رحّب بي الرجل بصدق, وهو يُمسد شاربه الرفيع الملتصق بفن حقيقي مابين فتحتي أنفه وشفته العليا .. خـط رفيع بالكاد ترى الشـعيرات صرعى عليه .. صدمني الصوت الرنّان المرتجف مع الوجه الأمرد .. لا أدري لماذا أعتقدت دائما أن الكهول لابد وأن يكـون لهم عارضٌ جميلٌ يزيدهم وقـارا, وشارب - معقول – محفوف يزيدهم بهاء أظنهما أبي وجدي رحمهما الله .. ثم خاتم ياقوتي عظيم الحجم زيّن بنصره الأيمن..
الحقيقة أن كلمة ( زيّن ) مبالغ فيها, والحقيقة الواضحة للعين المجردة أن الفصّ قد أكل الإصبع كله, بالكاد يُرى آخر الظفر ..
لا حظ نظرتي الى الخاتم فسعل بحبور مجلياً صوته :
- خاتم جميل ها؟
- نعم . قلتها مجاملا
( هااااا, هااااااا ) .. نفخ بها مرتان على فصّ الخاتم المتوهج اللون ثم لمّعهُ في كم الثوب الأصفر ذي ( الكَبَكْ ) الذهب, رافعه الى الأعلى حتى بان كل الظفر:
- خاتم جدّي الثالث لأبي عليه رحمة الله .. أهدانيه ساعة مولدي .. فرحته بالحفيد الذكَرْ البكْر لأبي .. تعرف هذه الأمور عندنا .. وبالطبع حُفظ في علبة من المخمل الأحمر الى أن بلغت مبلغ الرجال, ومن يومها وأنا أرتديه..
تطلع الى السقف بعظمة:
يقال أنه كان خاتم لمهراجا قديم, وقيل أيضا أنه كان مُلك لـ ( سيف بن ذي يَزَنْ ) ارتداه في حروبه كلها, ثم تناقلته الأيدي الى أن وصل الى بنصر جدي الثالث عليه رحمة الله..
في الحقيقة أنا أؤيد الاحتمالين – قالها وهو يحك رأسه - ما يدريك لعل "ابن ذي يزن" قد فكّر بالذهاب الى الهند, أرض العجائب والغرائب ومطمع الغرب اللعين في كل وقت .. تعرف. كان غنيّاً جداً فوقع في قبضة جماعة من لصوص الهنود سلبوا ما معه, وبالطبع كان الخاتم ضمن ما سلبوه, ثم باعه أحد اللصوص أو حتى أهداه الى المهراجا تقرّباً منه .. تعرف. تحدث هذه الأمور .. أو أنّ المهراجا الهندي هو الذي ذهب الى أرض "ابن ذي يزن" وأهداه له بنفسه دون سرقة ولصوص .. جائز.
عموما أنا أرجّح الاحتمال الأول لأنه أقرب الى المنطق..
لفّ سيجارته الأولى بكثير عناية, ثم سأل بإلحاح:
لكن ما الذي حَدَا بـ "سيف" الى أن يترك أرض آبائه وأجداده في دمشق و
- في اليمن . - قلتها بخيبة موجعة –
- دمشق, اليمن, جده .. كلها مُدن .. لن تفرق معنا.
- !!!
- ما الذي حَدَا به الى هذا, ولا طائرات في ذلك الوقت, ولا حتى مواصلات بسرعة معقولة, وهو الملِك الذي لا يصح أن يغيب طويلا عن مُلكه!
طبعاً لا تجاوب ولا جواب, إلا أنه من النوع الذي لا ييأس, نظر الي بشفافية متخذًا هيئة فيلسوف رقيق:
يا أخي؛ التاريخ هذا عجيب .. كله باطش ومبطوش, قاتل ومقتول, فاعل ومفعول, داهش ومدهوش...
أمام استفهامي الصامت للكلمتين الأخيرتين أجاب:
تدهشك غرابة الأحداث في التاريخ, بالطبع قرأتْ لابن هشام, هيرودوت, ابن بطوطة .. طوال قراءتك لأحداثه وأنت في دهشة عظيمة.
هزّ رأسه في ثقة:
التاريخ أنياب وأظافر, هو كذلك, كما سمّاه "منصور أنيس" في أحد كتبه.
أستدركتُ بسرعة:
- أنيس منصور.
- منصور أنيس, أنيس منصور, كلها أسماء كما تعلم. – ثم كمن بُوغت –
- غريبة! تقراْ؟
- !!!
- شكلك … لا يوحي بذلـ…, آسفـ ..
أغمضت عيني في تعاسة من هذا الجار:
- ابني يقرأ له, يقول نادراً ما يأتي بشيء مفيد.
- إذاً حدسي صحيح .. شكلك لا …
" حسبي الله ونعم الوكيل". كان موظف الاستقبال ماثلا في خيالي حينما تحسّبتْ..
سعل الرجل ثلاثا في الصمت الذي بدا منّي بعد حديثه عن التاريخ والخاتم, ثم سألني بجفاء:
- الاسم الكريم؟
لمحت بوضوح لمعة الذهب الأصفر في الفم المتصابي .. .. قال بعد تعارف – غير تقليدي – دام ربع الساعة:
- بما أننا سنغدو صديقـ .. جارين .. يُسرني في كلمات قليلة موجزة أن ألخص لك هذا الكيان الذي أمامك, والذي يحمل اسم " محمد حسن " أو " سُنسُنْ " كما كانت تناديني به المرحومة أمي ..
سكت بعدها لثوان, رافعا يديه الى أعلى, ثم مسح بها وجهه .. بالتأكيد قرأ فاتحة الكتاب على روح أمه كما يفعل البعض..
- مَنْ أنـا؟
اعتدل في جلسته مفكراً, ثم عادّاً صفاته العظيمة على الأصابع, بادئها بالطبع بإصبعه الصغير ذا الفص الياقوتي:
رومانسي, عاطفي, حَالِمْ وشفّاف, وفي نفس الوقت شجاع, حازم, جريء, مقدام..
لا تستغرب من الجمع بين هذه وتلك … ( بالطبع لم أستغرب, ولم يبد على وجهي أي تعبير اللهم عدا خيبة الأمل من الرجل والمكان الذي سأعيش فيه قرابة شهر ) ..
أكمل بتواضع العلماء وسماحة أنفسهم:
انه الإنسان هكذا, تجده مجموعة تناقضات كيف؟ لِمَ؟ العالِمْ الله..
تعرف. يزعجني الإنسان الذي يُكثر من كلمة ( أنا ) .. زفر بها بقوة طارداً الاتهام عن نفسه..
- ! ! !
- ماذا قلت؟
هززت رأسي نافياً فأكمل:
أعني ذلك الانسان الذي يُعدّد محاسن نفسه وأفعالها ( أنا كذا , أنا فعلت ) يا أخي اعمل خيرا والقه في البحر, وستجد الأجر والثواب من الله قبل العباد .. .. تصدق؟ في يوم من الأيام أنقذت نفساً كادت أن تُهلك .. طفلا كان, وأنت تعلم الأطفال أحباب الله, ألقى البريء بنفسه في البحر مع أشقائه الكبار زاعماً أنه ذلك السبّاح الماهر, فما كان منّي وقتها حين سمعت استغاثة أشقائه إلاّ أن ألقي بنفسي خلفه, ناسيا قياس قدرتي ذلك الوقت, ناسيا ترددي الطبيعي, ناسيا خامة بذلتي الثمينة, ناسيا أنني مرتديا ساعة بثمن خرافي, ناسيا خاتم ابن " ذي يزن" الذي في بنصري.. ناسيا كل شيء عدا هذه الروح الآدمية التي تجاهد في سبيل الحياة .. وبالطبع هذا دليل على أنني ماذا؟
وأمام صمت القبور منّي شرع يُعدّد مثالبه على الأصابع, بادئاً بإصبع " ذي يَزَنْ ":
شجاع , مقدام, جسور, رقيق, شفّاف..
غوث طفل بريء ( رقة وشفافية ),
استجابة سريعة مني ودون تفكير ( جسارة وإقدام ) ..
تناقض! نعم .. لكنه موجود بالأدلة القاطعة في شخصي, وقد يكون موجود في شخصك أيضا لكنك تخفي الجانب الطيّب منه, وترينا فقط الجانب القاسي, الصارم, الجامد, الخالي من كل المشاعر الجميلة, وأعتقد أن هذه وسيلة دفاعية من عقلك الباطن تخفي بها عُقدة قديمة .. صدقني لي فراسة بهذه الأمور..
لم أعلق على كلامه .. كنت أرى فقط بعين الخيال أياماً صعابًا..
شعشع الدخان متطايراً في كل الحجرة حتى اعتقدت أنني سأحتاج بعد يومين كمّامة هواء لرئتي..
- تدخن بشراهة؟
قلتها متسائلا بعد أن أطفأ السيجارة الثالثة وشرع فـي تهيئة الرابعة, أجاب بعناد أرعبني:
- أنا حرّ. عندك مانع؟
من اللحظة الأولى قد لا تكّون تلك الفكرة عن الشخص الماثل أمامك, لكنك من – اللفظة – الأولى تقرر, وتبصم .. وأنا كوّنت وقررت وبصمت, ثم سلمت أمري لصاحب الأمر..
رفعت مسماع الهاتف طالبا أحد الخدم ليساعدني في حمل سريري بعيدا عن ذلك المدخن الشره, طويل اللسان, لكنني تذكرت أنني في فندق ممتاز, إذاً فليحملوه هم بناءا علـى أوامري .. وبالفعل حضر اثنان من الشباب العربي النشيط, وقاما باللازم, فغمز لي العجوز ألا أعطيهم, فأعطيتهم .. ولمّا خرجوا أحببت ألا أقطع حبال الود مع نزيل عصبي مجبر أنا على الجلوس معه في مكان واحد لمدة سبع وعشرين يوم, قلت باسماً ومداهناً:
- شباب مسكين .. تخيّل من ترك دراسته ليخدمنا هنا, ومن هو عائل أهله الوحيد, وكلهم تغربّوا من أجل لقمة العيش..
بصق فـي منديله الأنيق ذي الحرف الذهبي, وأعلن أنهم شباب سوء..
- راقب واحد منهم في غير نوبته, تجده إما في المراكز, وإما متسكعا بسيارته الفارهة في شوارع الحمراء, وتقول مساكين!
أتى الليل سريعا كعادة الشتاء معنا .. أبدلت ملابـسي بملابس النوم الواسعة الطويلة .. توضأت وبدأت في تلاوة أذكاري, ثم تأهبت للنوم متخذا شقي الأيمن بداية لنومي .. .. كان هو يراقبني من خلال دوائر الدخان الزرقاء التي لن يتحملها صدري غدا, ثم قام الى النافذتين, فتحها فدخل تيار هواء منعش بارد, جدّد جوّ الحجرة بنسائم طيبة أنعشـت الروح, فخفت رائحة الدخان الكريهة..
من رحمة المولى لنا نحن الشيوخ أن الشتاء في "جـدة " كالربيع في بقية بلدان الله .. المهم شـكرته بإشـارة من يدي على اللفتة اللطيفة, وقام بعدها الى منامته العجيبة.
حشرني الضحك وأنا أتأمل خامتها اللامعة, ولونها البنفسجي المائـل الـى الفضة .. لا أدري لماذا كلما اخترت رداء النوم, فضّلته أبيض أو بنيًا أو ازرق .. هذه الألـوان الثلاثة فقط للرجال, وغيرها لا, وكذا أبي وجدي رحمهما الله .. لكن بنفسجي! وبلمعة!! لا أجرؤ, وفي مثل هذا السن أموت خجلا!!! .. .. ثم .. ثم بدأت طقوسا غريبة .. ذراعان وسـاقان في نعومة الزبدة الهولندية تُشـمر بعناية لتُدهن بالكريم ذي الرائحة, هل قال (لافندر؟) نعم أعتقد أنه ذكر لي اسم رائحته في اليوم السابع .. ثم كريم آخر وقطنة دائرية الشـكل في حجم صحن كوب القهوة, مسح بها وجهه، وسائل شفاف هُلامي مررّه بعناية حـول عينيه .. وأخيرا شعره ذي الفراغات الكثيرة, فعل به الأعاجيب مستعينا بفرشـاة أطفال ناعمة, حتى بدا متناسقا .. بعدها استرخى على السرير, ماداً رجلا على رجل..
- متزوج؟
والحقيقة أنها اللفظة المؤدبة منّي لكلمة أرمل لكنه أجاب على سؤالي بجواب من يعرفني منذ زمن قاصدا زوجته:
- غضبى في بيت أهلها.
كدت أتسرع بكلام طبيعي ( معقول وأنتما في هذا العمر .. ماذا تركتما لصغار السن ) .. لكن وجدت نفسي تقول:
- أزمة وتعدّي.
نظر إلي متفرسا صاعدا هابطا مُمعناً في شخصي الضعيف .. ثم سألني بحدة - ليس لها ما يبرر - بعد تلك النظرات القاتلة:
- تريدني أن أحكي ها؟ أشكو؟! ولمن ؟ لغريب!!
وأمـام نظراتي الهلعة أجاب بكبرياء حقيقي وبصوت حـاد مشروخ من جرّاء التدخين:
يا سـيّد .. " أنا لا أشكو ففي الشكوى انحناء, وأنا نبض عروقي كبرياء ".
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
تمتمت بها في أسى, عجب, لا أدري بالضبط.
- شطر عظيم.
- …؟
- " وأنا نبض عروقي كبرياء " بالفعل شطر عظيم .. عبقري (نفوس) هذا الشاعر!
- الحمد لله!
- يستأهل الحمد.
أرخى رأسه حيث أظفاره المهذبة بمبرد أنثوي متأملها في إعجاب:
- مُصرّ على أن أحكي!
- !!!
- لا بأس. – زفر بقوة – صدقني هي السبب.
- …؟
- خلافاتنا الزوجية كلها, تأكد كلها, دائما هي المتسببة فيها ..
رأسها يابس, تصوّر ترفض السـفر معـي الى - ألمانيا - للتزلج على الجليد .. تعرف هو موسم الجليد في مثل هذا الوقت من السنة.
تنحنحت لأجـد صوتي الذي يخبوا عند الزعل:
- وأنت تجيد التزلج على الجليد؟
- يعني, تمشية حال – قالها بتواضع – لكن الهانم صدمتني صدمة العمر, قـالت كلاما لا يقال, عـن سـفرنا الدائم, تجوالنا, والمرح …
وسكت كأنه يتذكر, وسكت أنا وقد تأكدت من خطأي الشنيع بترك بيتي والبقاء مع هذا الـ.. لكنه أكمل بحزن:
تقـول: هجولة, وضياع مال .. في مثل هذا العمر وجب الاتزان, وبدل جواز السفر المزروع في جيبك, والسـجائر الـ , أبدلهمـا بقرآن وسجادة صلاة! – هكذا قالت - .. كأني لا أصلي!!
تنحنحت للمرة العاشرة لأجلوا الصوت من الطبع القديم:
- امرأة حكيمة.
هتفت بها شاردا, متذكرا وجها تقيّا ضاع مني في هذه الحياة , لكن الرجل انتفض بعنف لا يتناسب مع سنّه وحجمه:
- صدقني أنا حزين وغاضب, غاضب , غـ ا ضـ ب. ثم انتفض واقفاً بعد ثلاثة سعلات كادت أن تفتك بحياته:
أنت لا تعرفني ساعة الغضب.
وبإعجاب حار نظر الى قامته الضئيلة في المرآة, وأكمل ولعابه يتطاير على شخصي فيها:
أكون أسدا, ليثا, غضنفرا, غضنفرا ..
والتفت الي بتحدّ, مردداً اللفظة الأخيرة بزهو مقتنصاً في نفس الوقت النظرات الى جسده المتخشب في المرآة:
غضنفر. جداً جميل معناها ..
تطلع الي برهة, وأمام صمتي المحسور أردف بفهم:
" غضْ ونفرْ " كـ " كرّ وفرّ " " مدّ وجذر" وكلها كما تعلم تعني الجسارة والإقدام.
- !!!
- رحم الله أبي, كنت عندما أغضب وأنقلب الى ذلك الغضنفر, يعزلني في حجرتي المجهزة نوافذها مسبقاً بقضبان حديدية حتى لا ألقي بنفسي من النافذة, خوفاً علي من عاقبة بأسي الشديد .. – هرش رأسه في إثارة - مع إن بعض الخطر مطلوب تحقيقه لأنه يولد مع الانسان .. تعرف. هناك من الأحْداثْ الصغار من يريد الإثارة والخطر والمغامرة وجميع متطلبات الشجاعة, لكنه لا يعرف كيف .. قنبلة موقوتة يكون الحَدَث صاحب هذه الصفات، لذلك تسمع بجنوح الأحداث هذا في العالم كله عدا " النرويج " تصور. لا يوجد فيها شباب جانح, فالكل يستطيع الذهاب للجبال للتزلج كل شتاء, لذلك يخرجون تلك الطاقة المدمرة التي كادت أن تهلكني في صغري.
اييييه, كنت بكْره, فلّة قلبه, عليه رحمة الله , لكن هي - وكان يعني المدام, رأسها – صندوق عناد, إذا أصرّت على أمر فلا يثنيها عنه شيء, لا دموع, لا استعطاف, ولا حتى حزم .. وخذ بعدها ما يصيبني, ضياع نفسي, تشتت ذهني, هجولة ووحدة قاسية في هذه الفنادق, وإن كانت بخمس نجوم.
أتم كلماته الأخيرة, مُعقباً بعدها بزفرة شديدة الحرارة..
كأن الرجل ينتظر مني كلمة ما , استدركت:
- قلب عجوز.
سـكت وأخذ يحدق بي, مفكرا, متأملا, لا ادري بالضبط .. أعرف هذا النوع, هو الآن يغربـل كلمتي جيـدا (عجوز, كبير, مُسن, كهل) أوصاف لن يبتلعها سريعا هذا المتصابي .. أجاب بحذر:
- يعني.
- تصبح على خير.
- وأنت؟
- توفيت. أختار الله خيرته فيها.
- خسارة. لا زلنا شباب.
- !! .. الحمد لله على كل حال.
قلتها منهيا الكلام.
- دفنتها سريعا على ما أعتقد؟
- سبحان الله! إكرام الميت دفنه!
- هذا إذا كان ميتا؟
لم أفهم .. وأمـام تسـاؤلي الحقيقي قام يشرح وجهة نظره المفزعة:
- ربما كانت في غيبوبة فقط .. حالات كثيرة تحدث, يُغسّـل الميت ويُكفن, ثم يتضح أنه لم يمت ..
- ! ! !
- أنا شخصيا سـأكتب في وصيتي ألا أدفن إلا بعد يومين أو ثلاثة .. سبحان الله قد يكون هناك عمر!
حديثه الطويـل أدار رأسـي .. ماذا لو كانـت – رحمها الله – لم تمت؟ ما ذا لو…!! تقاذفتني الأفكار, وهاجمتني الذكريات, واندلعت بقوة نار في القلب ..
- استغفر الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هتفت بها في حرارة لأطـرد بها أفكارا شيطانية تكاد أن تفترش عقلي وقلبي ..
- ها. ما رأيك؟ تذكّر ربما وأنت تدفنها لاحظت طريقة وضعها قد اختلفت أو …
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
اسـتعذت بالله طاردا تلك الوساوس .. لن يسكت, إذن, لأتكلم أنا ..
من كلامه العجيب عن الموت شدني ذكر الوصية, قلت:
- وأنا في الخامسة والثلاثين كتبت وصيتي, وبعدها في كل عام أجدّدها , وأنت لم…
- لازلنا شبابًا .. وصية يعني تفكير مبكر في الموت, ثم لا نوم طبيعي, لا سجائر, لا مزاج رائق ..
- لكن…
- دع الخلق للخالق.
قالها بحزم جمدني, ثم التفت الى المذياع دائرا موجته يمينا ويسارا ..
- خير؟ نريد أن ننام.
كنت قد تخففت كثيرا من احترامي له ولسِنّه, لكنه أولاني ظهره البنفسجي اللامع, مكملا تدوير الموجه الى أن أرتاح الى أغنية شبابية حديثة, كثيرة الآلات تحكي عن قسوة حبيب العمر وهجره لحبيبه دون رحمة ..
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
زفرت بها حانقا, فلم يتركني, بل قال بأسف مقصرا الصوت الى أذنه:
- الآن أدركت سرّ وفاة المسكينة السريع .. تصبح على…
***
( يتبع )