لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > المنتدى العام للقصص والروايات > القصص المكتمله
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله خاص بالقصص المنقوله المكتمله


الرجاء التزام الوقار بقلم: فاطمة بنت السراة

بسم الله الرحمن الرحيم الرجاء التزام الوقار حكاية طويلة بقلم: فاطمة بنت السراة مدخل ــــــــــ - ماذا تعني كلمة شيخ؟ - وقار. - وماذا

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-08-08, 01:02 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:

البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 13121
المشاركات: 13,907
الجنس ذكر
معدل التقييم: dali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسي
نقاط التقييم: 4990

االدولة
البلدCuba
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
dali2000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : القصص المكتمله
Newsuae2 الرجاء التزام الوقار بقلم: فاطمة بنت السراة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الرجاء التزام الوقار

حكاية طويلة بقلم: فاطمة بنت السراة


مدخل
ــــــــــ

- ماذا تعني كلمة شيخ؟
- وقار.
- وماذا يعني الوقار؟
- شيخ جليل.
- إذاً,
الرجاء التزام الوقار.


فاطمه

 
 

 

عرض البوم صور dali2000   رد مع اقتباس

قديم 28-08-08, 01:03 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:

البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 13121
المشاركات: 13,907
الجنس ذكر
معدل التقييم: dali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسي
نقاط التقييم: 4990

االدولة
البلدCuba
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
dali2000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : dali2000 المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

أرفض بعنادٍ – عجوز – المقولة التي تصبّنا – نحن الشيوخ – في قالب واحد من الطباع .. مقولة جائرة , وواضعها بالتأكيد شاب ظالم, أو باحثة ساذجة..
وأتفق معكم في اتهامكم لنا جميعا, بتصلّب الشـرايين, ثقل السمع, ضعف البصر, بطء الحركة وثقل الجسم, الثرثرة .. لكن في الطباع لا, وألف لا .. ولكم أن تسمعوا حكايتي وتحكمون.

توفت زوجتي منذ أشهر طويلة , وبفقدها ذهب النصير, والصاحب, والرفيق, ومذيع النشـرة المحليّة التي كانت تسليتي أوقات العصر, والقلب المُحب الذي عاملني كرجل في شبابي ونزقي, وعاملني كطفل في كبري وضعفي, وحتى غـدوت عند هـذا العمر .. كل هذا المزيج كان زوجتي رحمها الله .. ذهبت بمرض هذه الأيام الذي غدا تقليعة جديدة كتقليعات الموضة .. سرطان في المعدة لم يمهلها طويلا, تفشّى سريعا فذهبت معه, وذهب بعدها كل شيء .. .. التفاف الأبناء والبنات حولي, وأحفادي الأشقياء, مواساتهم الثقيلة لي لم ترحني, بل العكس زادوا الهمّ وأوصدوه بأقفال في القلب, فهذه تشبهها في صوتها, وتلك في نشاطها, وابني البكر في لون عينيها, وتلك الحفيدة في عذوبة صوتها, وذاك الصغير أقرب الأحفاد الى قلبها .. أيـن أذهب من هذا الجحيم الحنون؟

كدت أطردهم من البيت لمّا طال جلوسهم عندي, لكن بدء الدراسة حال بيني وبين إبداء رغبتي تلك, فعادوا من حيث أتوا, حتى قسم ابني الأكبر في أن يجلس معي هو وزوجته السمينة, وابنه الذي سمّاه باسمي, لم يشفع عندي, بل العكس جعلني أرد عليه بقسم أكبر ( والله الذي لا إله إلا هو, لن تفعل ) .. وألححت وهدرت حتى رضخ..
وبقي البيت خاويا بعدها .. وبذهاب الأبناء ذهبت العصبية والنرفزة والعناد مع صغارهم وكبارهم على السواء ( يا ولد اجلس, يا بنت اتركي, يا أبي الخضار أنفع لك من الرز, أنزل يدك من على الزجاج يا ولد, لا تكثر من السـكر يا أبي ) ذهبوا بنصائحهم, وشقاوة قرودهم الصغيرة تلك .. أحبهم ساعة في اليوم, ساعتان, لكن أربع وعشرين ساعة, صعب, صعب جدا..

لمّا ذهبوا شعرت بفداحة من فقدت .. زوجتي الحبيبة العطوف, أم خمسة من الأبناء والبنات .. في كل ركن, وكل مقعد رأيتها .. في كل أرجاء المطبخ, مملكتها بلا منازع, كانت هناك بعلبها الزجاجية والفضية المليئة بأصناف التوابل والبهارات, بتنسيقها البديع لفناجين الشاي الثمينة المذهبة الحواف, والمطلة بأناقة من خلف الأرفف الزجاجية .. في الشرفة الصغيرة ذات المقعدين والأرجوحة العتيقة .. في غرفة النوم .. حتى حتى حتى وهي واقفة أمـام باب الشـقة مقتنصة أحـد المـارة من – العين السحرية – عادتها القديمة, عليها رحمة الله..

المهم بعد تفكير مفاجئ وسريع مني, التقطت حقيبتي الجلدية من حجرة الخزين .. نصف ساعة كاملة وأنا أبحث أين وضعَتهَا تلك الحبيبة المنظمة, وقبلها بأشهر كنت أجتهد في البحث عـن منديل أو جورب, أو حتى عود كبريت … لـم تترك لي شـيئا أفعله, وبالتالي أجربه وأعرف مكانه, عليها وعلينا رحمة الله..

فتحت الحقيبة ببطء وأقحمت فيها كل ما وصلت إليه يداي, ملابس, غيارات, حذاءان وشبشب, جوارب صوفية خشنة, وأخرى في نعومة الحرير, أقراص اللبان – اللامي – غير مهذبة الشكل والتي أدمنتها شابا وكهلا, غير سجادة صلاتي, ومسبحة عتيقة من خشب الصندل لازالت تفوح برائحتها المميزة, ثم مصحفي الكبير وعوينات القراءة, ومبلغا طيباً من المال..

بالمال الوفير سأستأجر لي حجرة جميلة هادئة في أحد الفنادق, ربما لمدة شهر واحـد .. شهر كامل .. سأتملص فيه من واجباتي الاجتماعية لأهرب بعيدا الى هذا المكان..

الفصل شتاء, ولا أحد يرتاد فنادق الخمس نجوم سوى رجال مهمين فقط .. أي لازحام, ولا شباب سخيف تافه, يحتسي القهوة في البهو العري , متشدقا بما نثرته صحف ذلك اليوم من دُررّ, وفي نفس الوقت زارعا نظراته الفضولية هنا وهناك..
ولا أطفـال ضوضاءهم الرهيبة تملأ الفضاء الأنيق المحمّل بالثريات العملاقة, طالبين أشياء كثيرة من ذويهم في وقت واحـد (مسبح , حذاء عجل, ساندويتش, آيـس كريم, فشار) والأبـاء يلبّـون فـي جـذل أمانـي فـلذات الأكباد, و( الندل ) يتعبون..

الحمد للـه, وجدت بغيتي سريعا, ونظرة مستغربة لقطها – راداري الحي دوماً – من عين الموظف ذي المروحة على العنق, وأكتاف عريضة جعلته مع المروحة الحمراء كطائرة - هليوكوبتر- ملونة صغيرة..

- نعم. لمدة شهر, وأسكن في جدة! أي في نفس البلد, وربما بعد حجرتي بكذا شارع فقط.
( أنا حُر .. عندك مانع؟ ) .. عناد الشيخوخة يجعلني لا أتذكر سوى هذه المفردات العنيـفة نوعـا ما لأُخاطب بها الناس..

تركت الحقيبة في حجرتي بعد أن اطمأننت على رضائي بها, وخرجت الى الشارع .. عادة غريبة تتملكني كلما دخلت مكانـا غير بيتي الحبيب, حتى وان كان بنقودي .. أضع أغراضي القليلة ثم أنفلت الى الشارع, وبعدها أعود أو لا أعود .. لا يهم, الأهـم أنني أستطيع الخروج سريعا ومتى أريد..

لمّا عدت بعد ثلاث ساعات من المشي المتواصل والتأمل, والتفكير, وجدت حقيبتي كما هي لم تمس, أخذتها بسكون, وأفرغتها بمنتهى السكون..

في السابق, كلما عدت من الشارع أجد زوجتي قد أفرغت الحقيبة وأقصتها بعيدا عن عيني لأني أحب ذلك .. لا أطيق أبدا أن أرى حقيبة سفر فارغة! كيف تكون حقيبة سفر, وكيف تكون فارغة!! .. منطق قديم يحكمني فأقتنع به..
ما علينا .. دعونا من أمر الحقيبة, وذِكْر الزوجة التي لم تعد تشـاركك ما تبقى من عمرك ولا تستطيع أن تقاسمك مكان جميل كهذا..

أقمت بحجرتي اياماً ثلاثة كخُلد عجوز, الفارق فقط: "هو تحت الأرض, وأنا فوقها" .. بعدها لملمت حاجياتي التي ظننتها كثيرة والتي ضاعت في بحر الحجرة, وفي نيتي العودة مـن حـيث أتيت.

كلام كثير دار مع – الهليوكوبتر – الأنيق على سحب المقدّم الذي دفعته, وهو تقريبا ما يعادل نصف إقامتي المحددة سابقا .. أقنعني بعدها – بابتسامة ودود – بأن أقيم مع مستأجر آخر .. وبنفس الأدب فهمت أن لا دفع هنا ولا يحزنون, والحسابات أغلقت و.. و..

المهم هو بشري, يحكي معي, يسمع صوت أنفاسي في الليل, وأسمع شخيره..
- عجوز . أكبر منك في السن, لكن روحه المعنوية جدا عاليه.
كأنه كتم ضحكه وهـو ينطق الجملة الأخيرة .. ما علينا .. وهكذا عدت الى نفس الفندق ( الذي لم أُغادره بعد ) بإرادتي, الذي تغير فقط.. أنها حجرة مشتركة..

- أكبر منك قليلا - المتحذلق - .. لنرى هذا العجوز الأكبر مني قليلا, ذا الروح العالية .. تمتمت بها وأنا أغذ الخطى خلف فتى آخر أنيق يحمل أمتعتي.

الحقيقة كانت الحجرة – لوكس – واسعة, مريحة, سريران متجاوران , خزانتان, ومصباحان وكل شيء فيها اثنان اثنان .. يذكرك ربما للمرة المليون بأن تأخذ حذرك .. تنفسك , تجشؤك, طريقة أكلك, عاداتك العشوائية .. حاول أن تنسى كل هذا لمدة شهر واحد فقط..

وأخيرا رأيته .. عجوز فعلي, قصير القامة, سبعيني العمر, عصبي, نحيل ذو كبرياء .. والعجيب أنه أنيق, أنيق جدا, الحقيقة أريـد أن أقـف قليلا عند هـذا الوصف لأقـول فقـط بأنـه – إذا جاز لي التعبير– بشع, بشع, بشع الأناقة.

أنت تذكر ثياب – السِلكْ – الصفراء الشفافة, والفانلة - الشبَك -, والغترة البيضاء ذات التموجات الزرقاء الخفيفة من جرّاء طلب استعمال – النيلة – والتي لم تعد مرغوبة هذه الأيام .. والسجائر اللف , والتبغ المضغوط في العلبة الفضية القديمة ذات النقوش الدقيقة .. حتى النشوق حمله معه, وعطاس كثير يتحفني به قبل النشوق, وعطسة يتيمة بعده, يهز بعدها رأسـه في عنف ونشوة .. أظنها العادة أجاركم الله .. وسـعال شـديد قبل التدخين, وسـعال أشد بعده .. ..
كل هـذا رأيته في رفيق حجرتي أثناء اللقـاء الأول.

( يتبع )

 
 

 

عرض البوم صور dali2000   رد مع اقتباس
قديم 28-08-08, 01:04 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:

البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 13121
المشاركات: 13,907
الجنس ذكر
معدل التقييم: dali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسي
نقاط التقييم: 4990

االدولة
البلدCuba
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
dali2000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : dali2000 المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 


رحّب بي الرجل بصدق, وهو يُمسد شاربه الرفيع الملتصق بفن حقيقي مابين فتحتي أنفه وشفته العليا .. خـط رفيع بالكاد ترى الشـعيرات صرعى عليه .. صدمني الصوت الرنّان المرتجف مع الوجه الأمرد .. لا أدري لماذا أعتقدت دائما أن الكهول لابد وأن يكـون لهم عارضٌ جميلٌ يزيدهم وقـارا, وشارب - معقول – محفوف يزيدهم بهاء أظنهما أبي وجدي رحمهما الله .. ثم خاتم ياقوتي عظيم الحجم زيّن بنصره الأيمن..

الحقيقة أن كلمة ( زيّن ) مبالغ فيها, والحقيقة الواضحة للعين المجردة أن الفصّ قد أكل الإصبع كله, بالكاد يُرى آخر الظفر ..

لا حظ نظرتي الى الخاتم فسعل بحبور مجلياً صوته :
- خاتم جميل ها؟
- نعم . قلتها مجاملا
( هااااا, هااااااا ) .. نفخ بها مرتان على فصّ الخاتم المتوهج اللون ثم لمّعهُ في كم الثوب الأصفر ذي ( الكَبَكْ ) الذهب, رافعه الى الأعلى حتى بان كل الظفر:
- خاتم جدّي الثالث لأبي عليه رحمة الله .. أهدانيه ساعة مولدي .. فرحته بالحفيد الذكَرْ البكْر لأبي .. تعرف هذه الأمور عندنا .. وبالطبع حُفظ في علبة من المخمل الأحمر الى أن بلغت مبلغ الرجال, ومن يومها وأنا أرتديه..
تطلع الى السقف بعظمة:
يقال أنه كان خاتم لمهراجا قديم, وقيل أيضا أنه كان مُلك لـ ( سيف بن ذي يَزَنْ ) ارتداه في حروبه كلها, ثم تناقلته الأيدي الى أن وصل الى بنصر جدي الثالث عليه رحمة الله..

في الحقيقة أنا أؤيد الاحتمالين – قالها وهو يحك رأسه - ما يدريك لعل "ابن ذي يزن" قد فكّر بالذهاب الى الهند, أرض العجائب والغرائب ومطمع الغرب اللعين في كل وقت .. تعرف. كان غنيّاً جداً فوقع في قبضة جماعة من لصوص الهنود سلبوا ما معه, وبالطبع كان الخاتم ضمن ما سلبوه, ثم باعه أحد اللصوص أو حتى أهداه الى المهراجا تقرّباً منه .. تعرف. تحدث هذه الأمور .. أو أنّ المهراجا الهندي هو الذي ذهب الى أرض "ابن ذي يزن" وأهداه له بنفسه دون سرقة ولصوص .. جائز.
عموما أنا أرجّح الاحتمال الأول لأنه أقرب الى المنطق..

لفّ سيجارته الأولى بكثير عناية, ثم سأل بإلحاح:
لكن ما الذي حَدَا بـ "سيف" الى أن يترك أرض آبائه وأجداده في دمشق و
- في اليمن . - قلتها بخيبة موجعة –
- دمشق, اليمن, جده .. كلها مُدن .. لن تفرق معنا.
- !!!
- ما الذي حَدَا به الى هذا, ولا طائرات في ذلك الوقت, ولا حتى مواصلات بسرعة معقولة, وهو الملِك الذي لا يصح أن يغيب طويلا عن مُلكه!

طبعاً لا تجاوب ولا جواب, إلا أنه من النوع الذي لا ييأس, نظر الي بشفافية متخذًا هيئة فيلسوف رقيق:
يا أخي؛ التاريخ هذا عجيب .. كله باطش ومبطوش, قاتل ومقتول, فاعل ومفعول, داهش ومدهوش...
أمام استفهامي الصامت للكلمتين الأخيرتين أجاب:
تدهشك غرابة الأحداث في التاريخ, بالطبع قرأتْ لابن هشام, هيرودوت, ابن بطوطة .. طوال قراءتك لأحداثه وأنت في دهشة عظيمة.
هزّ رأسه في ثقة:
التاريخ أنياب وأظافر, هو كذلك, كما سمّاه "منصور أنيس" في أحد كتبه.
أستدركتُ بسرعة:
- أنيس منصور.
- منصور أنيس, أنيس منصور, كلها أسماء كما تعلم. – ثم كمن بُوغت –
- غريبة! تقراْ؟
- !!!
- شكلك … لا يوحي بذلـ…, آسفـ ..
أغمضت عيني في تعاسة من هذا الجار:
- ابني يقرأ له, يقول نادراً ما يأتي بشيء مفيد.
- إذاً حدسي صحيح .. شكلك لا …
" حسبي الله ونعم الوكيل". كان موظف الاستقبال ماثلا في خيالي حينما تحسّبتْ..

سعل الرجل ثلاثا في الصمت الذي بدا منّي بعد حديثه عن التاريخ والخاتم, ثم سألني بجفاء:
- الاسم الكريم؟
لمحت بوضوح لمعة الذهب الأصفر في الفم المتصابي .. .. قال بعد تعارف – غير تقليدي – دام ربع الساعة:
- بما أننا سنغدو صديقـ .. جارين .. يُسرني في كلمات قليلة موجزة أن ألخص لك هذا الكيان الذي أمامك, والذي يحمل اسم " محمد حسن " أو " سُنسُنْ " كما كانت تناديني به المرحومة أمي ..
سكت بعدها لثوان, رافعا يديه الى أعلى, ثم مسح بها وجهه .. بالتأكيد قرأ فاتحة الكتاب على روح أمه كما يفعل البعض..

- مَنْ أنـا؟
اعتدل في جلسته مفكراً, ثم عادّاً صفاته العظيمة على الأصابع, بادئها بالطبع بإصبعه الصغير ذا الفص الياقوتي:
رومانسي, عاطفي, حَالِمْ وشفّاف, وفي نفس الوقت شجاع, حازم, جريء, مقدام..
لا تستغرب من الجمع بين هذه وتلك … ( بالطبع لم أستغرب, ولم يبد على وجهي أي تعبير اللهم عدا خيبة الأمل من الرجل والمكان الذي سأعيش فيه قرابة شهر ) ..
أكمل بتواضع العلماء وسماحة أنفسهم:
انه الإنسان هكذا, تجده مجموعة تناقضات كيف؟ لِمَ؟ العالِمْ الله..
تعرف. يزعجني الإنسان الذي يُكثر من كلمة ( أنا ) .. زفر بها بقوة طارداً الاتهام عن نفسه..
- ! ! !
- ماذا قلت؟
هززت رأسي نافياً فأكمل:
أعني ذلك الانسان الذي يُعدّد محاسن نفسه وأفعالها ( أنا كذا , أنا فعلت ) يا أخي اعمل خيرا والقه في البحر, وستجد الأجر والثواب من الله قبل العباد .. .. تصدق؟ في يوم من الأيام أنقذت نفساً كادت أن تُهلك .. طفلا كان, وأنت تعلم الأطفال أحباب الله, ألقى البريء بنفسه في البحر مع أشقائه الكبار زاعماً أنه ذلك السبّاح الماهر, فما كان منّي وقتها حين سمعت استغاثة أشقائه إلاّ أن ألقي بنفسي خلفه, ناسيا قياس قدرتي ذلك الوقت, ناسيا ترددي الطبيعي, ناسيا خامة بذلتي الثمينة, ناسيا أنني مرتديا ساعة بثمن خرافي, ناسيا خاتم ابن " ذي يزن" الذي في بنصري.. ناسيا كل شيء عدا هذه الروح الآدمية التي تجاهد في سبيل الحياة .. وبالطبع هذا دليل على أنني ماذا؟
وأمام صمت القبور منّي شرع يُعدّد مثالبه على الأصابع, بادئاً بإصبع " ذي يَزَنْ ":
شجاع , مقدام, جسور, رقيق, شفّاف..
غوث طفل بريء ( رقة وشفافية ),
استجابة سريعة مني ودون تفكير ( جسارة وإقدام ) ..
تناقض! نعم .. لكنه موجود بالأدلة القاطعة في شخصي, وقد يكون موجود في شخصك أيضا لكنك تخفي الجانب الطيّب منه, وترينا فقط الجانب القاسي, الصارم, الجامد, الخالي من كل المشاعر الجميلة, وأعتقد أن هذه وسيلة دفاعية من عقلك الباطن تخفي بها عُقدة قديمة .. صدقني لي فراسة بهذه الأمور..

لم أعلق على كلامه .. كنت أرى فقط بعين الخيال أياماً صعابًا..

شعشع الدخان متطايراً في كل الحجرة حتى اعتقدت أنني سأحتاج بعد يومين كمّامة هواء لرئتي..
- تدخن بشراهة؟
قلتها متسائلا بعد أن أطفأ السيجارة الثالثة وشرع فـي تهيئة الرابعة, أجاب بعناد أرعبني:
- أنا حرّ. عندك مانع؟
من اللحظة الأولى قد لا تكّون تلك الفكرة عن الشخص الماثل أمامك, لكنك من – اللفظة – الأولى تقرر, وتبصم .. وأنا كوّنت وقررت وبصمت, ثم سلمت أمري لصاحب الأمر..

رفعت مسماع الهاتف طالبا أحد الخدم ليساعدني في حمل سريري بعيدا عن ذلك المدخن الشره, طويل اللسان, لكنني تذكرت أنني في فندق ممتاز, إذاً فليحملوه هم بناءا علـى أوامري .. وبالفعل حضر اثنان من الشباب العربي النشيط, وقاما باللازم, فغمز لي العجوز ألا أعطيهم, فأعطيتهم .. ولمّا خرجوا أحببت ألا أقطع حبال الود مع نزيل عصبي مجبر أنا على الجلوس معه في مكان واحد لمدة سبع وعشرين يوم, قلت باسماً ومداهناً:
- شباب مسكين .. تخيّل من ترك دراسته ليخدمنا هنا, ومن هو عائل أهله الوحيد, وكلهم تغربّوا من أجل لقمة العيش..
بصق فـي منديله الأنيق ذي الحرف الذهبي, وأعلن أنهم شباب سوء..
- راقب واحد منهم في غير نوبته, تجده إما في المراكز, وإما متسكعا بسيارته الفارهة في شوارع الحمراء, وتقول مساكين!

أتى الليل سريعا كعادة الشتاء معنا .. أبدلت ملابـسي بملابس النوم الواسعة الطويلة .. توضأت وبدأت في تلاوة أذكاري, ثم تأهبت للنوم متخذا شقي الأيمن بداية لنومي .. .. كان هو يراقبني من خلال دوائر الدخان الزرقاء التي لن يتحملها صدري غدا, ثم قام الى النافذتين, فتحها فدخل تيار هواء منعش بارد, جدّد جوّ الحجرة بنسائم طيبة أنعشـت الروح, فخفت رائحة الدخان الكريهة..

من رحمة المولى لنا نحن الشيوخ أن الشتاء في "جـدة " كالربيع في بقية بلدان الله .. المهم شـكرته بإشـارة من يدي على اللفتة اللطيفة, وقام بعدها الى منامته العجيبة.

حشرني الضحك وأنا أتأمل خامتها اللامعة, ولونها البنفسجي المائـل الـى الفضة .. لا أدري لماذا كلما اخترت رداء النوم, فضّلته أبيض أو بنيًا أو ازرق .. هذه الألـوان الثلاثة فقط للرجال, وغيرها لا, وكذا أبي وجدي رحمهما الله .. لكن بنفسجي! وبلمعة!! لا أجرؤ, وفي مثل هذا السن أموت خجلا!!! .. .. ثم .. ثم بدأت طقوسا غريبة .. ذراعان وسـاقان في نعومة الزبدة الهولندية تُشـمر بعناية لتُدهن بالكريم ذي الرائحة, هل قال (لافندر؟) نعم أعتقد أنه ذكر لي اسم رائحته في اليوم السابع .. ثم كريم آخر وقطنة دائرية الشـكل في حجم صحن كوب القهوة, مسح بها وجهه، وسائل شفاف هُلامي مررّه بعناية حـول عينيه .. وأخيرا شعره ذي الفراغات الكثيرة, فعل به الأعاجيب مستعينا بفرشـاة أطفال ناعمة, حتى بدا متناسقا .. بعدها استرخى على السرير, ماداً رجلا على رجل..

- متزوج؟
والحقيقة أنها اللفظة المؤدبة منّي لكلمة أرمل لكنه أجاب على سؤالي بجواب من يعرفني منذ زمن قاصدا زوجته:
- غضبى في بيت أهلها.
كدت أتسرع بكلام طبيعي ( معقول وأنتما في هذا العمر .. ماذا تركتما لصغار السن ) .. لكن وجدت نفسي تقول:
- أزمة وتعدّي.
نظر إلي متفرسا صاعدا هابطا مُمعناً في شخصي الضعيف .. ثم سألني بحدة - ليس لها ما يبرر - بعد تلك النظرات القاتلة:
- تريدني أن أحكي ها؟ أشكو؟! ولمن ؟ لغريب!!
وأمـام نظراتي الهلعة أجاب بكبرياء حقيقي وبصوت حـاد مشروخ من جرّاء التدخين:
يا سـيّد .. " أنا لا أشكو ففي الشكوى انحناء, وأنا نبض عروقي كبرياء ".
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
تمتمت بها في أسى, عجب, لا أدري بالضبط.
- شطر عظيم.
- …؟
- " وأنا نبض عروقي كبرياء " بالفعل شطر عظيم .. عبقري (نفوس) هذا الشاعر!
- الحمد لله!
- يستأهل الحمد.
أرخى رأسه حيث أظفاره المهذبة بمبرد أنثوي متأملها في إعجاب:
- مُصرّ على أن أحكي!
- !!!
- لا بأس. – زفر بقوة – صدقني هي السبب.
- …؟
- خلافاتنا الزوجية كلها, تأكد كلها, دائما هي المتسببة فيها ..
رأسها يابس, تصوّر ترفض السـفر معـي الى - ألمانيا - للتزلج على الجليد .. تعرف هو موسم الجليد في مثل هذا الوقت من السنة.

تنحنحت لأجـد صوتي الذي يخبوا عند الزعل:
- وأنت تجيد التزلج على الجليد؟
- يعني, تمشية حال – قالها بتواضع – لكن الهانم صدمتني صدمة العمر, قـالت كلاما لا يقال, عـن سـفرنا الدائم, تجوالنا, والمرح …
وسكت كأنه يتذكر, وسكت أنا وقد تأكدت من خطأي الشنيع بترك بيتي والبقاء مع هذا الـ.. لكنه أكمل بحزن:
تقـول: هجولة, وضياع مال .. في مثل هذا العمر وجب الاتزان, وبدل جواز السفر المزروع في جيبك, والسـجائر الـ , أبدلهمـا بقرآن وسجادة صلاة! – هكذا قالت - .. كأني لا أصلي!!
تنحنحت للمرة العاشرة لأجلوا الصوت من الطبع القديم:
- امرأة حكيمة.
هتفت بها شاردا, متذكرا وجها تقيّا ضاع مني في هذه الحياة , لكن الرجل انتفض بعنف لا يتناسب مع سنّه وحجمه:
- صدقني أنا حزين وغاضب, غاضب , غـ ا ضـ ب. ثم انتفض واقفاً بعد ثلاثة سعلات كادت أن تفتك بحياته:
أنت لا تعرفني ساعة الغضب.
وبإعجاب حار نظر الى قامته الضئيلة في المرآة, وأكمل ولعابه يتطاير على شخصي فيها:
أكون أسدا, ليثا, غضنفرا, غضنفرا ..
والتفت الي بتحدّ, مردداً اللفظة الأخيرة بزهو مقتنصاً في نفس الوقت النظرات الى جسده المتخشب في المرآة:
غضنفر. جداً جميل معناها ..
تطلع الي برهة, وأمام صمتي المحسور أردف بفهم:
" غضْ ونفرْ " كـ " كرّ وفرّ " " مدّ وجذر" وكلها كما تعلم تعني الجسارة والإقدام.
- !!!
- رحم الله أبي, كنت عندما أغضب وأنقلب الى ذلك الغضنفر, يعزلني في حجرتي المجهزة نوافذها مسبقاً بقضبان حديدية حتى لا ألقي بنفسي من النافذة, خوفاً علي من عاقبة بأسي الشديد .. – هرش رأسه في إثارة - مع إن بعض الخطر مطلوب تحقيقه لأنه يولد مع الانسان .. تعرف. هناك من الأحْداثْ الصغار من يريد الإثارة والخطر والمغامرة وجميع متطلبات الشجاعة, لكنه لا يعرف كيف .. قنبلة موقوتة يكون الحَدَث صاحب هذه الصفات، لذلك تسمع بجنوح الأحداث هذا في العالم كله عدا " النرويج " تصور. لا يوجد فيها شباب جانح, فالكل يستطيع الذهاب للجبال للتزلج كل شتاء, لذلك يخرجون تلك الطاقة المدمرة التي كادت أن تهلكني في صغري.

اييييه, كنت بكْره, فلّة قلبه, عليه رحمة الله , لكن هي - وكان يعني المدام, رأسها – صندوق عناد, إذا أصرّت على أمر فلا يثنيها عنه شيء, لا دموع, لا استعطاف, ولا حتى حزم .. وخذ بعدها ما يصيبني, ضياع نفسي, تشتت ذهني, هجولة ووحدة قاسية في هذه الفنادق, وإن كانت بخمس نجوم.
أتم كلماته الأخيرة, مُعقباً بعدها بزفرة شديدة الحرارة..

كأن الرجل ينتظر مني كلمة ما , استدركت:
- قلب عجوز.
سـكت وأخذ يحدق بي, مفكرا, متأملا, لا ادري بالضبط .. أعرف هذا النوع, هو الآن يغربـل كلمتي جيـدا (عجوز, كبير, مُسن, كهل) أوصاف لن يبتلعها سريعا هذا المتصابي .. أجاب بحذر:
- يعني.
- تصبح على خير.
- وأنت؟
- توفيت. أختار الله خيرته فيها.
- خسارة. لا زلنا شباب.
- !! .. الحمد لله على كل حال.
قلتها منهيا الكلام.
- دفنتها سريعا على ما أعتقد؟
- سبحان الله! إكرام الميت دفنه!
- هذا إذا كان ميتا؟
لم أفهم .. وأمـام تسـاؤلي الحقيقي قام يشرح وجهة نظره المفزعة:
- ربما كانت في غيبوبة فقط .. حالات كثيرة تحدث, يُغسّـل الميت ويُكفن, ثم يتضح أنه لم يمت ..
- ! ! !
- أنا شخصيا سـأكتب في وصيتي ألا أدفن إلا بعد يومين أو ثلاثة .. سبحان الله قد يكون هناك عمر!
حديثه الطويـل أدار رأسـي .. ماذا لو كانـت – رحمها الله – لم تمت؟ ما ذا لو…!! تقاذفتني الأفكار, وهاجمتني الذكريات, واندلعت بقوة نار في القلب ..
- استغفر الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هتفت بها في حرارة لأطـرد بها أفكارا شيطانية تكاد أن تفترش عقلي وقلبي ..
- ها. ما رأيك؟ تذكّر ربما وأنت تدفنها لاحظت طريقة وضعها قد اختلفت أو …
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
اسـتعذت بالله طاردا تلك الوساوس .. لن يسكت, إذن, لأتكلم أنا ..
من كلامه العجيب عن الموت شدني ذكر الوصية, قلت:
- وأنا في الخامسة والثلاثين كتبت وصيتي, وبعدها في كل عام أجدّدها , وأنت لم…
- لازلنا شبابًا .. وصية يعني تفكير مبكر في الموت, ثم لا نوم طبيعي, لا سجائر, لا مزاج رائق ..
- لكن…
- دع الخلق للخالق.
قالها بحزم جمدني, ثم التفت الى المذياع دائرا موجته يمينا ويسارا ..
- خير؟ نريد أن ننام.

كنت قد تخففت كثيرا من احترامي له ولسِنّه, لكنه أولاني ظهره البنفسجي اللامع, مكملا تدوير الموجه الى أن أرتاح الى أغنية شبابية حديثة, كثيرة الآلات تحكي عن قسوة حبيب العمر وهجره لحبيبه دون رحمة ..
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
زفرت بها حانقا, فلم يتركني, بل قال بأسف مقصرا الصوت الى أذنه:
- الآن أدركت سرّ وفاة المسكينة السريع .. تصبح على…
***

( يتبع )

 
 

 

عرض البوم صور dali2000   رد مع اقتباس
قديم 28-08-08, 01:05 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:

البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 13121
المشاركات: 13,907
الجنس ذكر
معدل التقييم: dali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسي
نقاط التقييم: 4990

االدولة
البلدCuba
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
dali2000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : dali2000 المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

قد تقولون طالت دون هدف,
وقد يغمز متحذلق منكم: هي ثرثرة عجوز.
وتقول فتاة مُشفقة بملل: دعوه يمضي في سرده, فلن نخسر بالسماع شيئا.
بالطبع سـأمضي في الثرثرة, وإلا انفجرت.

صعب أن ترى وحدك العجائب والغرائب والهوائل من زميل يساكنك, ولا تستطيع أن تنبس بكلمة .. .. سأكمل, والله المستعان.

***

سمعت آذان الفجر يأتيني واضحا .. فالفتى ذي البيجاما الفضائية يخاف على صحته, وبالتالي لا يريد برد التكييف الصناعي ..
- مابه هواء ربك؟ ها؟
قالها بنرفزة بعد أن ملّ فقرات برنامجنا الثاني, وإذاعة صوت العرب ..

عموما الجـوّ بارد هذه الأيام, فلا داعي للجدال معه, بهذا سلمت .. وخمس دقائق جلستها على سـريري متذكرا كل ما مرّ بي قبله وبعده .. وخمساً ثانية أحمد الله الذي رد علي روحي بعد موتي, قائلا كما كان يقول عليه الصلاة والسلام, ثم خمساً ثالثة مُجهداً الذاكرة العجوز في تذكر اسـمه .. كأنه قال ( محمد علي, أو محمد حسين, أو محمد عبد الكريم ) لا أذكر بالتحديد اسمه من جملة الأسماء الكثيرة التي ذكرها بالأمس حتى اسم الدلع الذي كانت المرحومة تناديه به نسيته .. عموما هو اسم مركب, أوله محمد.

قد تقولون يكفيك الاسم الأول لمناداته به, فـأجيب باختصار: يغضب هذا الليث إن لم ألحقه بالآخر, لأن الآخر هو اسمه الأصلي .. وأعتقد له الحق في هذا, فأشقاؤه الستة كلهم يحملون نفس الاسـم الأول مع التنويع في الثاني, ولذلك اختلط علي الأمر .. تماما كما لو قلت: (اسمي) ثم سكتّ, أو قلت ( عبد ) فقط دون إلحاقـه باسـم الجلالة أو أحد أسمائه .. في عرفه هكذا الموضوع بالضبط, وأنا لا ألومه مـادام كل هؤلاء الأشقاء الظرفاء يحملون نفس الاسم الأول.

قطعت حيرتي وترددي بعد أن توضأت, بهزة رقيقة على كتفه, ثم تربيته, ثم خبطة جـامدة على الظهر ( يا شيخ, يا سيد, ولا من مجيب ) ..
- مات!
طارئ بشـع تملكني, كاد يوقف دقات القلب

كنت نائما عندما ماتت, لم أُلقنها الشـهادتين, ولم أشعر بحشرجة صعود الروح, ولا عذاب سكرات الموت التي لم ينجُ منها أحد, حتى سيد الخلق أجمعين ..
أشـعلت النور فلم يطرف له جفن, أنفاسه خامدة, لا صعود في الصدر ولا هبوط.

- مِرآه.
الطارئ الثاني على العقل الخائف .. كنت متأكداً بالطبع مـن أني سـأجدها بين أغراضه الناعمة .. قربتها سـريعا من أنفه, رأيت السطح اللامع المصقول قد امتلأ ببخار أنفاسه ..
- الحمد لله, حي.
زفـرت بها براحة, قلبته على الجانب الأيمن بعد أن كـان مُسطحاً على ظهره كالقتيل .. أخيرا سمعت تنهيده خافتة, ثم بدأت الأنفاس العجوز تنتظم .. .. ابتعدت عنه مؤجلا فكرة إيقاظه الى ما بعد صلاتي, التي فطنت الى آذانها الأول وليس الثاني …
انتهيت من صلاة الليل, شارعا في تلاوة ما تيسر لي من كتاب الله, مُستعينا بمصباح سريري – بعد أن أطفأت النور – وعوينات القراءة, منتظراً حلول قرآن الفجر.

رحمها الله, هي أول من أعلمني أنها صلاة الفجر, الآية المذكورة في سورة الإسراء " وقرآن الفجر. أن قرآن الفجر كان مشهودا " .. أي يشهدها الله وملائكته .. وأمـام نظراتي المتشككة دوما في أصول كلامها, قالت بحماس: لا تنسَ أن الله ينزل الى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل, وأهزّ رأسي مُفحما, ثم اسألها مداعبا:
- من أين التقطتها؟ العين السحرية بالطبع.
وتضحك في جذل, حالفة بالله العظيم أنها سمعتها من شريط الشيخ الفلاني ..

أول ما جذبني فيها, وداعتها, وصدقها, ثم هذه الضحكات المتقطعة الناعمة, التي تدلك على طبع سـاذج, وتربية مطيعة, كأنها نقيق عشـرة ضفادع صغيرة .. عليها رحمة الله.

أفقت من الضحكات الصغيرة الرقيقة على آذان الفجر الأخير .. المسجد قريب, لكن أين يقع بالضبط, لا أعرف بعد .. موظف الاستعلامات الساهر سيتكفل بتحديده لي .. انفلت الى "عصام" أحركه وأقلبه دونما فائدة ..
خرجت الى صلاتي قاطعا كل أملٍ فيه, ولما عدت كان يصلي فرضه.. أبدلت ملابسي واسترخيت في مقعد قريب من سريري ..

- يعني لم توقظني للصلاة . قاصدًا؟
أمـام عناده الطفـولي أحجمت عن الجواب, سهل أن تقنع طفلا بما تريد, لكن صعب جدا أن تفعل نفـس الشيء مع هذا الفتى ..
أكمل: سامحك الله, فوّت علي أجر الجماعة.
- غلطة. غداً إن شاء الله أوقظك.
- يـا أنـاني. ذنبي في … وأشـار الى عنقي القريب من إصبعه.
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
- ماذا يُكلّف عليك لو ناديتني بالاسم فقط .
- الاسم! الاسم!
- ماذا تقول؟
- لا اله إلا الله.
- أو تـربيته, هـزّه, لا بأس بخبطة خفيفة .. أنا معروف بنومي الخفيف, حتى أن أمي دائما تقول …
- حيّة … أمك؟!!!
سـألته بدهشة صافحا عن كل ظلمه ذاك معي.
- لا. توفاها الله .. كانت صحيحة الجسم, مليئة بالعافية حين توفاها ربك .. امرأة قوية – قالها بإعجاب – كـ ..
- كثور.
وأمام نظراته الهلعة اعتذرت بأدب:
آسـف. لكنه تعبير دائما أقرأه وأسمعه ( قويا كثور ). وهدأ قليلا أمام نظراتي الغارقة في الأسف والتي هي في الأصل غاضبة من كل هذا اللغـو الذي ليس له أساس.
- كانت قوية كرجل .. يرحمها ارحم الراحمين.

طبعا إذا كان لكم خيالا مثلي, سيشطح بكم - بناءا على كلامه - أنها توفيت وهو في الثلاثين من عمره, وعلى أقوى احتمال في الخامسة والثلاثين, مادامت قوية وصحيحة الجسم كبقرة … لكنه صدمني لما قال أنها توفيت العام الماضي فقط.

- ومـن يومها والخلافات في ازدياد بيني وبين زوجـتي, وبالطبع دون تدخل سريع, وصلح, وعودة كما كان الحال أيام المرحومة.
- عليها رحمة الله.
قـلتها كمن ينهي صفقة خاسـرة, ويهرب بعدها الى نفسه .. التفتُّ الى قرآني, لكنه أكمل حديثه الـذي قطعته بسـؤالي المفجوع عن أمه:
- كانت تقول: نوم " محمد حسن " كالقطط.
- محمد حسن!
قلتها بفرح كمن وجد كنزا, لكنه أكمل:
- نومه كالقطط.
كانت تقولها لاخوتي وجاراتها.
- يعني. ثقيل, خفيف .. أنا لم أربّ قططاً في حياتي.
ولجهلي بحياة القطط وحِـدّة صوتي, قال بأسى قاذفاً برغبة النوم عبر الحائط:
- خفيف, خفيف جدا.
- يرحمك الله يا أم محمد حسن.
- تُدهشني أنت.
وأمام نظرتي المتسائلة, سأل:
معقوله. ألم تربِّ قططا في حياتك!؟
- لا أذكر أني فعلتها.
- مؤكد عرفت نوعك – قرّر في عنف – فتى حافي القدمين, يدور في الأزقة القديمة, قاذفاً الناس بالحجارة.
- ! ! !
- لا تنكر. لي نظرة سديدة في الرجال في صغرهم, فماداموا لم يربّوا قططًا, وهي هواية كما تعرف تأكل الكثير من الوقت, فلا بد أنهم أهـدروا كل طفولتهم في الشارع .. يا شوارعي.
قالها ضاحكا مُرجعا رأسه للوراء ..
ما علينا .. عفا الله عمّا سلف .. ماذا كنت أقول عن نومي؟ آه, خفيف, خفيف جدا .. بينما " محمد حسين " نومه ثقيل, عكسي تماما .. " محمد علي " بيننا نحن الاثنين .. و" محمد إسحاق " آه من محمد إسحاق … و وانتابه حماس مفاجئ للحديث عن أشقائه الستة أصحاب العادات الظريفة في النوم … وشـرع يحكي مُصدّعـاً رأساً حُرّة ما قبلت مُسكناً منذ زمن طويل.

***

تستطيع أن تغلق كتابك الذي اشتريته أو استعرته, متناولا قرصي مسكن, أو مزاولا أي نشاط يروق لك بعيدا عن ثرثرة الأوراق الصغيرة, لكنك لـن تسـتطيع أن تمنعني من الكلام والفضفضة .. ليس لك الحق في هذا .. كلكم لن تمنعوني من الكلام, وأنا الوحيد فيكم الذي واجه ما واجه, ولمدة من عمر الزمن, شهرا كاملا إلا أياما ثلاث, في فندق نجومه خمس.

***

أفطرنـا إفطـارا مجانيا من الفندق .. شايًا وفولا .. فطلب " محمد حسن " وهو لازال بمنامته البنفسجية اللامعة, بعض الزبدة والمربى والزيتون الأسود الكبير ذا العلبة الخضراء ..
- الزبدة مفيدة, خاصة عند تقدم العمر .. دائما تسمع أن أغلب المُعمرين كانت الزبدة أساس طعامهم.
- يالله حسن الختام.
اهتز من تشاؤمي صائحاً بحدة:
- تنفعك هذه المواد في كبرك, والمربى مفيدة للمعدة على الريق, والزيتون وزيته يجليان الصوت و..
- الحمد لله على العافية.
صاح يُوبخني:
- كُـل أكـلاً ذا فائـدة حتى تحمد الله حقاً على العافية.

غصصت , وكـدت اشـرق بدمعي .. ما هذا الذي اسمع؟ .. المؤلم أنني أوبخ, وأهزّأ, وأقبل أشياء لا تطاق بإرادتي ونقودي, لا بإرادة أحد ولا بنقود أحد!
هل انسحبت؟ للأسف لا .. سـايرت – كما يفعل البعض – الأيام أكمل فيها ما بقي لي من أوقات في هذا المكان ..

لما حان آذان الظهر .. هززته ..
كان مستلقيا على قفاه, واضعا الراديو الصغير على صدره الضعيف الضيّـق الأكتاف,
تململ في ضيق:
- سمعت, سمعت .. تحسبني أطرش؟
تنحنحت:
- ألن تغير البيجاما؟
كنت مشفقا من انشغال بعض المصلين بعمر الرجل, وسر ردائه الزاهي, ومحرجا في نفس الوقت – وهذا ما سيحدث – من التصاقه بي, أو محادثته لي وهو بهذا الزي, معلنا أمام الملأ معرفته التامة بي .. لكنه لم يرد على سؤالي, فقط أوقف – الاريال – الفضي على وضع أراحه في السمع وشرع يصغي ..
خرجت الى الصلاة بدونه, ولما عدت وجدتـه يصلي, وعيناه قد انتفختا من اثـر النوم.
فكرت في إغفاءة قصيرة ثم طلب طعام الغداء وعليه أخذت وضعي, وقبل أن أضع الوسادة الأخرى على رأسي حاجبا بذلك أي ضوء أو صوت قال بصوته الرنان المرتجف:
- فوّت علي صلاة الجماعة.
ولما لم أجب, أكمل موشحه:
- يا أناني, ذنبي في رقبتك.
تنهيدة طوييييلة فقط, خرجت من صدري قبل أن أنام.


***

( يتبع )

 
 

 

عرض البوم صور dali2000   رد مع اقتباس
قديم 28-08-08, 01:06 PM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:

البيانات
التسجيل: Sep 2006
العضوية: 13121
المشاركات: 13,907
الجنس ذكر
معدل التقييم: dali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسيdali2000 عضو ماسي
نقاط التقييم: 4990

االدولة
البلدCuba
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
dali2000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : dali2000 المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 


- يا سيّد.
ولـم يكن اسـمي سيّد, لكنه لقبٌ يُصرّ دائما على مناداتي به, بينما هو لا يقبل غير اسمه الكامل مسبوقاً بأستاذ ..
فتحت عينَيَّ, يا لطيييف هل لازلت أعيش في هذا الكابوس؟ .. ..
كانت الثـالثة بعد الظهر .. جـوع النوم يعتصرني, ورائحة شواء لذيذة تفعم جوّ الحجرة.

- قمْ. طلبت – لنا – الأكل.
- شكراً.
لكني لما دنوت من الطعام غضبت .. كـان قد طلب لكل منا, قطعة لحم يتيمة سـوداء مُسـطحة, وكثير من السلطة الخضراء, وكوباً من عصير البرتقال ..
- والرز؟ .. أنا واحد من الذين إذا حُشر في أفواههم أكلات العالم كلها, بدون أرز, لا أقول أكلت.
امتعض من تعبيري المبالغ فيه, فقال بعصبية مطوحا بالسكين جانباً:
- الرز يزيد في السـمنة وبروز الكرش .. ألا ترى نفسك في المرآة؟
وجدت عيني – لا إراديا – تتلصص في المرآة ناظرة الى ما قـال, ووجـدت نفسي بعدها تقول بحدة:
- أنا حرّ.
- وأنا يهمني مظهرك .. من اليوم والى أن نفترق سأتبع معك نفس النظام الذي أتبعه مع نفسي, وستشكرني بعدها .. لا أريدهم أن يقولوا "محمد حسن" عاش مع فيل, ولم يستطع أن يحوله طوال شهر كامل الى دلفين رشيق .. لا أريدهم أبدا أن يقولوا عني ذلك.
- مَنْ. يقول؟!
- الناس, وأشقائي الستة.

مهلا:
ستؤلمونني إن وصفتموني بضعف الشخصية أمام هذا المستبد .. الحكاية وما فيها أن الجدال متعبٌ معه, والكلام كأنه فقاعات صابون سرعان ما تنفجر مُخلفة .. لا شيء.

ابتلعت قطعة اللحم الإفريقية مستخدما الشوكة وحدها, وهو مستخدما الشوكة والسكين وكثيرا من الوقت .. كل هذا الوقت على هذا البؤس! لا حول ولا قوة إلا بالله ..
قليلا من السلطة الخضراء التي لا أستسيغها ازدردتها على مضض, ثم عصير البرتقال الذي مججته سريعا من فمي.
- ما هذا الطعم؟
- عسل نحل أصلي.
- ومن قال أني أشرب العصير بالعسل؟ .. من الأساس أنا لا أشرب العصير مع وجبة الغـداء, بل أشرب اللبن.
- سمعتك تكح في نومك .. صدقني هذا أفيد لصحتك.
طبعا سيقول أحدكم, يسـتطيع أن ينزل الى المطعم ويأكل ما يريد .. .. هذا بالضبط ما فعلته بعدما أبدلت ملابسي بملابس الخروج مُتعللا بنزهة قصيرة أهضم بها – الدسم – الـذي أكلته.

شـعرت وأنـا اضغط أزرار المصعد الكهربائي طالبا الدور الأرضي بغصّـة حينما تذكرت أنني علّلت له خروجي .. .. لا بأس, هـو أدبٌ مني لا غير!
وفـي المطعم أكـلت ما حُرمت منه فوق, وقبل أن ارشف أولى رشـفات اللبن الرائب , جـاءني الخـادم بـأدب.
- هناك من يطلبك على الهاتف.
- ! ! ! .. خير؟
من بين دهشتي, وتساؤلي, وأفكاري الفزعة التي ذهبت بعيدا حيث أبنائي وبناتي وأحفادي الأشقياء, أتاني صوته الرنان عبر المسماع قائلا كمن ظفر بمجرم عتيد:
- نزهة قصيرة .. هـا؟ حسابك ( بعدين ).

***

عـدت الى الفندق والحجرة المجنونة في العاشرة والنصف مساء ..

وقت جميل قضيته ما بين زيارة قصيرة لصديق قديم, أو دوران – دون دخول – حول بيتي الدافئ الحبيب, الذي هجرته بملء إرادتي ثم المطعم القريب من بيتي والذي أدمنت الأكل فيه بعد موت الحبيبة .. عشاء ممتاز تناولته, وأخيرا العودة الى الفندق بغية النوم..

في سيارة الأجرة تضاربت المشاعر ما بين إحساس بالألم, وآخر بالفرح, وثالث بالوحدة الهادئة المحببة .. كأني أخيرا ارتحت لوضعي وتكيفت معه .. منذ وفاتها, هذا أول يوم أمضيه وقد ملأت الوجوه أغلب ساعاته .. الوحدة يا أحبّه هي الشرّ بكل أنواعه خاصة عند رجل أكمل الخمسون من عمره ..

قبل الفندق بشارعين, أوقفت السائق ونقدته أجره دون انتظارٍ للباقي الذي هو في أمس الحاجة إليه .. ( يوميا إما العودة بكذا, وإما الفصل أو الترحيل ) هكذا يُهدّد أصحاب شركات - الليموزين- هؤلاء المساكين, والراكب لا يرحم يُفاصل علـى القرش والريال..

مشـيت مسـافة لا بأس بها, شاعراً بخفة في خطاي التي ملّت الأبواب المغلقة, وقبل أن أدخل حجرة العذاب, ( شفطت ) بطني قليلا الى الداخل, تلقائيا فعلتها قبل أن أدخل بثانية واحدة, بعد ملاحظة ذلك العجوز, فاختفى الكـرش, وضاع بـروزه مع بقية الجسد ..
" المستبد .. كأني خائف منه! ".
- السلام عليكم ورحمة الله.
- تأخرت. ألا تدري كم الساعة الآن؟
- نعم!؟
أجاب بصوته الرنّان المُرتجف موضحا لي وهو يعد على أصابعه:
- استيقظت قبل الفجر - على حد قولك - أي لم تنعم بأي نوم معقول, لا في الصباح ولا في الظهر, بنـاءا عليه يجب أن تكون في فراشك منذ التاسعة مساء.
- آآآآآآآآهـ.
خرجت من صدري عنيفة, ولا أدري هـل جاءت ردا على اهتمامه – غير المعقول بي – أم على البيجاما الفيروزي اللامعة التي يرتديها .. نفس الخامة الأولى مع تغيير في الموديل طفيف.

سماعة الهاتف كانت في يده حين دخلت, فعاد بعد آهتي الطويلة تلك الى أزرار الهاتف, يلمس أرقامها برشاقة تحسده عليها عاملات الكمبيوتر في وطننا العربي, ثم أغلق الخط ..
لم يفتني انفعاله, ولا نظرة شقاوة سخيفة في عينيه, لكني لم أبدِ أية ملاحظة.
أعاد الاتصال بنفس الرشاقة وقطع الخط,
وفي المرة الثالثة سمعت من يصيح على الطرف الآخر (آلو آلو), لكن ميمي لم ترد, أغلقت الخط سريعا, وعادت الى انفعالها واحمرارها.
- ارحم بنات الناس يا هووه.
قلتها سـاخرا, متأملا بعين آسفة المنامة الفيروزية اللون .. لكـنه ضحك بصخب أفزعني:
- لا. هذه حقيقة راحت علينا.
وأكمل ضحكه الصاخب طارقاً برأسه خشب السرير:
- رقم لذيذ, لذيذ.
أنا ما سألت, وما كنت سأسأل , لكنه قال برعونة:
زوجتي.
ثم تنهد بحرقة مسنداً ظهره على الجدار, رافعاً رأسه في أسى حقيقي كما يفعل مراهقونا العرب:
تعرف. أنا من ضيّع في الأوهام عمره .. أحبها كل هذا الحب, وماذا يكون رد الجميل؟ شحططة, ومرمطة, كما هو الحال الآن, لا وأحياناً نُجبر على استضافة أناس من عالم آخر ..

تغاضيت عن الإهانة التي لم يعتذر عنها بحال لكن أي حب وأي وله؟ في أواخر العمر يهدأ الحب ويبقى هناك عيش هانئ قرير بين الزوجين يسمى تعاطفا, مودة ورحمة, وخوف كل واحد على صحة الآخر .. هذا ما يتبقى, وهذا ما نريده في عمر الراحة والاحتياج ..

لم يتركني أنعم بأفكاري, هَدَر في عنف:
كل فنادق مدينة "جدة " عرفتني .. تقريباً في العام الواحد يحدث هذا الأمر خمس ست مرات .. تخيّل!

لم أعلّق .. الدلع هذا لا يعلم إلاّ الله نهايته .. وبالطبع لم يعجبني عبثه بالهاتف, وأنا أعرف ماذا تعني رنّة جرس هاتف في بيت محافظ بعد منتصف الليل, ولا أحد يجيب كما يفعل هو ..

تنحنحت ليخرج صوتي واضحاً وهادئاً, وضعوا تحت هادئٍ ثلاثة خطوط:
- يا أخ رأفت. لماذا اللعب بأعصاب الناس…
قاطعني بضحكة صاخبة ماجنة :
- رأفت! هاهاها, أعجبني جداً هذا الاسم, هاهاها ..
- حدثها وانتهـ
- هاهاها .. اسم جميل كأنني ولدت به .. تعرف…
اعتدل جاداً, باتراً, قاطعاً كالسيف :
لم لا يكون هو اسمي المستعار؟ أغلبية عباد الله لها أسم مستعار بجانب اسمها الحقيقي, دعك من ( سُنسن ) لقد مللته.

- استغفر الله .. أقول حدثها وانتهِ، هي فرصة, فلربما ينقشع الضباب ..
- لم ترد. الذي كان يفعل أباها.
- هو حيّ حتى الآن؟!
سألته بوجع آلمني,
سبحان الله! ما هذه العائلة المُعمّرة, ماذا تأكل حتى تعيش كل هذا العمر؟ طبعاً لم أفه بها, لكنه نظر إلي باشمئزاز آلمني:
- يا أخي لم الحَسد؟ ثم إذا كانت عائلتك ومن صاهرت ينقرضون سريعا, فتأكد أن هذا من حسن طالع البلد.
- آسف, لم اقصـ …
- ما علينا. – ألقى رأسه الى الوراء في ضحكة عصبية قصيرة ثم أعاده في دهشة بعد أن ردّد اسمه الجديد ثلاث مرات – :
يا أخي, أبوها هذا داهية, مصيبة من مصائب الزمن .. حازم وشديد, وكلمته لا تنثني أبدا!
- إذن تطلبها من أبيها, هي زوجتك على كل حال!

أجابني بعد وقت بقرف وهو يلف سيجارة بمهارة, لاعقا طرفها الرقيق بلعابه:
- أنت لا تعرف عمي .. سيقول تعال لنتفاهم, وكما أوصلتها الى هذا البيت تأخذها بنفسك منه و.. و.. كلام من هذا القبيل.
- عين العقل. من الغد توكل على الله.
نظر الي شزرا وصاح:
- لماذا اللعب بأعصاب الناس. كلّمها. أطلبها. صالحها. خذها. ألم تجرب لوعة الحب؟
ألا تجد لذة في العتب بعد الصلح؟ الآن, والآن فقط, بت متأكدا من سـبب وفاة – المسكينة – السريع.

وأولاني ظهره اللامع بغضب, وعاد الى الهاتف يعابث أزراره, طالبًا الرقم اللذيذ.


***

( يتبع )

 
 

 

عرض البوم صور dali2000   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الرجاء التزام الوقار, الرجاء التزام الوقار بقلم: فاطمة بنت السراة, بقلم: فاطمة بنت السراة, فاطمة بنت السراة
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 02:48 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية