5 _ تحلم بالقمر
كانت ليلة حارة جعلتها تنضح عرقاً فشعرت روندا وهي تنقلب دون راحة فوق فراشها أن غطاء بسيطاً مثل قماش الشرشف الرقيق لا يطاق .
جاء صباح مشرق آخر ليس في سماءه شائبة ولا نسمة عليلة تنبأ بيدرو بعاصفة قد تنتج عن هذا الطقس المزعج الخانق ووافقت روندا معه على أن طقس كئيب وطأته ثقيلة وقال بيدرو وهو يصب لنفسه فنجان قهوة آخر عند الصباح :
_ لا أظن أن العاصفة قد تحدث قبل أن ننهي رحلتنا بين الأطلال هذا إذا كنت ما زلت ترغبين في هذا .. ليت ماثيو يأمر بتمديد تكييف مركزي .. كانت غرفتي كالفرن ليلة أمس .
فابتسمت :
أعتقد أن التكييف أمر متطور حديث بالنسبة إلى جزيرة كهذه .
فهز كتفيه : للجزيرة .. ربما لكن ليس بالنسبة له .. إنه يحب كل شيء حديث .. يجب أن تشاهدي المطابخ .. لقد حدثها والده لكنه حسنها حسب طلبه .. تبدو الآن كغرفة قيادة سفينة فضائية لقد جاء بكل أفكاره من أميركا حيث يقضي معظم وقته في الواقع كاستاريوس هي صلته الوحيدة مع عالمه القديم فهو يؤمن بالدولية وكيف مؤسسته المالية على هذا الأساس .
منتديات ليلاس
_ ألهذا يعتبر نفسه فوق القانون ؟
_ أوه روندا ! ألا ترين أبداً أن هناك قوانين يجب أن تكسر ؟
_ هذا ليس رداً لو أن كل شخص تصرف كما يحلو له لعمت الفوضى يقاد رجال ونساء كثيرون إلى السجن يومياً لارتكابهم أموراً كالتي يرتكبها ابن عمك الآن .. ألا تظنه يستحق السجن كأي مخالف للقانون ؟
ظهر الحرج على بيدرو وهو ينظر إلى ما خلفها وهو ينظر إلى ما خلفها ثم إليها فعلمت أنهما لم يعودا وحدهما .
_ ومن يستحق السجن ؟
وجلس ماثيو على كرسي قريب ليصب لنفسه القهوة فقال بيدرو ضاحكاً :
روندا تقول أنك تستحق السجن لأنك فوضوي .
زاد إحساس روندا بالخزي عندما ظهرت دلائل المرح نفسها في عيني ماثيو سبيراس فقالت وهي تقف :
سأصعد إلى غرفتي إلى أن يحين موعد نزهتنا بيدرو.. متى سننطلق ؟
_ سأحضر السيارة عند الحادية عشر .
في منصف الطريق إلى غرفتها تذكرت أنها نسيت نظارتها ومع على يقين من أن توماس سيحضرها لها فقد قررت العودة لأخذها كانت على وشك الخروج عندما سمعت صوت بيدرو فارتدت إلى الوراء مختبئة :
_ أنت واثق أنها لا تعرف شيئاً ؟
وماذا يمكن أن تعرف ؟ لقد أمضت عشرة أيام مع رفاقها في مركبهم قبل أن تصل إلى كاستاريوس وهم لذلك لم يسمعوا أخباراً ولم يقرءوا الصحف فلا تقلق كثيراً .
سمعت روندا بيدرو يتمتم أن في الأمر مخاطرة وقال ماثيو :
_ صحيح ولكن لا تنسى أننا مجرد وسطاء في هذا كله إن الفتاة هي مسئوليتي ولقد قبلوا بها على هذا الأساس .
سارعت روندا بالانسحاب بسرعة .. كانت في حالة كاملة من التشوش .
ماذا تفعل بالضبط عائلة سبيراتوس النبيلة وفيما هي متورطة وما دخل الإذاعات والصحف بالأمر ؟ في هدوء غرفتها رمت نفسها على السرير تفكر.. ماثيو مخطئ فهي قد شاهدت صحيفة أحضرها بيرس يوم كانوا في ماسيرنو .. قطبت محاولة تذكر العناوين الرئيسية مع أنها لا تذكر أن لها صلة بما يحدث بالقصر .. ماذا كان فيها مؤتمر .. سطو على المصرف …
جلست روندا ببطء .. سطو على مصرف .. وكررت ذلك لنفسها .. أيمكن هذا ؟ تذكرت فنجان القهوة الذي تحطم بيد توماس ووجهه المذعور عندما مازحته بشأن ملايين مصارف مؤسسة ماثيو الذي قال لتوه أنهم مجرد وسطاء .. أيعني هذا أن جهة أخرى قامت بالسطو وهو يخفيهم الآن في الجزيرة إلى أن تخبوا الضجة ؟
أدارت نظرها دون إرادة منها لتنظر للوحة وحش كاستاريوس الأول .. كله كبرياء وشموخ ورجولة ربما تكون أخلاقه عرق أثري لا يظهر نفسه إلا مرة بعد عدة أجيال كما الحال في لون شعره وبشرته العسليتين الذهبيتين .
وتنهدت بمرارة .. إنها هي من تريد أن تسيء الظن في ماثيوس سبيراتوس .. لكن من الغريب أن معرفتها هذه لم تشعرها بالانتصار بل بخيبة أمل تبعث القشعريرة .
أكانت هذه العصابة لا تعرف بوجودها كما لا تعرف هي بوجود العصابة ؟ هذا يفسر سبب تهريبها خلسة مغطاة إلى داخل القصر تحت سترة قائد الحرس ولماذا بالتالي أجبرت على البقاء هنا رغماً عنها لابد أن السبب للتأكد من عدم هروبها وإطلاقها للإنذار قبل اختفاء أفراد العصابة . وتساءلت ماذا كان سيحصل لها لولا منحه إياها حمايته .. وارتعدت .
أحست بالبرد والغثيان لأنها شعرت بأنها لن تستطيع رؤية ماثيو ثانية لمعرفتها بما فعل .. مهما كان وغداً فقد علمها في لحظات معنى أن تكون امرأة وغير نفسيتها على هذا الأساس لكن من دونه ماذا سيبقى لها ؟ وأحست بالخوف من المياه العميقة التي أغرقها فيها انجذابها نحوه .
شهقت دون وعي ثم عادت تسترد شتات نفسها .. وقوعها في حب ماثيوس سبيراتوس إطلاق خطر لعواطفها التي لن تطيقها إن أكثر ما يجب أن تأمل به هو على علاقة عابرة معه سيكون بعدها شاكراً لها عدم إلقاء عبء مطالبها العاطفية عليه .. لكن في المقابل أتستطيع هي أن ترضى بأنها ليست بالنسبة له سوى لعبة رغب فيها .
كانت مثقلة العينين خائرة الهمة عندما نزلت للقاء بيدرو .. الذي سارع إلى إبداء القلق واقترح عليها تأجيل رحلتهما إلى يوم آخر لكنها رفضت وجلست قربه في السيارة السبور المنخفضة فمد إليها النظارة :
_ هذه لك .. أليس كذلك يا عزيزتي ؟
ما إن وصلا إلى بوابة القصر الحديدية حتى انفتحت أتوماتيكياً بفعل ساحر فأشار بيدرو إلى ما حولهما :
إنها إحدى ألعاب ماثيو الأمريكية المتعددة .
فهزت رأسها مبتسمة .. بل إنها إحدى قاعات المحكمة ! بعيداً عن جدران القصر المرتفعة كانت روندا تحس بالحرية .. ورغم قيظ النهار كان الهواء منعشاً ومعطر بعطر غير عادي لم يتكلم بيدرو كثيراً أثناء القيادة فقد تركها تتمتع بالمناظر وراح يجتاز الطريق الضيقة التي تمر بين صخور مرتفعة تقطعها أحياناً أشجار الصنوبر والآس الممتدة على الجانبين .
كانا يمران أحياناً بقباب صغيرة لبيوت مبنية حيث لا صخور حولها وحيث التربة فيها زراعية وكان بيدرو يخفف سرعة السيارة ليطلق التنبيه لمجموعة من الأولاد المستغرقين وسط الطريق بلعبهم وكانت النسوة المتشحات بالسواد يقفن عند أبواب منازلهم يبتسمن لمن في السيارة .
_ إننا ننعم بمجد ماثيو أتفهمين هذا إنهن يكرمن صاحب السيارة لا من فيها .
ورفع بيدرو يده يرد على تحية النسوة .
لكن روندا بقيت صامتة بتعاسة تساءلت ماذا يحصل لشعب هذه الجزيرة الصغير الذين يعتمدون على عائلة سبيراتوس في معيشتهم لو أن ماثيو اعتقل : هل سيتحمل أحد عبء المضي في الصناعات التي أسسها لهم ؟ وماذا عن القصر أيبقى دون سيد وماذا عن العمل الذي يوفره في داخله وحدائقه لأهل البلدة ؟ بؤسها العاطفي بدا لها أنانياً لا لزوم له في ضوء ما قد يجلبه لهم سقوط عائلة سبيراتوس .. ناهيك عن ردة الفعل في الأسواق المالية العالمية .. وسمعت بيدرو يتكلم فعادت إلى واقعها :
في يوم آخر سنذهب لرؤية الشلال .. لأجل هذا يجب أن نسلك الطريق الآخر نحو الداخل ونتسلق المضيق بين الجبلين .. الشلال يقع في أعلى نقطة في الجزيرة .
كانت المجموعة الأولى من القلاع التي وصلاها مخيبة للأمل لأنها كما قال لها بيدرو ليست سوى كومة من الحجارة الرمادية .
نصف الحجارة مفقود .. لأن أهل الجزيرة يستخدمونها لإصلاح بيوتهم .
_ الشيء نفسه يحدث في كل مكان عندما يتهدم بفعل الزمن .
فضحك : العض منها استخدم قذائف فحين كانت حمم المدافع تنفد من المدافعين كانوا يستخدمون الحجارة لرميها على الغزاة وردهم إلى البحر .
_ أكانوا يربحون الحرب دائماً ؟
_ ليس دائماً فالجزيرة احتلها القراصنة البرابرة أكثر من مرة وبعض من أسلاف العائلة أخذ رهينة لقاء فدية هذا بالنسبة للرجال أما النساء فكن يلقين مصيراً مذلاً سيدة القصر لم تكن تعامل بأحسن من الفلاحات في إحدى الغزوات أسرت للأمير رافاييل سبيراس ثلاث بنات ما عرف عنهن شيئاً .
فقالت ببرود لاذع :
أظن أن قليلاً من الدم البربري ما يزال يعيش حتى يومنا هذا .
فرمى بيدرو رأسه إلى الوراء ضاحكاً :
_ لا تخافي سيسمع العالم عنك ثانية أما مصيرك فسيكون بالسوء الذي تختارينه أنت ثم لماذا تجبر امرأة على كل شيء بينما إغواؤها سيكون أكثر فائدة لك ؟
_ على فكرة .. لم تفسر لي ما سبب وجود تمثال النمر عند الرأس الأرضي في حديقة القصر .
_ ومتى سنحت لي الفرصة ؟ فحين وجدت لك الوشاح وعدت كنت في منتصف الطريق إلى المنزل مع ماثيو … لماذا لم تسأليه أن يقص عليك تاريخه ؟
فردت بارتباك : تحدثنا عن أشياء أخرى .
ليتها لم تثر الموضوع لكنه هز كتفيه قائلاً :
المنحوتة صنعها نحات محلي بعد استقرار أول أمير لعائلة سبيراتوس في كاستاريوس وكان هو أول من نظم أهل الجزيرة في دفاعهم عنها قبل بناء القلاع .. وكان التمثال تكريماً لانتصاره الأول ضد بعض الأعداء .. أو هكذا تقول الأسطورة فيما بعد وصلتنا أساطير أخرى .
وضحك .. فسألته بلهفة : مثل ماذا ؟
_ أوه .. إنها أساطير
رومانسية جداً عزيزتي أهل الجزيرة كانوا مضطرين لطلب الأذن من السيد للزواج وعندما تتزوج الفتاة كانت تعلق إكليل عرسها على براثن التمثال عرفاناً بجميل نمر الجزيرة نفسه .
_ أظن هذا أمراً ساحراً .
_ لكن العادة هذه فسدت فيما بعد عندما عرف أن بعض كن يعلقن أكاليل من الزهور كي يجذبن السيد إليهن .. وتدريجياً أصبح من المعروف أن أي فتاة تعلق إكليل الزهر على التمثال تكون في الواقع تعني أنا لك إذا أردتني وسرعان ما أخذ الأهل يراقبون بناتهن لئلا يقتربن من التمثال .
فابتسمت : أظن أن هذا أصل القول الذي سمعته فتاة مناسبة للنمر .
فضحك : بكل تأكيد يا عزيزتي .
الحصن التالي كان في وضع أفضل بكثير فما يزال يحتفظ ببناءه .
أوقف بيدرو السيارة على جانب الطريق ثم سارا عبر العشب المرتفع ورائحة اللافاندر والورد البري و زنابق العسل تفوح في كل مكان وفراشات حمراء كبيرة كانت تحوم وكأنها براعم أزهار تتحرك في ريح غير ظاهرة .
أراها بيدرو المكان الذي كان يطلق منه المدافعون النار على الغزاة وقال :
_ في وقت من الأوقات كانت تحتل كل رأس بارز من الأرض في هذا الجانب من الجزيرة حامية عسكرية والقصر نفسه كان قلعة محصنة .. وكان العسكر عندما تهدأ الأمور يجلسون هنا كما سنفعل لتناول الطعام ولعب الشطرنج أو الورق أو ..
ومال برأسه نحوها وهي تمد البساط ليجلسا عليه : أو ليغازلون حبيباتهم .
ابتعدت روندا مجفلة وقالت ساخرة :
_ لا أظن هذا .. فكل النساء في القرون الوسطى كن يختبئن من الغزوات كما يختبئن اليوم من الغارات الجوية .
فتنهد : أنت لست رومانسية يا عزيزتي .
ربما لأنني لا أحب أن أجبر على الحب بناء لأمر .
فقال مجفلاً : لا يمكنك التفكير هكذا !
_ لا يمكنني القول ؟ أنا أعرف أنني لا أجلس في الشمس آكل الدجاج وأشرب الشراب إلا لأن ابن عمك قرر إنها الطريقة الفضلى لإبعادي عن القصر بضع ساعات وذلك لسبب خاص به ؟ ما هو يا ترى ؟ زائر خفي آخر يصل على طائرة هيلوكبتر خفية أخرى ؟