجاذبية فارغة الرأس سوف يصطحب هذه المرأة القبيحة مع طفلها ! قد يكون ذلك أفضل بكثير إن لم يكن الأفضل على الإطلاق بالإضافة إلى ذلك فإن هذه المرأة هي بالتأكيد أكثر عوزاً للمال من أماندا خطرت له هذه الفكرة ما إن ألقى نظرة على هذا المكان السيء الذي تعيش فيه . أخيراً استقرت عيناه على الطفل الذي يجلس في سريره وينظر إليه بعينين متسعتين ذات لون بني كلون الشوكولا .
_ ماذا .. ماذا تفعل هنا ؟ وكيف .. كيف عرفت أين أسكن ؟
تمتمت الفتاة بتلك الكلمات متلعثمة وبدا واضحاً أنها في حالة من الصدمة سار رافايللو إلى الداخل وأغلق الباب خلفه فتراجعت ماغي إلى الوراء لتحول بينه وبين طفلها .
قطب رافايللو جبينه يا إلهي هل تظن أنه قد يسبب الأذى لابنها ؟
قال لها بنبرة جافة : لا داعي لان تصابي بالذعر آنسة جونز أخذت عنوانك من وكالة الاستخدام التي تعملين لديها هذا كل ما في الأمر وانتظرت طيلة النهار لآتي وأتحدث إليك ثانية لكنك لم تأتي إلى هنا إلا منذ وقت قصير أين كنت طيلة الوقت ؟
لقد جعل الأمر يبدوا وكأنها تغيبت عن المنزل دون مبرر .
قالت ماغي بنبرة مستسلمة : كنت في الخارج .
وقفت بالقرب من سرير بنجي بشكل يسمح لها بحمله والهرب به بسرعة إذا ما اضطرت إلى ذلك ثم تابعت تقول : أنا لا أمضي الكثير من الوقت هنا .
أصدر زائرها صوتاً يدل على السخرية من حنجرته ثم قال وهو ينظر حوله : هذا ما فهمته بنفسي من أين يأتي صوت الموسيقى الصاخب هذا ؟
_ من الغرفة المجاورة إنه يحب الصوت المرتفع .
_ لكنه أمر لا يمكن احتماله .
_ نعم .
وافقته ماغي وهي تفكر أنها تتحمله على الرغم من هذا وكذلك يفعل كل من في المبنى كانت ما تزال في حالة صدمة وهي تعلم ذلك .
كانت قد أوشكت على إقناع نفسها بأن ما حصل في الصباح لم يكن سوى أوهام من نسج خيالها والآن ها هو الرجل يقف إلى جانبها كأنه خارج من الحلم .
رافايللو دي فيسنتى .. راح الاسم يرن في رأسها مدغدغاً حواسها هذا الاسم يناسبه تماماً أدركت ماغي ذلك وهي تتأمل هيئته الإيطالية المهيبة التي تدل على الثراء والرجولة رمشت بأجفانها بعد ان أدركت أنها كانت تحدق بالرجل حتى كادت تلتهمه بنظراتها سار الرجل باتجاه الطاولة التي تستخدمها كطاولة طعام ولكافة الاستخدامات الأخرى أيضاً فوضع حقيبته الجلدية المليئة بالمستندات وما لبث أن أخرج منها مجموعة من المستندات .
_ لدي هنا الوثائق الضرورية أرجو منك أن تقرئيها قبل التوقيع عليها .
ابتلعت ماغي ريقها : أنا لن أوقع على أي شيء سيد فيسنتى .
_ دي فيسنتى وأنت ستصبحين السنيورا دي فيسنتى يجدر بك أن تتعلمي لفظ الاسم بصورة صحيحة .
شعرت ماغي فجأة بتعرق راحتي كفيها فمسحتهما بجانب بنطلونها .
_ حسناً سيد .. دي فيسنتى أنا .. أنا لا أظن أن بإمكاني مساعدتك حقاً .. ! إن الأمر غريب بالنسبة لي …
فتشت في أنحاء ذهنها يائسة كي تجد عبارات مناسبة لتقول له أن الأمر كله مربك بالنسبة إليها وإنها لن تقدم على مثل هذا الأمر .
ارتفع حاجباه المقوسين وردد قائلاً : غريب ؟
ثم أومأ بسرعة وتابع يقول : نعم إنه كذلك آنسة جونز لكن كما سبق وقلت لك هذا الصباح ليس لدي خيار آخر .. إن الأمر يتعلق ب‘دارة شركة الأسرة شركة فيسنتى .. لا أعتقد أن معرفة التفاصيل تهمك لكن لدي أسباب كافية تجعلني أقدم على زواج مؤقت وفق شروط محددة لكن هذا الزواج سيكون شرعي تماماً لسوء الحظ أنا مضطر على هذا الزواج المؤقت .
انفجرت ماغي قائلة : لما اخترتني أنا ؟ رجل مثلك يستطيع الفوز بأي امرأة .
تقبل رافايللو إطراءها هذا كأنه تقرير للواقع ليس أكثر .
_ فكري بعرضي هذا ليس كعرض زواج بل كوظيفة وظيفة مؤقتة آنسة جونز .
ثم غدا صوته أكثر جفاء وهو يتابع قائلاً : هذا هو الأمر الذي لم تستطع .. المرشحة السابقة لهذا الزواج تقبله .
حرك يديه بإيماءة تدل على جذوره الإيطالية بوضوح وأنهى كلامه قائلاً : إنها المرأة التي رأيتها صباحاً .
_ هل كنت على وشك الزواج منها ؟
_ نعم لكنها لسوء الحظ .. انسحبت في اللحظة الأخيرة من هنا برزت حاجتي إلى إيجاد بديلة لها فأنا مضطر إلى الزواج بأقرب وقت ممكن .
عادت ماغي تقول بإصرار: لكن لم اخترتني أنا ؟
كانت لا تزال ترى بأن عرضه مناف للعقل لكن معرفتها بأنه كان على وشك خوض هذا الزواج الغريب مع تلك الحمقاء التي رأتها تخرج من منزله بشكل عاصف جعل الأمر قابلاً للتصديق .
لكن رغم ذلك فإن اختياره لها كبديل عن تلك المرأة بقي أمراً لا يصدق فبعد كل شيء من المؤكد أن رجلاً مثله يعرف العديد من النساء الأخريات المخولات لزواج مماثل .
_ اخترتك لأن هناك فارقاً أساسياً بينك .. وبين امرأة مثلها أماندا تريد ذلك المال أما أنت …
توقف عن الكلام قليلاً ونظر نحوها وكأن عينيه تمكنتا من رؤية ما في قلبها ثم تابع يقول : أما أنت فبحاجة لهذا المال ما يجعلك أكثر واقعية تجاه المسألة .
تسمرت ماغي بمكانها أما هو فتابع كلامه بكل قسوة : أنت فعلاً بحاجة إلى ذلك المال آنسة جونز تحتاجينه بشدة لتنقذي نفسك .. وتنقذي طفلك أيضاً .
روعتها نظرات عينيه الداكنتين وبدا لها كأنه الشيطان نفسه يحاول إغرائها باغراءات تفوق طاقتها .
_ لا يمكنك متابعة العيش هنا تعرفين أنك لا تستطيعين عليك الخروج من هنا والمال سيؤمن لك هذا إنه بمثابة إنقاذ لحياتك وحياة ابنك اقبلي .. اقبلي المال الذي أعرضه عليك .
شحب وجه ماغي وتمكن رافايللو من رؤية قسماتها تتغير لقد طرح إيجابيات عرضه دون شفقة كأنه يقوم بعرض صفقة تجارية صعبة خرجت كلماته كسوط يجلد كل زاوية من منزلها البالي .
_ إنني أحمل مفتاح حياة جديدة .. مستقبل جديد .. مقابل أربع أسابيع من حياتك هذا كل ما أطلبه في المقابل تمضين شهراً برفقتي ثم تعودين حرة من جديد حرة مع مال كاف لإخراجك من هذا المكان إلى الأبد .
راح يحدق في عينيها بنظرات ثاقبة لم تستطع ماغي التفكير أو الإحساس بأي شيء بل بالكاد تمكنت من التنفس .
_أنا … أنا لا أعرف ممن أنت .. يمكنك أن تكون أي شخص ..
تلاشى صوتها قبل أن تكمل .
ارتفع ذقنه بغطرسة بدت متأصلة في جيناته وتمكنت ماغي من رؤية ذلك .
_ أنا رافايللو دي فيسنتى عائلتي من أكثر العائلات احتراماً وعراقة و أنا المدير التنفيذي لشركة فيسنتى وهي شركة تقدر بأكثر من أربع مائة مليون يورو أنا لا أضطر عادة إلى إظهار أوراقي الثبوتية للتعريف عن نفسي .
ابتلعت ماغي ريقها وتمتمت قائلة : نعم حسناً ! لكني في الواقع لا أنتمي إلى هذا الوسط الاجتماعي كي تكون معروفاً لدي .
تابع رافايللو كلامه بالنبرة المتغطرسة ذاتها : إن العرض الذي أقدمه لك هو بالضبط ما حاولت تلخيصه لك ليس هناك أي نوايا خبيثة أو خدعة ما مخبأة وراء كلامي يمكنك من التأكد من ذلك من خلال التحدث مع محامي إن أردت .
وأشار بيده نحو الطاولة متابعاً : إن ما ستقرئينه في هذه الأوراق هو بالضبط ما ستحصلين عليه والآن أرجوك أخبريني ما الذي يمنعك من التوقيع على الأوراق ؟
حدقت ماغي به بشراسة وفكرت لا يمكنها الزواج برجل مثله غني ووسيم إلى هذا الحد لا يمكنها أن تتزوج من رجل يبدوا وكأنه قفز من إحدى مجلات أخبار المشاهير مهما كان سبب الزواج ومدته يبدو الأمر جنونياً وغير عقلاني .. إنه ..
سمعت ماغي صوت بكاء قطع عليها حبل أفكارها يبدو أن بنجي سئم من لعبة أحجار البناء البلاستيكية فهدم ما كان قد بناه وبدأ بالصراخ بشكل آلي اتجهت ماغي نحو السرير لترفع بنجي بين يديها فتوقف عن البكاء واستدار ليراقب ذلك الرجل الغريب الذي يقف في وسط الغرفة ضمته ماغي إلى صدرها وشعرت بدقات قلبه القوية فوق جسدها .
قال رافايللو بهدوء : مائة ألف جنيه فكري .. فكري بما ستتمكنين من القيام به بهذا المبلغ الضخم .
بدأ جسد ماغي يرتجف أرادت بيأس أن يرحل رافايللو حالاً .. أن يأخذ محفظته وحقيبة يده الغالية الثمن ويخرج قبل أن يغويها كالشيطان نفسه .
_ لن تفعلي هذا من أجلك بل من أجل طفلك .
أغمضت عيناها محاولة عدم سماع صوته الناعم المغري .
_ إذا خرجت الآن ولم أعد أبداً كيف ستتمكنين من المضي في حياتك وأنت تعلمين أنك رفضت الفرصة الوحيدة لإخراج طفلك من هذا المكان المزري إلى الأبد ؟
كان جسدها مازال يرتجف فأخذت تحتضن طفلها بقوة أكبر حتى بدأ بنجي يحتج مبدياً انزعاجه .
_ أربع أسابيع ليس أكثر .. في منزل عائلتي في إيطاليا وهو منزل محترم جداً آنسة جونز أؤكد لك ذلك .. وبعدها تصبحين حرة .
قالت بصوت مرتفع سيأتي بنجي برفقتي .
فتح رافايللو يديه وقال : بالطبع سيأتي الطفل معك .. هذا أساسي .
لم يكن عليه أن يشرح لها لما على عروسه أن تصل برفقة طفل لا والد له سحب من جيب سترته الداخلي قلماً مطلياً بالذهب رفع عنه الغطاء وقدمه إليها قائلاً : عليك فقط أن توقعي الأوراق هيا … !
لم تستطع مقاومة نبرة صوته الاستبدادية .. تحركت ببطء وكأنها تسير في نومها وأعادت بنجي إلى السرير متجاهلة بكاءه واحتجاجه المستمر تصدق أن ما يحصل حقيقي .. فكرت أنها ستستفيق وفي أي لحظة لتكتشف أنها تحلم ليس إلا .
قدم القلم إليها فأخذته وكأنها تحت تأثير مخدر نظرت نحو الطاولة حيث راح رافايللو يقلب صفحات المستند حتى وصل إلى الصفحة الأخيرة فمد إصبعه ليدلها أين توقع .
سال الحبر من القلم الذهبي فوق الورق راسماً خطوطاً منحنية مصقولة ناعمة رغم ارتجاف يدها وهي توقع بدا لون الحبر في ضوء نهاية النهار كلون الدماء وحين سلمته الأوراق وهو يقف إلى جانبها كشبح شيطاني داكن شعرت بأمواج الضعف والوهن تسري في داخلها .
ما الذي فعلته ؟ آه يا إلهي ! ما الذي فعلته ؟
لكن .. مهما كان الأمر لقد فات أوان الندم .
جلست ماغي تحدق من النافذة المكورة نحو الغيوم المضاءة بنور الشمس فيما بنجي نائم في حضنها لقد عانى الطفل من الأرق منذ إقلاع الطائرة لكنه خلد أخيراً إلى النوم .
نظرت بلمحة سريعة عبر الممر الضيق للطائرة نحو رافايللو دي فيسنتى رأته يقلب أوراقاً وضعها أمامه على الطاولة وقد بدا منشغلاً جداً لم يكن هناك أي ركاب آخرين غيرهم على متن الطائرة الخاصة الفخمة وهي تتوجه نحو أوروبا يا لها من تجربة غريبة لماغي التي لم تسافر في حياتها من قبل !
منذ ذلك المساء الذي وقعت فيه الأوراق حتى اليوم لم ترى ماغي رافايللو أبداً كلف أحد موظفيه الصغار أن يؤمن مستندات الزواج ويصطحبها لتسجيله رسمياً وإعداد جوازي سفر لها و لبنجي .
مرت مراسم الزواج بشكل سريع يدعو إلى السخرية كان عليها قول بعض الجمل في أوقات محددة وهذا ما قامت به لكنها الآن وهي تجلس محدقة نحو الغيوم لا تتذكر سوى رجل صاحب قامة طويلة يقف إلى جانبها وصوت عميق ذو لهجة غريبة يتكلم معها ومع أمين السجل وهذا كل ما في الأمر .
لكن اللحظة الوحيدة التي لم تنسها هي حين قام ذلك الرجل بإمساك يدها ووضع خاتم الزواج في إصبعها في تلك اللحظة شعرت بتيار كهربائي يسري في جسدها ربما كانت لمسة يده الباردة هي السبب ليس إلا بعد ذلك طلب منها القيام بالأمر نفسه وأدركت أنها لن تتمكن من القيام بذلك إلا بصعوبة وقد أخذت يداها ترتجفان دون إرادتها .
تدبرت ماغي هذا الأمر لكن صوت بنجي في الغرفة المجاورة حول انتباهها كلياً عن متابعة المراسم وحالما تمكنت ركضت خارجاً إلى بنجي ورفعته بين ذراعيها ثم أتى رافايللو وقال بلطف ولكن دون أي نبرة شخصية ودودة : إن كنت جاهزة فإن علينا الذهاب .
أقلتهما سيارة ليموزين إلى مطار هيثرو ولم يقل لها زوجها الجديد أي كلمة باستثناء سؤالها بالنبرة السابقة نفسها إن كانت مرتاحة وإن كانت قد حصلت على كل ما طلبته .
استنتجت ماغي أنه كان شارداً مثلها تماماً خلال المراسم .
تزايد شرودها وتعبها الذهني عمقاً وقالت لنفسها سيري مع التيار راحت تلمس شعر بنجي الحريري بيدها وهي تحدق مجدداً بالنافذة علمت أن الصدمة هي التي ساعدتها على متابعة المهمة لكن رغم لا مبالاتها وفقدانها الإحساس بالأمور كانت تشعر ببعض الإثارة فبغض النظر عن الظروف الغريبة إنها المرة الأولى التي تسافر فيها خارج البلاد .
إيطاليا ! هل هي حقاً مسافرة إلى هناك ؟ منذ أن وافقت على الزواج من رافايللو دي فيسنتى قامت بجمع أكبر عدد من الكتب لأخذها معها إلى إيطاليا أصبح الكتاب عزائها الأخير منذ أن اكتشفت أن الطريقة الوحيدة للابتعاد عن الواقع فهو يأخذها إلى أماكن سحرية حيث يوجد أشخاص رائعون ..
نظرت ماغي إلى تلك السحب المشعة حيث يمتد عالم خفي يرتفع عالياً فوق الأرض وعادت إليها ذكرياتها مع كايس تجهم وجهها فجأة فرغم أنها تشعر بالأسف على طفل هجره أهله كلياً إلا أنها ترى نفسها محظوظة مقارنة بكايس فهي كانت ضعيفة جداً ذات عظام ركيكة وعينين واهنتين بسبب المعاملة السيئة لذا أخذوها من زوج والدتها المدمن ووالدتها السيئة .
تحرك بنجي بين ذراعيها فانحنت ماغي وقبلت شعره الداكن بلطف وقلبها يفيض حباً وعطفاً رفعت بصرها مجدداً نحو النافذة وفكرت أنها أصابت بقبول هذا الزواج الغريب فمهما بدا الأمر غريباً لقد فعلت ذلك لأمر مهم جداً .. من أجل بنجي !
لأول مرة منذ أن قلب رافايللو حياتها رأساً على عقب شعرت ماغي بالهدوء والراحة .
تنعمت بتلك الراحة حتى وصلت الطائرة إلى المطار الإيطالي الذي يعج بالناس أخذ بنجي يبكي ويصرخ مجدداً حين سدت أذنيه مجدداً بسبب تغير الضغط الجوي عند الهبوط في بيزا .
ضغطت على ظهرها يد بإلحاح ولكن ليس بخشونة إنه الرجل الذي تزوجت به منذ بضع ساعات يحاول إرشادها إلى الطريق الصحيح .
_ من هنا .
شقا طريقهما خارج المطار حيث كان هناك سيارة ليموزين ضخمة في انتظارهما خلال لحظات قليلة أصبحا في داخلها وقادهما السائق نحو زحمة الطريق ..
استغرقت الرحلة أكثر من ساعة في السيارة وبعد أن قطعا الشوارع المزدحمة أصبح القسم الأخير منها رائعاً .
حدقت ماغي من النافذة لتشبع ناظريها بمناظر توسكانا الخلابة بعيداً عن ضجيج لندن وشوارعها الممطرة وبينما سارت بهم السيارة أخذت تدل بنجي الذي وضع كرسيه قرب النافذة تماماً على أشياء في الخارج وهي تنحني فوقه وقد رأت ذلك فرصة لتبعد المسافة بينها وبين الرجل الذي يحتل الجهة الثانية من السيارة الضخمة .
راقبت إشارات الطرقات المكتوبة بالإيطالية والسيارات التي تسير على الجهة الخاطئة من الطريق بالمقارنة مع لندن بعد قليل لاحظت أن السيارة بدأت بالصعود متجهة نحو الجبل كانت أشعة الشمس منتشرة في
تلك الأنحاء تغمر أشجار السرو والبيوت الحجرية التي تتناثر هنا وهناك في القرى الجبلية وحولها امتدت حقول الزيتون والعنب حيث تسرح قطعان الماعز والخراف .
أخيراً وبعد أن أصبحت الطريق ضيقة تماماً وتلاشت الزحمة تباطأت سرعة الليموزين وانعطفت لتدخل بوابة حديدية ضخمة في تلك اللحظة سمعت رافايللو يعلن ؟: ها قد وصلنا !
نظرت ماغي نجوه بشكل خاطف بدا وجهه خالي من التعابير وقد ظهر عليه التوتر ما جعلها تشعر بالتوتر أيضاً .
وكأنما رافايللو قد قرأ توتر أعصابها فتكلم فجأة : كوني هادئة ! ليس هناك ما تخافين منه بالنسبة لك هذه مجرد وظيفة أرجوك تذكري هذا .
أتراها تتخيل أم أنه فعلاً بدا متجهماً وقد ظهر الغضب في صوته ؟ نظر إليها بتجهم ثانية ما أثار قشعريرة في جسدها لكن ماغي شعرت أن غضبه ليس موجهاً نحوها هي بالذات بل كان سبب اضطراره للزواج بغض النظر عن هوية الزوجة .
وقفت السيارة أمام فيلا ضخمة تشبه قصراً كبيراً فاتسعت عينا ماغي أمام روعتها إنها فيلا ذات طابع تاريخي أصيل حجارتها القديمة تغير لونها بسبب العوامل الجوية وقد انتصب بابها الخشبي الضخم عالياً أما الطريق إليها فقد امتدت خلفها متجهة نحو الغابة والتلال القريبة .
رفعت ماغي بنجي بحذر من السيارة وحملته فوق خصرها وكان قد استيقظ منذ فترة بسبب حركة السيارة القوية وهي تجتاز الطرق الوعرة .
شعرت كأن هواء بعد الظهر الدافئ بمثابة نعمة لها بعد تعودها على هواء المكيف في الليموزين وذلك لما لفحتها حرارة الهواء كانت ترتدي فستاناً قطنياً فضفاضاً وهو الثوب الذي رأته مناسباً للرحلة رغم أن سعره لا يتجاوز الجنيهات الخمس ورغم أن طرازه يناسب امرأة في الخمسين أكثر مما يناسبها لكن ذلك لا يهم فلو كان لدى رافايللو أي اعتراض لقدم لها بديلاً عنه .
حين أصبحا بالقرب من الباب فتح الباب وخرج منه رجل كبير السن يرتدي قميصاً وسترة طويلة وفهمت ماغي أنه كبير الخدم .
رحب الخادم برافايللو ومع أنها لم تفهم كلمة مما قاله لكنها علمت أنه لم يكن يتوقع قدومه وبالتأكيد قدومها أيضاً .
تبع ذلك المزيد من العبارات الإيطالية السريعة لاحظت ماغي ردة فعل الخادم و تعابيره المصدومة حين رآها وبنجي وقد بدا غير موافق أبداً على ما حدث .
أصبح الجميع داخل المنزل الآن التفت رافايللو نحوها ليقول بصوت عادي جداً دون إبداء أي اهتمام شخصي : لا بد أنك مرهقة وكذلك الطفل أنا واثق من أنك ترغبين أن ترتاحي بعض الوقت .
أكملوا طريقهم صعوداً عبر درج ضخم نحو الطابق الثاني ولم تستطع ماغي منع نفسها من التحديق حولها بذهول تام فالمنزل من الداخل بدا جميلاً بقدر جماله من الخارج جدرانه البيضاء مزينة بالرسوم الزيتية الفخمة وأرضه من الرخام الغالي الثمن أما درابزين الدرج فمصنوع من الحديد المزخرف بدقة بدا كل شيء تاريخياً وباهظ الثمن ولا يشبه الشقق العصرية الفخمة التي كانت تقوم بتنظيفها .
لم تصدق ماغي ما كان يحدث هل ستعيش حقاً في ذلك المكان الفخم لعدة أسابيع ؟
أخذها رافايللو إلى إحدى الغرف الكبيرة ومجدداً أخذت تنظر حولها بذهول غطى معظم مساحة الغرفة سرير خشبي ضخم مزخرف بالإضافة إلى بعض المفروشات فرشت الأرض سجادة عجمية رائعة أما النافذتان الموجودتان في الغرفة فقد تدلت فوقهما ستائر سميكة تنسدل على طول الحائط …
أعلمها رافايللو بنبرته الجافة المعتادة : يمكنك الوصول إلى الحمام التابع لهذا الجناح عبر الباب هل لديك كل ما تحتاجين إليه أنت والطفل ؟ يمكن لغوسيب أن يحضر لك أي شيء تطلبينه منه .
هزت ماغي رأسها وهي تشعر بالارتباك كان الخادم قد لحق بهما إلى الأعلى وهو يحمل حقائب سفرها فكرت ماغي أن تلك الحقائب البالية لا يبدوا عليها الانتماء إلى هذا المكان مثلها تماماً ..
نظر رافايللو إلى ساعته وقال : جيد ارتاحي أنت والطفل هل تريدين بعض القهوة ؟
هزت ماغي رأسها وقالت متلعثمة : شكراً لك .
قال رافايللو مجدداً : جيد سيرشدك غوسيب إلى الأسفل بعد أن ترتاحي لبعض الوقت آه …
صمت قليلاً ثم نظر نحوها مجدداً وقال : لا داعي لتغير ملابسك .
انصرف رافايللو وانصرف غوسيب معه .
حين أصبحت ماغي وحدها عادت لتنظر إلى الغرفة مجدداً من الواضح أن عليها البقاء في هذا المكان حتى يتم استدعائها ولكنها لا تستطع أن تتذمر فالغرفة مكان فخم وجميل إلا أنها شعرت بالقلق لأن كل ما في الغرفة باهظ الثمن جداً وكثير عليها وعلى بنجي .
أما بنجي فبدا متلهفاً لينطلق مستكشفاً الغرفة وضعته ماغي أرضاً فأخذ يتحرك بسرعة محاولاً اكتشاف المحيط الجديد وسرعان ما توجه نحو السرير الكبير لم تكن مضطرة لطلب سرير للطفل فالسرير كبير جداً ويتسع لها و لبنجي معاً .
ويتسع لزوجها أيضاً !
أزاحت هذه الفكرة جانباً رافايللو دي فيسنتى لم يكن زوجها سوى في الأوراق الرسمية لا أكثر .
نزل رافايللو عبر الدرج مجدداً إلى نحو الطابق السفلي وهو متجهم الوجه لم يكن يتطلع بحماس للمواجهة القادمة لكنها كانت مواجهة أساسية ولا يمكن التهرب منها عليه أن يعلم والده مرة و إلى الأبد أنه ليس لعبة يتحكم بها وفق مزاجه .
إن الشركة فيسنتى التي أسست منذ أكثر من مائة عام للمحافظة على ثروة العائلة التي تملك الكثير من الأراضي والعقارات هي بالنسبة لوالده بكل بساطة مؤسسة تجارية تؤمن حياة الرفاهية لآل دي فيسنتى .
أما بالنسبة لرافايللو فهي أكثر من ذلك لأنه يتفهم عام الأعمال جيداً ولكي تستطيع شركة دي فيسنتى أن تصمد في القرن الواحد والعشرين عليها أن تأخذ موقعاً مهماً في التجارة العالمية بات على رافايللو أن يحارب بشدة من أجل استراتيجيته لجعل شركة فيسنتى عالمية و لإقناع والده بهذا قد يكون هو المدير التنفيذي لكن والده هو رئيس مجلس الإدارة ومالك معظم الأسهم لطالما نظر والده إليه بتذمر ورفض مطالب رافايللو بانفتاح الشركة على السوق الأوربية ورغم أن عائدات الشركة في ازدياد مستمر إلا أن رافايللو يعلم أن والده كان يفضل أن تبقى الشركة مؤسسة محلية كما كانت دائماً .
لكن رافايللو عمل بجهد ليجعل الشركة تنتشر وتتوسع وهو ليس مستعداً أن يرى تعبه يذهب سدى أو ان تذهب الشركة للغرباء ولمنع حصول ذلك كان مستعداً للقيام بأي شيء .
مشى عبر الصالة ذات الأرضية الرخامية نحو المكتبة التي سيستخدمها كمكتب له وقف أمام النافذة التي تطل على البركة المزخرفة ونافورتها الجميلة أبعد قميصه إلى الخلف ووضع يديه فوق خصره وراح ينظر إلى الخارج بعصبية . ياله من حظ سيئ إن والده خارج المنزل في الوقت الذي يريد منه أن يكون موجوداً هنا أعلمه غوسيب عند وصوله أن والده وابنة عمه قد خرجا باكراً لتناول الفطور ولن يعودا إلا في وقت متأخر من بعد ظهر اليوم .
ستكون هوية الفتاة التي أحضرها معه مفاجأة للجميع آه ! نعم بالتأكيد ستكون مفاجأة كشر رافايللو مبتسماً إنها مناسبة تماماً كما أرادها أن تكون فمع طفل يتدلى فوق خصرها وفستان رخيص فضفاض على جسدها النحيل وشعر بني مربوط إلى الخلف بدت فعلاً مناسبة تماماً .
توترت ضحكته قليلا ً سيستشيط والده غيظاً ليس لأنه أحبطه فقط بل لأنه أهان اسم العائلة بزواجه من فتاة مثل ماغي .
ابتعد عن النافذة وذهب للجلوس خلف المكتب ربما يتمكن من العمل قليلاً بينما ينتظر عودة والده فقد يلهيه ذلك عن التفكير بالمواجهة المحتمة .
تساءل رافايللو لما على الأمور أن تسير بذلك الشكل ؟ لم هذا النزاع المؤلم الغير ضروري مع والده ؟ ألم يكن بإمكانه أن يتكلم معه ببساطة من دون هذا التحدي ؟
تنهد بحسرة لقد تحدث إلى غوسيب وزوجته ماريا في الخمس عشرة سنة الماضية أكثر مما تحدث مع والده فهما من اعتنيا به خلال فترة المراهقة والبلوغ أما والده فقد اعتبره فاسقاً وحاول إجباره مرات عدة على الزواج ظهر التوتر على فمه .. لو أنه وجد أي أمل للتواصل مع والده لما قام بالزواج من هذه الفتاة بهذا الشكل مر ظل خفي أمام عينيه إنها صورة والدته المتوفاة ترتسم أمامه لقد ماتت أمه في حادث سير مروع وهو في الخامسة عشرة من عمره ما سبب هذا التنافر الشديد بينه وبين والده .
بالنسبة لوالده جعله فقدان زوجته التي كان يعشقها يتوقف عن الاهتمام بابنه الوحيد أما رافايللو فقد
كان يعلم الآن بنظرته الثلاثينية الثاقبة أن تصرفاته الطائشة خلال المراهقة السرعة في القيادة والخروج برفقة الفتيات .. كانت عبارة عن صرخة من قلبه لجذب الانتباه والمساعدة والحب من والده الذي ابتعد عنه كثيراً في الوقت الذي كان هو في حاجة ماسة إليه .
أما الآن فقد فات الأوان وأصبح الجدار الفاصل بينهما أعلى وأمتن زادت قساوة والده وكذلك قساوته ولم يعد بينهما سوى التحدي والمواجهة .
سمع رافايللو صوت سيارة تتجه إلى المرآب ما دفعه للنظر إلى الخارج تمكن من التعرف على سيارة لوسيا المكشوفة المخصصة لراكبين فقط لطالما كان من المهم لها ان تقود سيارة فخمة وترتدي ثياباً لأشهر المصممين وأن تخرج مع الأشخاص المرموقين لذا فهي تملك رغبة قاتلة بالزواج من رجل غني .
ما إن سمع أصواتاً في الصالة حتى خرج من المكتب مرغماً نفسه على إظهار الراحة والفرح .
_ قال والده : رافايللو !
_ تقدم رافايللو : بابا ! .
استغرب انريكو دي فيسنتى قدوم ولده وسأله : متى وصلت إلى المنزل ؟
أجابه باقتضاب وهو يتوجه نحو قريبته الواقفة بذهول : بعد ظهر اليوم .
أكمل بشكل رسمي : لوسيا ! .
وانحنى ليعانقها شم رائحة العطر القوي الذي تضعه ولاحظ كثافة التبرج على وجهها رغم أنها فتاة جميلة لا تحتاج إلى كل هذا التبرج وهي تعلم ذلك .
تمتمت بنبرة صوت عادية : رافايللو .. يالها من مفاجأة !
رمقته بنظرة تقييمية ردها لها رافايللو على الفور بنظرات ملطفة وأجاب باقتضاب : كما ترين لقد عاد الشاب الطائش نهاراً ممتعاً ؟
ردت لوسيا : نعم كثيراً ! اصطحبني عمي انريكو لتناول الفطور في أحد معارض فيرنز هناك معرض لفنان أعشقه .
علت فم رافايللو ابتسامة مهذبة وتمتم قائلاً : وهل يعشقك هو أيضاً ؟
تجهم وجه لوسيا على الفور وقالت : لا تهاجمني رافايللو .
هز كتفيه قليلاً فهو يدرك أن لوسيا لا تنتقي عشاقها إلا من الوسط الفني وهم شبان يخرجون معها بسبب تأثير وجودها الإيجابي على مهنتهم وهذا واحد من الأسباب الكثيرة التي جعلته يرفض الخضوع لإصرار والده على تزويجه منها ربما يكون تقليدياً في تفكيره وهذا فعلاً ما كانت تقوله لوسيا عنه بضحكة هازئة لكنه بالتأكيد يفضل أن تكون زوجته أقل اختلاطاً بالرجال منها .
تجمد رافايللو في مكانه حين استخدم كلمة زوجة فوجود فتاة إنكليزية في الحادية والعشرين من عمرها غير جميلة وغير مغرية على الإطلاق في الطابق العلوي مع طفل بدون اسم وبدون والد ومع ذلك فهي تعتبر بحسب القانون زوجته الشرعية جعله هذا يشعر بصدمة لا تصدق هل قام حقاً بهذا ؟ ما فعله ما زال يبدو غير حقيقي ومجرد وهم .
عاد والده يتكلم وبدا صوته ساخراً : هل يمكنني أن أسأل عن سبب هذه الزيارة المشرفة والمفاجأة ؟
تلألأت عينا رافايللو الداكنتين : بابا غداً عيد ميلادي الثلاثين وأنت بالتأكيد كنت تتوقع مجيئي .
ضاقت عيني انريكو دي فيسنتى وسأله : حقاً ؟
ابتسم رافايللو وتابع : و أنا ألتزم بواجباتي تعالا وانضما إلي في الشرفة أعتقد ان علينا الاحتفال قليلاً .
لاحظ رافايللو نظرات لوسيا المتفحصة وانتباهها المفاجئ للموضوع فانتقل بنظره من والده ليبادلها نظرات اللطف ابتسم بتهذيب و لمعت عيناه حالما قبل والده الدعوة إلى الشرفة .
_ لوسيا ستنضمين إلينا أنت أيضاً بالطبع .
راقب كيف علت وجهها تعابير الرضى المبطنة وهي تتحرك إلى جانبه .
_ امرأة في حقل ألغام
اتخذ انريكو لنفسه مقعداً بجانب الطاولة الحديدية المزخرفة التي وضعت عند آخر الشرفة المقابلة لقاعة الاستقبال الرسمية .
قال بصوت حاد وهو يوجه نظرات أكثر حدة من صوته نحو ولده : حسناً ! هل يعقل أن تكون قد عدت إلى رشدك أخيراً ؟
شعر رافايللو بضيق شديد كأن حزاماً راح يشد فوق صدره مجدداً لكنه أجاب بصوت عادي : وهل لديك شك بذلك ؟
أصدر والده صوتاً من حنجرته يدل التذمر والانزعاج وقال : أعلم أنك عنيد وأناني ولطالما كنت كذلك !
قال رافايللو بهدوء : حسناً ! لمرة واحدة سأكون الابن المثالي …
وإن كان ضمن نبرة صوته بعض السخرية إلا ان أحداً غيره لم ينتبه لذلك تابع يقول : .. ولكن أول أريد أن أتأكد أني إن فعلت ما تريد وتزوجت في عيد ميلادي الثلاثين ستعطيني الحرية المطلقة في إدارة الشركة أليس كذلك ؟
علق والده : ها .. تعلم جيداً أن الأمور ستسير على هذا النحو بالذات .
_ وهل تعدني بذلك حقاً ؟
_ بالطبع .
ابتسم رافايللو وقال بهدوء وبصوت مهذب : في هذه الحالة إذاَ عليك تقديم التهنئة لي والالتزام بالجزء المتعلق بك في الاتفاق .
تسمر والده في مكانه وتمسكت يداه بقوة بذراعي الكرسي ولم يتمكن من النطق بأي كلمة لبضع لحظات أما لوسيا _ وعلى العكس منه تماماً فقد ضحكت قليلاً وتكلمت على الفور بصوت مليء بالغزل الغاضب : يا لك من رجل شيء ! أهذه طريقتك لطلب يدي ؟ لكنني سأعاقبك على عدم لباقتك تأكد من ذلك .
ثم أطلقت ضحكتها الرنانة مجدداً والتفتت نحو والده تمازحه بغنج نسائي : أخبرني انريكو كيف سأعاقب ولدك الفظ الذي تنقصه اللباقة في التقدم لطلب يد امرأة بشكل مهذب .
مرة أخرى ضحكت قليلاً لكن بدلال أكثر هذه المرة ونظرت مجدداً نحو من اعتقدت بأنه أصبح زوج المستقبل بدت نظرة رافايللو فضولية وكان يشعر بمزيج من التوتر والراحة أشار بيده ثم قال : قبل أن نتابع أظن أن الوقت حان للاحتفال .
وعلى الفور ظهر غوسيب حاملاً صينية العصير إلى الطاولة فتمتم له رافايللو بضع كلمات لم يسمعها أحد سواه فهز غوسيب رأسه وانسحب وشغل رافايللو نفسه بملء أكواب العصير وتوزيعها .
قالت لوسيا بغضب وسخط : لقد جلب غوسيب كوباً إضافياً أظن أن الوقت قد حان ليتقاعد ويكف عن العمل .
أعطاها رافايللو كوبها وهو يقول بخفة : حين تصبحين سيدة المنزل تصرفي كما يحلو لك .
ظهرت ابتسامة رضى وافتخار خفيفة على زاوية فمها رآها رافايللو لكنه لم يعلق على الموضوع اكثر .
أخذ والده كوبه ووقف وهو يرفعه برضى شديد : سأقترح نخباً .
بدا مسروراً جداً لقرار ابنه وكذلك كانت ابنة أخيه .
_ نخب السنيورا دي فيسنتى الجديدة .
رفع رافايللو كوبه وتمتم : يا للطف ! في الوقت المناسب أيضاً .
سمع صوت شخص قادم وسرعان ما التفت رافايللو باتجاهه .
وقفت الفتاة هناك ووقف غوسيب خلفها تماماً .. شعر رافايللو بالرضى فقد بدت بالصورة التي أراد إظهارها بها وبينما التفت الجميع لينظروا إليها وقفت بفستانها البالي وشعرها المربوط إلى الوراء وفوق ذلك كله هناك طفل رضيع يبكي فوق ذراعيها .
وقف رافايللو وساعدها على التقدم نحوهم فيما بدت المرأة جامدة لا تبدي أي تفاعل على الإطلاق أمسك بيدها ليتأكد أنهما يريان خاتم الزواج قال بصوت مرتفع واضح : اسمحا لي أن أقدم لكم زوجتي سينيورا دي فيسنتى .
للحظة وبينما وقفت ماغي متجمدة متمنية لو انشقت الأرض وابتلعتها عم صمت مطبق على المكان .. وبعد ثوان قليلة ارتفع صوت صاخب ..
بدا صوت العجوز كزئير الأسد لم تفهم ماغي كلمة واحدة إلا أن الغضب الشديد والثورة في صوته سقطت كالإعصار فوق رأسها ..إلى جانبها أخذ رافايللو وهو زوجها بالمعنى القانوني يشد بقوة على ذراعها الأيسر .
علقت أنفاس ماغي في صدرها حين راح الرجل العجوز بصوت مرتفع يصرخ توقعت أن يكون هذا الرجل والد رافايللو لأنه يملك وجهاً متغطرساً وسمات مشابهة تماماً لرافايللو .
وقف الخادم صامتاً وكأن أحداً ضربه على رأسه بشيء حاد أما المرأة التي كانت تجلس قرب والد رافايللو العجوز فبدت صامتة ومذهولة تماماً .
للحظات طويلة بدت كأنها ساعات لم سمع شيء سوى صوت العجوز الإيطالي المرتفع الغاضب بعدئذ بدأ بنجي يبكي بذعر شديد .
حررت ماغي يدها من رافايللو لتتمكن من ضم ابنها بقوة فوق صدرها واستدارت لتدخل مجدداً إلى قاعة الاستقبال الفخمة ما الذي يجري بحق السماء ؟
قاطع صراخ العجوز صوت مرتفع آخر .. إنه صوت رافايللو الذي جاء صوته أكثر حدة وغضب حاولت ماغي أن تبتعد قدر المستطاع عن ذلك المكان وهي تضم بنجي إلى صدرها محاولة تهدئته لكن ذلك بدا مهمة مستحيلة .
فجأة شعرت بيد تمسك ذراعها وتنهرها بقوة اشتمت رائحة عطر نسائي قوي وسمعت صوت امرأة يوجه الكلام لها بالإيطالية ورغم أنها لم تفهم كلمة إلا أنها شعرت بالذعر .
قالت بصوت متشنج : أرجوك .. أنا لا أفهم ..
أخذت المرأة نفساً طويلاً وضاقت عيناها وهي تسألها : أنت إنكليزية ؟
وعادت تهز ذراع ماغي مجدداً : من أنت ؟ وما الذي تخططين له بالادعاء أنك زوجة رافايللو ؟
أرادت المرأة ان تدقق في خاتم ماغي فأمسكت يدها لتراه لكن ماغي أبعدتها عنها ليصبح جسدها حاجزاً بين تلك المرأة وبنجي الذي راح يبكي من الخوف ركضت بعيداً نحو الباب وعبرت القاعة الرئيسية ثم صعدت الدرج متوجهة نحو غرفة نومها وحين تأكدت أنها أصبحت بأمان أخت نفساً عميقاً من الارتياح .
كان بنجي أول من فكرت به لقد أصبح بكاؤه هستيرياً الآن وقد يتطلب منها عناء كبير كي تهدئ روعه جلست على السرير ووضعته في حجرها وراحت تهزه بلطف وحنان فتحسنت حالته تدريجياً ثم وضع إصبعه في فمه وبدأ يشعر بالراحة .
آه ! يا إلهي ! ما الذي فعلته بنفسي ؟ أرجوك .. أرجوك يا إلهي دعني أستيقظ وأرى أني مازلت في منزلي ..
لكن ذلك لم يكن حلماً كي تستيقظ منه فهي فعلاً في توسكانا متزوجة من رافايللو دي فيسنتى ويبدو أن عائلته أصيبت بالهلع حين سمعت الخبر .
سمعت صوت وقع خطوات غاضبة في الممر ثم سمعت صوت أبواب تغلق بعنف و أخيراً أغلق أحد الأبواب بعنف فاق كل ما قبله وشعرت ماغي أن المنزل اهتز بأكمله جراء ذلك .
هدأ الوضع لبعض الوقت ثم سمع صوت محرك سيارة يدور بعنف وانطلقت السيارة مسرعة ليختفي بعدها الصوت ويخيم بذلك صمت طويل في أرجاء المنزل .
فتحت ماغي حقيبة يدها وأخرجت منها تفاحة وبعض قطع البسكويت أكلها بنجي بشراهة كبيرة لكنه ظل يشعر بالجوع راحت تحاول إلهائه بأشياء أخرى لساعة أخرى تقريباً لكن جهودها ذهبت هباء حتى العصير لم ينفع معه فالطفل يحتاج إلى طعام يناسبه وإلى شرب الحليب لم تعد تملك خياراً عليها النزول للبحث عن بعض الطعام له . فتحت الباب بهدوء وقلبها يقفز خوفاً بدا المكان معتماً في الخارج فنزلت الدرج بحذر لتصل إلى الطابق الأرضي .
دخلت عبر ممر توقعت أن يوصلها إلى المطبخ وتمنت أن تجد غوسيب هناك فتحت باباً أمامها بحذر شديد وحين دخلت أدركت أنها وصلت إلى
مطبخ واسع قديم الطراز في الجهة المقابلة للباب رأت موقداً كبيراً وضعت فوقه أواني الطعام أما في وسط المطبخ وضعت طاولة خشبية كبيرة غطت معظم المساحة وخلفها نافذة قديمة الطراز أيضاً وقفت امرأة كبيرة السن تنظف قدراً نحاسياً كبيراً فوق مغسلة حجرية .
وقفت ماغي عند الباب مترددة فالتفتت المرأة نحوها سألتها بنبرة غير ودودة : نعم ماذا تريدين ؟
بدا وجهها قاسياً وتعبيرها بعيداً عن الترحيب ابتلعت ماغي ريقها وقالت متلعثمة بالإيطالية : عفواً هل .. من الممكن .. ؟
أملت أن يكون لفظها للكلمات صحيحاً كما تعلمته من كتاب تعليم الإيطالية التي اشترته مؤخراً .
قاطعتها المرأة وقالت بنبرة جافة : أنا أتكلن الإنكليزية ماذا تريدين ؟
أوشكت ماغي على الهرب والابتعاد بسبب قسوة المرأة حتى بنجي شعر بتلك القسوة ما زاده تعلقاً بأمه ابتلعت ماغي ريقها مجدداً وقالت بصوت يشبه الهمس : عفواً .. هل من الممكن بعد إذنك .. أن تقدمي بعض الحليب لابني ؟
نظرت المرأة نحو ماغي بعينين ثاقبتين من تحت حاجبيها الرماديين فشعرت هذه الأخيرة بتوتر شديد .
أخذت المرأة تتفحصها وتراقب ثيابها البالية وجسدها النحيل والطفل الذي تحمله ثم عادت تنظر إلى وجه ماغي المتوتر فجأة تغيرت تعابير المرأة فوضعت القدر جانباً وعلقت ببضع كلمات إيطالية لم تفهمها ماغي قبل أن تتحرك متجهة نحوها ثم قالت : تعالي .. تعالي اجلسي هنا ؟
أمسكت ماغي بقبضة قوية وحثتها على الدخول والجلوس على أحد الكراسي حول الطاولة .
_ أنت جائعة أليس كذلك ؟
مشت المرأة نحو الموقد حيث وضع العديد من الأواني وبواسطة إحدى الملاعق الخشبية الكبيرة سكبت من إحدى الأواني صحناً من السباغيتي ثم وضعت على وجه الصحن صلصة البندورة الحمراء وحملت صحن الطعام إلى ماغي وضعت الصحن على الطاولة ثم عقدت أحد مناديل الشاي الصغيرة حول عنق بنجي كي تحمي ثيابه من الصلصة .