كاتب الموضوع :
حفيدة الألباني
المنتدى :
ركن شهر رمضان المبارك
سبق أن الصحيح أن في المال حقا سوى الزكاة... وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به).
وفي هذه الحلقة نريد أن نذكر أنفسنا، بأنه لا يوجد مسلم في الأرض، بدون أن يكون له جيران محتاجون وكثير منهم يبيتون جياعا، والجار قد يكون قريبا من دار جاره، وقد يكون بعيدا، والقرب والبعد أمر نسبي، وذكر بعض العلماء أن حد الجيرة أربعون داراً من كل ناحية، ونقل عن آخرين أن من سمع النداء فهو جار. [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/185)].
وكلما كانت دار الجار أقرب إلى دار جاره، كان أهلها أكثر استحقاقا لإحسانه من غيرهم...
وبتصور هذا الحد يظهر أن الجيرة تشمل مدنا بأسرها، لأن الذي لا يكون جارا للمرء، يكون جارا لجاره، وهكذا، فإذا لم ينل المرء إحسان رجل لكونه ليس جارا له، ربما ناله إحسانه على يد جار المحسن، ماديا كان كالهدايا والهبات، أو معنويا كالتعليم والقدوة الحسنة والأخلاق الحميدة، فإن الجار يؤثر في جاره، وهذا يؤثر في جيرانه وهكذا.
تصور لو أن كل مسلم وأسرته اجتهدوا في إيصال إحسانهم إلى أربعين داراً من جيرانهم من جميع الجهات المحيطة بدارهم، وهذا الإحسان كما تقدم يشمل الإحسان المادي والإحسان المعنوي، كيف سيكون حال المجتمع الإسلامي في تعاونه وتحابه وأمنه؟
ومعلوم أن كثيرا من المحتاجين أعزاء نفوس، يصعب عليهم إظهار حاجتهم للناس، فضلا عن طلب الإحسان إليهم، وأمثال هؤلاء ينبغي لمن أغناهم الله من فضله، أن يطرقوا أبوابهم على غفلة من الناس، ويعطوهم من مال الله الذي آتاهم، بطريقة لا تشعرهم بالدون:
((للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم)) [البقرة (273)]
قال القرطبي: "واختلف العلماء في معنى قوله ((لا يسألون الناس إلحافا)) على قولين: فقال قوم منهم الطبري والزجاج: إن المعنى لا يسألون البتة، وهذا على أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، ويكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لايسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح.
وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف، أي أنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم أي يسألون غير ملحفين" [الجامع لأحكام القرآن (3/342)]
وقد خص البخاري رحمه الله، هذه الآية بباب مستقل، فقال: "باب قول الله تعالى لا يسألون الناس إلحافا.... لقول الله تعالى: ((للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله)) إلى قوله ((فإن الله به عليم)) ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غنى، ويستحيي أو لا يسأل الناس إلحافا) [صحيح البخاري برقم (1406) والحديث في صحيح مسلم (2/719) بلفظ:(ليس المسكين بالذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين المتعفف اقرؤا إن شئتم لا يسألون الناس إلحافا)]
وليس المقصود عدم إعطاء السائل ولو ألحف، بل المقصود الاهتمام أكثر بغير السائلين، أو الذين يسألون على استحياء لشدة حاجتهم..
والأصل في الزكاة والصدقات أن تصرف في المحتاجين من أهل البلد، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (... فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم...) [البخاري برقم (1389) ومسلم برقم(19)]
وقد يفيض المال في بعض البلدان الإسلامية، أو يكون المسلمون في آخر، أشد ضرورة، من أهل البلد الزكاة والصدقة، فيجب أن يوازن بين المصالح، وتقدم أعظم المصلحتين، وبين المفاسد، فتدرأ أعظم المفسدتين.
ولإيضاح هذه المسألة لا بد من ذكر أمثلة واقعة في عصرنا هذا، لتطبيق الحكم الشرعي عليها:
إن الذي يشاهد أحوال المسلمين اليوم في فلسطين، فيرى أهلها وقد هدمت منازلهم، فلا يجدون المأوى في شدة الحر أو البرد، ويراهم يتضورون جوعا، نساء وأطفالا وشيوخا، فلا يجدون لقمة العيش، ويراهم وقد أثخنتهم الجراح، وفتكت بهم الأمراض، فلا يجدون الدواء، وأعداؤهم يقصفونهم ليلا ونهارا، بأشد الأسلحة فتكا، من البر والجو والبحر...
إن الذي يشاهد ذلك، ثم ينظر إلى كثير من بلدان المسلمين التي لا تخلو من فقراء ومحتاجين، ثم يوازن بين الجهتين، يجد أن المحتاجين في غير الشعب الفلسطيني يجد غالبهم ما يسد رمقه من الطعام، وما يكنه من المأوى الضروري.
لهذا يجب على أغنياء الأمة، أن يوازنوا بين الفئتين، فيعطوا أهل بلد الزكاة الحد الأدنى الذي يخفف حاجتهم، ويجتهدوا في إيصال غالب زكاتهم وصدقاتهم، إلى الشعب الفلسطيني الذي تلك حاله، فهو في حالة ضرورة وغيره في حالة حاجة، أو ضرورة أخف.
يضاف إلى ذلك أنهم يقومون بجهاد أعداء الله اليهود، الذين جهادهم فرض عين على جميع المسلمين، حتى يدفع عدوانهم، ويطردوا من الأرض المباركة التي احتلوها بغير حق...
تنبيه مهم جدا
ومما يجب التنبيه عليه، أن الجهاد في سبيل الله –خاصة في فلسطين-هو فرض عين اليوم على جميع المسلمين، ولكن عقبات كثيرة تمنع من يريد أن يجاهد بنفسه مباشرة في صف إخوانه الفلسطينيين، وأعظم تلك العقبات، حراسة الجيوش العربية لليهود، في الحدود المحيطة باليهود.
لهذا لم يبق إلا الجهاد بالمال، الذي لا عذر لمسلم قادر عليه، في تأخره عنه، فيجب على كل قادر أن يبذل ما يقدر عليه من المال، لنصرة إخوانه المجاهدين، الذين زلزلوا الأرض من تحت أقدام اليهود، في حدود إمكاناتهم الضعيفة، مع ما يملكه عدوهم من سلاح فتاك، وجيش قوي.
وكل مسلم قادر على إنفاق ماله في سبيل الله، لهؤلاء المجاهدين فهو آثم، ويجب أن يجتهد من يريد الإنفاق في سبيل الله، في وضع ماله في الأيدي الأمينة التي توصله إلى المجاهدين في سبيل الله.
ومعلوم ما يقوم به أهل العدوان وبخاصة لحكومة الأمريكية، من ملاحقة أهل الأموال الذين يعينون بها المجاهدين، ويسجلونهم في قائمة ما يسمونه "الإرهابيين" ويجمدون أموالهم، ويقومون باختطاف بعضهم أو اغتيالهم، ولكن هذا لا يسوغ لهم الكف عن إنفاق أموالهم في سبيل الله، وإعانة أولئك المجاهدين.
وإذا كانت أمريكا تتخذ وسائل قوتها، وتستعين على عدوانها بعملائها في كثير من البلدان الإسلامية، فالواجب على أغنياء الأمة أن يتخذوا كل حيلة تحبط مؤامرة المحاربين للإسلام والمسلمين، ولا بد إذا كانوا صادقين، أن يجدوا من المخارج ما يؤدون به الواجب الذي فرضه الله تعالى عليهم، وقد وعد الله المتقين من عباده، بأن يهيئ لهم مخرجا... كما قال تعالى: ((ومن يتق الله يجعل له مخرجا)) [الطلاق (2)] ((ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا)) [الطلاق (4)]
وإنه لمن المؤسف، أن نرى كثيرا من الأغنياء، لا يهتمون في إنفاق أموالهم، إلا بإغاثة من سقط في حُفَر الجوع والعطش والمرض والتشريد، ولا يهتمون بهؤلاء قبل أن يسقطوا في تلك الحفر. كيف؟
إن كثيرا ممن يعانون من تلك الْمحن، كانوا من الأغنياء الأصحاء المستقرين في منازلهم، ولكنهم تعرضوا للعدوان من الظلمة المعتدين، كحال الفلسطينيين الذين اغتصب أرضهم اليهود، فقتلوهم، وشردوهم، وجرحوهم، وحاصروهم حتى أجاعوهم... وبعد أن وصلوا إلى هذه الحال، بدأ الأغنياء يهتمون بهم بعض الاهتمام، لإغاثتهم بالطعام والشراب والدواء...
ولو أنهم اهتموا بهم قبل أن ينال منهم العدو هذا النيل الظالم، فبذلوا لهم المال الذي يوفر لهم السلاح الذي لا خلاص لهم من العدوان بدونه، لكان لهم شأن آخر غير ماهم فيه الآن.
وهذه ظاهرة مؤلمة في الأمة الإسلامية، يرى كثير من أغنيائهم المظلوم المعتدى عليه، يهينه عدوه ويذله، وهو قادر على الدفاع عن نفسه، لو أتيح له العون المادي الذي يوفر له السلاح، فلا يلتفتون إلى نصرته بذلك، حتى إذا شرده العدو، وأصبح في حاجة إلى المأوى والطعام والشراب والدواء، تنادوا لجمع التبرعات، ليقيموا له الخيام، ويحضرون له ما تيس من أنواع الإغاثة...
أيهما أولى: وقاية المظلوم بعونه قبل أن يصل إلى هذه الحال السيئة، أم التفرج عليه وهو يهان ويذل ثم يقرب له حفنة من الأرز وقاروة من الماء؟
إني أحث أغنياء الأمة أن يضعوا أنفسهم مكان إخوانهم في فلسطين، في هذه الأيام المباركة، التي يشاهدون فيها على تلك الحالات المزرية، ثم يتصورون ما ذا سيطلبون من إخوانهم المسلمين في البلدان الإسلامية....
ولست أريد من هذا التنبيه، تثبيط المسلمين عن إغاثة إخوانهم الذين تلك حالهم، حاشا... كيف وإغاثة الحيوانات – حتى الكلاب – يكتب الله بها الأجر لمن فعلها، ويغفر بها كبائر الذنوب؟
كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له) قالوا يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: (في كل كبد رطبة أجر) [البخاري برقم (2234) ومسلم برقم (2244)]
وروى كذلك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار، يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها) [مسلم برقم (2245)]
ومعنى "يُطيف" يدور حول البئر، ومعنى "أدلع لسانه" أخرجه لشدة العطش و"الموق" بضم الميم هو الخف فارسي معرب. ومعنى "نزعت له بموقها" استقت. [راجع شرح النووي على مسلم (14/242)]
أقول: لست أريد من هذا التنبيه، تثبيط المسلمين عن إغاثة إخوانهم الذين تلك حالهم، فهذا فرض يأثمون إذا تأخروا عن القيام به، ولكني أريد أن يهتموا بالمظلومين، قبل أن يصلوا إلى هذه الحالة.
هذا أحد ميادين السفر إلى الجنة، فليغتنمه المؤمنون الصادقون، وبخاصة في هذا الشهر الكريم..
وللحديث بقيه بإذن الله..
|