المنتدى :
الارشيف
ذاكرة النار
يعتبر الكاتب الأرغوايي إدواردو كليانو من الكتاب الذين لا تكل عندهم بهجة الحكي أبدا، حتى عندما يتكلم عن واقع اجتماعي قلما يبعث على الحماس، واقع قارة مهووس بحبها. يعد كتابه ” الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية” (1971) عملا مرجعيا لكل من أراد فهم تاريخ و واقع هذه القارة. حيث تعتبر نقطة انطلاقته لغزا محيرا: لماذا هذه الأرض التي وهبتها الطبيعة الكثير ليست بنفس الحظ على المستوى الاجتماعي و السياسي؟ في هذا المؤلف المختلج كرواية بوليسية يحكي بشغف و ليونة و سخط عما يسميه إدواردو كليانو ب”النهب” التي تعرضت له القارة الأمريكية اللاتينية. في البداية من طرف الإسبان و البرتغاليين، بعد ذلك من طرف الغرب والنخب المحلية. و بدون مركب نقص يسخر إدواردو كليانو من الحدود التي تفصل بين مختلف الأجناس الأدبية. إن كتبه التي تتموقع في مفترق طرق السرد و البحث و الشعر و اليوميات تروي أصوات الروح و الشارع وتمنح توليفا للواقع الحالي والذاكرة.
ولد إدواردو كليانو قبل سبعين عاما في مونطي فيديو بالأرغواي. عمل بمسقط رأسه رئيس تحرير لأسبوعية “ماركا” و مدير يومية ” إيبوكا”. و في ” بوينوس إريس” بالأرجنتين، حيث نفي، أسس و أدار مجلة “كريسيس” قبل أن يلتحق بإسبانيا. له رصيد صحافي محترم.أغلب مؤلفات إدواردو كاليانو ترجمت إلى العديد من اللغات. و من أهم أعماله: الثلاثية: ذاكرة الموت – الوجوه والأقنعة – عصر الريح(1985-1988 ). “أيام وليالي الحب والحرب” (1987) –” أمريكا: الاكتشاف الذي لم يقع بعد” (1992) – “كتاب المعانقات” (1995) – ” كرة القدم، ظل و ضوء”.( 1998). نال عدة جوائز عالمية عن كتبه وخصوصا عن الثلاثية.التي ذاع صيتها.
في هذا الحديث الطويل المقتطف من مجلة ” بريد اليونسكو” سنصغي إلى الكاتب الأرغوايي “إدواردو كاليانو” وهو يعمد إلى تعرية الواقع حيث يتفحص بدقة كل من العولمة و الذاكرة و الهوية الثقافية و نضالات الأهالي والإنسان و الأرض… و كرة القدم.
ماذا عن العولمة؟
ليست العولمة ظاهرة جديدة لكنها نزعة تأتي من زمن بعيد. و تسارعت خطواتها بشكل حثيث في السنوات الأخيرة على إثر التطور المذهل لأنساق التواصل و وسائل النقل، اللذين يبعثان على الدوار. إنها أيضا محصلة لتمركز الرساميل على المستوى العالمي، ليس أقل بعثا على الدوار. لكن لا يجب أن نخلط بين العولمة و العالمية. بمكن أن نومن بكونية الشروط الإنسانية، أهواءنا، مخاوفنا، و حاجاتنا، و أحلامنا… لكن “محو ” الحدود الذي يسمح للمال بالتنقل بكل حرية فهو أمر ذو نبرة مختلفة تماما. مما يعني أن حرية الأشخاص شيء مختلف عن حرية المال.
تقرير المصير الغذائي.
إن العلامة المثلى للعولمة هو هذا النجاح الباهر لمؤسسات ” ماك دونالد”، التي تفتح كل يوم خمسة مطاعم جديدة في سائر الأركان الأربعة للكرة الأرضية. إنها بالنسبة لي أكثر دلالة من سقوط جدار برلين. إنها الطابور الذي يقف فيه الروس أمام “ماك دونالد” في الساحة الحمراء في موسكو. في نفس المكان الذي انهار فيه ما سمي ب “ الحاجز الحديدي “. و نظرا للطريقة التي انهار بها كان بالأحرى حاجزا من ورق. إن العولمة الكونية تفرض أن يتناول المرء و جبة في البلاستيك. لكن و في نفس الوقت فإن نجاح ” ماك دونالد” ينتهك إحدى الحقوق الأساسية للإنسان، الحق في تقرير المصير الغذائي. إن البطن دائرة الروح و الفم بابها. قل لي ماذا تأكل أقول لك من أنت. أن تتغذى يعني أن تختار طريقة ما للأكل. إن طريقة الطبخ سمة من السمات المهمة للهوية الثقافية. لا يتعلق الأمر بكمية الغذاء، و إن كانت لها أهمية كبيرة بالنسبة للشعوب الفقيرة و الأكثر فقرا. إنهم لا يأكلون كثيرا أو لا شيء تقريبا. و لكنهم يحافظون على التقاليد التي تجعل من هذا الفعل البسيط لأكل القليل أو لا شيء تقريبا، يتحول إلى شكل من أشكال الاحتفال.
ضد قولبة أنماط الحياة.
أفضل ما في العالم كونه يحتوي على عوالم متعددة. و هذه التعددية الثقافية، التي هي إرث للإنسانية تتوضح أكثر في طريقة الأكل. لكنها تتوضح أيضا في طريقة التفكير والإحساس و الكلام و الرقص و الحلم. و اليوم توجد نزعة متسارعة لقولبة أنماط الحياة. لكن في نفس الوقت تزداد ردود الأفعال المدافعة تبلورا: إن أنصار التعددية والاختلاف جديرون بالمساندة. ويجب أن نعمل على إبراز الاختلافات الثقافية و ليس الاجتماعية. من أجل أن تبقى الإنسانية متعددة الألوان و ألا تنصهر في لون واحد. لكن في مواجهة تدفق التجنيس الإجباري. إذا كانت بعد ردود الأفعال تبدو صحية فإن الأخرى تكشف أحيانا عن جنون: كالتعصب الديني و مختلف أشكال التعبير الميؤوس منه للهوية. و ما أعتقد هو أننا لسنا محكوم علينا مطلقا في عالم لا يترك لنا إلا خيارا واحدا إما أن نموت جوعا أو ضجرا.
الهوية تتحرك باستمرار.
ليست الهوية الثقافية مزهرية ثمينة معتقلة بوداعة داخل واجهة متحف.إنها حركة مستمرة تتغير بدون انقطاع. و تخضع دوما للتحدي من طرف الواقع، بل إنها في حركة أبدية. أنا هو أنا، ولكن أنا أيضا هو ما أفعل لأغير من أنا. إن الصفاء الثقافي لا يوجد أكثر من الصفاء العرقي. ومن الحظ أن كل ثقافة هي نتاج خليط يحتوي على عناصر خارجية. إن ما يحدد ملامح نتاج ثقافي، سواء كان كتابا أو رقصة أو تعبيرا شفهيا أو طريقة للعب كرة القدم، ليس أبدا أصله و إنما محتواه.
إن مشروبا كوبيا أصيلا ك” دايكيري” لا يحتوي شيئا كوبيا. إن المثلوجات تأتي من مكان آخر، نفس الشيء بالنسبة لليمون و السكر و الروم. كريستوف كلومب هو الذي جاء بالسكر من جزر الكناري. ومع ذلك لا يوجد ما هو أكثر كوبيا من “دايكيري”. إن ال ” شوروس” الأندلسية ( فطائر مقلية في شكل حلزوني) جاءت من عند العرب. والعجائن الإيطالية جاءت من الصين. لا منتوج يمكنه أن يكون مؤهلا أو يجرد من أهليته على أساس أصله الوحيد. ما يهم، هو ما نفعل بهذا المنتوج. و إلى أي حد تستطيع جماعة ما أن تجد نفسها في رمز له علاقة بطريقتها المفضلة في الحلم و الحياة و الرقص و اللعب و الحب. من هنا تأتي سعادة العالم: من هذا المزيج اللامنقطع الذي يولد إجابات جديدة لأسئلة جديدة. في حين توجد حاليا نزعة حثيثة للقولبة كنتاج للعولمة بزحفها المحتوم. هذه النزعة مرتبطة في جزء كبير منها بتمركز السلط بين أيدي المجموعات الكبرى للتواصل.
الأمل: الإنترنت و الإذاعات الجماعية.
هل تم اختزال حق التعبير، المعترف به في جميع الدساتير، إلى حق بسيط في الإنصات؟ أليس حق التعبير هو أيضا الحق في الكلام؟ لكن من له الحق في الكلام ؟ هذه الأسئلة ترتبط عميقا بالخسائر التي تتكبدها اليوم التعددية الثقافية. إن فضاءات الحرية في عالم التواصل تقلصت كثيرا. و جماعات التواصل المهيمنة لا تفرض خبرا مخدوما و مشوها فحسب، ولكن تفرض أيضا رؤية معينة للعالم تنزع أن تكون الرؤية الوحيدة الممكنة. إن الإنترنت تبدو اليوم و كأنها مانحة لوعد كبير. إنها إحدى المفارقات التي تغذي الأمل. لقد ولدت الإنترنت عن حاجة لتمفصل المخططات الحربية على المستوى العالمي. بعبارة أخرى، إن الشبكة صممت من اجل خدمة الحرب و الموت. و الحال أن الإنترنت اليوم حقل التعبير لمختلف الأصوات التي كانت بالبارحة مسموعة بالكاد. أكيد أن الإنترنت استغلت أيضا من أجل غايات تجارية، لكن الشبكة فتحت فضاء جد مهم لحرية التواصل المستقل، هذا الذي يتحمل الكثير من أجل شق طريق له وسط وسائل الإعلام كالتلفزة و الصحافة المكتوبة. أما في الميدان الإذاعي فالوضعية تتطور بشكل إيجابي. إن تطور الإذاعات الجماعية في أمريكا اللاتينية يشجع التعبير الشعبي إلى حد بعيد. أن نتكلم إلى الناس ليس هو نفس الشيء بأن نستمع إليهم يتكلمون. أن نسمع الأصوات التي تستطيع أن تعي الواقع حينما يتاح التعبير عنه و حينما يمارس الشعب حقه في التعبير الحر.
الغاية ووسائلها.
عند اليونان قديما لم يكن القاتل وحده يدان. وإنما تدان معه آلة الجريمة أيضا. حينما كانت ترتكب جريمة ما فإن الآلة يرمى بها في نهر من الأنهار. و اليوم نعلم أنه لا يجب أن نخلط بين الوسائل و الغايات. و الكارثة في أمريكا اللاتينية لا تكمن في كون التلفزة كلية الوجود. وإنما في النمط التلفزي التجاري لأمريكا الشمالية المفروض عليها. نحن لم نتعلم شيئا من النموذج الأوروبي لتلفزة موجهة نحو غايات أخرى. في العديد من الدول الأوروبية كألمانيا و الدانمرك و هولندا، التلفزة تباشر وظائف ثقافية غنية و مهمة ( أكيد أقل من السابق) مستندة على وضعها كمرفق عمومي. هنا و بالعكس تماما وبمقتضى النموذج الأمريكي الشمالي كل شيء صالح مادام يستطيع أن يساهم في البيع، و كل شيء رديء لا يستطيع ان يساهم في البيع.
الكتاب من ثلاث اجزاء المتوفر جزئين و ابحث عن الثالث
رابط الجزء الاول
|