أيقظني في الليل .. أعتقد في الحادية عشرة – لم تكن المرة الأولى التي يوقظني فيها, وأيضا لم تكن الأخيرة – وإحقاقا للحق, هو لم يوقظني بالمعنى الحرفي المتعارف عليه (هيه, أنت, قم, هزه, رشة ماء على الوجه في حالة المزاح الثقيل) .. لم يكن شيء من هذا, لكنه وقف أمامي زهاء الساعة, وأعتقد أنني – وطبيعي هذا الأمر – قد قضيت أغلب ذلك الوقت في التململ والقلق وهـزّ القدمين بدون وعي, بل وربما أحلام مفزعة الى أن فتحت عيناي.
رأيته أمامي كشبح, مدققا بصره في شخصي الضعيف المسالم, بشاربه العجيب ذاك, ووجهه اللامع من أثر الكريمات, وبيجاما جميلة بلون السماء الصافية المائلة الى البياض - أو هكذا خيّل إليّ - .. أخيرا هاهو لون معقول.
- الحمد لله انك صحوت.
- اووووووووف.
- أعـوذ بالله منك ومن أمثالك .. ديننا يوصينا حالما نفتح أعيننا من النوم بالحمد, والذكر, والدعاء بالمغفرة, وأنت تتأفف! من أي مِلّة أنت؟
- ! ! !.
لم أُعلّق, ولم أجب بشيء .. .. أعرف تماما ما أوصانا به الدين عندما نستيقظ من النوم, أو نفتح أعيننا .. لا عندما نُجبر من جرّاء تركيز النظرات القاتل على الغافلين, على فتح أعيننا, أعرف, أعرف …
أغمضت عيني, لا حابسـاً دمعة, فمثلي لا يبـكي حتى وان كان على الجروح جروح, لكنني تذكرت استعاذة شجيّـة كان يُرددها عليه أفضل الصلاة والسلام ضمن دعائه الثري ( وأعوذ بك من قهر الرجال ) .. هـذا هو يا سـادة قهر الرجال .. صدقوني, أعرف المعنى الصحيح, لكنه في حالتي تلك, هو بعينه قهر الرجال.
- تعرف.
- لا. لا أعرف.
- ولد. لا تسرع هكذا في الرد, عيب.
- أعوذ بالله من جميع الشياطين.
- زأرتُ بها في قوة, فانتفض بعصبية:
- تثيرني وتقززني بردودك غير المحترمة معي, ومع ذلك تجدني متباسطاً معك .. تواضع؟ نعم, تربية حسنة؟ أكيد, رحمة بأرمل بائس وحيد رغبة في الأجر والثواب من الله؟ مائة في المائة صحيح, ومع ذلك يا سيّد ماذا يكون الجزاء؟ تعنّت, صدّ وهجران, الأول منك والثاني من المدام ..
لم أجبه بشيء غير التثاؤب والاستغفار وإدامة النظر الى الشارع خافت الإضاءة من نافذة بعرض الجدار .. أما هو فقد تأمل بيجامته ( اللبني ) بكثير من رضا, والتي صحح لي لونها في مناسبة أخرى ( أيها القروي السماوي لون, واللبني لون .. أحمد ربك أن لا ثالث معنا في الحجرة, وإلاّ لكانت الفضيحة ):
تعرف. لا أنام في الليل إلا وقد استرجعت شريط حياتي كله أمامي, أحلامـ …
قاطعته بحزم وعيني على الوسادة الباردة:
- أمر طبيعي. والعاقل فقط من يفعل ذلك .. شريط حياتنا كله نسترجعه أمامنا في هدأة الليل .. ماذا قدمنا لآخرتنا .. ماذا ارتكبنا في دنيانا من معاص وذنوب , منتهزين صفاء الليل وساعة حساب الضمير في ركعتي توبة لله واستغفار وإنابة و...
- لاااااااإله إلا الله .. يا أخي عيب عليك مقاطعتي هذا أولا, ثانيا أنا لم أقصد هذا المعنى .. هذا الأمر بينك وبين ربك, ورياء منّي حين أخبرك به ..
لم أرد على أسلوبه المُستفز كاتماً همّي وغيظي ورغبة شديدة للنوم ..
الذي قصدت من استرجاع شريط حياتي أمامي كل ليل .. هي بقيّة أحلامي التي لم أحققها بعد .. قالها بحسرة ..
" وهل بعد هذا العمر .. حلم!؟ يا إلهنا الرحيم " بالطبع لم أصرّح بها , وإلا لكانت نهايتي على يديه بمعاونة أشقائه الخمسة .. فقط تثاءبت بقوة كليث قرّروا حبْسه في حديقة الحيوان للفرجة.
- لا تزأر هكذا عيب, ثم نحن في هدأة الليل…
- استغفر الله.
في الاستغفار يا سادة منافع جمّة, أولها ..
- تصدق - قالها لنفسه بحنان أو هكذا أحسست – خمسون في المائة فقط من أحلامي تحقق …
فركت عيني بشدة طارداً نوماً كان, عموما فرك العينين بشدة, والصحو المتقطع أغلب الليالي أصبحا عملي الوحيد هنا ..
والخمسون الأخرى للأسف لم تتحقق بعد, أملي في الله كبير بتحقيقها ولو بعد سنين..
- تفاؤل تحسد عليه!
نفض قميص بيجامته كمن يطرد عنه شرّا:
- " حتى على الموت لا أخلو من الحَسَدِ ", أعوذ بالله منك.
ثم أمال برأسه جهة المرآة, ناظراً الى وجهه بحسره:
بالطبع هناك أحلام لن تتحقق .. يا لأقدار الله.
في صغري كنت أفنّد أحلامي في وريقات صغيرة ملونة .. كل حلم أو أمنية أضعها في لونها الملائم..
• حلم جوّي في ورقة بلون السماء.
حك رأسه بغيظ:
كان حلمي وأنا في العشرين أن أصبح مضيف طيران, لكن…
آه من لكن,
الأهل, والعائلة المحافظة و… وكأنني … ما علينا..
• أحلام عِلمية, وقد كانت كثيرة .. دكتور في الذرّة, طبيب أعشاب, جرّاح في أمراض القلب … هذه أضعها في ورق أزرق داكن دليل الجديّة.
• أحلام أدبية .. وأولها أن أصبح أديبا شهيرا مثل " دستوفسكي, جوركي, بلزاك, شكسبير, نجيب محفوظ " لا تلهث هكذا لن تحزر بثقافتك الضحلة أياً منهم.
نظرت إليه بتؤدة:
- غريبة ظننتك ستذكر " إحسان عبدالقدوس!
ضحك بصخب:
- خبيث. فهمت قصدك. لا, أبداً, على العكس تماماً, أنا ضد الزميل إحسان في هذا الأمر .. أنا جداً أحترم المرأة وما كنت سأصورها كما فعل هو .. لقد صوّرها في أغلب أعماله كرغبة, دُمية, كيان مثير لكن بلا عقل .. يا سيّد, المرأة عندي هي أمي وأختي, جدتي وابنتي, مستحيل أن أفعل هذا بها .. يكفي أنّ الله قال عنها وفي مساواتها بنا ( ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف, وللرجال عليهن درجة ) مسألة القِوامَة والنفقة تعرف الآية بالطبع..
نفض رأسه طارداً الفكرة:
مستحيل بالطبع .. ماذا كنّا نقول؟ ها.
أو شاعرا رقيقا مثل "عمر أبو ريشة " لا تقل لم أسمع به .. شاعر عربي سوري شهير..
تعرف قصيدته الشهيرة، وبالطبع لم ينتظر الإجابة مني،
رفع رأسه قليلا الى الوراء متقمصاً أداء الشاعر الرقيق, ناطقاً بعدة أبيات:
( تتساءلين … على مَ يحيا
هؤلاء الأشقياء ..!
المُتعَبون ودربهمْ
قفر, ومرماهم هباءْ
الذاهلون الواجمون
أمام نعش الكبرياء!
الصابرون على الجراح
المُطرقونَ على الحياءْ
أنسـتهم الأيـام, مـا
ضحك الحياةِ وما البكاءْ
أزرتْ بدنياهمْ , ولم
تترك لهم فيها رجاءْ
تتساءلين .. وكيف أعلمُ
ما يَروْن على البقاء؟!
إمضي لشأنك ..
أسكتي ..
أنا واحد من هؤلاء! )
كان الإلقاء بديعاً, ولو لم أكن غاضبا منه ومن الوقت الذي أهدره منّي لهنأته على ذاكرته المدهشة وإلقائه الجيد.
تنهد هو:
- كلمات جميلة كما سمعت, وأداء دائماً أحسد عليه .. اييييه, هذه الأحلام الأدبية أضعها في ورق أخضر هادئ.
• أحلام فنيّة .. وهذه أصوغها في ورق بلون الزهر..
تنهد بحسرة حقيقية:
كنت أتمنى أن أكون " عبدالحليم حافظ " آخر .. صوتي لا باس به في الغناء, لكن …
صحيح باغتتني هذه الأمنية على كِبَرْ, تقريبا بعد وفاته عليه رحمة الله, وكادت أن تفتك بي بعد أن تملكتني كليّاً, لكني لم أجد التشجيع الكافي من الأهل, ولا من الزوجة, ولا من الأصدقاء .. ..
تنحنح وكاد أن يتحفني بمقطع من أغنية له, لولا رحمة الله التي أذِنت بالآذان الأول .. طقطق شفتيه حسرة وردد قليلا وراء المؤذن ثم أكمل:
أما في مجال التمثيل فقد تمنيت أن أكون " أنور وجدي " في رشاقة حركاته, وهيام البطلات به, بشعره اللامع الغزير المهتزّ يمنى ويسرى لأقل حركة .. رأيته بالطبع, كان شعره ذاك عقدتي في الصغر .. و"فريد شوقي" في قوته, شجاعته, وفتكه بالأشرار, و"رشدي أباظة" في عنفوانه ووسـامته, و"حسين رياض" في طِيبَته, و"أمينة رزق" في حرارة تمثيلها …
لكن كما أسلفت .. العائلة المحافظة, الدين, التقاليد…
تأملت الرجل .. هذه الحياة كلها التي عاشها وما زال يعيشها هذا الصاخب .. مؤكد أشعرته بلذتها بقيمتها, بأنها عزيزة وإلاّ لما تمسّك بها كل هذا التمسك .. عِشق وشعلقة غريبان بالدنيا, يُشعرك أنه شربها حتى العظم!
وأحلام يُقسم بأنها لم تتحقق بعد!!
ماذا أعطته حتى يُحبها كل هذا الحب؟
وماذا يريد أكثر مما أعطته؟
أيُعقل أنها جرّعته هذه الفانية كأس صفائها رشفة رشفة, دون فقد عزيز, أو خذلان رفيق, خيانة صاحب, مرض طويل, أو حتى صفقة خاسرة؟!
تثاءبت للمرة التاسعة عالماً أن النوم صيّاد لشخص مثلي, لكنه لم يبال, قال بتفكير:
- تصدق؟. لم أوقظك لهذا.
غرق في هنيهة صمت ثم اكتسح وجهه حنان عميق:
- تعرف.
بدأ بها بعد تلك الهُنيهة مُفسحاً لنفسه مكاناً عند وجهي, واضعا قدما زرقاء – عفواً لبنيّة - فوق قدم .. أكمل:
منذ أن قـدمت الى هـنا وأنت تُـذكرني بـ شكّوري.
لم أسأل من " شكّوري " .. كنت أتلو دعاء الكرب في صدري بعد كل ذلك الهذر عن الأحلام والأماني والأوراق الصغيرة الملونة : " لا اله إلا الله العظيم الحليم, لا اله إلا الله رب العرش العظيم, لا اله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم"
اختنق به الصدر مراراً وتكراراً .. يُريح الدعـاء صاحبه عندما يخرج بصوت عال .. جداً يـُريح.
- حتى في لا مبالاتك بالأمور العاطفية تشبهه, كلنا عاطفيون, أنا ومحمد حسين, ومحمد علي, ومحمد إسحاق, محمد نور ومحمد نوح, بينما شكّوري عالم آخر غيرنا .. كأنه قدّ من صخر ذلك القاسي, أحيانا أقول إن نشأته العسكرية في بيت جدي ثم التحاقه بنفس العمل هي السبب في هذا ..
تنحنح بشده جاليا صوته من أثر السعال والتدخين:
جدي كـان عقيدًا عتيدًا, رحمه الله .. كان رجلا صارما, شجاعا, لابد أن أحد أفراد العائلة الكريمة سمع عنه, رجل مشهور .. العقيد/ محمد عمر محمد إدريس .. لا تقل لم تسمع عنه ..
حتى أننا – اخوتي وأنا – كثيرا ما أشفقنا على ابنة الحلال التي سترضى به وبجموده ذاك..
لا اله إلا الله العظيم الحليم…
أوجعني الصدر من كبتها في الداخل, بودي لو جأرت بها ثم رفعت جهاز الهاتف القريب من يدي وهويـت به على رأسـه الفـارغ مـن العقل, يقلق منامي مُنتحلا تلك الطريقة الاستفزازية في الإيقاظ, ثم يفرط السـبحة في حديث مُطول عنه, ثم عن اخوته السـتة, وعن شكّوري .. ثم من شكوري هذا, لابد وأن يكون ببغاء, أو قط, أو أي شيء آخر سـخيف.
للأسف أكمل ما بدأه وابتسامة الذكريات الحانية على شفتيه:
كنا نسمع لدرويش والحامولـي وبـديعة, ثم لعبد الوهاب, وابتسام لطفي, وأم كلثوم, وفريد, ثم أصبحنا نسـمع لعبدالحليم .. آه من عبدالحليم ومن أغانيه الشجية .. .. هل ذكرت أنّ من أحلامي الوردية أن أصبح عبدالحليم حافظ آخر؟
طقطق بلسانه مُتلذذاً, لافاً في نفس الوقت سيجارة من سجائره العجيبة:
آه من عبدالحليم آه .. كنا نتأثر ونسح الدمع من كلمات أغانيه وطـريقة أدائـه لتلك الألحان الصعبة, حتى طريقة لِبسـه لم يسـلم العندليب الحزين من تقليدنا له, البنطلون الضيق والقميص الأبيض والصديري الأنيق بنفـس لون البنطلون, ثم المنديل المُحكم حول الرقبة في ربطة جانبية, والشـعر المُلمّع بالفـازلين في فرقة جانبية أنيقة .. بالفعل كانت أيام جميلة .. كنا نرتدي مثله في أسفارنا الكثيرة مع الوالد والوالدة رحمهما الله, وبالطبع لا نخـرج الى الشارع في ملابسـنا تلك إلا وقد فعلت أمي الأفاعيل بنا, تحصين وأدعية وبخور .. العين حق كما تعرف..
ايييـه أيام لا تنسى تلك أيام العندليب الأسـمر, لا كـأيام الآن .. الحزن المفتعل, والبكـاء المفتعل, وكل شيء مفتعل في الأغاني ..
أذكر أن أكبر أبنائي وقتها كان قد ألتحق بالجامعة حينما عرض له أول أفلامه.
- أظنه محمد توفيق.
الاسم الوحيد الذي نطقته بصوتي مصادفة أمام شلال الذكريات الهادر, وبسخرية واضحة أراحتني جدا, لكنها لدهشتي صدفت معه حينما نفى ما قلت:
- لا. هـذا ابني الأصغر, هـو الآن مدير في (…), الذي قصدته هو محمد سِرَاج, بِكْري وفلّة قلبي.
- لا اله إلا الله العظيم الحليم …
الحمد لله, أخيرا خرجت من الصدر.
- كلنا كنا نسمع تلك الأغاني الحسّاسة إلا "شكّوري" لم يكن يسمع, وإن سمع لا يحسّ مثلنا..
تذكر طبعا ( صافيني مره, خسـارة, بأمر الحب, أنا لك على طول, بتلوموني ليه), كان الحزن يعتصرنا لما يسلطن بها العندليب, لكن هو…
- لحظه .. لحظه – قلتها هائجاً وأنا أخبط الجدار براحة يدي - من هذا الشكوري الشديد الجاف الذي لا يتأثر مثلكم بالأغاني العاطفية؟ أعتقد من حقي أن أعرف.
كان السؤال الأخير الذي نطقته بغلّ قبل أن ألتزم الصمت التام, فقال وهو ينظر إلي بحنان بالغ وعينين ترقرقت بالدمع:
- محمد عبد الشكور .. أصغر أشقائي وأقربهم الى قلبي.
***
( يتبع )