وبعد صلاتي الأخيرة كنت عائدا الى حجرتـي في الفندق حين اسـترعى انتباهي – شيئان – في البهو الكبير .. غترتان كلاهما بحواف زرق, وأربعة أحذية في لون الليل, وسُـبحتان صغيرتان في لون قمر الدين, وقلمان مـن الذهـب في الجيـب العُـلوي لكل منهما.
هذه الأوصاف أعرفها جيدا, ولو اُرتكبت جريمة, وشهد شاهد أن اللذين ارتكباها بنفس المواصفات التي ذكرتها, ودون التطرق الى الوجه والطول والعمر, لأحضرتهما مـن آخر الدنيا, وأنا أقسم (أنهما) من ارتكبا الجريمة, وعبثا بأمن البلد.
وعلى الفور قاما للسلام علي .. قُبل رنّانة من جهتهم وكلام كثير, ثم جرجرة الى قـاعة الطعام بين نظرات الدهشة من المحيطين بنا, عاملين وزوّار ومقيمن, مـن (الجوز) الـذي معي .. وبهتت كلمات المجاملة بيننا ثم خيّم صمت كثيف, ألزمني بطلب مشروب شوكولاته ساخن لكل منهما, وكـأس من عصير البرتقال لي .. وانتهى الشرب الإجباري, وبقيت نظرتان مبتسمتان, ونظرة واحدة قلقة, متخوّفة.
- تفضلا فوق. لابد وأن الأستاذ في انتظاركما.
- لا ليس فوق.
ورد الآخر مُكملا:
- كنا هناك ولم نجده.
- غريب. لم يخبرني أنه سيخرج!
قلتها بدهشة, فرد أحد التوأمين:
- والغرفة مغلقة.
وصدّق الآخر على كلامه:
- والمفتاح – قالوا لنا – معه.
- ومفتاحي أنا أيضا ليـس معي, لا أدري أين اختفى بعد عودتي من صلاة المغرب!
وانفرجت شفاه التوأمين - رهيبا الشبه - بابتسامة مخيفة كابتسامة شقيقهم الأكبر في الساعات الأخيرة التي سبقت وضعي هذا, تبادلا بعدها النظرات, وعدت أنا للقلق..
سـبحان الله! شبه عجيب في التطابق والتماثل..
عادة حينما نرى طفلين توأمين نقول: (ما شاء الله, لاقوة إلا بالله) .. غبطة وسرورا ..
ولمّا نرى شابان بنفس الشكل نقول في عجب وانبهار: (سبحان الله) لكن, عندما نرى شيخين متماثلين في كل شيء حتى في ألوان الأحذية والغتر البيض بحواف زرق, والسُبح القمر الدين, ومتلاصقين الى حد أن إيقاع خطواتهم واحدة, والتفاتاتهم أيضا واحـدة حتما سنقول: (الحمد لله) أو (لا حول ولا قوة الا بالله) أو (لله في خلقه شئون)..
- ما رأيك فـي نزهة بالسيارة. البحر قريب جدا؟
- وبديع في هذا الوقت.
عموما ما كنت لأجيب الا بعد أن يقول الآخر ما يريد أن يقول.
أجبت في فتور:
- أنام مبكرا.
- بدون عشاء! غير معقول.
ورد (الجوز) الآخر برجاء:
- نتعشى على البحر .. الأماكن كثيرة هناك وساحرة.
نظرت الى الجلد المُتغضن في كل مكان وهامة العُمر الموسومة وسْماً عليهما .. (لطيف, ساحر, رائع, بديع, مبهر) .. تعابير لا نقولها نحن معشر الشيوخ, حتى ولو مجاملة .. أغلب تعابيرنا تشتم فيها طابع عدم الرضا عن شيء, والتشبّع المرّ من الحياة, والسـكون والخـلود الـى الراحة مثـل: ( فيما بعـد, لا يضرّ, أراه لاحقا, لا بأس, نعم, لا )..
وفي السيارة أصرّا على أن أتوسطهما في المقعد الأمامي الطويل - أعتقد من باب الترحيب الزائد - فأقسمت برب الكعبة ألاّ أفعل .. توأم سيامي وأنا بينهما! منظر قبيح جدا, وبالطبع أبدا لن يناسبني … أخيرا قـسموا البلد نصفين, لا بينهما كما أرادوا هُمْ, ولا في الخلف كما أحببت أنا .. في نفس المقعد الأمامي جهة الباب .. وبعد دقائق خمس فقط تلثمت بغترتي خافيا نصف وجهي بعدما شاهدت نظرة دهشة في عين طفلة مرعوبة, في سيارة – جمس – شدّها وهي ملتصقة بالزجاج منظر التوأم المتلاصقين..
كيف ستنام الليل هذه المسكينة؟
وفـي المطعم أكلت وشربت, وأكلت وشربت, ثم شربت وشربت وشربت .. عصير, مياه غازية, مياه معدنية, قهوة, شاي, وكدت أسأل هذين الكائنين الدقيقين في الحجم والأكتاف, أين تذهب كل هذه الكميات من الطعام والشراب, أين؟!
منذ أن قدمنا وهما لاهم لبطنيهما الا الأكل والشرب والنكات السمجة .. وان انتهى أحدهما من الأكل تذكّر الآخر صنفاً قد ذاقه على بلاج كذا ببلدة كذا, وسرعان ما يتحول التذكّر الى واقع أمامنا, فيحضر الأكـل ويقبلان عليه بحماس كبير..
طـال الوقت, وقاربت سـاعتي علـى الحادية عشرة..
- أعتقد نعـود الآن.
- يا رجل , كُلْ.
وأكمل الآخر:
- أنت ضيفنا من الآن وحتى الفجر إن أحببت.
- جزاكما الله خيرا, أعيداني فقط الى فندقي فقد أكلت معكما ما يشبعني لثلاثة أيام.
قلتها صـادقا ومجاملا, فضحك الاثنان بصخب وفجأة سـكتا!
- تريد العـودة الى الفندق؟
- ربما لم يعد شقيقنا بعـد.
لم تفتني رنة التحدي في السؤال وعبارة الآخر التهكمية:
- لا يهم.
- المفتاح معه.
التفت سريعا الى الثاني الذي أكمل:
- ومفتاحك – كما قلت – مفقود.
- المفتاح الاحتياطي للغرف .. حدثت معي مرة في الغرب, وحُلت ولله الحمد.
- كيف؟
- أحك لنا.
وأمام الوجه المبتسم, عفواً .. الوجهان المبتسمان حكيت الحكاية القديمة بفتور:
- في إحدى سفرات العمل تركت حجرتي بالفندق لثوان فقط , أي وقت وضع بقايا عشائي خارجا على الأرض, وفجأة أغلق التيار البارد باب حجرتي .. كنت حافيا وبملابس النوم, والجوّ صقيع, وبهو الفندق في صخب كما تعرفان الى ساعة متأخرة من الليل, وربما صباح اليوم التالي مما منعني -إحراجا- من النزول .. جلست القرفصاء مستندا بظهري على باب حجرتي, ومسلما أمري لصاحب الأمر, وبعد ربع ساعة فقط يسّر الله لي مسؤول الفندق الذي كان من أصل عربي, كان بالصدفة البحتة يحمل مفتاح الغرف, ففتحه لي.
وصفق أحد السياميين:
- قصة رائعة.
وزاد الآخر عليه:
- بل شيّـقة, مليئة بالعبر!
- لماذا كنت وحدك؟
- أين كانت المدام؟
حدجتهما بنظرة حارّة أخرست فضولهما, ثم نهضت طالبا سيارة أجرة.
- نحن نوصلك.
- شكرا.
- أرجوك.
- صدقنا, نحن في طريقنا الى هناك.
لماذا كل هذا الكرم معي .. النزهة, الأكل, التوصيلة, وهذان بالذات هما من ترفعا عن مصافحتي يوم زيارتهم التاريخية لشـقيقهم, وبالكاد مدّا لي يدين ناعمتين .. لماذا؟!
قاربت الساعة على الثانية عشرة والنصف وليس هذا طريق الفندق .. أعدت لثامي الى وجهي, ليس خجلا من طفلة أخرى, فلا أطفال في هذا الوقت, الذي دفعني إليه هو كثرة تثاؤبي وأنا معهم.
الملل, ونسيم "جدة" العليل, والهواء المتسرّب من خلال النافذة العلوية المفتوحة, جعلوني أمد قدمَيَّ على آخرهما, وأريح جـسدي في وضع أكثر استرخاء و و و وأنام.
أفقت على الثالثة والنصف صباحا .. لازلت في السيارة, والتوأم في حالة همس .. نظرت الى الساعة :
- الله أكبر - صرخت بها - كل هذا الوقت ولازلنا في السيارة!
- الحقيقة كنت نائماً فقلنا…
- قِفْ!
توقفت السيارة بعنف, واحتكت العجلات بالإسفلت, وتعالى في الليل صرير رهيب .. قفزت منها الى سيارة أجرة كانت بجانبنا.
- بسرعة, فندق …
- عشرون ريالا.
- خمسون. فقط أسرع.
انطلقت السيارة كالصاروخ الى هناك ..
في الطابق الثاني أمام حجرتنا وجدت حقيبتي, ومعطفي الطويل, وباقة من الورد الأبيض… وبالطبع لم أفهم .. النوم فالنوم ثم الأسئلة.
طرقت باب حجرتي بهدوء, ثم بعنف, وقبل أن أستعين بإدارة الفندق فُتح الباب عن هيكل العجوز في البيجاما ( الأخضر الزرعي الذي ستراه من فرط سطوعه أصفر أو أحمر أو برتقالي أو أي لون ناري ).
- خير؟!
قـالها بغضب ودهشـة كأنني دخيل لا صاحب حق.
لم أرد ترفعاً .. أبعدته فقط بحركة حازمة من راحـة يدي إلا أنه – لدهشتي- عـاد الى الالتصاق بمكانه , كأنه فتى الملاكمة البلاسـتيك ذى القاعدة الثابتة والمُصنّع خصيصا للهو الأطفال, ذاك الذي كلما لكمته عـاد بتحدّ الى مكانه .. هكـذا كان العجوز في تلك اللحظة..
- اِ ب ت ع د.
كانت عيناي في لون الدم من جرّاء السهر, ومن الغضب .. وكان هو في أبهى زينة ونعومة وإشراق..
أوقف تقدمي بحركة يد حاسمة في صدري:
- يا رجل عيب, المدام هنا.
وقفت في سكون .. يداي تدلتا بفتور الى جانبي, وبصري انساب بزهق الى الأمتعة وباقة الورد الأبيض .. ماذا أفعل بهما تلك اللحظة, هل ستكون لي فراشا وغطاءا؟ .. تتبّع عقلي في خمول أحـداث يوم كامل منذ الاستيقاظ وحتى الآن .. ابتساماته, غمزاته, استيلائه على مفتاحي الخاص, ثم (هجولتي) كل ذاك الوقت مع توأم سمج .. كل هذا كان مؤامرة مدبّرة من قبل الأسرة الفتيّـة..
رفعت بصري إليه في بلادة وقهر:
- لماذا, لقد بدأت أرتاح إليك؟
- …
- لو صارحتني, تركت لك الحجرة برضا.
- لا يا شيخ. - قالها بعناد- لو تذكر .. لمّحت لك أكثر من مرة أن تسهر مع الرفاق, تتعشى في الخارج … لكنك كنت كالمصيبة, كالطفل السخيف الذي يجري خلف ذيل ثوب أمه كل ساعات اليوم..
عموما – وهنا ربّت على كتفي بمودة – تركت لك ما يرضيك, وأيضا يذكرك بي, رغم أني لم أجد في أمتعتك الباهتة ما يغري عاطفي مثلي بالاحتفاظ به كذكرى .. تصبح على خير .. ومدّ لي يدا في طراوة العجين..
وعند الاستقبال أردت إكمال النصف المتبقي من الحساب, لكن الموظف الأنيق أخبرني أن الأستاذ قد دفع .. وكدت أن أسأله حجرة أخرى قبل أن أسقط من التعب, فقط الى أن يأتي الصباح, غير أن المكان بدا لي كريه جداً.
جـرجـرت خطاي الثقيلة الى أول سيارة أجرة .. أعطيته عنوان البيت رافضا محاولاته في وضع متاعي في الحقيبة الخلفية.
- دعها هنا بجانبي.
زأرتُ بها كليثٍ غاضب .. فوضع الحقيبة بجانبي, وعند الإشارة الحمراء الخالية من الناس والسيارات, فتحتها لأحصي للرجل أجرته..
في الضوء الخافت شاهدت شيئا ما في لون الدم تصدّر ملابسي المطوية بعناية مبالغ فيها .. شهقت .. أعرف هذا الشيء .. البيجامـا الفوشـيا, ما الذي أتى بها الى هنا؟!
أشـعل السائق اثر شهقتي مصباح السيارة .. تبينت اللون الساطع في الضوء .. نعم, هي الفوشيا..
فتحت الباب مستغلا الإشارة الحمراء وخلو المكان من الناس, الى أقرب صندوق قمامة أسـرعت – بحنق وغضب – ألقيتـها فيه .. ولما عدت كانت نظرة السائق لي في المرآة غير مريحة, نظرة كلها شك وتذاكي وفِهمْ .. .. مؤكد رأى اللون الفوشـيا الساطع, وبالطبع لن ينسبه الى رجل, مهما بلغ من ذكاء فلن يفكر, ومهما أقسمت له أنها كذلك فلن يصدق .. لابد وأن يحشر أنثى بريئة في الموضوع, ويشـطح به الخيال لمسميات كثيرة .. لهو محرّم, زوجة ثانية, أو ربما جريمة قتل حدثت في ليلتي تلك, وبالطبع صاحب (الشهقة) هو الجاني, فيشـهر للشـرطة البيجاما كدليل, ويحضر هـو كشاهد … عموما أكره هذا النوع المتذاكي العاقد حاجبيه في جمود..
- قِفْ.
عدوت مترين الى الخلف حيث صندوق القمامة الذي خلفناه وراءنا, تناولت اللون المرعب وأعدته بغيظ الى الحقيبة..
كان جسدي كله يرتجف من عدم النوم, وعيناي في لون الدم, وسأم في نفسي كبير, ورغبة في البكاء أكبر … ونظرات السائق الوطني لازالت بسخافاتها الثلاث مغروزة في المرآة.
(تركت لك ما يُذكرك بي) .. ونِعْم الذكرى يا شاطر حسن, ونِعْم الذكرى..
أخيـراً وصلت الى البيت, داري الحبيبة .. وخفّ البـواب الطيّب لملاقاتي فاركـا عينيه ليطير منها النوم .. تعانقنا في حب .. عشرة عمر حقيقية مع هذا الرجل .. أبنـائي وأبنـاؤه تربّوا هنا, ولعِبُـوا أيضا هنا, ثم تفرقت الفروع, وبقي الأصل الذي كان .. أنا وزوجتي, وهو وزوجته. لم أعامله يوماً كمالك بناية, وبوّاب.
حـاول أن يحمل الحقيبة عني, لكني رفضت، للسن حكمه .. فتحتها وألقيت للسائق بأجرته, ثم تناولت البيجاما وألقيتها بقرف في صندوق القمامـة المجاور لعمارتي, وصعدت الأدوار الثلاث..
- آخ. المفتاح في المعطف, والمعطف أهديته بمناسبة – فرحة الوصول – لصديق العُمر الطيّب.
عدت أدراجي نازلا طوابقي الثلاث التي اجتزتها بمعجزة إلـى أن وصلـت حجرتـه, وفي الصـمت قبل أن أطرق الباب, أتاني صوت زوجته واضحا:
- لاحول ولا قوة إلا بالله .. ماذا تقول .. بيجاما حمراء؟
- بيجاما حمراء!
- نسائية؟!
- ولامعة, ومُتضمخة بالعطور.
- ماذا جرى لعقله؟
- ربما تزوّج.
- لو فعلها, لكانت هنا, فلا زوجة تغار ولا أبناء يغضبون .. ثم لو حدث هذا فعلا لما أضطر الى إلقاء – هذا الشيء – في صندوق القمامة!
- أعوذ بالله, أعوذ باللّه.
ابتعدت عن حجرة البواب قاصدا في الخارج هواء نظيفا أملأ به صدري ورئتاي, وصوت البواب يأتيني مُتحسّراً كأنها سياط في الظهر, حسراته تلك:
- خسارة .. كان رجلا .. وكان على خُلق .. خسارة . خسارة.
( تمت )