كاتب الموضوع :
..مــايــا..
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
5- لعبة الاستدراج
عاشت لين عشرة أيام مع قلق الانتظار .
ذبلت الزهور مع حرارة سنغافورة ، ولم ينل بيرت الاشارة التي يريد ليرسل غيرها . ومع ذبول الازهار خافت لين على ذبول جهودها وضياع آمالها سدى .
في اليوم العاشر لم تستطع الفتاة التواجد في الفندق اذ كان عليها الحلوال محل احدى المدرسات الغائبات لكل فترة بعد الظهر . وعندما عادت الى الفندق في المساء فكرت بالاتصال بغرفة جوليا ، لكنها فضلت تأجيل ذلك فاستحمت وارتدت ثيابها استعداداً للنزول . وما ان همت بالخروج حتى سمعت طرقاً ، ففتحت الباب لتجد بيرت واقفاً ببزة العمل السوداء ، فحاولت اقفاله لكنه منعها ودخل عنوة قائلاً:
-أود التحدث اليك .
حدقت الفتاة فيه والخوف يملأ قلبها من قساوة ملامحه كأنه اكتشف الحقيقة وجاء ليصفي حساباته . حاولت الكلام عبثاً فاكتفت بالنظر اليه وهو يمشي في الغرفة صامتاً تخونه العبارات ، فالاثنان في موقف حرج وان يكن لكل منهما أسبابه .
التفت ناحيتها وطرق بنظراته كل ذرة من جسمها فارتبكت من هذا الامتحان وسألت بصوت تخنقه البحة :
-ماذا تريد؟
-ستشاركينني العشاء الليلة .
على الفور غمرها شعور بالارتياح فادارت وجهها لئلا يلاحظ ذلك ، وبالفعل اعتقد بيرت رد فعلها دليل غضب فقال :
-لا وجوب للخوف لأني لن أحاول معك شيئاً بعد الآن .
مارست لين الكثير من ضبط الاعصاب لتستطيع مواجهته بوجه هادئ :
-لم افهم قصدك يا سيد داين .
-اعدك بالتصرف تصرفاً لائقاً.
اعملت الفتاة ذكاءها لتفهم موقفه الجديد وتعمل على تحويله لصالح خطتها فسألت :
-ما سر هذا الانقلاب ؟
بدت علامات نفاد الصبر على بيرت فأجاب :
-لا ضرورة لمناقشة ذلك الآن . كل مافي الامر ان فترة غيابي عنك كانت قاسية وادركت انني ارغب برؤيتك . وها أنا الآن امامك ومستعد لتنفيذ شروطك .
-لا أذكر اني وضعت شروطاً معينة .
-لم تضعيها صراحة ، لكني فهمتها من خلال تصرفاتك ومواقفك .
اطرقت لين التفكير بالأمر ثم توجهت الى المرآة والتقطت فرشاة الشعر محاولة اظهار عدم الاكتراث ، لكنها مالبثت ان توجهت اليه سائلة :
-كيف يمكنني ان اثق بك ؟
-لقد وعدتك ووعد الحر دين .
وأضاف لما رأى انها غير مقتنعة تماماً:
-اذا لم تكفك الكلمة يبقى عليك اختباري لتلمسي مدى مصداقيتي.
اهانته لين بصمتها فالصمت ىيكون احياناً جارحاً اكثر من الكلمة ، وأخيراً عبرت الفتاة عن التأرجح الذي تتخبط به فقالت :
-دعني أفكر بالأمر جيداً .
اقترب منها وامسك بكتفيها قائلا :
-لن اسمح بالتردد مطلقاً . عليك ان تأخذي موقفاً واضحاً في هذه اللحظة . هل تريدين الخروج معي الليلة أم لا ؟
علمت لين ان الاجابة على هذا السؤال تتعدى اطار جلسة عشاء ، ففي الامر قبول ببيرت أو رفضه . وهي لا تملك سوى خيار وحيد فان خيبته خسرته الى الابد وان قبلت دعوته علقت في شباكه وعلقته في شباك مخططها .
رفعت عينيها الة وجهه الجامد وأجابت بنبرة مرتجفة :
-حسناً ، سألبي دعوتك .
حرر كتفيها راضياً مسروراً بخضوعها ولو لمرة ، عالماً انها الخطوة الاولى على طريق غزو قلبها الحصين المقفل .
-سأمر لاصطحابك في السابعة اذن . ارتدي ثياباً أنيقة لأني تواق الى الجمال يا آنستي الحلوة .
تركها بيرت في حيرة من امرها فهي لم تتوقع منه كل هذا العناد ، ولم تكن تعلم ان مواجهته صعبة وقاسية . لقد قطعت شوطاً كبيراً في خطتها ولم يعد بوسعها التراجع . لم تتراجع الآن ؟ ألم يسر كل شيء حسب مرادها ؟ بلى ، ولكنها خائفة من المجهول لأنها على عتلبة مرحلة خطيرة عسى الله يوفقها في اجتيازها بسلام .
انتقت ثوباً لسود طويلا ، واعادت تصفيف شعرها وتزيين وجهها بما يناسب السهرة . انتظرت مجيئه بعصبية كمراهقة تخرج مع شاب للمرة الاولى . في السابعة الا عشر دقائق رن جرس الهاتف وكانت جوليا .
-كيف حالك يا نيتا ؟
-بشوق اليك يا عزيزتي .
-ما رأيك بتمضية السهرة معنا في النادي الليلي ؟
-كنت أود ذلك غير اني مرتبطة بموعد سايق .
-سنسهر في العد اذن .
-لا استطيع الجزم منذ الآن ، سنتفق على الامر غداً.
-يبدو انك خارجة مع شخص مهم الليلة يا نيتا .
-أصبت .
انهت لين المحادثة حضر بيرت ولم تفتح لين الباب الا بعد جعله ينتظر دقيقتين لتظهر قلة اهتمامها بالموضوع . اطل الرجل بقامته المديدة مرتدياً بزة سوداء وقميصاً ابيض يتناقض لونه مع بشرته الشديدة السمرة . لم يلق بيرت عبارات التحية التقليدية بل اكتفى بالنظر اليها قائلا :
-تبدين جميلة جداً الليلة .
وبنبرة من يؤدي واجباً قالت لين :
-شكراً.
-هل أنت جاهزة ؟
-نعم .
في المصعد وضع يده في يدها ولما خرجا منه الى بهو الفندق استرعيا انتباه عيون كثيرة ، فهما ثنائي رائع وان من حيث تلاؤم الشكل فحسب ، لان الطباع مختلفة تمام الاختلاف . نظرت لين في احدى المرايا الكبيرة المعلقة على الجدران فاعجبت فعلا بشراكتها مع بيرت الذي اعطته الطبيعة وسامة لم تنلها هي الا بتدخل يد الانسان .
فاجأها بيرت باصطحابها الى حفلة موسيقية كبيرة قدمتها فرقة سنغافورة السمفونية التي عزفت مقطوعات بديعة لأشهر الموسيقيين كبيتهوفن وباخ وشوبان .لكن لين المعجبة بالموسيقى الكلاسيكية ل تتمتع بالاداء كثيراً لان فكرها كان شارداً في امور اخرى بعيدة كل البعد عن طهارة الفن وعذوبة الالحان . وبيرت بدوره بدا متشنجاً وصاباً اهتمامه على لين اكثر منه على العازفين .
بعد الحفلة الموسيقية توجها الى مطعم في شارع البرت وهو معروف بتقديم الطعام الجيد والشهي . وهنا ايضاً لم تستطع الفتاة الانسجام وبالكاد مست الطعام الكثير والمتنوع الذي وضع امامها .
وخلال العشاء حدثها بيرت عن البلدان التي زارها بسبب عمله وكان من الطبيعي ان يذكر ميامي التي للين فيها ومعها الف ذكرى وذكرى .
حان وقت العودة الى الفندق فاستدعى بيرت سيارة تاكسي . وفي الطريق لما حاول ملامستها جفلت ، فقال مطمئناً:
-بالله عليك هدئي من روعك ، فأنا لن امسك بأذى .
-آسفة .
امسك بيدها فافلحت في السيطرة على انفعالاتها وتركته يأسر اناملها بقبضته القوية .
في الفندق أوصلها الى عرفتها وفتح لها الباب سائلا:
-انلتقي غداً؟
-لدي عمل في الغد .
-اتعملين كل النهار؟
-قبل الظهر فقط .
-اعطني عنوان المدرسة لأمربك ونذهب لتمضية بقية النهار معاً.
-لا ضرورة لذلك فسآتي الى هنا لاستحم وابدل ملابسي .
-كما تشائين . اتصلي بي فور وصولك من المدرسة ، ورقم غرفتي هو 615.
-سأفعل ، والآن تصبح على خير .
خشيت لين من لحظة الفراق هذه ، اتدعه يعانقها ؟ ام تدخل الغرفة فوراً؟ وفوجئت به يبتسم للمرة الاولى ويأمر :
-قولي تصبح على خير يا بيرت .
رددت الجملة كما امرها والحمرة تعلو وجنتيها فربت على كتفها مداعباً قبل ان يدير ظهره ويبتعد فيالرواق . ولما غاب عن نظرها مررت لين يدها على الموضع الذي مسته اصابعه وكأنه طبع بصماته على كتفها كما فعل طبعها على حياتها .
في اليوم التالي كان اسجامهما اكبر اذ تغلبت لين على عصبيتها وعادت الى بيرت ثقته بنفسه . قصداً شارعاً في وسط المدينة كان سوقاً قديمة وتم تحويله الى منطقة مأكولات عالمية ، فانتشرت على جانبيه عشرات المحلات الصغيرة التي تقدم أطعمة صينية وهندية ومحلية بالاضافة الى الماكولات الاوروبية للذي يخاف على صحته من البهارات الحامية .
ووجدت لين متعة في هذا المكان المكتظ بألوان مختلفة من الناس كما تلذذت بالطعام الصيني والهندي.
بعد ذلك مشيا في الحي الصيني الشعبي الكبير ذي الابنية الكبيرة المتلاصقة والتي تحوي عدداً لا يحصى من السكان ، تدل عليهم الملابس المغسولة والموضوعة على الشرفات مما يجعل المشاة بحاجة الى مظلات تقيهم هذا " المطر" المفاجئ المتساقط من الثياب .
منتديات ليلاس
اعجبت لين بهذا الحي وهذا المجتمع العجيب الغريب المليء بأسرار اهل الشرق الاقصى . وهي ما كانت لتجرؤ ان تخطو خطوة واحدة في هذا المكان لولا وجود بيرت معها يحميها من محاولة نشل او من احتيال تاجر يريد ان يبيعها قطعة معدنية لا قيمة لها على انها من تحف امبراطورية الصين القديمة ! استقلا السيارة من الحي الصيني الى احد المتاحف حيث جالا متأملين التحف والآثار العائدة الى اقدم الازمنة . وليس كالشرق الاقصى منطقة عريقة في التاريخ يجد المتذوق فيها مايمتع عينه ويرضي فضوله العلمي في التعرف على حضارات الاسلاف التي مهدت للتطور الذي نحن فيه اليوم . لما خرجا من المتحف كان العطش قد اخذ منهما كل ما أخذ فقصدا مقهى قريباً لتناول عصير البرتقال المثلج المنعش . وبيرت ، في كل هذه المراحل ، لم يكف عن الكلام موزعاً عليها ابتسامته بسخاء . تصرف معها بشكل طبيعي مختلف تماماً عما بدر منه منذ أيام قليلة عندما حاول اغواءهامعتبراً نفسه زير نساء وساحر الفتيات . وهذا ما سهل امر التعاطي معه على لين التي فوجئت بقدرتها على ممارسة لعبة الانسجام مع الرجل الذي تكره ، بيد انها حافضت على شيء من التحفظ لئلا تقطع خط العودة وبخاصة عندما تلمح في عينيه بريقاً يشبه ذلك الذي لاح كلما حاول مسها . فيفهم بيرت من جمودها انه زلّ فيصلح الخطأ على الفور ويعود الى الاحاديث البريئة المرحة .
اصرت لين على تمضية صباح اليوم التالي مع جوليا ومضيفتين أخريين على ان تخصص فترة بعض الظهر لبيرت . وحاولت الفتيات الثلاث معرفة الشاب الذي تخرج معه ، لكن لين ابقت هويته سراً واوحت لرفيقاتها انه احد العاملين معها في المدرسة . قالت لها جوليا :
-اتعلمين يا نيتا اننا لم نرَ بيرت منذ وصولنا الى سنغافورة ، لابد انه وجد امرأة جديدة وكف عن ملاحقتك .
ابتسمت لين متسائلة عما يمكن ان تكون تعليقات الفتيات في حال اكتشفن حقيقة الامر ووجدن ان اللعبة مشت كما توقعن . فجوليا راهنت منذ البدء على قدرة لين أو نيتا على للايقاع ببيرت المتغطرس .
استأجر بيرت سيارة مكشوفة جابا فيها الحدائق اليابانية في تورنغ . حدائق بديعة مليئة بالاشجار والازهار المتنوعة ، وغنية بسواقي المياه تعلوها جسور صغيرة حمراء تبدو من بعيد كأنها معلقة في الهواء . وفيما الشابان يسيران في الحدائق بعد ترك السيارة في الموقف ، بدأت السماء تتلبد بالغيوم الرمادية المنذرة بهطول المطر . فاختفت الشمس وراء النقاب الداكن الكثيف مما اضفى على المكان جواً يذكر بمناخ انكلترا البارد الحزين . اقترح بيرت اللجوء الى مقعد يغطيه سقف صغير . وما ان بلغاه حتى بدأ المطر يتساقط بغزارة والريح الباردة تعصف بقوة ، وراح البرد يشتد والرعود تقصف مدوية والبرق يشق بانواره الباهرة صفحة السماء . كم غريب طقس هذه البلاد اذ تحول من طقس مشمس حار الى ممطر عاصف وبارد في دقائق معدودة .
اخذت لين ترتجف من البرد فخلع بيرت سترته الصيفية ووضعها على كتفيها بدون ان ينسى ابقاء يده هناك . وخشيت الفتاة ان يكون عمله هذا ايذاناً بمحاولة جديدة لكنه اكتفى بذلك فارتاحت الى الدفء واسندت رأسها على كتفه .
مكث الاثنان نصف ساعة يتفرجان بصمت على ثورة الطبيعية المفاجئة . وكما بدأت العاصفة كذلك انتهت ، اذ سرعان ما هدأت الريح وانقشعت الغيوم واطلت الشمس مشرقة من جديد تجفف الارض والاشجار والازهار المغسولة بمياه المطر . وفاحت رائحة التراب الرطب عطراً ناعماً طبيعياً لا يضاهيه أي عطر يصنعه الانسان .
غادر الشابان الحدائق اليابانية الى جنائن اخرى تقع في منطقة تدعى مانداي . وذهلت لين لكثافة الزهور نوعاً وعدداً ، وشذاها الفواح يملأ المكان بألف عطر زوعطر حتى ليخال المتنزه انه يسبح في عالم من الخيال على بساط اخضر سحري ومزركش بأبهى الالوان وزهاها . قطف بيرت زهرة جميلة وعلقها على صدر لين مبتسماً فرحاً وكأن الدنيا كلها ملك يديه في هذه اللحظات .
بعد ان اشبعا توقهما الى الروعة والجمال توجها من الحدائق الفسيحة لتناول العشاء في مطعم صغير متخصص بالمأكولات البحرية يقع قرب الشاطئ . ومن المطعم ذي الطعام الشهي الى مركز التلفريك حيث صعدا في مركبة سارت بهما معلقة على حبل يعلو المياه ستين متراً .
كان المنظر رائعاً من هناك ففي الأفق تجمعت غيوم صبغتها الشمس الأخيرة المودعة بحمرة قرمزية رائعة راسمة لوحة تعجز يد أعظم فنان عن الاتيان بمثلها . اطلقت لين تنهيدة وقالت :
-يالروعة هذا المشهد .
علق بيرت :
-شاهدت الكثير من مشاهد غروب الشمس خلال تجوالي في بقاع العالم ولا أشك في ان هذا احلاها .
وصلت بهما العربة الى جزيرة سنتوزا حيث جالا لبعض الوقت يتعرفان الى معالمها حتى غابت الشمس تماماً واسدل الظلام ستاره على الدنيا . عندها استقلا المركبة من جديد ليشاهدا اضواء سنغافورة وقد تحول ليلها الى نهار ، وليتمتعا بنور القمر الكامل السابح في عتم الليل كحلم جميل وبنسيم البحر المنعش الذي يدغدغ المشاعر فبطلق العنان لرحلات الخيال .
نظرت لين الى بيرت وقالت :
-أحس وكأنني في حلم لا في حقيقة .
امسك بيدها وعيناه تبحثان عن عينيها لتخبراهما قصة جميلة ، وبيده الاخرى اخذ يداعب وجنتها المخملية ، ثم طمأنها عندما رأى بداية الانزعاج على وجهها :
-انه وداع فحسب فأنا عائد غداً الى لندن ، ولا اريد ان اودعك أمام الجميع في الفندق . لذلك لا تعتبري عملي محاولة كسابقتها .
ظل يداعبها بحنان وعيناه مسمرتان على وجهها ليطبع كل التفاصيل في مخيلته حتى تبقى معه في الأيام العشرة المقبلة . وفجأة عانقها بحرارة وعاطفة تختلفان تماماً عن الوحشية والانانية اللتين ظهرتا منه سابقاً وهمس :
-نيتا ! جمالك سحرني .
ابعدت لين رأسها عنه واسندته الى نافذة العربة ، وراحت تنظر اليه ودقات قلبها تتسارع كأنها في سباق مع مايحصل ولدهشتها لم يحاول بيرت الاقتراب منها مجدداً بل اشعل سيكارة وقال :
-ستخرجين معي في المرة المقبلة ، اليس كذلك؟
كان في نبرته امر لاسؤال لأنه ليس مستعداً البتة للتراجع الآن والتخلي عن لين التي لم تخيبه هذه المرة اذ قالت :
-نعم .
تخلى الاثنان عن الكلام حتى وصولهما الى الفندق واكتفى بيرت بايصالها الى غرفتها منسحباً بعد تحية قصيرة .
اتصل بها بعد يومين من لندن وحدثها قليلاً عن رحلة الاياب ، ثم سأل :
-الا تأخذون اجازة في مدرستكم هذه ؟
-بالطبع فنحن نأخذ ثلاثة اسابيع بين فصلي الشتاء والربيع ، وهي تبدأ يوم الجمعة .
-وماهي مشاريعك .
-لا شيء حتى الآن . لقد تلقيت دعوة من احدى زميلاتي لتمضية الاجازة بصحبتها في الريف ولكني لم اعطها جواباً بعد .
انهى بيرت المكالمة واستمر يتصل بها كل ليلة ليتأكد من انها لا تخرج مع احد غيره ، ولين لا ترفض ذلك مادام اتصاله دليلا على اهتمامه . وفي احدى الليالي لم يرن جرس الهاتف فخشيت الفتاة ان يكون قد عدل عن مصادقتها وغرقت في الوساوس من جديد .
مكثت لين في المدرسة يوم الجمعة حتى وقت متأخر لانجاز بعض الاعمال الادارية الملحة قبل البدء بالاجازة . وعادت الى الفندق في المساء متعبة تتوق الى حمام بارد ينعشها ويريح اعصابها . اخذت مفتاح غرفتها ودخلت المصعد لتجد بيرت وقد سبقها اليه .
قالت والمفاجأة تغمرها :
-انت ! مالذي جاء بك اليوم وموعد وصولك بعد خمسة ايام؟
-هذا صحيح ولكني تدبرت الأمر حتى ابقى في هذه البلاد ثلاثة اسابيع.
استطاع بيرت اذن الحصول على اجازة ليمضي وقتاً طويلا مع لين ، فترة ادركت الفتاة حساسيتها وجوهريتها لأن نجاح خطتها سيكون رهناً بتعاملها مع بيرت فيها .
رافقها الرجل الى غرفتها وما ان دخلاها حتى عانقها بلهفة الشوق والحنين كون الايام الخمسة التي ابتعد فيها عن لين دهراً بالنسبة اليه.
أخيراً انهى مهمته وفسر:
-كنت بحاجة مايسة الى ذلك .
رمقته لين بنظرة قاسية زاعمة الغضب والكنهما مالبثا ان غرقا في ضحكة طويلة .
دفعها بيرت برفق الى الحمام قائلا:
-هيا الى الاغتسال وتبديل الثياب يا عزيزتي ، لأننا سنخرج الليلة للاحتفال .
اقفلت لين باب الحمام وراءها وسألت :
-وبماذا سنحتفل؟
-بالاسابيع الثلاثة التي سنمضيها معاً . ايمكنني استعمال هاتفك؟
-بالطبع.
لما انهت لين حمامها خرج بيرت الى الشرفة ليفسح لها المجال لارتداء ثيابها ، وعندما انتهت من ذلك وانشغلت بتصفيف شعرها دعته الى الدخول . انجزت الفتاة استعدادها فقال بيرت متأملا حسنها :
-لابد انك اصبحت معتادة على اعجاب الناس بجمالك الباهر .
هزت لين رأسها ببطء وعلقت :
-لست معتادة على ذلك ولا يهمني ان يعجب الناس بجمالي . فالجمال الحقيقي ليس في المظهر بل في الجوهر .
تأملها بيرت قليلا ووافق :
-قولك صحيح وخاصة وانك مؤمنة به .
-وما ادرك ؟
-انت متميزة عن سائر الفتيات اللواتي لا يكترثن سوى للثياب الفاخرة والمظاهر المادية . أي فتاة تبذل الغالي والنفيس لتحصل على وجه مثل وجهك ، وانت لايهمك الجمال .
جفلت لين من كلمة "حصل" هذه واقترحت بسرعة :
-لننطلق.
كان بيرت في مزاج طيب ومرح تلك الليلة ولم تجد لين صعوبة في مماشاته . تناولا طعام العشاء في احد الفنادق ورقصا في ناديه الليلي حتى ساعة متأخرة . وعندما حان وقت الذهاب الى النوم عاملها بحرارة الفتها الفتاة في الايام التالية التي امضياها بالتجوال والتنزه في سنغافورة لاكتشاف اهم معالمها او في التمدد تحت اشعة الشمس على حافة حوض السباحة في الفندق.
سمحت لين ببعض التجاوزات الطوعية لأنها صارت في وضع لا يسمح لها بالتصلب فمقابل التنازل الذي قدمه لها عليها تفهم مشاعره ومنحه القليل . وهي تعلم في قرارة نفسها ان بيرت يأمل في اكمال الرحلة "الرحلة" حتى آخرها عندما يحين الوقت المناسب ، وماالتساهل الحالي سوى مناورة ذكية حتى يراها متقبلة لكل شيء فيضرب ضربته القاضية .. لذلك عليها اجادة التمثيل والصمود حتى تنتهي الاسابيع الثلاثة ويعود بيرت الى لندن قبل تحقيق هدفه .
وفكرت الفتاة غي دس المخدر في حقيبة يده قبيل موعد سفره ، بيد انها ارتأت تأجيل ذلك حتى يكون في رحلة عمل يقود الطائرة لا مجرد راكب عادي كغيره ، كما انها ستجد صعوبة في الحصول على المخدرات وبيرت معها يلاحقها كظلها .
اما بعد ان تصبح وحيدة فستعثر على الهيروين بسهولة فائقة كون سنغافورة احد اهم مراكز تهريب المخدرات وتعاطيها في العالم .
وقد نجحت لين بمساعدة زميلة سبقة في السجن ، في التعرف الى من يؤمن لها الكمية المطلوبة خلال ساعات ، كما انها وجدت علبة بودرة مماثلة تماماً لتلك التي وضعت في حقيبتها حتى يدرك بيرت من نصب له الشرك واوقعه في الحفرة نفسها . وبالتالي تغدو مهمتها الآن الابقاء على العلاقة معه وتحاشي التوغل فيها الى حيث يريد حتى يحين موعد وصوله المقبل مع افراد الطاقم فتنفذ الفصل الأخير وتسدل الستار على مسرحية الثأر المرتقبة .
لحسن الحظ لم يتخط بيرت حدوده معها لأنها لم تكن تبدي تجاهه اي تجاوب بل تنفذ واجبها مجرداً من الشعور ، فيظهر الغضب والخيبة على الشاب ويعرض عن اكمال المحاولة عله يفلح في المرة المقبلة .
وكان من الصعب على لين الخروج من هذه المواقف ، فان امعنت في التصلب ظنها الرجل باردة لا احساس فيها وان استجابت انزلقت في مجاهل تجزع لمجرد التفكير بها .
مرة كانا مستلقيين قرب حوض النادي الرياضي عندما سألها :
-لماذا لا تنزلين الى الماء ؟ اطمئني فلن ادعك تغرقين .
-أنا لا اهابك بل اهاب الماء . انها عقدة خوف ترافقني منذ الصغر عندما دفعني احدهم الى حوض عميق فكدت اغرق . ومن يومها لم اعد اقترب من الماء او تراودني فكرة السباحة .
سرت لين بسرعة بديهتها واجادة تلفيق الاكاذيب واختلاق القصص بهذه السهولة لعلها في مابعد تجد مستقبلاً باهراً في التأليف والأدب أو في التمثيل ...
أثار تفسيرها في نفس بيرت فضولا فقال :
-اخبرتك أشياء كثيرة عن حياتي بينما لا زلت أجهل ماضيك تماماً . فهلا عرفتني بنفسك يا آنسة نيتا لويس.
ابتسمت لين بنعومة وهي تحاول ايجاد الكلام المناسب:
-لا شيء مثيراً في ماضي بالمقارنة ...
قاطعها بيرت آمراً:
-اصر على معرفة ماضيك .
وبحذر استوضحته :
-ماذا تريد ان تعرف؟
-كل التفاصيل مذ ابصرت النور حتى هذه اللحظة .
عجبت الفتاة لهذا الاصرار فهزت كتفيها وبدأت بسرد القصة :
-فليكن ماتريد . عمري اثنان وعشرون عاماً . ولدت في مقاطعة باكنغهام شاير وعشت لفترة وجيزة في كنف والدي اللذين ماتا في حادث سيارة ولم ابلغ الرابعة بعد . انتقلت للعيش في منزل عمتي التي منحتني رعاية كبيرة وادخلتني مدرسة محترمة انهيت فيها مراحل الدراسة من الابتدائية الى الثانوية .
بالطبع كانت قصة وفاة الوالدين والعيش مع العمة من نسج الخيال في حين ان ماقالته عن مسقط رأسها ومدرستها صحيح .
تابعت لين :
-بعد المدرسة انتقلت الى معهد خاص لدراسة الفرنسية حيث نلت شهادة تخصص في هذه اللغة ، وعدت لادرسها في مدرستي القديمة .
-افهم من كلامك ان معظم حياتك كانت ملكاً للمدارس على اختلافها .
-اعتدت على تلك الاجواء الهادئة البعيدة عن صخب العالم ومهالك الخطيئة .
رفع بيلات حاجبيه مستغرباً هذا الوعظ سائلا:
-وما الذي اتى بك الى سنغافورة ؟
عادت لين هنا الى شيء من الحقيقة اذ اجابت :
-توفيت عمتي تاركة لي بعض المال ، فوجدت الوحدة صعبة في الريف . لذلك توجهت الى لندن ولم أوفق ، وقرأت في احدى الصحف اعلاناً عن الوظيفة هنا فتقدمت اليها وهكذا كان .
-لماذا لم توفقي في لندن ؟
لم تجب لين بل ادارت وجهها . فأضاف :
-أكان السبب رجلا؟
-الرجال بشكل عام هم السبب . لقد دخلت معهداً يعلم فنون التزيين الرجالي ، بيد اني وجدت نفسي فاشلة في هذا الحقل اذ رأيتني عاجزة عن التعامل مع جنسكم فغادرت العمل ، او بالاحرى فررت منه.
-قصتك توضح بعض الأمور .
هذا ما أملته لين من قصتها . وتبين لها ان ماسردته لبيرت عن جهلها عالم الرجال لتمضيتها فترة الطفولة والمراهقة منطوية على ذاتها ساهم في جعله يعاملها برفق وتحفظ .
بعد أيام اقترح بيرت السفر الى بينانغ لما تبقى من الاجازة فادعت لين انها تجهل المكان :
-انها منطقة رائعة في شمال البلاد على حدود تايلاند . بينانغ جزيرة حالمة ينعم فيها المرء بالهدوء والطمأنينة بعيداً عن ضجيج المدينة وبهرجها الزائف .
-مابك تحولت شاعراً بين ليلة وضحاها ؟
-اجيبي على اقتراحي ولا تحاولي تغيير الموضوع .
تابعت لين اسئلتها فيما هما يتنزهان في احدى الحدائق الكبيرة ، فاستفهمت :
-وماهدفك من الذهاب الى بينانغ؟
-اريد تعريفك على جزء آخر من البلاد والمكوث معك في مكان هادئ وشاعري .
قطفت لين وردة عطرة ورددت :
-المكوث معي ؟
-لا تعودي الى المعزوفة عينها .
-اتساءل لماذا اخترت الذهاب في هذا الوقت بالذات .
-ماذا تعنين ؟
-اعني ان طائرة لندن ستصل برفاقك غداً.
حسناً اعترف بأني ابغى تجنب مقابلتهم لانهم لا يعلمون بوجودي هنا .
علت نبرة لين وهي تقول غاضبة :
-فهمت . اتخجل من ان يروك معي؟
ادارت ظهرها وابتعدت عنه فناداها ولحق بها :
-نيتا ! لا تسيئي فهمي .
ضمها اليه بعنف حتى كاد يسحق عظامها واردف :
-اريد الابتعاد عنهم لئلا يفسدوا هنائي ، فأنا لا أنوي اضاعة وقتي مع احد غيرك ، كما نحن بغنى عن ملاحظات جوليا وتعليقاتها الجارحة .
كيف تتصرف لين ازاء الوضع الجديد وعلاقتها مع بيلات اصبحت تسير على خطين متوازيين : خط مخططها الانتقامي وخط نظرتها اليه بعيداً عن المخطط ، وهي نظرة بدأت تتبلور رويداً رويداً.
هل توافق على الذهاب الى بينانغ ؟ وهل يحافظ بيرت على وعده وعدم الاقتراب منها؟
اعتبر الرجل صمتها عدم ثقة فقال :
-يجدر بك ان تضعيثقتك في بعد ان خبرتني في الأيام الأخيرة . الا يكفيك الامتحان الذي اجتزته ؟
تخاطبت عيونهما لمدة وجيزة قبل ان تنطق لين :
-سنذهب الى بينانغ .
ابتسم بيرت ابتسامة عريضة قائلا:
-احسنت يا فتاتي .
لم يخطئ بيرت بشأن بينانغ ، فهي جزيرة رائعة تنتشر فيها الدساكر والقرى بين المروج الخضراء حتى ليخال الناظر اليها انه يعيش أيام الماضي المليء بالخير والبركة . وعلى اقدام المروج تمتد الشواطئ الذهبية العذراء حيث يحلو للمتأمل التأمل ويطيب للمتنزه التنزه .
تناول الشابان طعام العشاء في ليلتهما الاولى في قلعة اثرية قديمة تحولت مطعماً راقياً يشرف على الشاطئ المزروع بأشجار النخيل الباسقة . ومن المطعم استقلا مصعداً الى تلة عالية . أفيم عليها سوق للأثريات .
احست لين بالوقت يمر بطيئاً في هذا المكان الجميل وتمتعت بكل لحظة امضتها فيه . وكم تمشت وبيرت على الشاطئ يراقبان الصيادين يلقون شباكهم ويخرجونها ملأى بعطايا البحر المتنوعة ، وكم تأملا طيور النورس تحوم بحثاًعن سمكة تقتات بها .
مرة استوقفتهما عرافة عجوز قرأت كف بيرت ثم كف لين وقالت لها:
-مستقبلك سيكون باهراً يا ابنتي ولكنك ستمرين بمتاعب جمة قبل الحصول على مبتغاك . سوف تعرف حياتك انقلاباً كبيراً وتضطرين الى السفر بعيداً.
ضحكت لين وعلقت :
-الجزء الاخير قد تم فعلا.
سدد بيرت ماعليه للعجوز وتوجها من قلب الجزيرة حيث السوق التجاري الى قلعة قديمة تدعى قلعة كورنواليس تطيب فيها مشاهدة غروب الشمس قرصاً ذهبياً يذوب في البحر عند الافق . ضمها بيرت اليه وهمس :
-ما رأيك بتحقيق قول العرافة ؟
-ماذا تعني ؟
-ألم تتحدث العجوز عن انقلاب كبير في حياتك ؟ وليس أجمل من ان يكون الانقلاب زواجك مني .
تسمرت لين وكأن الموت دهمها ، ثم رددت :
-الزواج؟
أجاب بيرت والابتسامة تعلو شفتيه :
-نعم ، الزواج . لست صماء على ماعتقد .
- هذا مستحيل ! انت من النوع الذي لا ...
انقطعت عن اكمال جملتها لما رأت الغضب يزحف اليه وينفجر :
-أي نوع هذا ؟ ومن أين لك ان تصنفي الناس انواع وفئات ؟ اتظنين اني ارضى الى الابد بهذه العلاقة العذرية ؟
-ارجوك لاتغضب . أنا آسفة لتفوهي بهذه الحماقات ، لكنك فاجأتني بالعرض لأنني لم اكن اعتبرك من محبذي الزواج .
-الم تفكري بالزواج طيلة هذه المدة ؟
أضاف بعد ان أومأت بالنفي :
-الى اين تودين الوصول بعلاقتك بي اذاً؟
- لم يعد الزواج امراً دارجاً هذه الأيام وصرنا نشاهد الكثيرين يعيشون تحت سقف واحد بدون زواج رسمي . حسبتك تريد هذا النوع من العلاقة حتى تجد من يستقبلك كلما اتيت الى سنغافورة .
حدق بيرت فيها مذهولا وقال :
-يا الهي ! واذا حدث ان نقلتني الشركة الى خط آخر ، ماذا يحصل عندها ؟
-ينتهي الامر وتشرع بالبحث عن واحدة اخرى في البلاد التي تحط رحالك فيها .
لم ينبس بيرت بكلمة بل ضحك بمرارة واخذ ينظر الى الافق ، الى نسمة تزيل عنه ضيق الخيبة . فجأة التفت اليها وقال :
-أنا الملام على موقفك هذا لأني لم اشرح لك كل شيء منذ البداية ...
امسك بيدها باحثاً عن الكلمات المناسبة وتابع :
-لم أكن اتصور اني سأحب من جديد أو أني سأتزوج يوماً . صرت أرى المرأة هدفاً مادياً بحتاً في متناول يدي . ولكنك دخلت حياتي كالعاصفة وجعلتني ادرك ان العالم مازال يتسع للاعاجيب . جعلتني أؤمن ان الحب الصادق ما زال موجودا، وان المرء يستطيع اتخاذ زوجة تحبه وترعاه وتبني واياه عائلة سعيدة.
داعب وجهها مضيفا:
- لا ادري متى وقعت في غرامك بالضبط وكأن الوقت تعطل حتى لا خالني اعرفك واحبك منذ زمن بعيد. انا احبك يا نيتا واقسم لك بأني لن اعير امرأة غيرك نظرة واحدة ما دمت بجانبي.
- هربت لين من نظراته ووقعت في مأزق جديد لم تجد لتأجيل استحقاقاته سوى طرح سؤال:
- لم تكن تتصور انك ستحب من جديد؟ اتعني انك احببت من قبل؟
- نعم وقد انتهى الامر الى خاتمة غير سعيدة
- لماذا؟
- لانني منحتها حبي وثقتي في حين انها لم تبادلني الحب الصادق ولم تمنحني ذرة من ثقتها.
- اكنت تنوي الزواج منها؟
- بالطبع. ولهذا وجدت المرأة بعد خيبتي فارغة لا تستحق الاهتماك. كان الجرح عميقا في نفسي بعد ان خذلتني فتاتي وايقنت اني لن اجد سواها تملأ حياتي حتى اتاني القدر بك منتقذا لم اعد قادرا على خسارة الحب ثانية يا نيتا فالصدمة الاولى تكفيني . وانا مصمم على الزواج من اروع انسانه عرفتها في حياتي.
مشت لين خطوات على باحة القلعه وهي تحاول التفكير منطقيا ولكنها فشلت في استغلال الموقف لصالح خطتها. لماذا التردد والارتباك وهي كانت تعلم بوضوح غايتها من اقامة علاقة مع بيرت؟ واخيرا قالت:
- لا يمكنني الاجابة الان يابيرت لأني لا اعرفك حق المعرفه. صحيح اننا امضينا الايام الاخيرة معا، غير ان ثلاثة اسابيع لاتكفي للجزم على حياة بكاملها.
اقترب بيرت منها فاستوقفته محذرة:
- لاتحاول نيل جواب الان كما فعلت سابقا، فالامر اخطر واعمق مما تتصور . لا تستعجلني والا رددتك خائبا. امنحني بعض الوقت لافكر في المسألة مليا.
رفع بيرت يديه علامة الاستسلام وعلق:
- فليكن ما تشائين يا حبيبتي الموتورة! لن ارغمك على اعطاء اجوبة سريعه، غير انني لن اكف عن محاولة اقناعك.
دنا منها هامسا:
- ليتك تقولين نعم منذ الان وتنهين عذابي.
عاد الشابان من الجزيرة في اليوم التالي ولم يتسن لهما سوى تناول غذاء سريع في المطار قبل عودة بيرت الى انكلترا. ودعها معانقا دون كلام لانه قال كل مالديه البارحة، فترك لعينيه مهمة افهامها كم هو عظيم حبه وكم هي عميقه عاطفته.
انتظرت لين اقلاع الطائرة واختفاءها بين طيات السماء حتى عادت الى الفندق . استلقت على سريرها وعلقها يعيد خلط الاوراق واقامة جرده حساب بما لها وما عليها. كان غياب بيرت عاملا مساعدا للتفكير بهدوء ورويه. لقد اعطاها سلاحا لم تكن تحلم بالوصول اليه عندما اعترف لها بحبه، وصار فريسة سهلة ولقمة سائغه تبطش به متى شاءت.
وينبغي ان تأتي عملية البطش موجعه قدر الامكان لتروي غليلها وتفهم بيرت ان عمله لم يمر دون عقاب، عقاب قاس جدا. ولا شك في ان الانتقام سيكون له وقع شديد بعد وقوعه في غرامها حتى اذنيه.
خرجت لين لتناول العشاء في احد المطاعم وجلست الى طاولة بقرب مجموعه من الشيوخ جلسوا يتحدثون عن ذكرياتهم في معتقل شانغي الذي اسر فيه اليابانيون جميع الاوربيين الموجودين في سغافورة ابان الحرب العالمية الثانية. وروى احدهم كيف نجا من الموت عندما كان في لندن وسقطت بقربه قنبلة اثناء القصف الجوي الالماني للمدينة. واعاد الحديث عن القنابل الى ذاكرة لين كتابا قرأته عن رجل قتلت عروسه بانفجار قنبله في ليلة زفافهما، فأتتها فكرة جديدة تنفذ بها انتقامها بغى عن الهروين وتخلف في قلب بيرت خنجرا يعمل في قلبه تمزيقا طيلة حياته.
وهكذا سددت حسابها المتوجب للفندق بعدما استأجرت شقه قريبة من المدرسة وتركت عنوانها بعد ان شددت ظاهريا على عامل الاستقبال لئلا يعطيه لأحد، وهي تعلم ان قليلا من المال يكفي ليفك الرجل عقدة لسانه ويصرح بالعنوان. وبهذه الطريقه تمتحن مصداقية حب بيرت الذي سيبحث عنها ويجدها لو اراد.
لم تعد لين الى شقتها باكرا في اليوم المقرر لعودة بيرت فذهبت الى السوق ومنه الى السينما لمشاهد احد الافلام الرومانسية. وصحت توقعاتها اذ لما عادت الى البنايه التي تقطن فيها وجدت المصعد متوقفا على الطبقة الرابعه حيث شقتها، وهناك وجدت بيرت في بزة العمل متكئا على الجدار من التعب. رسمت لين على وجهها امارات الخوف والذهول وحاولت العودة الى المصعد لكن بيرت امسك بها بشدة آمرا:
- اعطني المفتاح.
وكا لحمل الوديع نفذت لين الامر،ففتح بيرت باب الشقه ودفعها الى الداخل ثم اقفله وانفجر غاضبا:
- لماذا غادرت الفندق؟ جن جنوني عندما اتصلت منذ خمسة ايام وابلغوني انك تركت الغرفه.
وضعت لين الاكياس التي تحملها على طاولة صغيرة وسألت:
- كيف عثرت علي؟
- رشوت عامل الاستقبال بعد ان هددته بأوخم العواقب اذا استمر بالكتمان فاذعن واعطاني العنوان.
اظهرت لين ما امكنها من عدم اكتراث فبدأت باخراج ما اشترته من الاكياس غير ان بيرت الثائر لم يكن ليحتمل ذلك فصاح بها:
- لقد سألتك عن سبب مغادرتك الفندق!
تعمدت لين فضح كذبها فقالت:
- غادرته لان البدال مرتفع للغاية.
دفعها الى الجدار قائلا بنبرة مزمجرة:
- لا تكذبي! انما حاولت التهرب مني، اليس كذلك؟
صمت لين اذنيها واجابت:
- اصبت . لقد هربت لأني لا اريد الزواج منك ولا اريد رؤيتك بعد الان!
خبت ثورته فجأة وقال بصوت خافت:
- اهكذا تديرين ظهرك وتمشين دون كلمة وداع؟ الا تأبهين بمشاعري بعد الذي قلته لك في المره السابقه؟
سدد بيرت لطمة الى الجدار قرب رأسها فوثيت جانبا خوفا من ان تكون الثانية من نصيبها. واستعملت قدرتها التمثيلية لتجعل صوتها يرتجف وتقول:
- حاول تفهم عملي يا بيرت . اردت ان اقطع العلاقة بهدوء حتى لا اعقد الامور على كلينا. ظننت ان الانسحاب المفاجئ هو افضل السبل لذلك.
اطرقت لين تحدق في ارض الغرفه بانتظار خطوته التالية التي لم تتأخر،اذ دنا منها ووضع يديه المرتجفتين على كتفيها سائلا:
- لماذا لا تتزوجين مني؟
- لسبب جوهري.
- الانك لا تحبينني؟
اجابت باقتضاب وجزم
- ارفض الزواج منك ، لا اكثر ولا اقل .
ادرك بيرت ان الامل ما زال موجودا كونها لم تنكر انها تحبه فاقترح:
- لماذا لا نجلس ونبحث المسألة بهدوء؟
- لا مجال لأي بحث. ارحل عني ولا تدعني اراك بعد الان ماشاها بيرت محاولا كسب الوقت اذ قال:
- سأرحل ولكن بعد ان تقدمي لي فنجان شاي على الاقل. الا تقضي بذلك اصول اللياقه؟
- اسفه لم انتبه لأصول اللياقه.
- اذا كنت جائعه حضري عشاءك ولاتدعي وجودي يؤخرك.
حملت لين الاكياس الى المطبخ ثم عادت وسألته:
- كم مضى عليك في انتظاري؟
- ثلاث ساعات
- لابد انك تشعر بالجوع اذن. هل تتناول الطعام معي؟
اجاب بيرت محاولا اخفاء فرحه لكسب هذه الجولة:
- ولم لا؟
خلال السهرة تابعت لين تمثيل دور الرافضة باجادة فحاولت صرفه باكرا بميوعه ليبقى،وابدت مقاومة ضعيفه لاقتراحه البقاء صديقين "فاقتنعت"بذلك
غادر بيرت الشقه في حوالي منتصف الليل بعد ان اطمأن الى احرازه تقدما ما ، ولين مسرورة بهذه المناورة الاستدراجيه الجديدة التي ستجعله يسعى اليها بعنف اكبر. وهي ستتابع الخروج معه كصديقين وترفض عروض الزواج حتى تجد ان الوقت قد حان لقطاف ثمرة الثأر.
بعد اسبوع ، اي بعد عودة بيرت من بالي، اصطحبها الى فندق الهيلتون لتناول العشاء. بعد فراغها من تناول الطعام قامت لين لتغسل يديها، ولدى عودتها الى المائدة اصطدمت بمجموعه من رجال الاعمال الذين يمضون معظم اوقاتهم في دول الشرق الاقصى فيشتاقون الى الشقراوات مثيلاتها. قال احدهم:
- يالهذا الجمال الاخاذ!
وتابع آخر:
- واخيرا وجدنا شقراء وسط سمراوات هذه البلاد. انها جوهرة تشع في الظلام.
وقف ثالث واقترح مبتسما:
- لماذا لا تنضمين الى مائدتنا ياحلوتي فنقدم لك العشاء مقابل خدماتك الممتعة؟
حاولت لين المرور لكنهم صدوا طريقها وطوق احدهم خصرها قائلا:
|