هذا الفصل كتبته العزيزه ((ورده قايين ))
الفصل الثالث
بينما يتحول زورق صغير الى القناة الضيقة التي تجري
بجانب القصر , ليرسو في المرسى الصغير ,
وبينما كانت تفتنها الأشجار المشرفة عليه ومنظر سلال
الزهر المتدلية من حاجز الشرفة , توقعت كاتيا ان تجد مكانا تستطيع
فيه ان تستنشق الهواء النقي , وتنسى مؤقتا حالة اليأس التي تثقل كاهلها . ولكن
الواقع تجاوز كل توقعاتها, فوجدت ضالتها المنشودة اذ ان الأنوار التي وضعت بين
أغصان الأشجار لم تكن تكشف الذي كانت تنشده فقط , بل كشف الزوايا حيث كانت دوالي العنب تزحف
على شبكات العرائش والأشجار المنتصبة حيث يمتزج حفيفها بنسيم
الليل فينعش النفس .
ولفت انتباهها حاجز ابيض من الحجر يشرف على القناة
الكبيرة , وقد التوى بشكل مقعد مغطى بحشية وثيرة . وجالت كاتيا بأنظارها في تلك النجوم التي ترصع ظلمة الليل,
بينما هي راكعة على الحشية الناعمة , وقد ابتعدت بذهنها, مؤقتا
عن كل متاعبها. وكانت الأنوار المنبعثة من الفندق القريب تكشف صف
الزوارق المربوطة الى مركزها المخطط باللونين الأحمر والأسود . وكانت
المصابيح فيها تتألق بينما هي تتأرجح فوق المياة بخفة . وبعيدا على الضفة الأخرى
كان في أستطاعتها ان ترى هياكل سوداء لأقبية تعود الى كنيسة " سانتا ماريا " التي يرجع
تاريخ بنائها الى القرن السابع عشر حين أقيمت , احتفالا بذكرى زوال وباء الطاعون من المدينة.
تثاءبت فجأة . فرفعت يدها تغطي فمها براحتها برغم
عدم وجود من يشاهدها . لقد مضت ثماني عشرة ساعة منذ نهضت من فراشها ,ورده قايين .
في الصباح السابق , وذلك في منزل جدها في قريتها سادينغهام. وفكرت بشئ من
العجب في هذا الوقت القصير الذي أصبحت فيه امرأة متزوجة , لتكشف أنها كانت قد خدعت
بكل قسوة ودناءة , ثم تسافر بالطائرة عابرة أوروبا لتضع على وجهها قناعا باسما يخفي غضبها
وما تشعر به من احباط وهي تستقبل المدعوين في حفلة الأستقبال التي اقيمت في قصر زوجها .
كانت دون شك , تروح وتجئ وتتصرف , كل ذلك على
حساب أعصابها . ولكن الآن أذ تغمرها طمأنينة الهدوء الذي تسبح فيه هذه الحديقة الغناء .يتجمع كل التعب الذي عانته اثناء مرور تلك الساعات , في هجمة شرسة تجتاح كيانها . ولكنها مالبثت أن رحبت بهذا وهي تفكر في أن التعب يشكل لها عذرا معقولا للتخلص من ليلة الحب تلك مع نيكولو . ذلك أنه لن يعجبه ان يأخذ الى مخدعه امرأة مرهقة .
ودعت الله ان يساعدها فلا يجعل نيكولو يصر على استيفاء حقوقه من امرأة شبه نائمه , مهما كانت نوعيته الأخلاقيه.
" أوه , ياللمصادفة الحسنة , ها أنت ذي تستمتعين بنسيم الليل وحدك " يا ماركيزة "..
كان صوتا رجاليا رقيقا انطلق فجأة من خلف كاتيا هبت هذه واقفة على قدميها من قوة المفاجأة وقد قطبت جبينها وهي تستدير على أعقابها وقد استبدت بها الدهشة .
كيف حدث واكتشف هذا مكانها؟
استطرد المتكلم :" أسمحي لي بتقديم نفسي . أنني
" سيزار برونيللي " وفي خدمتك يا ماركيزة ."
كان فتى وسيما في أواخر العشرينات من عمره , لايزيدها كثيرا في الطول , ذا شفتين رقيقتين وعيني قرد تلمعان بسخرية . وكان يبدو حسن الهندام في بذلة السهرة الأنيقة .
حملت كاتيا نفسها على مد يدها الى يده الممدوده اليها وهي تقول :" اني مسرورة بمقابلتك يا سنيور برونيللي "لاح على شفتيها طيف ابتسامة حين رفع يدها الى شفتيه يطبع عليها قبلة بكل تهذيب .
قالت :" أظنك اخطأت في معرفتي . انني زوجة نيكولو كاشياتور ولست ماركيزة ."
هز رأسه موافقا على كلامها دون أن يبدو عليه الأقرار بالخطأ وهو يقول :" كاترينا كاشياتور , ربما كانت الطريقة التي تحدثت بها اليك سابقة لأوانها . ولكن أذا حدث في ما بعد وأسأت اليك في أظهار توقعاتي بالنسبة الى المستقبل
فأنني عند ذاك , أقدم اعتذاري ."
قالت :" انني لست مستاءة ولكنني مستغربة "
كان ذهنها في تلك الأثناء , يعمل جاهدا لفهم ما قد سمعته الآن. قد يبدو اعتذاره بريئا , ولكن كان ثمة شئ ما في تصرفات ذلك الشاب . شئ هو الحذر ممزوج بالرغبة في تداول الحديث . وما لبث التقطب أن عاد الى جبينها وهي تقول " أتريد أن تخبرني أن نيكولو في الطريق الى أن يرث لقب " الماركيز " ؟"
ارتفع حاجبا الشاب بدهشة وهو يقول " كاشياتور ؟ طبعا لا . ان نيكولو كاشياتور هو سليل أسرة من الفلاحين قد عاش أجداده بعرق جبينهم وراء قطعان الماشية فوق تلال " كالابريا" وبدت في صوته نبرة ساخرة بعثت الأحمرار الى وجهها . فقالت بحدة :" أذا كان الامر كذلك فأن انجازات نيكولو تستحق اكثر من مجرد الأستحسان ."ورده __قايين_
وعجبت اذ وجدت نفسها تهب الى الدفاع عن نيكولو.
أجاب لاويا شفتيه :" ربما . من ناحية اخرى , فأن والده هجر تلك الحياة مع الماشية ليستغل أمواله في مشاريع أخرى وسرعان ما بدأت أحوال أسرته في التحسن بشكل لا يصدق...كلا ..." وسكت الشاب وهو يجيل انظاره في السماء المظلمة ثم استطرد:" ان أسرة كاشياتور ليست الآن بحاجة الى المال لشراء أي شئ ولكن ما هم بحاجة اليه هو المركز النبيل الذي يتماشى مع ثرائهم .:
شعرت كاتيا في أعماقها باهتمام مفاجئ دفعها للقول :" أراك تحاول أهانة زوجي في منزله .: وحرصت وهي
تقول ذلك على أن لاتظهر اهتمامها بما تقول الى ان ترى ما وراء ذلك مما قد يفيدها.
استطردت :" أنني لا اعرف من أنت."
انحنى قائلا :" سيزار برونيللي . أنني أسامحك لنسيانك هذا , فقد كان اليوم مليئا بالوجوه والأسماء الجديدة بالنسبة اليك . وعلى الرغم من لقبك الموروث فأن اللغة الأيطالية ليست لغتك الأولى . أليس كذلك ؟ ولكن متى كانت الحقيقة أهانة , يا ماركيزة ؟"
أجابت :" منذ قرنتها بتفسيراتك يا سنييور "
توقفت عن الكلام تنتظر الأعتذار الذي لم يحصل . فتابعت تقول :" أظن ان الوقت قد حان للعودة الى الحفلة "
تحركت تهم بالوقوف آملة أن يحثه عدم أظهارها الأهتمام بالموضوع . على الأنطلاق بحديثه. ولكن قبل أن يتابع . انزلق كعبا حذائيها العاليان على المصطبة المصقولة تحتهما مما حملها على الوقوف وهي تعرج بألم .
منتديات ليلاس
قفز سيزار برونيللي حالا الى أمامها يسألها وهو يحاول مساعدتها :" هل أصابك ضرر يا ماركيزة ؟"
قالت :" كلا . شكرا ." وبرغم ما في كلمتها الصغيرة هذه من رفض له فأنه تقدم يمسك ذراعها يساعدها على التقدم , بينما استطردت هي تقول :" أرجوك ان لاتخاطبني مرة أخرى بهذا اللقب السخيف غير المعقول ." وشعرت بيده تضغط على مرفقها مثبتا أياها وهو يقول بلطف :" وبماذا أخاطب , أذن حفيدة الماركيز ؟"
" ماذا قلت ؟ " ولم تمنع معاناة كاتيا ضحكة قصيرة من أن تنطلق من فمها وهي تلقي عليه هذا السؤال , وتابعت :" جدي ماركيز ,لابد انك مجنون او ثمل ."
قال سيزار برونيللي بلطف " انك لاتعلمين . أظن ان نيكولو كاشياتور يريد أن يبقي الأمر سرا الى أن يربطك برباط الزوجية نهائيا . ولكن , كيف استطاع أن يقنع جدك بكتمان الأمر . ولماذا بقيت أنت جاهلة ذلك ؟
فكرت في انها يجب ان تدعه لتخيلاته هذه التي لن تنفعها في شئ وتعود الى الحفلة . ولكن شعورا خفيا سمرها في مكانها لتقول :" لأن كل القضية هي من نسج خيالك ".
قال : كلا , بل هي الحقيقة , ويمكنني ان اقسم على أن انطونيو لورنزو هو دوق " كاستيلون" لقد استغرقت محاولات المحامين الأيطاليين للعثور عليه وقتا طويلا جدا بعد ان توفي المركيز العجوز دون وريث من صلبه وأنما ابن عمه , جدك الذي كان متواريا في قرية صغيرة في انكلترا "
ابتسم كاشفا عن أسنان مثل قطاع الطرق البيضاء وهو يتابع "انطونيو لورنزو هو وارث أمارة دي كاستيلون المفلسة والغارقة في الديون في ولاية توسكاني , انطونيو الورنزو وحفيدته غير المتزوجة والرائعة الجمال..المستقبل يا ماركيزة..ياجوهرة النبل التي تزين تاج كاشياتور التجاري ..."
لم يكن ثمة مجال لأنكار رنة الصدق في صوته , التي بعثت الرعشة في أنحاء جسمها . وتساءلت ان كان يمكن أن تكون القضية بمثل هذه البساطة والفظاعة معا . يجب أن تتحقق من ذلك لأنها , أذا كانت هذه هي الحقيقة فأنها ستوضح جزء كبيرا من القضية الغامضة .
ابتدأت تقول بحذر :" أذا كان ما تقوله صحيحا يا سنيور برونيللي ." فقاطعها :" ناديني سيزار من فضلك كما يفعل الجميع ."
تابعت كاتيا كلامها متجاهلة مقاطعته :" فأنني أخبرك بشكل قاطع أن جدي لا علم له بالأمر ."
أجاب :" وأنا أقول لك أذا كنت حقا تعتقدين بذلك فأنك مخدوعة . ذلك أن لي اتصالات ممتازة مع رجال القانون الذين قاموا بالتفتيش عن وارث اللقب . وكان ذلك موضوعا صغيرا ذا اهمية . وقد فكرت في أنه قد يسلي قرائي عند اتمامه , وقد حدث هذا فعلا . أذ ان نجاحه النهائي وزعته وكالة الأنباء بقلمي في كل أنحاء ايطاليا ."
وردة__قايين
قالت وقد غمرها شعور غريب بأن الأمورابتدأت تتضح في ذهنها .
"هل انت مخبر صحافي ,مخبر هنا في القصر ؟ " فلوى سيزار برونيللي برأسه وهو يقول : " أفضل أن أدعى صحافيا وليس مخبرا حيث انني لا أسعى وراء الأخبار ولكنني اكتشف وأتابع قصصي الخاصة . وهنا في القصر طبعا , ولم لا ؟ أن أهمية المقال الأجتماعي لاتقل عن أهمية مقال يتعلق بالسيارات التي يعقد زوجك عنها مؤتمرا صحافيا هذه الليلة . وسوا شئت ذلك أم أبيت ياسنيورا فأنا هنا بدعوة رسمية ."
تساءلت كاتيا , لماذا بحق السماء , لم يخبرها جدها بكل هذا , وقفز الجواب حالا الى ذهنها المضطرب . وهو أن ذلك لأن نيكولو منعه من أن يخبرها . لأن نيكولو لم يشأ قط لها أن تكتشف السبب في مطارحته لها للغرام, قبل أن ترتبط به للأبد ولايبقى هناك مجال لها للفرار . ولكن , شكرا لله لأتضاح الحقيقة لها بما سمعته الآن , لقد فشلت خطته , قد يكون بأمكان نيكولو أن يفعل أي شئ ما عدا جرها الى مذبح الكنسية ليربطها به الى الأبد , الا أذا خدرها أولا يكفيها الأرتباط المدني الذي تستطيع الفكاك منه على الأقل بخلاف الأرتباط الديني .
جاءها صوت برونيللي يردها الى الواقع بقوله :" يبدو انك متضايقة يا ماركيزة . سامحيني اذا كنت قد سببت لك الألم عندما قلت أنه يخيل الى أن زوجك أنما كان يسعى وراء اللقب وليس وراءك . لقد كان نيكولو دوما خبيرا جدا بجنس النساء , وأكون مجنونا لو فكرت لحظة في أن ثمة شيئا غير جمالك اجتذبه اليك ."
ابتسم لها ولكن عينيه كانتا تراقبانها وهو يتابع قائلا :" أنني مثلا , لم أصدق أبدأ أنه كان مغرما بجينا كابريني وأنهما اتفقا على الزواج أذا هي أستطاعت أن تتخلص من زوجها قانونيا دون التسبب بفضيحة تهدم أمبراطورية كاشياتور . ذلك لأن كل أنسان كان يدرك أن زوج المرأة جوزيب كابريني لم يكن من الحماقة بحيث يعطيها ما تطلب ."
" جينا كابريني ؟ " انساب هذا الأسم من بين شفتيها الباردتين قبل أن تستطيع ضبط لسانها , وذلك عندما واجهت الجانب الآخر من شخصية نيكولو المخادعة . لم يكن بأمكان سيزار برونيلي أن يعلم باكتشافها انه قد غرر بها لتتزوج نيكولو , وهي تستطيع ان ترى بوضوح تام مالذي كان يفعله , منكرا ما سبق وادعى انها الحقيقة وذلك لجرها الى الخروج عن تحفظها .
فجأة انتبهت الى حركة في القناة الصغيرة بجانب مدخل الزوارق القادمة . كان ثمة أصوات . ها قد ابتدأ الضيوف في الخروج ولا بد لها من أن تكون في القاعة لتقوم بدور الزوجة الى أن ترى متى يتوضح كل شئ .
عاد يقول :" ألم يأت زوجك على ذكر جينا قط ؟ ما هذا الاهمال ؟ ان كل شخص في البندقية يعرف جينا . انها احدى أشهر فتيات المدينة , فهي تملك سلسلة من محلات الأزياء في ايطاليا وفرنسا "وعض على شفتيه وكأنه تذكر أمرا ثم تابع :" ثمة كثيرون سيخبرونك أنها أمضت في أعمالها وقتا أطول مما أمضته مع زوجها , ولهذا فشل زواجها . كما ان آخرين ...."
هز كتفيه " حسنا , سيخبرونك ان جوزيب كابريني اكتشف أن زوجته تخونه كما أنه شك في شخصية عاشقها ولكنه لم يستطع أثبات ذلك .."
تغلب غضب كاتيا لجرأة الشاب , على رغبتها في سماع المزيد فقالت :" أظنك قلت ما فيه الكفاية ."
سبب لها الضيق والتوتر الما مفاجئا في صدرها ضاق معه تنفسها فرفعت راحتها الى صدرها وهي تشعر بتسارع دقات قلبها . فأن الشئ الرئيسي هنا هو أن نيكولو حقق أمرين من وراء الزواج منها , الأول هو جعله من الزواج ستارا يحجبه وعشيقته, وفي نفس الوقت يجعل له من صلة بنبلاء ايطاليا القدماء وهذا هو ما يسعى اليه من كل قلبه .
وأن صوتا معذبا في داخلها :" أوه نيكولو ... كيف يمكنك ان تكون بهذه الدناءة ..."
قالت بصوت ينضح بالألم :" أن زوجي..."
قاطعها قائلا :" زوجك ؟ وهل قلت أنا انه عشيق جينا ؟"
وارتفع حاجباه بدهشه مصطنعه وهو يتابع :" انك اسأت فهمي يا ماركيزه . لو كان ذلك صحيحا لما تزوج منك اليس كذلك ؟الا اذا كان قصده بالطبع , القاء القاء جينا خارجا . وتقول الشائعات ان كلا منهما يسعى الى شاهد اثبات ضد الآخر , وبهذا يتحول الأنفصال الى طلاق .
تصوري الفضيحة . وأذا ظهر أن كاشياتور هو المذنب . فسيكون في ذلك احراجا كبيرا له لأن كابريني . الزوج . هو المدير الممول لشركة زوجك ."
لم تكن كاتيا بحاجة الى كل هذا الشرح للأدلة والأثباتات من برونيللي
في ورطتها هذه. لقد كان كل شئ واضحا .
ليس فقط أن موت الماركيز الكبير قد دل على مكان جدها مما جعل هذا معروفا , وعرضه الى مطالبة أسرة كاشياتور له بما يدين لها به , ولكن كان أن دفع الدين بشخصها هي . ولو كان جدها قد أظهر تمنعا وكراهية لرؤيتها تنقاد الى زواج دون حب , فأن في امكان نيكولو , دون شك , أن يلطف من الأمر بأن يساومه على ذلك بألغاء ديون الماركيز الكبير . لابد أنه فعل ذلك عندما فتح الموضوع مع جدها .
وهذا يوضح ذكر كلمة دين في حديثهما الذي سمعته . أنه ثمن صغير يدفع لمصلحة نيكولو .
حدثت كاتيا نفسها وقد توهجت وجنتاها من الغضب , اللعنة عليه .. كيف يجرؤ على معاملتها بمثل تلك العجرفة
والتعالي ؟ لابد انه سعى جهده لدى جدها لكي يحصل على موافقته . مستخدما لسانه المعسول في اقناعه بأن نصيبها يكمن في أيطاليا موطن أسلافها . أذ ان جدها لم يكن ليوافق أبدأ على زواجها لأجل المال فقط .
بدون أية كلمة , تركت ذلك الأيطالي المبتسم ومضت . لتجعله يظن أن كل قصصه انما وقعت في آذان صماء . فلو علم مقدار عرفان الجميل الذي شعرت به تجاهه لكل ما أخبرها به , لما بدا عليه كل هذا السرور الآن .
كانت قاعة الرقص قد أخليت بسرعة . وكان أعضاء الفرقة الموسيقية يحزمون آلاتهم . ولأنها كانت ما تزال ثقيلة الأنفاس , فقد وقفت على عتبة غرفة رائعة الجمال وهي تتمسك بستارة ثقيلة تستند اليها بينما أنظارها على الأرض التي جددت بشكل حسن . انها تريد أن تكتشف الحقائق . لماذا تشعر بنفسها قد دمرت بهذا الشكل ؟ أيمكن لأنها كانت تدعو الله , طيلة الوقت , أن يحدث معجزة ما تجعلها قد اخطأت في فهم الحديث الذي كانت قد سمعته في غرفة جدها : وأن نيكولو في الحقيقة يحبها قدر ما تحبه او بالأحرى قد أحبها : ولكنها ردت على نفسها بعنف أن المعجزات لم تعد جزءا من القرن العشرين .
جاءها صوت نيكولو يقول بحدة :" كاتيا , أين كنت ؟" وارتفعت نظراتها الى وجه العابس وهو يتابع :" كنت قلقا لأجلك ."
قالت ضاحكة بتوتر :" هل ظننت بأنني هربت منك في ليلة عرسنا ؟ ولماذا أفعل ذلك ؟"
نظر اليها بعينيه السوداوين يتأملها بهدؤ ثم قال :" أنك لست على ما يرام . لقد أصبحت تصرفاتك غريبة منذ اللحظة التي وطأت بها أقدامك أرض ايطاليا . ماذا حدث لك يا عزيزتي ؟"
أجفلت وهي تلمس رنة المحبة غير المخلصة في صوته وقالت له بضعف متجاهلة لهجة القلق في صوته والذي اعتبرته تمثيلا , وقالت :" لقد شعرت بالضجر طوال المساء . لم أكن ادرك كم ستكون عليه من الكآبة " فمد يده يلامس وجنتها قائلا :" يا للصغيرة المسكينة ." فأبعدت وجهها هن يده كمن لسعتها حشرة .
قال لها :" انها ليست الطريقة التي نقضي بها أول ليلة لنا كزوج وزوجة. انك تبدين شاحبة جدا . تعالي فقد قاربت الحفلة على النهاية , وسأصعد بك الى شقتنا , ثم أعود اليك بأسرع وقت ممكن ."
أومأت كاتيا برأسها . لم يكن ثمة فائدة من التحدي , حتى ولو شاءت ذلك . فقد رأت من التعبير الذي بدا على ملامحه أنه لدى ادنى تردد منها , سيأخذها بين ذراعيه بالقوة .
وكان يسندها بذراعه الملتفه حول وسطها صاعدا بها السلم الرخامي , وصلا الى الرواق الذي تطل عليه بقية الشقق وكانت هي تنظر الى السجادة العجمية السميكة تحت قدميها مفكرة في أنها لابد أن تكون ثمينة جدا نظرا لقدمها , لقد سبق وقرأت مرة أن أسوأ ما يمكن ان يفعله انسان هو ان يعرض سجادة عجمية على الجدار. ذلك أن قيمتها الحقيقية تأتي من الرثاثة أذ ان مرور الأقدام عليها تمنح الصلابة والأحكام لألاف العقد فيها مما يرفع من قيمتها .
قال لها وهو يوقفها على عتبة غرفة النوم :" اذهبي الى فراشك ياكاتيا . لقد أمضيت يوما شاقا , وسألحق بك حالما استطيع."
شعرت بالراحة أذ لم يقبلها قبل أن يتركها . ولما أصبحت وحدها في الغرفة , تهالكت على فراشها وقد راح ذهنها يعمل بسرعة بينما عيناها تجولان في ما حولها , تنظران دون تركيز , في السجادة ذات الألوان المماثلة لألوان صدف اللؤلؤ , ثم الجدران المغطاة الى منتصفها بالخشب, عارضة مختلف الرسوم . وكذلك السقف المزخرف. و ر د ه ق ا ي ي ن .
ووضعت يديها بعصبية على غطاء السرير المزدوج.
شعرت بالغثيان وهي تفكر في ما ينتظرها عند عودة نيكولو , حين ترفض مجاراته في رغباته . ونهضت من الفراش بضعف وهي تفكر في أنه قد يرفض ادعاءها التعب .
أثناء خطوبتهما القصيرة , كان يقصر رغباته على فرص قليلة كانا يخرجان فيها معا وذلك اعتبارا لقيم جدها ورغبتها هي في اتباع السلوك الذي نشأت عليه . أو على الأقل , هذا كان رأيها . أما الآن فهي تفسر سكوته ذاك ابتعادها عنه , بمعنى مختلف .
بالنسبة لكل ما ادركته الآن , يمكنها ان تبتهج اذ لم تسمح لها أفكارهاالمثالية , بالوقوع في خطأ السماح له بأن يصبح عشيقها . كما أن رغبتها في أن تحافظ على كرامتها وشرفها وألاتدعه يئثر على نفسها . هذه الرغبة لم تتغير .
وبيدين ترتجفان خلعت القرطين هدية نيكولو ووضعتهما في علبتهما على طاولة الزينة قبل أن تخلع ثيابها كليا وتدخل الحمام آخذه معها قميص نومها آملة أن ينعشها " الدوش" الخفيف الذي ستأخذه ولكن خاب أملها وهي تلمس عدم جدواه.
وضعت عطورها المفضلة التي تلائم بشرتها العسلية اللون في مياة الحوض وهي تغتسل ثم ارتدت أخيرا , قميص نومها الساتان الأزرق بعد أن سوت ثنياته حول وركيها المستديرين برشاقة . لقد كانت حين اشترته, تملؤها البهجة لتوقعها ارتداء ليلة عرسها .
كانت غرفة نومها تنتظرها بصمت , وبنفس الصمت قصدت فراشها . وسحبت الغطاء لتظهر الملاءات الحريرية بألوانها الزرقاء الشاحبة والرمادية وكذلك اكياس الوسائد. ولكنها لم تكد تلحظ هذه الرفاهية وهي تريح جسدها المتعب بينها .
النوم , كانت تنشد النوم , الذي لم تستطع مقاومته وقبل ان تمد يدها لتطفئ النور بجانب فراشها كان آخر ما فكرت فيه هو ان نيكولو سيوقظها عند قدومه ليمارس معها حقوقه الزوجية التي يدعيها دون شك .
عندما أستيقظت , كان ثمة ضوء خفيف . وللحظة ظنت نفسها وحدها في السرير الواسع . ولما جلست في الفراش اكتشفت خطأ ظنها , كان بجانبها , بعيدا عنها مسافة تكفي شخصا آخر , كان ثمة وجه نيكولو مطمئنا بين الوسائد المتعددة الألوان بينما كان جذعه العاري مكشوفا تماما وقد استرخت عضلاته بتأثير النعاس , كل ذلك جعل أنفاس كاتيا تتوقف في بلعومها .
بينما أخذت تعجب لضبطه نفسه , هذه الليلة , عادت بها ذاكرتها الى مقابلتها سيزار برونيللي , لقد أفاد النوم
العميق جسمها وأعاد اليها حدة ذهنها . وعليها الآن أن تتابع التمثيلية التي أخذت على نفسها القيام بها .
وبحذر أنزلت ساقيها من السرير , ثم جمعت ثيابها وحملتها معها الى الحمام . وأخذ منها غسل وجهها وأسنانها وارتداء سروال جينز وقميص , فقط عدة دقائق , لقد كانت بحاجة الى بعض الوقت تقوم فيه بتنفيذ خطتها , ولهذا , أرادت أن تنفرد بنفسها .
من دون ان تزعج نيكولو تركت الغرفة بخفة ونزلت الى أسفل مجتازة قاعة الرقص الخالية , ثم خرجت من احد الأبواب الزجاجية الى الحديقة . كانت في الليلة السابقة قد لاحظت بوابة حديدية قود الى مكان رسو الزوارق بجانب القصر وأستغرق منها ارزاحة رتاج البوابة عدة ثوان لتجتاز , بعد ذلك , الجسر الحجري المزخرف الذي يعبر القناة الصغيرة .
لم يحدث حذاؤها الجلدي الخفيف أي صوت وأسرعت نحو مفترق الطرق المتاشبك الذي رأته أثناء رحلتها في اليوم السابق والذي يقودها الى ساحة سان ماركو تاركة القناة الكبيرة خلفها , وعرفت بقدر ما ان تتذكر أين تكون الساحة وبالنسبة الى الجهة التي توجهت اليها سيكون بأمكانها أن تعود فتقتفي آثار قدميها .
هامت في الشوارع الضيقة الخالية , بأشاراتها الصفراء التي تعين الأتجاهات الى ساحة سانت ماركو , أو الى جسر ريالتو, واجتازت الساحة الصامته حيث كان الحمام يسبح في برك من الماء تجمعت من القطرات النازلة من المضخات , لاتكاد تنتبه الى الشرفات التي تتدلى منها الأزهار أو الدوالي التي تغطي الجدران , كانت البندقية قد بدأت تستيقظ مستجيبة الى فجر جديد . وكانت هي قادرة على أن تنفرد بنفسها لتستعرض ما عرفته في تلك الليلة ....ورده...
اهتزت وهي تفكر في سيزار برونيللي ودوره في كل هذا ..ما أشبهه بواحد من قوارض الطير يقف على السياج منتظرا الجيفة . ليتهافت عليه ليسمن . ولكن ليس عليها أن تحترم أو تحب برونيللي لكي تصدقه . ذلك أن عرضه كان واضحا . انه يريد أن يثير أكبر عدد من الفضائح لكي يكتب عنها , فليس له أية عداوة شخصية نحوها أو نحو نيكولو , كما أن ليس عنده ضمير يتحرك لنتيجة ما يقوم به .
وامتلأت عيناها بالدموع وتوقفت عندما وصلت الى جسر ضيق يعبر قناة صغيرة , ونظرت الى اعماق المياه
التي مازالت تعكس صور المنازل العالية على جانبيه , مما حول المياه الى شبه مرآة داكنه وقد ابتدأت خيوط أشعة الشمس في اختراق ظلمتها . وكان هناك زورق صغير واقفا لايتحرك . وعلى مسافة منه أمكنها رؤية انعكاس كامل رائع في المياة للجسر الذي يليها , بينما يغرق عالمها هي في الحطام المحيط بها .
قبضت على حاجز الجسر بيديها بشدة , أن مصيرها بين يديها الآن , ولكنها يجب ان تكون فطنة . كانت تدرك أن المواجهة المباشرة لن تكون في مصلحتها. ولكن بطريقة أو بأخرى , يمكنها أن ترغم نيكولو على الأعتراف بغلطته التي ارتكبها , ومن ثم تقنعه بأن من الأفضل لهما معا , أن يطلقها .
انتهى الجزء الثالث