كاتب الموضوع :
Rehana
المنتدى :
روايات احلام المكتوبة
11ـ المــــــــــــــــاضي مات...
أيقظ زمور الجيب هولي في الصباح التالي.. في الليلة الماضية نامت مع فيلكس في غرفته وكانا منشغلين ببعضهما بعضاً أكثر من أنشغالهما بضبط ساعة المنبه. سمعت فيلكس يتمتم شيئاً من بين أنفاسه، ثم التفت ذراعه حول خصرها ليشدها إلى الخلف نحوه، ومضت أكثر من ساعة فبل أن تتذكر هولي زمور الجيب.
ستلقى فيلكس فوق السرير استلقاء من تخلى عن كل الهموم و الأفكار.. حاولت هولي أن توقظه بتمرير أصابعها على صدره.
ـ سائقك منتظر منذ مدة، فيلكس.
ـ همم.. هذا الصباح، سأطيل النوم. أعتقد أنني متعب جداً.
ـ ألا تشعر بالذنب؟
ـ أحياناً من المفيد أن يكون المرء هو الرئيس.
ـ كل من في المزرعة سيعرف ما الذي أخرك، وماكنت تفعل.
ـ أجل.
لم يظهر عليه أي تأثر. ولم تستطع هولي إلا أن تضحك ضحكة، وجدها فيلكس على مايبدو استفزازية.. وكان على السائق أن ينتظر وقتاً أطول.
فقط، بعد ذهاب فيلكس، دفعت هولي نفسها للنهوض.. فعليها العمل من أجل ترتيب مسألة الماشية مرة أخرى.. ولكنها فكرت أن عليها أيضاً المضي بخطتها للعودة إلى المكان الذي رسمه أبوها والبقاء هناك ليلة. وليس هناك ماتريد فعله أكثر من هذا. لم يكن جوني وغيرليش، متحمسين كثيراً على التخييم ليلاً. لكن هولي أصرّت: سأصطحب معي الصغيرين رودي و آنغر اللذان سيعتنيان بي. لقد سافرت كثيراً، ورأيت أنحاء كثيرة من العالم.. بما فيها كيمبرلي.. وأنا معتادة على نفسي.. ولن تحدث أية متاعب، لذا لا تقلقا عليّ.
وابتسمت لهما بثقة. بعد الغداء انطلقت هولي والولدين فوق جيادهم وكانت أغراض التخييم قد وضعت فوق الجواد خاص رافقهم.. كانت معنويات الولدين عالية إذ أخذا يسليانها ويدلانها على كل السهول، وعلى الحياة البرية التي شاهداها.. وفيما كانوا يتوغلون أكثر فأكثر نحو سهل التبن الذي رسمه والدها، كان الحزن قد غمر نفس هولي، ولم تعد تستطيع الإصغاء جيداً . وأحس الولدان أن مزاجها تغير، فأخذا يتحدثان معاً فيما بينهما حتى وصلوا إلى حفرة ماء نصح الولدان هولي بأنها أفضل مكان للتخييم. ترجلوا، وأعطت زمام جوادها إلى آنغر، وقالت بثبات: أريد التنزه سيراً على الأقدام وحدي.. ابقيا هنا لإقامة المخيم.
ـ بكل تأكيد" آنسة" هولي. سنعتني بكل شيء.
تركتهما هولي ليفعلا ما أمرتهما به، وسارت ببطء نحو شجرة"باوباب" عملاقة كانت بارزة في اللوحة التي رسمها والدها. كان جذعها الغريب الشبيه بالزجاجة وأطرافها الملتوية في قمتها تبدو كمخالب تتشبت بالسماء بشوق معذب.. ترى ماذا كان عليه شعور والدها؟ هل أحب زوجة آخر حباً كان يمزق روحه؟ أم أحس بحب عميق لهذه الأرض؟
صاحت تقول بصمت لسلسلة تلال الصخور الرملية: أخبريني شيئاً عنه.. مررت يدها حول جذع شجرة" الباوباب" تضغط ظهرها إليها.. نظرت إلى الجبال العتيقة التي وقفت ثابتة.. ولم تجد صعوبة في التعرف إلى الطبقة البارزة التي اندمجت مع وجه دونا..لكنه تذكر ابنته.. وتكلم عنها مع دونا.. وترك لها هذا.. أسطورة الحب والألم.. وخز الدمع عينيها، فانزلقت على جذع الشجرة وجلست عند قاعدتها، وقد أحست فجأة بالتعب والسقم في أعماق قلبها.. لقد مضت سنوات محرومة من حب والدها ولو عرفا بعضهما لربما كانا مقربين.
ترقرقت الدموع في مآقيها وهطلت على خديها، ولم تحاول منعها.. منذ زمن وزمن وهي تخوض المعارك بمفردها مكتفية بذاتها.. لكن مازال في داخلها طفلة تبكي لمن يريدها ويحبها، مهما كانت وكيفما بدت.. إنها تريد الانتماء لشخص ما بكل بساطة، دون سؤال أو تحفظ.. لماذا مات والدها قبل أن تسمع عنه شيئاً؟ أما كان بإمكانه أن يكتب لها رسالة قبل موته؟ أما كان بإمكانه..؟
ضرب صوت محرك هليكوبتر قلبها المثقل.. وصرخ عقلها احتاجاً على ما يعنيه الصوت.. وسعى إلى تفسير السبب ففكرت أن فيلكس ربما يجمع الماشية في مكان بعيد عن هنا ولعل الصدفة هي التي جعلته يمر من هنا.. فهو لا يحتاج إليها إلى هذا الحد.. ولن يأتي من أجلها بتأكيد.. ليس للمرة الثانية في أقل من يوم.
ازداد توتر أعصابها المشحونة فقد اقترب الصوت ثم توقف..آه.. الطائرة إذن ربما قرب بركة حيث يقيم الولدان المخيم. وهذا يعني أنه سيأتي باحثاً عنها إن لم تسارع هي إلى ملاقاته.. لاشك أنه ذهب إلى المنزل وعرف أين هي .. وما إن عرف.. الله وحده يعرف بما فكر أو يفكر فيها.. أتراه أساء الظن بها؟.. فهذا موقع اللوحة.
لم تكن هولي ببساطة مستعدة للقتال في هذه اللحظات فهي في فوضى كاملة: وجهها ملطخ بالدموع ومشاعرها مشتتة.. فكيف السبيل للتعامل مع فيلكس وهي غير قادرة على السيطرة على نفسها؟ قد ترحب به في أي مكان وزمان غير هذا.. فهذه مسألة خاصة بالنسبة لها ولن يفهمها.. لن يتعاطف معها.. لن يتعاطف أبداً.. ألم يقتل أبوها أباه؟.. كيف ستشرح له الأمر؟ شعرت باليأس ولكن عليها تدبر طريقة ما.. لم يترك لها فيلكس خياراً آخر.. دفعت نفسها للوقوف واستندت إلى جذع الشجرة تمسح وجهها بكم قميصها، بعد ذلك سحبت عدة أنفاس عميقة في محاولة يائسة لتسيطر على نفسها. ثم خطت بضع خطوات حول جذع الشجرة لتستطيع إلقاء نظرة على المخيم. رأت فيلكس يقطع المسافة نحوها بخطوات طويلة رشيقة. كانت الشمس الغاربة تشع على شعره لتجعله ذهبياً.. توقف على بعد خطوات منها.. بدا وجهه القاسي، وجه المحارب، كوجه قُدّ من حجر.. العينان الخضراوان حدقتا إليها بتساؤل ومرارة، والتوتر ينضح منه بشدة كادت تخنقها.
سألها بقسوة:" ماذا تفعلين هنا هولي؟ ألم نتفق على ترك الماضي وشأنه؟".
قالت وهي تحاول التخفيف من حدة الاتهام المرير في العينين الخضراوان : لن أنبشه فيلكس.
لم يصدق :" هولي ؟".
أمسك ذراعها وأدارها لتنظر إليه. فصاحت: لاأستطيع منع مشاعري بشأن هذا وأنا لا أسبب الضرر لأحد، أو لأي شيء! أعرف أن لا سبب يدعوك للاهتمام به..لكنه أبي.. وهذا..هذا كل مابقي لي منه.
لم تعد قادرة على إيقاف الدموع التي اتخذت طريقها من جديد إلى وجنتيها.. وعضت شفتها تهز برأسها. لكن بدا كأن كل مشاعر طفولتها المكبوتة تسعى إلى مخرج تتفجرمنه، وبقيت الدموع تتدحرج: هولي..
لم تسمح لها عيناها المغرورقتان بالدموع برؤية التعبير الذي لاح على وجهه.. ولكن نبرة الاهتمام والقلق في صوته ساعدا أكثر على انهيارها.
شهقت قائلة:" أرجوك.. أرجوك.. دعني فقط..".
أحاطتها ذراعاه اللتان لم تدر ما إذا كانتا ودودتين أم لا ولم تهتم، فقد شُدت بحزم إلى فردوس دافئ من القوة والدعم الثابت كالصخر.. وداعبها بحنان ليهدئ روعها وضمها ضمة من يريد بعث الأمان إلى نفسها.. بطريقة ما لم تقلق من اعتمادها عليه لأنها كانت تشعر بالراحة لمجرد إلقاء رأسها على كتفه العريضة، وتشعر بخده يتحرك برقة على شعرها ، وبذراعيه تلتفان حولها وكأنه لن يتخلى عنها أبداً.
أخيراً انهار كل شيء.. انهارت اللعبة التي لعبتها والخدعة التي حبكتها وانهارت معركة البقاء في القمة فوق رأسها.. وأصبح كل شيء خالياً من أي معنى.. إنها تريد الحقيقة وتتوق إليها مهما كان الثمن الذي ستدفعه من أجلها.
لم ترفع رأسها :
_فيلكس .. هل كان والدي .. هل كان ملاماً فيما حدث ؟ قلت .. ألمحت .. أتصدق هذا حقاً؟
_لا!
ردّ وكأنه شخص لم يعد قادراً على كبح مشاعره في أعماقه ، وآلمه أن يعترف بها .. مع ذلك ، كانت تطالبه بالاعتراف .. أحست بصدره يتمدد وهو يسحب نفساً عميقاً .. وكان في صوته بحث مؤلم عن الحقيقة حين أضاف ببطء :
_ كيف يستطيع المرء توزيع اللوم ؟ كيف يمكنه تفكيك الخيوط التي أدت إلى المأساة ؟ شبكة
عنكبوت متشابكة من الظروف .. عواطف مشحونة ومشحونة .
تنهد ، وتلاعبت أنفاسه في شعرها ثم نطق بكلمات موزونة مدروسة :
_ قد لايكون والدك ملاماً أكثر مما هو والدي ملام .. لدى بعض النساء القدرة على لوي روح الرجال .. وأمي واحدة منهن .. حتى جاك .. المسكين تركته يجوع للفتات الذي كانت تعطيه إياه
.. وما زالت حتى الآن تعطيه إياه .. ولكم أكره رؤية هذا ! لقد كرهت ما تفعل يومذاك لكنني كنت مجرد صبي صغير .
مجرد صبي صغير عالق وسط شيء لايفهمه ، أودى إلى موت والده ..
شعرت بالشفقة على الصبي الخائف الذي خسر أباه وعانى من الألم والعذاب .
ورفعت عينيها الكئيبتين الرماديتين إلى عينيه وقالت بتفهم :
_ أنا آسفة حقاً لما حصل لأبيك فيلكس . لاشك أنك كنت على علاقة وطيدة به . الالتواء الخفيف على فمه كان سخرية بنفسه ، وليس بها :
_ كان .. كل شيء أردت أن أكونه . لكن هذا ما كان يراه صبي صغير .. حب أعمى لابن نحو
أبيه .. الذي لم يكن كل ما أرادته أمي .
_ فيلكس ..
ترددت لأنها تدرك أنها تخدش جراحاً قوية :
_ كيف مات ؟ ماذا حدث ؟ لقد ألمحت أن ما حدث لم يكن حادثة .. وأن أبي ...
اعترف بلطف :
_ هولي .. أنا لا أعرف ما حدث .. لقد وقع عراك عنيف بينهما .. وكانت أمي تصرخ .. ثم ركضت وجلبت البندقية .. أظن .. من أجل وقف العراك الدائر .. يومذاك طلبت مني استدعاء
جاك الذي كان قد ابتعد مع بدء العراك .. ثم سمعنا الطلق الناري ، وحين وصلنا كان والدي ميتاً وأمي تنتحب على جسده . كان ايرول واقفاً هناك . ينظر إليهما والبندقية في يده .. سأله جاك ماذا حدث ، فلم يرد . أعطاه البندقية فقط دون شرح ثم وضب حقيبته ورحل في غضون ساعة ومنذ ذلك الحين لم نره .. أما أمي فكانت تصيح وتبكي وتقول إن ما حصل حادثة ...
قالت إنه حدث قتال على البندقية ، وإن الرصاصة انطلقت وحدها .
كشر قليلاً كمن يعتذر :
_ وبما أن ايرول رحل مولياً ظهره لكل شيء .. اعتبرته مذنباً لكن قد تكون الصدمة هي
السبب ، هولي .
كانت تفكر في شيء آخر مختلف تماماً .. ماذا لو كان اصبع دونا هو الذي ضغط على الزناد ؟
في هذه الحالة ، قد لايكون ايرول ما كنافش الفاعل وما رحيله إلا ليحمي المرأة التي يحب . وربما تركته دونا يفعل هذا ، وبسبب هذا ظل ضميرها يعذبها طوال تلك السنوات وحتى الآن .
على أي حال ، ليس هناك ما يرتجى من طرح هذه الفكرة على فيلكس ..
مهما كانت خطايا أمه ، فقد عانت الأمرين بسببها . أما ايرول ماكنافش فقد حمل معه أسراره إلى القبر ، ومن الأفضل للجميع أن تبقى حيث هي . مع ذلك ، لم تستطيع هولي كبت فضولها بشأن أبيها . فرفعت عينيها مجدداً إلى فيلكس برجاء :هلاّ أخبرتني كيف كان أبي! من وجهة نظر صبي.. أو من وجهة نظر أي كان؟
عبس:" تعرفين أكثر مني كيف كان، هولي".
أطلقت تنهيدة عميقة متحشرجة عميقة، فالآن لم تعد تشعر بالأمان بين ذراعيه فجروحها وجروحه كانت عميقة.. أحست بضعف في ساقيها وارتجاف في جسمها، بحيث تراجعت مجدداً
إلى جذع شجرة "الباوباب" لتستند عليها.. إذا كان هناك وقت الظهور الحقيقة وقولها، فهو الآن مهما كانت العواقب: لم أعرفه قط فيلكس..لم أعرفه. ولم أعرف بوجوده إلا بعد موته.. ساعتئذ فقط تلقيت خبراً عنه، وعما تركه لي.
ذكرى الشعور بالغبن والغش والخداع تراءت في عينيها.
ـ كنت كمن يتوق إلى شيء ما دائماً وهذا الشيء كان موجوداً..لكن لم يخبرني أحد أنه في متناولي.. حتى ذهب.
ابتلعت الغصة التي تصاعدت إلى حنجرتها.. كان فيلكس ينظر إليها وكأنه لم يرها من قبل، وأرادته يائسة أن يفهمها.
ـ أترى..لم أنسجم قط مع الحياة التي كانت تعيشها عائلتي في بوسطن.. لم أكن الطفلة التي تريدها أمي.. والرجل الذي ظننته أبي لم يكن لديه الوقت الكافي للأولاد.. وأنا ..لم يكن لدي أي شيء قد يفتخر به في ابنة.. هكذا حين وجدت أنني طوال كل تلك السنوات كان لدي شخص يمكن أن يحبني.. وأن أنتمي إليه.. وأن أكون معه. ليته اتصل فقط، أوجاء ليراني!..
قاطعها:" هولي.. ايرول لم يكن قادراً على المجيء إليك لأنه كان مطوباً للعدالة.. بعد موت أبي، لم يسلم نفسه للقانون.. بل اختفى بكل بساطة.. ولو حاول مغادرة أستراليا لألقي القبض عليه بتهمة القتل، وربما كان لقى حتفه.. وكان هذا سيجر أمي وكل المأساة التعيسة إلى البروز أمام الناس. ولا أظن أنه كان يتحمل رؤيتها مجدداً. وأنا واثق أنه فكر في أنك ستكونين أفضل حالاً من دونه..".
قالت يصوت ملؤه الألم:" أعرف هذا الآن.. وأعتقد أنني كنت أعرف هذا حين انطلقت أفتش عنه وعن حياته التي عاشها .. لقد عاش في بورت دوغلاس، محروماً من أي اتصال إنساني حقيقي. كان منطوياً على نفسه ولم يختلط بامرأة، ثم رأيت تلك اللوحة فعرفت أن شيئاً فظيعاً حدث له.. ولكنني لم أعرف مدى الضرر الذي أصابك أنت فيلكس.. لم أكن أعرف حقاً. أنا آسفة.. أردت فقط..".
قاطعها وهي تبحث عن كلمات مناسبة: أن تأخذي منا ما أخذناه من أبيك.
هزت رأسها عاجزة عن الشرح بالضبط: لا!لايمكن لأحد استرجاع.. ماضاع إلى الأبد. فكرت أنني لو جئت إلى هنا.. لو راقبت غياب الشمس.
دنا فيلكس منها ورفع رأسها إليه فإذا عيناه الخضراوان تتساءلان: أنت حقاً لا تهتمين بالمال.. أو الألماس.. وليس هذا سبب زواجك بي؟
ـ لا.. ليس هذا هو السبب. أردت أشياء أخرى فيلكس. أشياء طالما بحثت عنها.. أعتقد أنني كنت أبحث عن مكان ما.. مكان ما يكون لي..مكان أعرف أني مرغوبة فيه.. إنني بحاجة أن أكون مرغوبة وأن أنتمي إلى مكان ما.
سألها بهدوء: وهل هذا هو المكان الذي تريدينه هولي؟
ـ أعتقد.. أنه أقرب ما أستطيع الوصول إلى ماأريد.
تلمس بلطف خصلات الشعر الشاردة وأرجعها إلى الوراء بعيداً عن وجهها.. كان في عينيه نظرة غريبة: ربما كان جاك مصيباً.. وهذا هو الحل.
هز رأسه قليلاً، وأصبح وجهه أكثر تصميماً.. وعندما تكلم جاء صوته عميقاً صريحاً متعاطفاً: والدك هو الذي وجد فتحة البركان التي تحتوي على الألماس هولي.. وأنا أرى أن لك كل الحق بحصة.. حصة والدك في الواقع. ولكننا لم نستطع أن نجده أبداً.. ولو فتشنا عنه جيداً ولو أراد هو إيجادنا لعرف أين نحن.. لكنه لم يحاول، واعتقدنا.. فكرنا أن نترك الماضي وشأنه.. وبدا لنا هذا الشيء الوحيد الممكن فعله.. لكنني لم أتوقع أن تكون له ابنة.. وكيف لي أن أتوقع؟ ابنة لم أكن أعرف شيئاً عنها.
مرر إبهامه برقة على خدها.
ـ لا تنفكين عن إدهاشي. ظننتك بدون أحاسيس وظننت أنك لا تسعين إلاللانتقام.. أما الآن، فعلي أن أعيد النظر.. أن أعترف أن نظرتي لم تكن صائبة.
اعتمر الإحساس بالذنب داخل هولي.. بالتأكيد، هذا ماكان يجب أن يبدو له.. نظراً للطريقة التي مارستها..والواقع أنها لم تدر ماذا كانت تفعل حتى فات الوقت.
ـ أنا آسفة، إذا كان ما فعلته...
قاطعها برقة:" أنت تحملين عبئك هولي.. وأنا أحمل عبئي".
محا تعاطفه الارتباك الذي تجمع في ذهنها.. الحاجة التي دفعتها للمجيء إلى هنا طالبتها مرة أخرى بالردود فسألت: أرجوك، إن كنت لا تمانع كثيراً.. هلا قلت لي كيف كان أبي؟
ـ من وجهة نظر صبي؟
ـ أجل..أي شيء.
ـ كان يقص علينا القصص.. كان ودوداً على الدوام. ولقد أحببناه. وأظنك كنت ستحبينه أيضاً.
نظرت إلى عينيه لترى ما إذا كان يكذب، ثم أدركت أن هذا لايهم .
فقالت بصوت أجش: شكراًلك.. أنت كريم الأخلاق لأنك قلت لي هذا وأنا ممتنة لك.
قال بصوت متجهم: يحق لك بهذا.. أنا عشت على الأقل بضع سنوات مع أبي.
ابتعد عنها.. ثم توقف ينظر إلى الجبال التي رسمها والدها: لولا أمي.. لكان والدك ووالدي صديقين مدى الحياة. كانا يحبان بعضهما بعضاً .. وهذه المحبة هي التي زادت الأمور سوءاً ، فقد جعلت الغضب أشد بكثير. أفهم كل هذا الآن.. ولم أكن أفهمه يومذاك.
حملت رنة صوته مشاعر الألم.. فاندفعت هولي بشكل لا إرادي إليه فلمست ذراعه بتعاطف واهتمام: لم أرد إحياء كل الذكريات فيلكس.
عندما نظر إليها.. رأت في عينيه الوحدة والألم اللذان عانت منهما منذ زمن بعيد. ارتفعت ذراعه تلتف على كتفيها، يجذبها نحوه.
ـ لقد جئت من الناحية الأخرى من العالم، لتشاهدي هذا الغروب هولي.. فانظري الآن.. لقد بدأ.
أحست أنها على مايرام.. برفقة رائعة.. تراقب الغروب معه.. تشاركه. لأول مرة لم يبدُ أن بينهما حواجز.. إنهما شخص واحد.. اتحدا أخيراً .. ربما هناك شيء جديد يبدأ بينهما، وأملت هولي بهذا بشدة.
عندما أخذت الشمس تتوارى خلف الجبال، اشتعلت السماء كشراع ملتهب.. وما إن غاب هذا حتى تسللت الظلالة البنفسجية القاتمة فوق الأرض. وقلب انعكاس اللهيب المتوارى السماء إلى ألوان زرقاء ووردية.. وكان المنظر مهيباً.. نار وثلج.. حب مشبوب وما يتبعه من برد.. واستطاعت أن تفهم لماذا رسم لوحته كما رسمها.. وتمنت أن يرقد الآن بسلام.
عندما أدارها فيلكس نحو المخيم كانت قانعة بالذهاب وبوضع الماضي وراء ظهرها أما فيلكس فلم يتركها حتى جلسا معاً يأكلان ما حضره لهما الولدان من طعام. أضاء القمر المهيب السماء فبدت الأرض مختلفة وكأن فيها مئات الأشباح .. أحست هولي بالبهجة لانتهاء وجبة الطعام، ودعاها فيلكس إلى مشاركته كيس النوم.. وهذا كان شيئاً مختلفاً كذلك. فهو لم يحاول التحرش بها، بل ضمها إليه بشدة وكأنها طفلة تحتاج إلى الراحة والمواساة.
تمتمت:" أنا مسرورة لأنك جئت .. ولكنني لم أعتقد أنك عائد قبل الفد".
ـ لقد أنهيت كل ماهو مطلوب مني، والرجال يعرفون أن لدي عروساً جديدة لها الأولوية على أية مساعدة أقدمها لهم.. فكان أن وافقتهم الرأي.
انضمت إليه أكثر، ومرر خده على شعرها بحنان، فسألت: ألم تعد غاضباً لأنني تزوجتك؟
لم يبدُ في صوته الكثير من الشك فيما كان يقول: قد ينتج عن هذا شيء جيد.. وإذا جمعت الوقائع بشكل صحيح فأنا الذي تزوجتك..أنا من طلب يدك.. وأنت قبلت.
ابتسمت لنفسها: لقد قومتك، حسب حجمك، بعيني أولاً.
بدا المرح في صوته: وأنا قومتك فيما بعد إذن؟
ـ عظيم..عظيم جداً.
اشتدت ذراعه حولها ثم استرخت ببطء ومد يده يعبث بشعرها: أنا مسرور لمجيئي إلى هنا الليلة..لأكون معك. شيء غريب.. لكنني أشعر أنني على مايرام مع كل شيء.. حتى مع نفسي.
تنهدت: أجل.
أحست بدفء رائع، وبتوهج رضا لأن الأمر انتهى على هذا. لم تقل المزيد، ولم تكسر هولي الصمت مرة أخرى كذلك. أخيراً نامت على وقع خفقات قلبه الرتيبة.
يتبـــــــــــــــــــع
|