المنتدى :
الارشيف
رحلة على جناح الأمواج
الفصل الأول : غرباء في قطار
رفع آرثر ياقة معطفه الثقيل و هو يسير بخفة على الرصيف. كان الضباب المعتم فوقه يغطي محطة القطارات، فيما تهدر أصوات المحركات الضخمة نافثة سُحُباً من الدخان الخانق.
نظر آرثر من حوله ببطء، كل شيء يبدوا قذراً ملوثاً بالسخام. مطّ شفتيه و ضاقت عينيه في اشمئزاز : "لندن، يالها من مدينة قذرة .. قذرة! "
لقد تلاشى الآن افتتانه الذي أثارته مدينة لندن في نفسه، ببيوتها الفخمة و محلاتها الراقية و أناقة ساكنيها و روعة جوّها البارد المنعش، و نظر إلى ذلك كله في هذه اللّحظة مثلما ينظر المرء إلى حجرٍ لامع من ألماس زائف رُكّب على خاتمٍ صدىء قذر.
ماذا لو ترك كل شيء وراءه و عاد الآن إلى سوريا؟
أحس بوخزة سريعة من الحنين إلى الوطن. رغم أنه لم يولد على أرضها و لم تكن تجري في عروقه دماء عربية .. إلا أنه قضى أكثر من نصف سنوات عمره الأربعون فيها. هناك حيث دفء نور الشمس و زرقة السماء الصافية و حقول الورد و حدائق الزهر و البيوت الحجرية المتواضعة و الناس البسطاء ذوي اللهجة السلسلة المحببة.
أما هنا- في مسقط رأسه- فلا شيء سوى الجو الملوث و القذارة و الأكوام البشرية التي لا تنتهي، تتحرك و تجري و تتدافع. مملكة نمل مشغولة تكدح و تتزاحم هنا و هناك .. بل في كل مكان!
نظر آرثر إلى المقصورات المزدحمة باستياء: أناس! أناس لا يُعدّون و لا يُحْصَوْن! و كلهم ذو وجوه ... كيف يصفها؟ مملة! وجوه متشابهة بشكل فظيع!
رأى أن وجوه أولئك الناس و هو يثرثرون و يتجادلون تشبه وجوه الأرانب الجائعة، و حتى الفتيات لندن الجميلات بَدَيْنَ متماثلات إلى حدٍ يقبض الصدر.
فكر لحظة مع نفسه قائلاً : "ليتني لم آتِ إلى هنا أبداً"، هزّ رأسه فجأة مُردّداً بصوتٍ مسموع : "كلا! كلا!" ثم أخفض صوته متمتماً بتجهّم : " كلا .. ليس هذا وقت التردّد. لقد عقدت العزم على تنفيذ ما أريده و سأمضي فيه. نعم، لابد أن أمضي فيه حتى النهاية".
أطلق زفرة حارة و فرك يديه بقوة حتى يمدّهما بالدفء ثم حمل أمتعته و ركب القطار.
*********
عثر بعد عناء طويل على مقصورة بها مقاعد شاغرة، فتنهد الصعداء و سار في الممر بحذر حتى دخل حاملاً حقيبته الجلدية بيد واحدة و اتخذ له مقعداً.
كانت تفوح رائحة جو بار فاسد من المقطورات الأخرى، بينما هنا استنشقت رئتيه رائحة عطر باهتة ممزوجة برائحة الكبريت المنبعث من محركات القطار (حيث كانت النافذة مفتوحة).
على المقعد المقابل له حدّقت به عينان كبيرتان فضوليتان.
عينان في لون النحاس الأخضر لصبية في عمر الورود، لا تتجاوز الخامسة أو السادسة عشر.
كانت ترتدي تحت معطفها زياً خفيفاً بالكاد يتجاوز ركبتيها، بسيط جداً في تفصيله و خالٍ من البهرجة.. و في لونه الأصفر الفاتح بهجةُ الصيف.
شعرها ناعم كالمخمل ذا لونٍ أحمر قاني، ترفع مؤخرته و تربطه في شريط أسود خلف رأسها ليبرز كشعلة من نار! بينما تتناثر الخصلات الكثيفة الطليقة منه على جانبيّ وجهها البيضاوي المتورد الوجنتين.
كان آثر رجلاً ثاقب النظر قوي الملاحظة. لم تفته ملاحظة النوعية الفاخرة لقماش معطفها و فخامة قبعتها الصغيرة المزركشة بالورود و لمعان حذائها الأبيض. فتاة ثرية دون أدنى شك!
تأملها للحظات في هدوء دون اهتمام خاص. تبدوا كدمية صغيرة أنيقة الملبس بوجهها الطفولي البريء هذا، و لكنه-على عكس وجوه الدمى الجامدة التي لا تتغير تعابيرها أبداً- كان وجهاً بشوشاً ممتلئ بالحيوية و النشاط، يزينه نمشٌ خفيف و ثغر جميل باسِمْ.
فتاة ظريفة بلا شك، و إن كانت تفتقر تماماً لهالة السحر الأنثوي التي أحاطت بالمرأة التي تجلس بجوارها.
كانت رفيقتها في الجلوس امرأة حسناء ناضجة مكتملة الأنوثة، ترتدي زياً رمادياً أنيقاً يغطيه معطف خفيف من الفرو، و يُكلّل رأسها شعرٌ أشقر ذو خصلات متموجة لها لونُ حبات الذرة الذهبية.
عيناها واسعتان كحبتيّ لَوْز تلمعان كماستين، ذات جفنين ناعسين وتظلّلها أهداب كثيفة حريرية مقوسة. يسبح بؤبؤيها في بحرٍ أزرق فاتح شاحب شديد البرودة. عينان لا يُسبر غَوْرهما، اعتادتا الصمت و أجادتا ببراعة إخفاء أفكارها و حبس أسرارها داخل محجريهما، دون أن يقرأها مخلوق.
وجهها باهر الحُسن، شاحب البياض كأنه مرشوش بالطحين، ناعم و دقيق التقاطيع و كأن ملامحه نُحِتَتْ نحتاً!
وجه بشري هو أقرب – في جموده و جماله البارد- إلى وجوه تماثيل الملائكة المنحوتة في كنيسة ما، كأنها خرجت من إحدى اللوحات الزيتية.
لدرجة خيّل إليه أنها لو رمشتْ بعينها أو حرّكت شفتيها الحمراوتين المكتنزتين لوجد نفسه يفتح فاهُ ذهولاً .. كرجلٍ يصعق عند رؤية تمثال فاتن من الفخار تدبّ فيه الحياة فجأة!
كانت هي وحدها من استحوذت على اهتمامه بين المرأتين، أو بالأحرى لم تكن تلك الصهباء الجالسة عن يسارها – بالنسبة إليه- سوى فتاة حلوة ذات جسد كالعود أقرب لجسد طفلة لم تصل لسن البلوغ!
ما زالت أمامها بضع سنوات لتصبح امرأة بمعنى الكلمة، عندها ربما تفلح في جذب بعض الشبان اللّطفاء.
ترى كيف ستبدو عندها؟
للحظات معدودة سلّى آرثر نفسه بتخيّل هذا المنظر ..
منظر هذه الدمية الحلوة البريئة و قد تفتحت براعمها لتصبح شابة جميلة وديعة لا يعلو صوتها على الهمس، و تُحمر وجنتيها خجلاً فور سماعها عبارات الغزل و الإعجاب.
و الشقراء؟ لا بد أنها تجتذب الرجال –بمختلف أعمارهم- كالمغناطيس!
و لكن ليس لوقت طويل طبعاً، فمجردُ نظرة باردة مهذبة أو إشارة سريعة من كفها الرقيق هي سبب كافٍ لتجعلهم يقفون عند حدهم!
بمقدوره تخيلها بوضوح و هي تصدّ من يدنو منها دون أن تحرك عضلة واحدة، ففي جمالها البارد شيء ملائكي غامض يبعث على الرهبة.
لو أنه يسمع صوتها فقط حتى تكتمل الصورة! فمنذ أن جلس الغرباء الثلاثة معاً في نفس المقصورة حتى عمّ هدوء غريب أرجاءها، و لم ينطق أحدهم بكلمة أو يجامل الآخر بعبارة تحية، كل منهم شارد الذهن سارح الخيال.
فكر آرثر بكل هذا بهدوء و اتزان و قد ارتسمت على شفتيه ظل ابتسامة شاحبة، فهو لم يعد غلاماً غرّاً يخفق قلبه بجنون لصوتِ أو منظرِ امرأة حسناء ذهبية الشعر، لكنه لم ينكر إعجابه الخفي بها.
و تلك الفتاة الصهباء لم تكن-على أية حال- لأن تزيد من دقات قلبه نبضة واحدة .. مهما بلغت حلاوتها و ظرافتها و خفة ظلها، فهي تظل مجرد طفلة.
_ أتمارس التمارين الرياضية؟
انقطع حبل أفكار آرثر فجأة و طرفت عيناه قبل أن يقول : عفواً؟
أعادت الفتاة حمراء الشعر سؤالها : أتمارس التمارين الرياضية؟
ثم أشارت إلى حقيبته المركونة في زاوية بجانبه: "رأيتك و أنت تحملها بيد واحدة! لابد أن لك ذراعاً قوية العضلات، رغم كونك ضعيف البُنية".
انبعث صدى صوتها عبر الأثير منخفضاً حلواً تقطعه بحة مُحببة. فكر آثر في نفسه مبتسماً : "صوت حلو فيه نكهة الربيع، دافىء كليلة صيف".
هزّ كتفيه قائلاً : ليس تماماً. يمكنك القول أنني اعتدت السفر كثيراً لكنني لم أعتد على أن يساعدني أحد في حمل أمتعتي.
بدا الاهتمام يشعّ من عينيها و هي تميل برأسها تجاهه: حقاً؟ هذه المرة الأولى التي أسافر فيها! كنت أحلم بركوب قطار ما منذ أن كنت طفلة صغيرة. أتمانع إن سألتك ما هي أغرب الأماكن التي زرتها؟
لدقيقة أو دقيقتين أخذ يسرد عليها جزءاً من رحلته في جنوب أفريقيا العام الماضي و هي مبهورة تصغي إليه ملء أذنيها. ختم حديثه قائلاً : لم أعتد يوماً على التنقل براً. كان البحر دائماً و أبداً أنيس سفري المفضل.
صفقت بيديها باستماع طفل يستمع لحكاية خيالية شائقة : آه! أ تفضل السفر بحراً إذن؟ جدي كان جنرالاً حربياً في الأسطول الفرنسي. أتعرف؟ لقد اعتاد على أن يسرد لي قصصاً ممتعة عن كيفية أسر و تعذيب المجرمين الهاربين من العدالة عند تسللهم داخل السفن التجارية. يقول أن عصر حبيبات ليمون حامضة فوق جروحهم الناتئة هي أسهل طريقة لسحب اعتراف سريع منهم! رجل فظ صارم كان جدي، لكنني ما زلت أفتقده أحياناً.
لم يملك إلا أن يرفع حاجبيه مستغرباً حديثها عن التعذيب بهذا الشكل العادي اللا مبالي، لكنه سألها متداركاً الموقف : أقلتِ أن جدك فرنسي؟ أنت لست إنجليزية الأصل إذن؟
سيطرت على ضحكتها و قالت بصوت خفيض : "اسمي كلير جريس دوبوا! فرنسية أباً عن جد، هذا يفسر سبب لكنتي الإنجليزية الغريبة.. أليس كذلك؟. خالتي تتقن التحدث بها أفضل بكثير مني".
أشارت بإيماءة سريعة من رأسها للشقراء الجالسة إلى جوارها، فأومأت الأخيرة برأسها ببطء قائلة دون أن تنظر إليهما : "صحيح يا عزيزتي".
خرجت الكلمات الثلاث الوحيدة هذه بصوتٍ فاتر رتيب يوحي بالملل و رغبة بعدم المشاركة في الحديث، إلا أنه كان أكثر سحراً و عذوبة مما تخيله آرثر.
اتسعت ابتسامته و هو يضع يده على ذقنه قائلاً بصوت حالم و عيناه تختلسان النظر بين حينٍ و آخر إلى الحسناء الصامتة : "يُقال أن الفرنسيين شعب لا يعرف الرحمة في السلم أو الحرب. فهل تسامحين أعدائكِ بسهولة يا آنسة كلير؟"
_ ليس لديّ أعداء. ولكن لو كان لديّ...
_ نعم؟
كان يراقبها بهدوء مُمَتِعاً نظره بعينيها الكبيرتين اللتين تلمعان ببريق غريب، و فمها الصغير الوردي الذي تقوسّ طرفيه للأعلى في ابتسامة جميلة لا تخلو من القسوة .
_لو كان لديّ عدو .. أحدٌ يكرهني و أكرهه، لقطعتُ حنجرته .. هكذا!
و تلقائياً قرنت القول بالفعل .. فمرّرت سبابتها على رقبتها في إشارة معبرة توحي بالذبح .
جاءت حركتها الفظة تلك بسرعة خاطفة بحيث فاجأت آرثر و تركته يحدق بها مدهوشاً، ضحكتْ حتى تورّدت وجنتيها فابتسم لها بانشراح و قال: يا لكِ من فتاة عفوية متعطشة للدماء!
_ و ماذا ستفعل أنت بعدوك؟
_ أنا؟!
بهت للحظة ثم ضحك طويلاً و قال: لا أعرف .. لا أعرف!
هزّت إصبعها أمام وجهه و هي تردّد : آه! بل أنت تعرف .. بالطبع تعرف.
أشاح بنظره عنها و أطرق برأسه يفكر، ثم تسلل إلى شفتيه شبح ابتسامة صغيرة باهتة و هو يقول: بلى، أظن أنني أعرف.
كرّر العبارة مع نفسه مرة أخرى بهدوء تام و بوجه خالٍ من التعابير : " أعرف جيداً ".
انطلقت صافرة، و دوى صوت جهوري من مكان ما، فأغلقت المرأة الشقراء نافذة الشباك التي كانت تتأمل خارجها طوال الوقت، و بعد ثوانٍ تحرك القطار مبتعداً عن المحطة و عاد الصمت ليعمّ أرجاء المقطورة من جديد.
نهاية الفصل الأول
*********
|