كاتب الموضوع :
..مــايــا..
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
- نحن لا نعرف احد في سنغافورة ونبحث عن فتاة جميلة مثلك. دعيني اشرح لك.....
وهنا وصل بيرت فقاطعه بحده:
- لماذا لا توجه شرحك لي؟
دفع بيرت الرجل عن لين ثم امسكه من قبة قميصه فتدخلت لين مهدئة:
- دعه يابيرت. لم يحصل شيء يستحث القتال.
لم يكد الرجل يصدق عندما حرره بيرت فلا احد يرغب بمنازلة شاب مثله ذي عضلات مفتولة بارزة، وعلى الفور جمع الرجال بعضهم واختفوا من المكان بلحظة.
علمت لين، وهما في طريق العودة الى الفندق، ان الوقت حل لتمثيل دور حاسم على بيرت. وهكذا لما طلب المصعد قالت له:
- لنخرج قليلا الى الحديقه.
وهناك مشت الى جانبه وعيناها سارحتان في البعيد وفج؟أة توقفت وضربت ضربتها قائلة:
- بيرت، انا .... ضمني اليك!
عانقها بحنان مذهولا لا يفهم مرادها والتحول غير التوقع في موقفها. ولتزيد من حيرته قالت لين هامسة:
- آه لو نبقى هكذا الى الابد!
- للمرة الاولى اخذت المبادرة فكاد عقله يطير.
حاولت لين التراجع لكن بيرت لم يدعها تفلت الى ان همست في اذنه:
- الا تريد سماع ما سأقول؟
- قولي.
- احبك واريدك شريكا لحياتي.
كان لكلامها وقع الصاعقة عليه فهو لم يكن يتوقع كل هذا الدفق من السعادة مرة واحدة. فاخذ يحدق فيها تبذل جهدا جبارا لتبدو صادقه وجادة في ماتقول:
- آه يا حبيبتي كم هي سعادتي كبيرة في هذه اللحظات وكأن الكون صار ملك يدي. ولكن لماذا عذبتني كل هذا العذاب؟
- كنت خائفة
- مني؟
- خشيت ان يكون عرض الزواج ستارا حتى تحصل علي؟
- كيف تراودك هذه الافكار وقد صرحت لك بحبي يا نيتا؟
- ظننت الامر مجرد وهم او نزوة.
- يالغباء حبيبتي الصغيرة!
- اوافق على ذلك فقد اظهرت حماقة كبيرة في تعاملي معك يا بيرت.
- ومالذي جعلك تغيرين رأيك؟
- اكتشقت حقيقتك الليلة في فندق الهيلتون عندما ظهر الفارق ساطعا بينك وبين هؤلاء الرجال الذين لا يرون في المرأة اكثر من ساقين و...
ضحك بيرت عاليا وهو يسجنها بين ذراعيه فاضافت سائلة:
- اتسخر مني؟
- وكيف لا اسخر منك بعد كل ما اظهرته من غباء! المهم الان ان العاصفة مرت بسلام ودرب السعادة مفتوح امامنا لنسلكه سويا....
-العروس الخفية
توج بيرت فرحته بعقد قرانه على لين بعد شهرين في بلدته في انكلترا. وحضر الزفاف اقرباؤه واصدقاؤه وافراد طاقم طائرته بالطبع، والكل لا يصدق ان بيرت طلق العزوبيه من اجل امرأة عارضت لين بادئ الامر ان يكون العرس كبيرا ومشهودا، غير ان بيرت اصر على ان يأتي زواجه حدثا طنانا رنانا لانه امر غير اعتيادي لايحصل كل يوم ويقتضي ان تبقى ذكراه ماثلة في الاذهان. ومما قاله مبررا:
كيف لي ان اتزوج من حبيبتي الغالية النادرة بدون ان اشرك جميع معارفي بهذه الفرحة؟
وافقت لين بالنتيجة على الزفاف الكبير كما تخلت عن وظيفتها
وعادت من سنغافورة الى وطنها حيث مكثت في شقه في العاصمة لندن لتحضر حاجياتها قبل الزواج،رافضة اصرار بيرت على سكنها مع اهله. وهي ارادت من بقائها في لندن بعض الوقت وضع خطة انتقامية جديدة بعد ان تخلت عن الفكرة السابقه. فطلبت منه بدلال يحرك الجبال ان يمضيا شهر العسل في شمال افريقيا، فلبى رغبتها على الفور وحجز جناحا في احد فناق سوسة في تونس. وفي لندن ذهبت لين لزيارة ناديا كليرمونت. واختلقت لين لبيرت عذرا لتغيب بعض الوقت فادعت انها سمنت قليلا وانها ستدخل مصحا خاصا لاتباع حمة لمدة اسبوع حتى تنقص وزنها بضعة كيلوغرامات. اقتنع بيرت بالفكرة، وهو لا يرفض لها طلبا، وطار الى سنغافورة في رحلة عادية لن يعود منها الا قبل الزفاف بيومين. وفي اثناء غيابه كان من المفروض ان تكون لين في المصح، لكنها طارت الى تونس بجوازها القديم واضعه شعرا مستعارا كشعرها السابق ونزعت عن عينيها العدستين اللاصقتين ليعود لون عينيها الحقيقي. وهناك نزلت في الفندق الذي حجز فيه بيرت ومكثت خمسة ايام خالطت اثناءها بعض الناس قبل ان تعود الى لندن بعدما ابقت غرفة في الفندق محجوزة باسم الين ماكسويل.
لم تحتج لين الى ادعاء التوتر في اليومين السابقين لحفل الزواج،فهي بدت عصبية المزاج وعلى عتبة مرحلة خطيرة وجديدة في حياتها وتفهم بيرت ذلك لان كل عروس تشعر بالشيء نفسه مع اقتراب ساعه الصفر.
كان يوم الزفاف رائعا، فالشمس اشرقت كما لم تشرق في انكلترا من قبل مضيفة على الريف، حيث بلدة بيرت ، جوا لطيفا ناعما ومريحا للاعصاب. وبعد المراسم الشكلية اقيم حفل استقبال في حديقة منزل آل داين حضره جميع المدعوين، وقدمت خلاله انواع مختلفه من الحلوى بمافيها قالب الكعك الكبير الابيض كما القيت في الماسبة كلمات من القلب تحمل تمنيات الاصدقاء والمقربين بحياة مديدة عامرة بالرفاة والبنين. واخيرا جاء دور بيرت في الكلام فشكر الحضور باسمه واسم زوجته التي رمت، كما يقتضي العرف ، باقة الزهور باتجاة الفتيات متعمده قذفها نحو جوليا التي التقطتها وصارت بالتالي اولى المرشحات لحذو العروس. واخيرا استقل العروسان سيارة مزينة بالورود والشرائط الزاهية وسط الزغاريد ونثر الزهور وابتعدا عن المكان باتجاة لندن ومطار هيثرو بالتحديد للسفر الى تونس.
شعرت لين خلال كل ما مرت به انه مجرد مهرج يؤدي دوره بدون ان يكون في الامر شيء من الحقيقة، وفي حين ان الاثارة والفرح غمرا بيرت وافراد عائلته خصوصا والدته التي شكرتها لانها جعلت ولدها يقرر الزواج والاستقرار. وتجاة ذلك احست العروس ببعض اللوم لانها ستصدم اناسا طيبين لا ذنب لهم بما فعله بيرت يوم اودى بها الى السجن، ولكن ما العمل فالعدالة تؤدي احيانا الى ظلم الابرياء كما حصل لها تماما. فلتتحمل عتئلة داين ماجناه بيرت كما تحملت لين نتائج جريمته.
اوقف بيرت السيارة في الطريق اى المطار حتى يزيل بعض الزينة ليتمكن من القيادة، وبعد ذلك انصرف الى عناق لين التي قالت:
- الا تستطيع تأجيل ذلك الان،فالطائرة لن تنتظرنا.
- مرة واحدة بعد كي اتمكن من الصمود حتى تونس.
- واحده فقط!
وصل العروسان الى تونس في العصر، وتوجها من العاصمة الى منتجع سوسة الساحلي السياحي. اعجبت لين بالاجواء العربية هناك وتأملت المدينة الجميلة المحافظة على اصالتها برغم المنشأت السياحية الحديثه.فشاهدت مثلا الجمال تسير في بعض الاحياء والسيارات الفخمة في شوراع اخرى، كما رأت البيوت الحجريه البيضاء البسيطة الى جانب العمارات الشاهقه. اما الفندق ففخم جدا معظم اعمدته وجدرانه رخامية مزروعه بانواع الفسيفساء، والقناطر تعلو كل مدخل كما في فن العمارة العربي القديم. دخلا غرفتهما الكبيرة المطلة على حدائق الفندق وحوض السباحة، ووقفت لين على الشرفه تتمتع بالطقس الدافئ والجاف الابعيد كل البعد عن رطوبة سنغافورة القاتلة.
بيرت من جهته لم يكترث لالجمال سوسه ولا لفخامة الفندق بل صب اهتمامه على لين وعلى ساعات المقبلة عندما تصبح اخيرا ملكه. نظرت
العروس اليه وهي تضحك في نفسها لانها ستتركه يحترق بنار الخيبة من جديد، ستوصله الى قمة الانتظار وتدحرجه من هناك الى هوة المرارة والحسرة، ستدفع به الى درك لن يستطيع النهوض منه معافى ابدا.
دخلت لين للاستحمام قبل بيرت ولما خرجت كان زوجها على الشرفه ينفث دخان سيكارته. انتظرت دخوله الحمام حتى تخلع ثوب الحمام وترتدي ثيابها لكنه ادرك ذلك وعاد اليها يعانقها، ويقول
- لا حاجة للخجل بعد ان اصبحنا زوجين.
وامعانا في اثارته همست لين:
لم اعد اعرف الخجل معك يا حبيبي
- آه لو تدركين كم هي جارفه رغبتي الان! ساعات الانتظار حى يحل الليل تبدو دهرا.
تابع الرجل عناق عروسه بحرارة جعلتها تخشى ان يكمل طريقه الان ولا ينتظر حلول الظلام. بيد انها لم تعد تملك ورقه تبرر صده فخضعت لمشيئته للحظات ثم ابتعدت عنه بهدوء
- دعني اتنفس يابيرت!
ابتسم الرجل وقال لاهثا:
- يبدو ان تيار الرغبة واللهفة جرفني بعيدا
مرت التجربة بسلام ونزل العروسان الى مطعم الفندق للعشاء بعد ذلك تنزها في جناح ارضي خاص. وتأملا في الواجهات السجاد الفاخر والزخرفيات الجميلة والحلي الفضية.
التفتت لين الى بيرت وقالت:
- اتبتاع لي سوارا فضيا احمله في يدي كل يوم لئلا افرط بالسوار الذهبي او اضيعه؟
لم يكن الامر بحاجة الى سؤال فلين تأمر وبيرت ينفذ دونما جدال او مناقشة، اذ المهم ان تبقى العروس الرقيقة راضية سعيدة.
بعد ذلك جلسا على مقعد تحت شجرة نخيل يدا بيد صامتين الى ان اقترح بيرت بصوت تخنقه الاثارة:
- هلا صعدنا الى الغرفه.
وافقت لين على ذلك ونهضت متعمده ترك علبة السوار الفضي على المقعد.
ولما دخلا الفندق وصعدا السلم الى غرفتهما صاحت:
- آه ! لقد نسيت سواري في الحديقه!
همت بالنزول لجلبه، غير ان بيرت اوقفها قائلا:
- لا تقلقي يا حبيبتي سنجده في الغد.
رمقته لين بنظره وتوسلت:
- قد يسرقه احد يا حبيبي. انزل واجلبه فأنا اكره ان افقد هدية من شخص عزيز.
- حسنا سأنزل الان بخاصة واني قد اكون منشغلا جدا ي الصباح حتى اكترث لسوراك.
نظرت اليه بغنج وقالت:
- ايها الماكر!
اعطاها مفتاح الغرفه فقبلته وحثته على الاسراع فقفز الدرجات قفزا حتى يعود اليها باسرع مايمكن.
وما ان غاب عن ناظريها حتى هرعت الى الغرفه واخرجت حقيبة صغيرة من حقيبتها الكبيرة وارتدت فستانا فوق فستانها، ثم وضعت الشعر المستعار الشبيه بشعرها القديم وخرجت من الغرفه بعد ان تأكدت من خلو الرواق من اي فضولي. بعدها دخلت غرفه جانبية خاليه مخصصة للخدم حيث بدلت ملابسها وحذاءها ونزعت العدستين اللاصقتين عن عينيها تاركة الملابس القديمة وتنزل الى القاعة الرئيسية حيث ما لبثت ان شاهدت بيرت يقفز السلالم كالمجنون ويقول للموظف:
- هل لديك مفتاح اخر للغرفه رقم 220؟
- هل اضعت مفتاحك ياسيدي؟
- لا المفتاح مع زوجتي
- مالمشكلة اذن؟
اجاب بيرت بنفاذ صبر:
- المشكلة اني طرقت باب الغرفة ولم انل جوابا من زوجتي المفترض وجودها في الداخل.
- ربما كانت السيدة على الشرفه او في الحمام
- مستحيل! فهي بانتظاري. ارجوك اعطني مفتاحا اخر.
اخذت لين تراقب دلائل انتصارها في القلق البادي على وجه بيرت ، لكنها فوجئت بعدم تلذذها بذلك مع انها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ زمن بعيد.
فكر الموظف قليلا وقال:
- سأتصل بالغرفه بواسطة الهاتف.
فعل ذلك بدون ان ينال جوابا فالتقط بيرت السماعه من يده صائحا:
- قلت لك احضر المفتاح، فلربما اصابها مكروه وهي في الغرفه وحدها!
لم يجد الرجل بدا من جلب مفتاح ثان. ورافق بيرت الى الغرفه بعد ان استدعى موظفا اخر يحل محله. اقتربت لين من المكتب طالبه مفتاح غرفتها المحجوزة باسم لين ماكسويل، فسألها العامل:
ما رقم غرفتك يا سيدتي؟-
لم تتذكر لين رقم غرفتها على الفور وكادت تعطيه رقم الغرفه التي حجزها بيرت لكن الرقم عاد الى ذاكرتها فجأة لحسن الحظ. ناولها الرجل المفتاح فصعدت السلالم ويدها على قلبها الثائر، واحست ان هذه الرحلة هي الاطول في حياتها بسبب الخوف والاضطراب الهائلين اللذين يستبدان بها في هذه اللحظات الخطيرة. وفي طريقها الى الغرفه لمحت بيرت وعامل الاستقبال واقفين امام الغرفه المفتوحه يتجادلان، غير انها لم تستطع سماع شيء من الحديث فتابعت الصعود الى غرفتها حيث سقطت على السرير مجهدة خائرة القوى بعد يوم طويل مضن.
منتديات ليلاس
مكثت في السرير ساعات وساعات تتصور ماقد حصل لبيرت فهو لا بد قلب الدنيا بحثا عنها مذعورا حائرا. وابتسمت وهي تتخيله يمضي ليلة زواجه الاولى على عكس ماكان يأمل ويتمنى. اما ادارة الفندق فلن يمكنها ان تساعده يشيء بخاصة وان خلاف العرسان ليس بالامر المستغرب والنادر، فالقندق عرف ولاشك احداثا مماثلة. بيد ان القضية ستنقلب جديه بعد العثور على الحقيبة والملابس المتروكه في غرفة الخدم ومفتاح الغرفه رقم 220 بينها، الامر الذي سيزيد بيرت حيرة وارتباكا.
ومرة جديدة غمر لين ذلك الشعور الغريب بعدم الرضا عما حصل كأن عملية الثأر ضحت واجبا لا هدفا كما خططت ، وكمن غاص في امر ولم يعد بوسعه الاحجام عنه.
خلعت ملابسها وحرصت على وضع الثوب الازرق الذي كانت ترتديه بصحبة بيرت على حده حتى تتخلص نه في الصباح،فلربما قاموا بتفتيش كل الغرف بحثا عن العروس الضائعه نيتا لويس داين.
عادت لين الى السرير عاجزة عن النوم وعن التفكير معا ففكرها مشوش وعقلها قاصر عن العمل بمنطق . وفجأة سمعت سيارة مطلقه صفارة الانذار وتتوقف قرب الفندق. علمت آنئذ ان بيرت استدعى رجال الشرطة ليعاونوه على حل لغز اختفاء زوجته، او ان ادارة الفندق استدعتهم بعد العثور على الحقيبة والملابس. وظلت لين ساهرة طوال الليل لايغمض لها جفن تنصت الى الاصوات في الخارج، اصوات نزلاء الفندق يعودون الى غرفهم من اماكن السهر واصوات المزيد من سيارات الشرطة واوامر تعطي بالعربية التي لا تفهم منها شيئا.
عندما انبلج الفجر قامت من سريرها والقت نظرة من النافذه لترى مجموعه من رجال الشرطة موزعين يبحثون عنها او عن دليل يشير الى مكان وجودها، كما رأت غيرهم يقومون بالمهمة عينها على الشاطئ القريب من الفندق. واستنتجت من ذلك ان بيرتيشك في انها انتحرت برمي نفسها في مياه البحر هربا من استحقاقات الزواج.
نزلت الى مطعم الفندق لتناول الفطور والخوف يسحق قلبها، ثم حجزت لها مكانا في باص متوجه الى مدينة المونستير في جولة سياحية، واضطرت الى انتظار موعد الرحيل بعض الوقت.
اخيرا حان موعد الذهاب بعد وصول جميع الركاب، ولما قامت لين تنتظر دورها للصعود الى الباص توقفت بقربها سيارة ترجل منها ثلاثة رجال كان بيرت احدهم. وعلى الفور وضعت نظارتيها السوداوين لئلا يتعرف اليها واخذت تنظر اليه بثيابه التي كان يرتديها البارحة والتعب والقلق يبدوان عليه جليين كأنه شاخ بليلة واحدة عشرات السنين. عندها فقط علمت كم كانت اللطمة موجعه والانتقام رهيبا، فبيرت الان انسان محطم فقد املا ملا حياته الفارغه وركض في صحراء نحو سراب ظنه ماء يروي عطشه الى الحب والحنان. بلحظة عاد بيرت وحيدا واضاع نيتا التي جاءت لتنتشله من الوحده الغارق فيها، يتنقل من امراة الى امرأة باحثا عن دفء الحب بدون جدوى مصطدما ببرود الاحضان اللاجئ اليها.
فالتقطها ثانية واقفلت الخط مبتسمة مسرورة بمعاناته.
عادت لين الى الفندق عبر الشاطئ مطمئنة الى ان الوقت لم يكن كافيا لاقتفاء اثر المكالمة، ولكنها ادركت فجأة ان هذا القدر من التلذذ بعذاب الاخرين ليس سوى سادية معيبة لا تبرير لها مهما كان مقدار الاذى الذي الحقه بيرت بها في الماضي. ولكن لا مجال للتراجع الان فجرحه انفتح وعليها جعله ينزف حتى الموت كما امات مشاعرها واحرق امالها وراء القضبان النبذ الحديديه
في الصباح التالي توجهت الى سوق المدينة لترى مفعول مكالمتها بعدما اشارت الى النبع الصغير، وبالعفل لمحت عدة رجال امن يحومون حول المكان ويسالون المارة والتجار محاولين العثور على قرينه تقودهم الى مكان وجود المخطوفه. اكملت لين طريقها نحو سوق المحلات التي تبيع الجلود الاصلية الفاخرة حيث شاهدت بيرت بصحبة رجلين يحاولان تهدئته اذ كان يخرج من متجر ليدخل الى اخر صائحا بوجه صاحبه مستوقفا المارة.... كان كالمجنون يبحث عن حبيبته التي سلبته اياها براثن الشر وحرمته اسعد ليلة في حياته. وعلى الفور اندست لين بين مجموعه من السياح وعادت معهم في الاتجاة المعاكس نحو سوق الحرير.
هناك وقفت تراقب احدى الواجهات وعينها على مكان وجود بيرت بانتظار اللحظة المناسبة . ولما رأت رجلين من السكان المحليين يتجهان ناحيتها خلعت الشعر المستعار والنظارتين واندفعت نحوهما فدفعتهما مولولة متظارهة بالهرب من قبضتهما:
- بيرت ! النجده يابيرت!
ثم ركضت نحو سلم حجري قديم وصعدت الى شارع آخر في السوق حيث عادت وضع الشعر المستعار والنظارتين.. وعادت الى مكان الحادث لتشاهد احد الرجلين مطروحا ارضا ورجال الشرطة يمسكون بالاخر وبيرت الذي يحاول لاجهاز عليه كما فعل برفيقه المسكين. فاخذت تضحك سرا وهي مسرورة بالشغب والفوضى للذين احدثتهما . ثم انضمت الى جموع السياح وعادت الى الفندق تمكث في غرفتها حتى الصباح حين سددت الحساب وذهبت الى المطار بالباص لتستقل أول طائرة عائدة الى انكلترا.
7-انقلب السحر
أعلن صوت المذيع في مطار نيس الفرنسية : نأسف لاعلام المسافرين الكرام ان اقلاع الطائرة في الرحلة رقم 907 المقررة الى لندن سيتأخر نحواً من ساعة لأسباب طارئة .
كانت هذه المرة الثالثة يعلن فيها عن تأخير والمسافرون جالسون في قاعة الانتظار يتململون شاكين . اما لين فلم تجد سوى اعادة تصفح مجلة الازياء التي في يدها للمرة الثانية والنظر الى ساعتها حيناً بعد حين وعقاربها تقترب من السابعة مما يعني انها لن تصل الى شقتها في لندن الا في وقت متأخر من المساء . غير ان غداً يوم عطلة فيتاح لها النوم قدر ما تشاء وتعوض بعضاً من ارهاق الاسبوعين الماضيين .
فوظيفتهما في فرع العلاقات العامة التابع لاحدى كبريات شركات صناعة الالكترونيات في انكلترا اوجب عليها التنقل مع زبائن كبار في فرنسا وسويسرا حيث اطلعت على سير الامور في التحضير لمعرض ضخم لمنتجات الشركة سيجري افتتاحه في الشهر المقبل . وبرغم التعب تجد متعة في عملها الذي حصلت عليه فور رجوعها من تونس ، ذلك لأن فيه تحدياً وتجدداً دائمين في التعامل مع الزبائن وفن اقناعهم بجودة المنتجات التي تصنعها الشركة وحملهم على التعاقد لشراء كميات منها بأسعار عالية تناسب أهمية الصناعة الالكترونية المعقدة . غير ان عملها الذي مر عليه اكثر من سنة حتى الآن بدأ يرهقها ، ومازاد الطين بلة تأخر الطائرة التي ستعيدها الى لندن بعد أربعة عشر يوماً من الرحلات السندبادية بين فرنسا وسويسرا .
وعندما سألت مكتب الاستعلامات عن طائرة أخرى متوجهة الى لندن افيدنت ان الرحلة الوحيدة الى هناك الليلة هي على متن طائرة تابعة للشركة العالمية ستتوقف في نيس في طريقها من كوريا الجنوبية الى لندن . وبالطبع فضلت لين الانتظار على ان تغامر وتستقل طائرة قد يشاهدها فيها أحد زملائها أو زميلاتها السابقين برغم انهم لن يتعرفوا اليها بعد عملية تغيير الوجه ، والآخرون الذين قابلتهم في سنغافورة لن يتعرفوا اليها كذلك لأن شعرها عاد الى لونه الطبيعي وعينيها تحررتا من العدستين اللتين رمتهما في تونس مسرح انتقامها الرهيب من بيرت.
ومع ذلك يظل الابتعاد عن الشركة العالمية آمن واحسن تحسباً للمفاجأت.
بعد نصف ساعة قامت لين لتتناول مرطباً وما كادت تنتهي حتى اعلن المذيع عن اقلاع فوري للرحلة 907 من الباب رقم 11 بعد ابدال الطائرة بأخرى . فتوجهت فوراً الى الباب المحدد وتم نقل الركاب الى الطائرة حيث سادت الفوضى في احتلال المقاعد وتقسيم الطائرة منطقة للمدخنين واخلاى لغير المدخنين .\وجدت لين لنفسها مقعداً قرب سيدة عجوز فجلست وربطت حزام الامان اذ بدأت محركات الطائرة تدور استعداداً للاقلاع .
وراحت احدى المضيفات تتفقد الركاب في مقاعدهم وتتأكد من ربطهم الاحزمة فوصلت الى لين التي رفعت عينيها لترى المضيفة ترتدي بزة الشركة العالمية للملاحة الجوية ، فسألت :
-أليس من المفروض ان نكون على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الاوروبية؟
اجابت المضيفة مبتسمة :
-هذا صحيح ، ولكن الشركة اضطرت لاستئجار طائرتنا بطاقمها لتقوم بالرحلة الى لندن لأن الفنيين اخفقوا في اصلاح الطائرة المعطلة .
-شكراً على الايضاح .
اثار ذلك الرعب في نفس لين خوفاً من حدوث شيء ما ولكن ما ان ارتفعت الطائرة عن الارض وبدأت المضيفات بجلب المرطبات للمسافرين حتى تبددت مخاوفها البلهاء وهدات اعصابها التي ثارت الى درجة انها فكرت في النزول من الطائرة قبل اقلاعها!
ارجعت لين مقعدها وحاولت النوم بينما الطائرة تشق عباب السماء الململمة نتفاً من انوار الشمس الآخذة في المغيب ، بيد انها لم تستطع النوم متقلبة في مقعدها حتى كادت توقع المنديل الحريري المعقود حول شعرها . فحاولت اصلاحه عبثاً اذ لا مرآة لديها ، لذلك قامت الى حمام الطائرة الخلفي لتغسل وجهها وتسرح شعرها . ومرت بين الركاب النائمين أو الذين يقرأون بهدوء لتصل الى ذيل الطائرة حيث وجدت ان دورتي المياه مشغولتان فانتظرت قليلا خلو احداهما .
وفجأة استدارت احدى المضيفتين العاملتين هناك على تعبئة المرطبات للمسافرين وصاحت :
-نيتا!
وقبل ان يتاح للين التهرب وجدت نفسها واقفة امام جوليا كونورز المضيفة التي تقربت بواسطتها في سنغافورة من بيرت . وتجمدتت في مكانها عاجزة عن التحرك او التفطير لاعنة سوء الطالع الذي دبر لها
هذه الصدفة . وفي تلك اللحظة شغر حمام فدخلته على الفور واقفلت الباب وراءها في اغرب عملية فرار . ومن شق الباب شاهدت جوليا تجر عربة المرطبات والسندويشات نحو وسط الطائرة .
ماذا عساها تفعل الآن لتهرب من هذه الورطة ؟ كيف تقنع جوليا بانها مخطئة ولا علاقة لها بالمدعوة نيتا ؟ نظرت لين الى المرآة وادركت ان تغطية شعرها بالمنديل جعلت جوليا تتعرف اليها برغم اختلاف لون العينين ، وماعليها بالتالي سوى نزع المنديل لتعود لين ماكسويل التي لا تمت بصلة الى المسكينة نيتا لويس داين ضحية عملية الخطف في تونس.
وهكذا حررت شعرها من المنديل والدبابيس واسدلته على كتفيها بعد تسريحه بالفرشاة وغطت جبينها بغرة تستر وجهها قدر الامكان .
ولما همت بالخروج سمعت صوت بيرت يقول :
-في أي حمام ؟
اكتملت الفاجعة ، فلم يكن كافياً وجود جوليا على الطائرة بل تبين ان بيرت يقودها والمضيفة اسرعت لاعلامه بما شاهدت واحضاره ليتأكد بنفسه .
هل تجد لين مخرجاً من هذه المصيدة الجديدة؟ ولو استطاعت خرق معدن الطائرة والقاء نفسها في الهواء لما قصرت لحظة ، فالموت هكذا اسهل الف مرة من الموت البطيء في مواجهة بيرت . كيف لها ان تقنعه انها ليست نيتا؟ هل باظهار جواز السفر الذي يحمل اسم لين ماكسويل؟ خياران احلاهما مر كالموت.\
وبينما هي تحاول ايجاد حل سمعت طرقة على الباب ارتعدت لها فرائصها وكادت تسقط الحقيبة من يدها ، لكنها تمكنت من ان تقول :
-لحظة واحدة لو سمحت.
وبسرعة اخرجت من حقيبتها ماتيسر من أدوات الزينة وغطت شفتيها باحمر شفاه كثيف وعينيها بصباغ ازرق براق ، كل ذلك لتبعد الشبهة عنها لأنها كنيتا لويس لم تكن تضع الشيء الكثير على وجهها.
وأخيراً فتحت الباب وخرجت مخفضة رأسها ومعتذرة :
-آسفة لتأخري.
غير ان بيرت لم يكن ليدعها تفلت ببساطة فقبض على ذراعها بقوة حتى كادت تصرخ وقال :
-اسمحي لي يا آنسة .
تغلبت لين على خوفها استدارت لتواجه بيرت فاذا بها ترى فيه رجلا مختلفاً تماماً عن الذي عرفته ، فملامحه الوسيمة ترزح تحت اثقال الحزن والهم وعيناه الساحرتان فقدتا بريقهما بفعل العذاب والمعاناة.
نظر اليها الرجل بتمعن والتردد ظاهر على محياه لا يدري ماذا يقول. فاخذت لين الباردة وقالت :
-بيرت ! بيرت داين ، اليس كذلك؟
لا شعورياً شدد الرجل قبضته على ذراعها مجيباً:
-نعم.
نجحت لين في رسم ابتسامة مزورة على شفتيها واضافت :
-كم غيرك الوقت يا بيرت ؟ ( ولما بقي صامتاً اضافت) يبدو انك لم تعرفني انظر الي جيداً.
امعن الرجل النظر اليها لكن قوله عكس فشله :
-اسمك لا يحضرني مع الأسف .
-أنا لين ، لين ماكسويل التي عملت معك منذ مدة طويلة .
ارتاحت الفتاة عندما رأت الذهول والدهشة يتسللان الى نظراته وشعرت بيده حرر ذراعها المتألمة ويقول :
-لم يخطر ببالي ابداً انك لين .
-لماذا اوقفتني اذن ؟
-لقد ظنتك المضيفة امرأة اخرى .
وهنا تدخلت جوليا:
-اقسم لك اني رأيتها.
قاطعها بيرت بحدة :
-لاشك انك مخطئة .
وباشارة من يده صرف المضيفة ليتوجه الى لين :
-تبدين مختلفة كثيراً عن السابق.
-قد يتغير المرء تماماً خلال خمس سنوات.
نزه الرجل عينيه متفحصاً اياها فلم تستطع كتم شعور بالحرج والارتباك وقالت:
-لن أؤخرك اكثر عن قيادة الطائرة .
توجهت نحو مقعدها مضيفة :
-سررت برؤيتك يا بيرت .
شعرت لين وهي تبتعد عنه ان نظراته سهام تنفذ الى صدرها وتعريها من الستار المزيف الذي لفت به نفسها . وما ان غرقت في مقعدها حتى
شغلت نفسها بصحيفة تلهيها عن التفكير ببيرت وبلحظات الهلع التي اجتازتها .
وبعد طول انتظار حطت الطائرة في مطار هيثرو في لندن وان بخبطة قوية اخافت المسافرين اذ يبدة ان بيرت فقد توازنه عندما رآها وكاد يودي بالطائرة وركابها.
كانت لين اول من غادر الطائرة الى الباص ومنه الى اروقة المطار راكضة حتى تنهي المعاملات الشكلية وتعود الى بيتها . ولسوء حظها تأخرت في استلام حقيبتها والمرور بحاجز الجمرك ، وفيما هي تدفع العربة بالحقيبتين الثقيلتين باتجاه موقف سيارات الاجرة سمعت صوت بيرت يقترح :
-دعيني اساعدك في دفع العربة .
صدمة جديدة ارعبتها وكأن هذا الليل الطويل لن يعرف نهاية .
وبدون ان ينتظر منها رداً امسك بيرت بدفة القيادة سائلا :
-اقرأ على حقيبتك اسم كيلبورن . هل تقيمين هناك؟
-نعم وسأستقل القطار الى المنزل.
كذبة حاولت بها صرفه ، غير انه لم يزل محافضاً على ميزة العناد والاصرار اذ قال :
-انه يوم الحظ بالنسبة اليك فانا ذاهب بسيارتي الى المنطقة نفسها وارحب بذهابك معي.
أي وصف ينطبق على هذا اليوم باستثناء كلمة "حظ" فلين لم تكن تحسب حساباً لهذا اللقاء المزعج ، وهي حاولت التهرب من جديد فقالت:
-لاضرورة للازعاج فالقطار يوصلني الى البيت بسهولة .
-لا ازعاج البتة والقطار سيرهقك بعد تعب الانتظار في مطار نيس.
انبأها حدسها ان في كلامه شكوكاً فجزعت ولم تزد في الرفض:
-حسناً سأذهب معك بشرط الا تغير طريقك من اجلي.
-لا ، ابداً.
دفع بيرت العربة باتجاه المخرج المخصص لافراد الطواقم ولين تحث الخطى لتحلق به وهي تتساءل ما اذا كان تبعها عمداً ام ان ذلك حصل مصادفة . واخيراً توقف بيرت قرب سيارة فخمة وضع الحقيبتين في صندوقها بعد ان رمق لين بنظرات ذات الف معنى ومعنى ، غير ان الفتاة سيطرت على خوفها بعد ان عاد اليها الشعور بالحقد والكراهية تجاه هذا الرجل الذي جعل من الاتجار بالمخدرات وسيلة للعيش الرغيد ومنه شراء هذه السيارة الفخمة .
قاد بيرت السيارة ذات المحرك القوي بسرعة ونعومة، وسرعان ما بلغا وسط مدينة لندن المزدحمة . وخلال الطريق لم يتكلم الا عندما طلب منها اعطاءه علبة السكائر الموضوعة على المقعد الخلفي ففتحها واشعل السيكارة ثم استدرك وقال معتذراً:
-آسف لأني اقدم لك سيكارة ، ولكنك لا تدخنين على ما اذكر .
-ذاكرتك لم تحنك .
قالت الفتاة ذلك وهي تسأل نفسها ما اذا كان يذكر أشياء أخرى عن لين ماكسويل كأنفها المميز مثلا والذي تغير تماماً بعد الجراحة التجميلية . تجاوز بيرت منطقة ريجنت بارك قاصداً شمال المدينة لكنه مالبث ان توقف قرب احد المقاهي وقال :
-لننزل ونحتسي فناجين من القهوة .
-افضل التوجه الى المنزل مباشرة لأني مرهقة فعلا.
امتلأت السيارة بجو من التحدي بخاصة عندما اصر بيرت:
-عشر دقائق جديدة لن تميتك بعد ساعات من الانتظار .
رضخت الفتاة للأمر الواقع بعدما طلبت منه الا يتعدى الامر الدقائق المعدودة لأنها كادت تغفو في السيارة .
دخلا المقهى المعتم ذا الاجواء الانكليزية الداكنة التي تذكر بلندن القرن السابع عشر واختارا طاولة قريبة من المدفأة حيث تضطرم نار كبيرة جالبة الدفء. جلست لين بينما توجه بيرت لاحضار القهوة وعيناها عليه تتأملان قامته المديدة والمليئة عاجزة عن طرد احاسيس شبيهة بما كان يختلج في قلبها أيام زمان.
عاد بيرت حاملا القهوة وبعض قطع البيسكويت فارتشف قليلا من فنجانه وسأل :
-ماذا كنت تفعلين في فرنسا؟
-كنت في اجازة لاسبوعين .
-مع من ؟
-وحدي.
لم يقتنع بيرت بالجواب الاخير غير انه لم يصر فتابع اسئلته :
-ماذا تعملين في هذه الايام ؟
-وضيفتي مكتبية تشتمل التوثيق والضرب على الآلة الكانبة وما شابه .
-أين مركز عملك ؟
في لندن ( ولتجعل الجو طبيعياً هادئاً اضافت ) ارى انك رقيت من مساعد طيار الى طيار ، غير اني اذكر حبك للسفرات الطويلة فلماذا اخترت خط نيس-لندن؟
-عملت طويلا على الخطوط البعيدة ولم انتقل الى اوروبا الا منذ فترة وجيزة .
لم يزح عينيه عنها اثناء الجلسة الشيء جعلها تتوتر وتنظر الى ساعتها قائلة :
-اليس من المفروض ان يقفل المقهى الآن ؟
-لا تخافي فعندما ينوون الاقفال سيطردوننا (امسك معصمها الايسر متفحصاً يدها وزاد) ارى انك غير متزوجة او مخطوبة مما يعني ان لا احد ينتظرك في البيت .
تمنت لين الا يكون شعر بارتجاف يدها فسحبتها وقالت :
-مازلت اعيش وحيدة .
-اليس هناك احد في حياتك ؟
اجابت باقتضاب وبرود :
-لا.
ساد الصم بينهما ورأت لين انه ينوقع ان تقول له شيئاً والشيء الوحيد الذي يجب ان يقال لبيرت يتعلق بالحادثة التي مر بها . ومن جهة اخرى خوضها هذا الموضوع يبعد عنها الشبهة . فشحنت عينيها بالأسى والأسف وقالت:
-آسفة لماحصل لزوجتك فقد قرأت عن الحادثة في الصحف .
أوشك الحزن ان يقطر من حدقتيه ولم يجد سوى كلمة واحدة :
-شكراً.
-هل استطاعوا … هل عثرت …
خانتها العبارات فالبراعة في الكذب لها حدود لين ولاتقدر على الذهاب اكثر من ذلك في هذه اللعبة المتمادية كون الرجل الجالس امامها محطماً شر تحطيم . فهم بيرت مقصدها فأجاب :
-لم يتوصل رجال الشرطة الى كشف اي خيط او العثورة على اي اثر لها .
استوى في مقعده مردفاً:
-اتعلمين انك تشبهينيها كثيراً برغم اختلاف لون الشعر والعينين ولهذا ظنتك المضيفة نيتا .
ادعت لين الدهشة فقالت :
-اذكر ان المضيفة نادتني باسم زوجتك على الطائرة لكني الم انتبه للأمر . فهمت الآن لماذا القيت القبض علي إذن (ضحكت وتابعت) ظننت انك جئت لتلقي علي التحية بعد كل تلك السنوات .
-اعترف اني نسيتك تماماً يا لين لكن الشبه بينك وبين نيتا كبير جداً.
اطلقت لين ضحكة جديدة قائلة :
-لا غرابة في ذلك لأن الرجال يسعون عادة ولا شعورياً وراء نموذج معين من الفتيات يعجبهم ، وأظن ان الكثيرات من اللواتي عاشرتهن يشبهنني .
أشعل بيرت سيكارة جديدة وقال :
-تفسير معقول يصدر من خبيرة بأمور الرجال .
-ومن أين آتي بالخبرة ؟ أمن سجن النساء؟
لعنت لين نفسها لسماحها للسانها بالتفوه بهذه الكلمات وتمنت لو انها تختفي من الوجود في هذه اللحظة فترتاح من مواجهة بيرت الذي زادها حرجاً بسؤاله :
-وهل أمضيت في السجن سنة أو اكثر ؟
تلقت الفتاة هذه الكلمات بمرارة لأنها تعني ان بيرت لم يكن مكترثاً لها الى درجة انه نسي مدة عقوبتها .
-انعمت علي المحكمة بثلاث سنوات .
-الم يمنحوك تخفيضاً لحسن السلوك؟
-لا ، فلقد اكملت المدة حتى الدقيقة الأخيرة ( نهضت لين من كرسيها مضيفة ) أود الذهاب الآن لو سمحت .
-هيا بنا .
سبقته الى السيارة ريثما يسدد الحساب . واكملا طريقهما بصمت الى ان بلغا البناء الذي تقطن فيه فترجلت من السيارة واخرجت حقيبتها من الصندوق عندما ترجل بيرت بدوره وقال :
-احد زملائي الطيارين يقيم حفلة غداً مساء بمناسبة ذكرى ميلاد زوجته في منزله الصيفي في مقاطعة كنت ، فما رأيك بمرافقتي ؟
-شكراً على الدعوة ، لكن اشغالي الكثيرة ستحرمني تلبيتها .
-كما تشائين ، فلنستعض عنها بعشاء اذن .
-لايمكنني …
اسرعت يد بيرت الى اقفال فمها فجاءت ملامسته كصقعة هزت كيان لين تبعها قوله الجازم :
-عشنا اياما جميلة معاً افسدها سوء تفاهم سخيف ، فلنحاول تنقية الاجواء الآن بعد انقشاع الغمامة .
الم يجد تعبيراً عن اتهام احدهما الآخر بارتكاب جريمة خطيرة سوى "سوء تفاهم سخيف" . اغتاضت لين لذلك وقالت بقساوة :
-أنا لا اخرج مع رجال متزوجين .
اثار قولها ضحك بيرت المجبول بالمرارة الناصحة من كلماته :
-متزوج ؟ وهل تسمين رجلا اختفت عروسه بعد ساعات من الزفاف رجلا متزوجاً؟ ( مرر يده على وجنتها وأضاف ) ارغب في رؤيتك من وقت الى آخر فأنا اقضي معظم وقتي في انكلترا .
اكرهت لين عقلها على التفكير برغم صعوبة الموقف . فالى ماذا يرمي بيرت بعد ماحصل بينهما؟ وما السبيل الى التهريب منه بعد ان عرف عنوانها ؟ قررت مسايرته مؤقتاً حتى تتدبر لها منزلا جديداً وترتاح منه.
-متى علينا مغادرة لندن في حال اردنا الذهاب الى الحفلة الراقصة ؟
- في حوالي السابعة مساء لأن الرحلة تتطلب ساعة .
-حسناً يا بيرت ، سأنهي ماعلي واذهب الى الحفلة على أمل ان تكون مسلية .
-لا تقلقي فمعروف عن بوب فريمان انه يقيم حفلات رائعة .
افترقا بعد الاتفاق على اللقاء هنا في السابعة ولين لا تبغي من ذلك سوى الوقت الكافي لتوضيب حقائبها والنزول في فندق حتى تجد مكاناً تقطن فيه بعيداً عن بيرت ومتاعبه .
عجزت الفناة عن النوم برغم الارهاق الشديد لان بيرت بقي مائلا في ذهنها طوال الليل يقض مضجعها ويحرمها لذة التمتع بقسط ولو يسير من الراحة . بقيت صورة وجهه المتعب والذي شاخ بسنة واحدة منطبعة في مخيلتها تعيد اليها ذكريات بشعة تتمنى ان تنساها وتدفنها في غياهب الماضي الحزين .
نهضت من سريرها في السادسة وتناولت فطوراً خفيفاً قبل ان تبدأ بتوضيب اغراضها وتغطية الاثاث بشراشف بيضاء الى ان تتدبر شاحنة تنقله الى شقتها الجديدة .
في الثامنة والنصف باحد مكاتب السيارات ليرسلوا لها سيارة في التاسعة ، لكن المفاجأة المذهلة حصلت بعد خمس دقائق فقط عندما رن جرس الباب وفتحت لتجد بيرت منتصباً امامها كشبح خارج من كابوس مزعج . وبالطبع لم ينتظر الرجل دعوة بالدخول اذ اقتحم الشقة ليجد الحقائب محزومة والأثاث مغطى فقال بشيء من الحدة :
-اراك راحلة .
اقفلت الباب وواجهته قائلة :
-لا ، ولكني كنت تعبة في الامس فلم أكلف نفسي مشقة فتح الحقيبتين .
-ولماذا غطيت الاثاث بالشراشف؟
-لئلا يمتلئ بالغبار اثناء غيابي في فرنسا .
-ولمن هذه الكتب الموضوعة في الصناديق ؟
-انها لصديقتي التي مكثت في الشقة بعد خلافها مع زوجها .
تابع بيرت الاستجواب :
-وهل هي هنا الآن؟
تنفست لين الصعداء بعد ان انطلت عليه الكذبة وأجابت :
-عادت الى بيتها بعد تسوية الخلاف وسترسل في طلب اغراضها يوم الاثنين .
نظرت اليه يقف في وسط الغرفة التي كانت لها ملاذاً بالفرار فاذا به يحولها جحيماً لا تعرف كيف تولي الادبار لتتخلص منه ، وتابعت :
-ما الذي جاء بك في هذه الساعة المبكرة؟
-حدث تغيير مفاجئ في البرنامج فبوب لم يستطع توفير الوقت الكافي للتحضير للحفلة ، لذا طلب مني الذهاب الى المنزل لتحضيره .
-وتريدني بالتالي ان أوافيك في المساء .
-ليس تماماً ، بل اريدك ان تذهبي معي منذ الآن لنمضي النهار معاً.
-سبق وأبلغتك ان مشاغلي كثيرة اليوم .
-الا يمكنك تأجيلها الى الغد ؟
أجابت الفتاة الحائرة :
-أمامي نهار طويل من التسوق ...
اقترب منها ووضع يديه على كتفيها وقال :
-ستذهبين معي.
-بالطبع ولكني افضل موافاتك في المساء .
-لن تستطيعي بلوغ المكان بدون سيارة .
سأستأجر سيارة .
-العنوان معقد للغاية ولن يمكنك الوصول بسيارة اجرة . من الافضل ان تأتي معي الان .
في هذه اللحظة رن جرس الباب من جديد فتولى بيرت فتحه وأطل رجل قال :
-الم تطلب سيارة الى فندق كوينز بالاس يا سيدي ؟
تشنج بيرت ورمى لين بنظرات حادة كنصل السيف ثم اخرج من جيبه بعض المال متوجهاً الى الرجل :
-هذا ما يعوض تعبك فقد اضطررنا الى تغيير الخطة ولن نحتاج الى السيارة الآن .
اقفل الباب وقال للين :
-فندق كوينز بالاس؟
كانت لين قد اعدت الجواب :
-اذهب الى هناك دوماً لأني اصفف شعري عند مزين يقع محله قرب الفندق .
-شخصياً ارى ان شعرك ليس بحاجة الى تصفيف .
ازاء تصميمه ادركت لين ان لاسبيل الى التهرب فالرجل اعند من ان يرجع خائباً ، لذلك قررت الرضوخ لمشيئته فقالت :
-فليكن ماتريد يا بيرت ، سأذهب معك الى بيت صديقك هذا ... هل استطيع تبديل ملابسي هناك ؟
-بالطبع وانصحك بجلب ثياب الاستحمام فبامكاننا السباحة في حوض المنزل اذا وجدنا الطقس دافئاً.
نفذت لين اقتراحه ووضعت كل ما يلزمها من ادوات تزيين في حقيبة صغيرة ثم انطلقا بسيارته في رحلة اين منها رحلة معاناة السجن الرهيبة.
كنت من اجمل مناطق انكلترا فالخضرة فيها مساحات لا تنتهي ، ومازادها جمالا ان توقعات بيرت صحت فالطقس تحول دافئاً وكأن الصيف اراد ان يودع الناس بذكرى حارة قبل ان يطرده برد الخريف . وخلال الرحلة كانت لين تحاول ان تحلل وتعلل سبب اهتمام بيرت بها واصراره على الخروج معها ، الأنه يحاول اشعال جذوة حب انطفأ منذ زمن بعيد ؟ ام لأنها تذكره بعروسه الضائعة نيتا؟ والله وحده يعلم العواقب الوخيمة التي ستحل بلين لو اكتشف بيرت الحقيقة والخديعة التي راح ضحيتها . وصار كل أمل الفتاة ان يمضي هذا اليوم بسلام حتى تطلق ساقيها للريح وتختفي من وجه الرجل الذي افسد حياتها .
وفيما هي غارقة في وساوسها خطرت لها فكرة جديدة زادتها سوداوية وقلقاً، فماذا لو كان هدف بيرت مجرد مغامرة عابرة ؟ ونظرت اليه متسائلة عما فعله بغياب نيتا خلال السنة الفائتة ، هل بقي محروماً من النساء وفاء لحبه ام انه نسي او تناسى متاعبه مع نساء أخريات؟ وخشيت مايخبئه لها هذا النهار عاجزة عن ايجاد سبيل للنجاة من براثن بيرت . ترك الرجل الطريق العام سالكاً دروباً فرعية غير معبدة في نهايتها بيت صغير في حضن تلة خضراء.
برغم تعاظم مخاوفها عبرت لين عن اعجابها بالمكان:
-انه بيت رائع!
-يستحق تعب الطريق، اليس كذلك؟
ترجلا من السيارة ولين تقول :
-كنت على حق يا بيرت عندما قلت اني لن اتمكن من الوصول الى هذا المكان المنعزل عن البشرية وحدي.
اشار بيده موافقاً:
-اقرب مكان مأهول مزرعة تقع على الجانب الآخر من النهر ، كما ان خلو البيت من هاتف يجعله اكثر انعزالا.
دخلا حديقة مليئة بالزهور على انواعها يزيدها عفوية عدم الاعتناء بها فتبدو اللوحة الملونة طبيعية لا تدخل ليد الانسان فيها.
والعبير الطيب الذي ملأ الجو انسى لين قلقها والرجل الذي بقربها وأثار في نفسها ذكريات ميامي الحلوة حيث كان بيرت غير بيرت اليوم.
فتحت عينيها على الواقع لتراه يراقبها وشيء من البريق عرف طريق العودة الى ناظريه ، هل يتمتع بالذكريات نفسها؟ ولتتخلص من هذا النزال النظري دخلت المنزل ذا السقف المنخفض والمدفأة العتيقة التي تحتل مكاناً كبيراً في غرفة الجلوس . ولم يكن في المنزل اثاث كثير ، غير ان الموجود يكفي ويريح ، فالكنبات الرعيضة وكراسي القش تتمشى مع جو البيت ، وغرفتا النوم في الطابق الثاني مجهزتان بشكل ممتاز اضافة الى الحمامين الكاملين .
بدأ بيرت بفتح النوافذ لتهوئة المنزل المقفل منذ مدة طويلة لأن بوب فريمان صديق بيرت أمضى عطلته هذه السنة خارج البلاد ولم يستعمل منزله الصيفي . بعد ذلك فتح الباب الخلفي المطل على حديقة نما فيها العشب الأخضر كثيراً ما جعل لين تقول :
-عليك ان تقص العشب قبل المساء.
-سأفعل ذلك بواسطة الآلة الخاصة .
خلع بيرت كنزته ثم قميصه كاشفاً العضلات القوية والبشرة المحروقة بأشعة الشمس ثم قال :
-لماذا لا تلبسين ثوب الاستحمام كما سأفعل ؟
زعمت لين انها لم تسمع فسألت :
-ماذا علي ان افعل لمساعدتك؟
-لماذا لا تقطفين تشكيلة من الازهار لتزيين الدار ؟
ناولها بيرت مقصاً خاصاً وسلة فانشغلت بالحديقة تختار ازهاراً متنوعة وتخيف الفراشات الوادعة المطمئنة في هذا الملاذ البعيد عن سطوة الانسان . شعرت لين اثناء عملها بحر شديد فقررت الصعود الى غرفة النوم وارتداء ثوب الاستحمام لأن البقاء في هذه الثياب مزعج فعلا .
بينما هي تخلع ملابسها في الغرفة فتحت خزانة مثبتة في الحائط لتعليق ثيابها فرأت بزة طيار وملابس رجالية اخرى . اين ملابس زوجة بوب فريمان التي سيحتفل بعيد ميلادها الليلة ؟ اثار ذلك الخوف في نفسها وتحول الخوف الى رعب عندما فتحت درجاً لترى فوق الجوارب والملابس الداخلية صورة لها موضوعة في اطار معدني .
كانت الصورة تمثل بيرت ونيتا في ثياب العرس فعلمت عندها ان بيرت استدرجها الى هذا المكان الذي يخصه ولا يمت بصلة الى المدعو بوب فريمان . في هذا الوقت لم تنتبه لين الى توقف صوت الآلة الكهربائية وصعود بيرت الى الغرفة الا عندما رأته واقفاً يحدق فيها فرمت الصورة على السرير وقالت بسخرية :
-من الواضح ان هذا المنزل يخص صديقك بوب .
التقط بيرت الصورة واعادها الى طاولة موضوعة قرب السرير اي الى مكانها الاصلي ، فاضافت لين :
-الم تزعم ان البيت يخص صديقاً؟
اجاب متهكماً:
-لا اذكر ذلك ، بل قلت انه يقيم حفلا هنا ( اردف مشيراً الى الصورة ) ارى انك عثرت على صورة لزوجتي .
لم تستطع لين التعليق لأن شوكة كبيرة علقت في حلقها ففتحت الخزانة واعادت ارتداء قميصها .
-اليست نيتا جميلة ؟
-نعم.
-لماذا تعيدين ارتداء ملابسك؟
غريب كيف يعيد التاريخ نفسه فلين وجدت نفسها في الموقف عينه عندما دخل عليها وهي ترتدي ثيابها في النادي الرياضي في سنغافورة وكما فعلت هناك صاحت :
-اخرج من هنا !
امسك الرجل بقميصها ومزقه شر تمزيق مؤكداً:
-مازال الوقت باكراً لاخرج الآن .
-لا تفعل ذلك يا بيرت .
- اتعلمين انك تشبهين زوجتي كثيراً.
حاولت الفتاة الافلات كمن قبضته لكنه شدها اليه فانسحقت بين عضلات صدره العريض وعلقت كالفريسة اليائسة تحت انظاره الحادة . وفجأة ادركت ان في عينيه غضباً لا اثارة ، ورغبة في القتل لا رغبات اخرى . لابد اذن انه نصب لها هذا الشرك عمداً ليقتص منها كما يحلو له بعيداً عن اي نجدة محتملة . ولما رأى الخوف في عينيها ابتسم بازدراء فاطلقت لين صرخة مدوية وافلتت من يديه بقدرة قادر .
لحق بها عند اعلى السلم ولوى يدها كما شد شعرها بعنف جعلها تنفجر باكية من الألم غير قادرة على الحراك او الصراخ .
جرها الى غرفة النوم جراً ورماها على السرير ساحقاً ظهرها بركبته ، دافناً وجهها في الوسادة ، مردداً:
-آه كم تشبهين زوجتي المختفية ! ولا اشك في انك تحملين العلامة الفارقة نفسها على صدرك .
قضى بيرت على ماتبقى من ملابسها وروى فضوله بعدما تأكد من ان لين ماكسويل ليست سوى نيتا لويس ، وانه كان ضحية لعبة خداع مارستها لين منذ البداية ببراعة فائقة . واستغلت الفتاة شروده لتقفز هاربة ، بيد انه سرعان ماتبعها وسمرها على الحائط قبل ان تدرك الباب. فاستسلمت لقدرها محاولة ستر عريها بيدها وبيرت يصرخ كالمجنون :
-ايتها الماكرة المخادعة ! تستحقين الموت على ما فعلته بي !
احكم قبضته على عنقها وقال :
-لماذا لا أدق عنقك الجميل هذا وأريح العالم منك !
أطلقت لين زفرة ألم وأصابعه تغرز في عنقها الناعم ، ولما رأت الشرر يتطاير من عينيه أدركت هول الأمر فلم تقوَ على التحمل وسقطت بين يديه كالخرقة مغمياً عليها .
|