المنتدى :
الادباء والكتاب العرب
سمر المقرن , نساء المنكر , 2008
منقول .والشكر للاخ الثائر
صدرت مطلع العام الحالي رواية "نساء المنكر" للصحافية السعودية سمر المقرن، وهذه الكتابة، محاولة أضيفها لمجموعة محاولاتي السابقة لاستقراء المشهد الروائي المحلي، بما بات اقرب إلى مشروع لم اخطط له.
وحيث أن الرواية عموماً عمل إبداعي لا يجوز اختصاره، فإني لن أعيد إنتاج الرواية هنا، وإنما أوضح لمن لم يطلع عليها، أن الخط الرئيس للعمل قائم على قصة حب تجمع امرأة سعودية متزوجة، مع رجل كان عشيقاً لصديقتها، وتولد القصة عبر الماسنجر والهاتف، وتتحول إلى قصة كاملة في لندن، قبل أن تؤدي رغبة العاشقين باستكمال القصة في الرياض إلى إيداعهما السجن، ولاحقاً يتخلى الحبيب عن محبوبته نهائياً.
وبمحاذاة هذا الخط يرد حديث عابر لرفيقات السجن بموجز لقصصهن، وموجز –آخر- سريع لحكاية صديقة البطلة التي خاضت تجربة الزواج التقليدي، وانتهت إلى الخيبة.
وبقطع النظر هنا عن تسجيل مواقف أخلاقية، تنشطر إلى التبجيل، والمعارضة، أو خوض جدل فكري يستحضر التراث، والحاضر، والآخر، بمختلف تشكيلاتهم الزمانية، والمكانية، ويمزج السياسة والفقه الديني بعلم الاجتماع، فإن من المهم التأكيد على أن هذه الصيغة التي اتخذتها الحكاية الرئيسة، ورديفاتها، مكررة إلى حد الملل، وبالإمكان استعادة الكثير من الروايات، والأفلام، والأغاني، العربية، والعالمية، التي حكت هذه الحكايات، ومن مختلف الزوايا، لن يتطلب الأمر أكثر من تغيير تفصيل هنا، أو هناك، للوصول إلى نفس الحكاية.
بالإضافة إلى تركيبة الأحداث هذه، شحنت المؤلفة عملها بنبرة خطابية ظاهرة للدفاع عن "حقوق المرأة"، ومرة ثانية، بعيداً عن ولوج جدل سياسي شائك الأسئلة حول ما يحق للمرأة، وما لا يحق لها، أو حول موقع حقوق المرأة على سلم الأولوية، أو من يملك الحق في تحديد ما ينبغي على السعوديين والسعوديات فعله وتركه، أقول بعيداً عن كل ذلك فإن القضية مهما كانت، عظيمة أو تافهة، لا يصح عندي –على الأقل- اعتبارها ضمن عملية نقدية جادة لعمل أدبي، بل الحال أن يقيم العمل الأدبي بمعايير فنية، وفنية فقط.
-2-
اختارت المؤلفة أسلوب الترجمة الذاتية، الذي يعني أن يكون الروائي هو البطل، وهو أسلوب يعيبه من الناحية الفنية غياب المسافة بين الروائية والبطلة، بما يجعلنا –نحن القراء- أسرى تقديرات البطلة، التي تخبرنا بالأحداث كما رأتها، أو كما فهمتها، ونحن أما أن نقبل بالأمر كما هو، أو أن نضمر أسئلة لا جواب لها، وهو ما سينتج أن يكون القارئ على مسافة ظاهرة عن النص، وسيحول هذا الوضع، وبصفة تلقائية، دون التعاطف مع البطلة، فالتعاطف المتاح هنا هو تعاطف مع القضية، وهي في كل الأحوال قضية سابقة على الرواية.
وكل هذا لا يمنع من القول إن أسلوب الترجمة الذاتية هو أسلوب مقبول، ومعتبر، لدى النقّاد، إلا أنني أرى أهمية توظيفه في سياق يقتضى ذلك، وهو ما لم اقتنع بتوفره في "نساء المنكر"، إذ أن العمل يحاول النفوذ إلى مشهد معقّد، للتماس مع قضايا شائكة، وملتبسة، تحتمل من الآراء والأفكار والمشاعر ما يتعذر حصره في شخصية واحدة، بالغة الحماس لرأيها، وعظيمة الاعتزاز بتجربتها.
ومن هنا تحديداً يمكن الانتقال بيسر إلى تواضع عنصر العاطفة في النص، والعاطفة في العمل الفني عنصر أساس، وغيابه مبرر للحكم -لدى بعض النقّاد على الأقل- باستبعاد العمل من الدائرة الفنية، وعاطفة العمل الفني يقصد بها قدرته على النفوذ إلى عمق الإحساس الإنساني، وملامسة مناطق أبعد من مستوى الوعي العقلي المباشر، بحيث يشعر القارئ أن هذا العمل يعبر عنه، ويتقاطع مع تجربته الشعورية، ولا أقول عن واقعه ومعاشه، وحين يغدو العمل الفني والحالة هذه معبراً عن المتلقي، يتعاطف الأخير مع العمل الفني، تعاطفاً مع نفسه، أكثر مما هو تعاطف مع المبدع، وهذا ما يحدث لك –غالباً- حين تتلقى عملاً إبداعياً جيداً، سواء شاهدته فيلماً سينمائياً، أو استمعت إليه أغنية، أو قرأته قصيدة، أو قصة.
وفي "نساء المنكر" ستجد نفسك أمام ممارسة إعلامية تسعى، لفرط دعائيتها، إلى إثارة تعاطفك مع ما تصوره الكاتبة من مشاهد تعدي وظلم على المرأة، وفي العمل الإعلامي تختلف المقاييس، إذ تصبح إثارة التعاطف مجرد عملية تعبوية ممجوجة، ولذات السبب، أي العدول عن الأدبي إلى الإعلامي، ستجد نفسك تتسائل في غير موضع من الكتاب عن مدى دقة المعلومة الواردة، وهو سؤال لا يفترض أن يخطر في ذهن قارئ الرواية مطلقاً، إلا أن الواقع المؤسف، هو أنك ستجد هذه الحالة تتكرر كثيراً في أغلب الروايات "المفترضة" مؤخراً، الصادرة عن مؤلفين سعوديين.
فبسبب هذا العدول ستجد انك أمام نص إعلامي ينقل الواقع، أو على الأقل يدعيّ ذلك، وهو ما يستلزم التعاطي معه على هذا الأساس، وهنا سيحل سؤال الموضوعية محل سؤال العاطفة، وستحضر مقاييس المصداقية بديلة لمقاييس الخيال، وستغدو ممارسة الجرأة أهم من ممارسة الابتكار الفني، وستصبح اللغة الواضحة أعلى قيمة من اللغة الموحية، وستكون نشوة تجاوز الخط الأحمر مفضلةً على أي نشوة فنية، وفي المحصلة ستختلط المعايير على نحو فوضوي، وسيبقى الخاسر الأكبر هو العمل الفني الجيد، والمتذوق له.
وللقارئ أن يتسائل بعد قراءة النص إلى أي مدى كانت صورة هيئة الأمر بالمعروف –مثلاً- الواردة في الراوية، صورة دقيقة، والى أي درجة قضية البطلة هي قضية عادلة، وبإمكانه أن يخوض جدلاً صاخباً حول حق المرأة في تقرير مصيرها، وحول الحد الفاصل بين الفرد والجماعة في مجتمع لم يعتد على مناقشة هذه المسألة، ولكن الجواب الأهم -فنياً- سيكون أن هذه المباشرة، ونقل الواقع، بعدالة أو انحياز –لا فرق-، أدت إلى إعدام فرص التخييل في مجمل الكتابة، وهو عنصر فني ثالث –بعد الأسلوب والعاطفة- يعاني من العطب في هذا الكتاب، الذي حاولت مؤلفته أن يكون رواية.
النص إذن من الناحية الفنية، يفتقر إلى ابسط الاعتبارات التي تخول العناية به، أو تدعم افتراض أن ثمة باعث فني لكتابته، وهو في تقديري نموذج صارخ لكتابة الرواية الرديئة، أو لإطلاق وصف الرواية على مقالة وعظية، هي في أحسن الأحوال مكتوبة بأسلوب قصصي، وهي مقالة تراوح بين المباشرة الفجة، والتعبير الساخط عن الغضب، فضلاً عن تعمد إثارة الأسف وإبراز أسباب شعور المؤلفة بالمرارة والغبن، وكل ذلك تم خارجاً، على نحو لا لبس فيه، عن مفهوم الإيحاء، الذي أراه مركزياً، وضرورياً، للعمل الأدبي.
-3-
على المستوى الفكري يمثل الكتاب صرخة عصبية متوترة في وجه هيئة الأمر بالمعروف، فالكتاب لا يقول عن الهيئة أكثر من أنها جهاز سيء، ووحشي، أفراده يضربون الناس دون سبب، ويهينون الجميع دون مبرر، ويتبعون أساليب ليست أخلاقية بدعوى حماية الأخلاق، ويمكن أن تضيف إلى هذا ما شئت من النعوت السلبية ولا حرج، وهو ما يعيد إلى ذاكرتي صرخة موازية، ولكن في الاتجاه المعاكس، حين نشر محمد الحضيف كتابه "نقطة تفتيش"، الذي ظن بدوره انه رواية، فقد قال ذلك الكتاب أن الصحافة في السعودية تضم الساقطين أخلاقياً، المحاربين للدين والفضيلة، وان كل جهدهم هو لخدمة الرذيلة، بأوسع معانيها.
وكل ما يصدره الكتابان -في رأيي-، مجرد خطاب عاطفي احتجاجي، متشنج ومرتبك، تجاه من يعتقد صاحب الكتاب انه قام بإقصائه، إذ يقوم الخطاب على تصور متناهي في سذاجته، يخلص إلى حالة فرز بدائية بين معسكرين للخير الخالص، والشر التام، لتكون المعركة الكبرى بين ملائكة وشياطين، لا علاقة لها لا بالبشر، ولا بدنياهم، وبطبيعة الحال فإن البطل/الكاتب هو احد الملائكة التي تخوض حرباً مقدسة ضد الشياطين، وما لم يكن القارئ ساذجاً إلى الحد الذي يقبل فيه هذا التصور، فإنه لن يجد في الكتاب شيئاً يستحق القراءة.
والمشكلة الأساسية هنا، أي على المستوى الفكري، ليست في موقف المؤلف، بل هي في قصوره عن تفسير الموقف المتعنت المقابل للبطل، فمؤسسة الهيئة في الكتاب الأول، ومؤسسة الصحافة في الكتاب الثاني، هي مؤسسة شريرة، ومتآمرة، وتسعى لتحطيم البطل، وإحباط مشروعه الإنساني العظيم، وهي كذلك لأنها كذلك وحسب.
الأمر الذي يجعلني أتحقق من أن كتابة رواية جيدة، يتطلب موهبة عالية، ووعياً موازياً، ومتى توفر روائيون على هذا المستوى فيمكن لنا أن ننتظر عملاً فنياً راقياً، يستطيع أن يحمل المتعة والتشويق، وان يفي بشروط العمل الفني، مثلما يسعه –متى أراد المؤلف- حمل النقد الجاد والواعي دون إهدار القيمة الفنية، بما يمنع تحويل الرواية الجيدة إلى خطبة رديئة.
عودة للأعلى الرابط
|