لفصل السابع عشر
**وعصفت بنا الحياة**
بزقاق ضيق امتلأت جوانبه بالقاذورات التى فاحت رائحتها المقززة
تنقلت كرة مصنوعة من الجوارب القديمة المثقوبة والمتسخة
بين اقدام حافية لاطفال يرتدون فانلات مثقوبة كانت يوما بيضاء
واليوم اصطبغت باللون الاصفر الشاحب الذى بهت عليه
الاتساخ..نقلت امرأة متشحة بعباءة سوداء اقدامها بصعوبة
واستمعت بضيق لتعليقات بذيئة من شباب اتخذ من ناصية تلك الحارة الضيقة ملجأ
ونادى للقاء..فأسرعت المرأة بخطواتها حتى وصلت لمبتغاها
منزل رمادى متهالك من طابقين ..اضطرت ان تنحنى وهى تدخل
من بوابته لان نصفها اندثر تحت التراب
ارتقت تلك المرأة درج منزلها القديم المتهالك بصعوبة
وما ان وصلت لشقتها خبطت بانامل ضعيفة مرتجفة على زجاج
الباب المكسور وبعد ثوانى قليلة فتح الباب رجل ضخم الجثة ارتعدت اوصالها لرؤيته
لكنها ارتمت فى احضانه وهى تبكى هاتفة:
-سيد.. لقد طلقت يا اخى ..ممدوح طلقنى
*********************
تطلع بحنان الى وجهها الهادىء الرقيق الذى اشتاق اليه، فمؤخرا كلما يراها لا
يطالعه سوى
نظرات الاحتقار والغضب والكراهية
اشتاق الى تلك النظرة الحالمة .. اشتاق الى ابتسامتها الخجولة
اشتاق الى انفاسها العطرة.. وكلماتها الحنون المحبة
انتزعه الطبيب من اشتياقه واحلامه بان يعود الزمان
ليشده بقسوة الى الواقع الاليم ..بكلماته الرصينة الحازمة:
-زوجتك تحتاح لعناية واهتمام ، لقد تعرضت لصدمة كبيرة
كان الله بعونها ، لقد كتبت لها على مهدئات تعينها على تحمل
تلك الصدمة التى هزت كيانها
اضاف الطبيب وهو يناول ادهم ورقته الطبية:
-انصحك ان تأخذها لتغيير الجو بمكان هادىء ، ربما..
قاطعه تأوهاتها فالتفت اليها مسرعا وتساءل بصوت هادىء:
-هل انتى بخير يا مدام دنيا
فتحت دنيا عينيها ببطء فظهر الاعياء على وجهها مليا، عض ادهم شفتيه
باسنانه عندما رآها تتألم امامه بهذا الشكل وكاد ان يفتح فمه ليهتف
الا ان نظرات دنيا التى ارتكزت على وجهه والشهقة التى اطلقتها اوقفت الكلمات
بحلقه ، اذ صاحت دنيا وهى تقذفه بوسادات الفراش الصغيرة:
-ما الذى تفعله هنا ؟ اخرج من منزلى.. لا اريد ان ارى وجهك هذا
اخرج.. لا اريد ان اراك.. كفى ما حدث لى .. لماذا انت هنا
كل ما اردته ضاع واندثر .. كل شىء ضاع .. لم يبقى شىء
ارحل عنى وارحمنى .. كفاك ما فعلته بى .. كفى غدرك وغدر الزمان
ارحمنى بالله عليك واخرج وابتعد عن حياتى
لماذا مازلت واقفا متسمرا بمكانك.... قلت اخرج.. اخرج
سالت دموعها انهارا وصرخاتها تعلو فاسرع الطبيب يغرز
حقنة بذراعها وهو يصيح:
-من فضلك يا ادهم بيه.. اخرج وابتعد عن ناظريها
يبدو ان المشكلة لا تكمن فقط وراء حريق مصنعها
يبدو ان لك دخل بانهيارها هذا
اتجه ادهم بخطوات بطيئة نحو باب الغرفة ووجهه يغرق
فى الالم
*********************
تطلعت مى بانبهار الى البحر بزرقته المتلألأة التى اضفت على حركة امواجه
العابثة جمالا يخطف الابصار ، واغمضت عينيها مستمتعة بلفحات الهواء
المنعش التى لامست ثنايا جسدها وجعلتها تنسى لثوانى قبلة حسام اللزجة التى طبعها على
يديها بعد ان اوصلها الى غرفتها بالفندق الذى اقاموا به بالاسكندرية
تنهدت بحرارة وهى تشعر بالنشوة فها هى على بعد قاب قوسين او ادنى من تحقيق
املها ونيل القصاص من مدمر اسرتها ..ها هى الان فى موقع الحدث
وما هى الا دقائق او سويعات ويتم كل ما خططت له و......
قطع حبل افكارها طرقات على باب غرفتها فاسرعت بفتح الباب ليطالعها وجه
حسام الذى قال بابتسامة واسعة :
-هل اعجبتك غرفتك يا مى ؟؟
ثم اسرع بالتجول فى الغرفة وانتهى به المقام لدخول الشرفة التى اطلق صفيرا منغما ما
ان اصبح بين ارجائها مضيفا:
-المنظر الذى تطل عليه شرفة غرفتك افضل كثيرا من المنظر الذى تطل علية شرفة غرفتى
اومأت برأسها وهى تقول مؤيدة:
-نعم.. المنظر جميل بالفعل
نظر اليها مطولا ثم قال بخبث:
-ربما عندما انتهى من اعمالى هنا استطيع الاقامة معكى فى غرفتك
هتفت مى بغضب:
-هل جننت!! لقد حذرتك كثيرا يا حسام، انا لست....
قاطعها وهو يضحك :
-لماذا انتى متسرعة هكذا ؟ انا سأقيم معكى بصفة رسمية
وارتكز بجسده على ركبة واحدة ، واضاف وهو يفتح بيده اليمنى علبة حمراء من
قماش القطيفة -الذى يبعث القشعريرة فى الجسد- تألق بداخلها خاتم من الالماس
خطف بريقه ابصار مى التى حدقت فيه مشدوهة ثم حولت انظارها بحيرة وتساؤل نحو حسام الذى اضاف :
-سأقيم معكى بصفتى زوجك .. هل تقبليننى زوجا يا مى ؟
هل تقبلين الزواج منى ؟؟
لم تحر مى جواب فواصل حسام على الرغم من عينيها المشدوهتان:
-مى..انتى الفتاة الوحيدة التى خفق لها قلبى بصدق ، والفتاة الوحيدة التى ائتمنها على
اسمى .. لم اكن اظن اننى بيوم من الايام قد اقول هذا فما رأيته فى اصناف الفتيات
جعلنى موقن ان زمن البراءة انتهى وبالتالى صرفت نظر تماما عن فكرة الحب والزواج
لكنكى احييتى هذا الامل من جديد.. و يشرفنى ان تكونى حبيبتى وزوجتى
ثم اضاف وهو يهتف بضحك:
-وارجوكى اسرعى بالقبول لان رجلاى اتعبتنى من اتخاذ هذا الوضع
كادت ان تقول ان زمن البراءة الذى يعتقده فيها خادع ، فهى ابعد شىء عن تلك البراءة
وما ارادته اولئك الفتيات اللاتى قصدهن لن ياتى شيئا بجوار ما تريده هى
فهن اردن امواله اما هى .. فهى تريد تسليم عنقه للعدالة
وعلى الرغم من افكارها تلك ..ابتسمت وهى تقول:
-يجب ان تترك لى فرصة للتفكير يا حسام
وقف حسام الذى تغيرت معالم وجهه وصاح بتبرم:
-ولماذا لا تقبلين بى على الفور ؟ انا عريس لا ارفض
-اعلم بالطبع يا حبيبى... لكن الزواج خطوة كبيرة افضل ان اتأنى فى التفكير فيها ، ما قولك
ان اعطيك رأيى الليلة بعدما تنتهى من عملك ؟؟
هز رأسه وهو يهتف فى فرحة:
-موافق ...وسأذهب الان سريعا الى لقاء العمل ..ساعة واحدة لن اتأخر ، واتعشم بعدها
ان آخذك الى اقرب مأذون
ثم طبع قبلة على جبينها وهو يسرع بالمغادرة
ودعته مى بابتسامة محتها من على وجهها بمجرد خروجه ثم ازالت آثار قبلته اللزجة من على جبينها وهى تهتف:
-لقد حان العمل
********************
التقط اباها يدها وهو يقول برقة:
-لا تخافى يا غادة .. انا بجانبك يا حبيبتى
تلفتت غادة حولها بخوف وهتفت وجسدها يرتعش :
-اين نحن يا ابى ؟ وما هذا الضباب الذى يحيط بنا؟
اننى اراك بصعوبة
وضع يده على كتفيها وهو يقول بحنان:
-لا تقلقى يا غادة .. اننا باجمل وآمن مكان .. اننا بالجنة يا حبيبتى
دمعت عيناها وهى تقول بصوت خافت مذعور:
-ولماذا تبدو الجنة مخيفة هكذا يا ابى ؟
-لأنكى لم تعتادى عليها بعد يا ابنتى .. عندما تعتادين عليها ستحبينها
وستتمنين ان تظلى بها دوما
شعرت غادة فجأة بالمكان يضطرب من حولها واباها يبتعد عن جوارها وصوته يخفت
حتى اختفى تماما فصاحت فى ذعر:
-ابىىىى
انا لا اسمعك يا ابى .. الى اين تبتعد ؟ لا تتركنى وحيدة يا ابى
ابىىىىىىىىىىىى
تلفتت غادة حولها بحيرة وهى تتطلع الى تلك الغرفة البيضاء الواسعة
التى رقدت على فراشها الصغير ، وشعرت بآلام رهيبة لحركتها السريعة فى محاولة منها
لمغادرة الفراش فعادت ترقد عليه وهى تنظر حولها باستغراب ازداد عندما
دلفت ممرضة سمراء الى الغرفة وقالت بسعادة:
-هل افقتى ؟ حمدا لله على سلامتك يا مدام .. لقد خرجتى سالمة
من غرفة العمليات
هتفت غادة بدهشة:
-غرفة العمليات !!!
وفجأة هجم مشهد الحادث على ذاكرتها فاغمضت عينيها وهى تصيح بألم:
-الحادث.. الاصطدام .. وامجد... ال.....
هزت الممرضة رأسها وهى تتجه نحو باب الغرفة وتقول:
-نعم يا مدام.. لقد نجوتى من الحادث ولم ينالك سوى بعض الكدمات
لكنكى تعرضتى لنزيف حاد اضطر معه الاطباء لادخالك لغرفة العمليات
لقد هاتفنا قريبة زوجك مدام دنيا شاهين ، وهى الان بالخارج سأسمح لها
بزيارتك
ارتفع حاجبا غادة بدهشة ورددت بخفوت:
-قريبة من !! زوجى !!
دلفت دنيا الى الغرفة وآثار دموعها واضحة على وجهها لكنها
اسرعت بالجلوس الى جوار غادة وامسكت يديها
قائلة بارتياح:
-الحمد لله على خروجك بالسلامة من غرفة العمليات، لا تتصورى كيف كانت حالتى
عندما اخبرونى بما حدث لكى ولامجد
حدقت غادة بوجهها فى دهشة ثم ما لبثت ان تساءلت فى حيرة :
-كيف عثروا على رقمك ؟ ولماذا ابلغوكى؟ هل انتى حقا قريبة امجد
اومأت دنيا برأسها والدموع تتلألأ فى عينيها وقالت بخفوت:
-ن.. نعم ، كنت .. اقصد امجد هو ابن عمتى الحقيقى
ارتفع حاجبا غادة فى حيرة فاسرعت دنيا تقول :
-سنتحدث عن هذا فيما بعد.. المهم طمنئينى على حالك
هل انتى بخير ؟؟
تحسست غادة بطنها وهى تقول بألم:
-اشعر بالام شديدة جدا ....
ثم تطلعت الى دنيا وهى تتساءل بلهفة:
-كيف حال الجنين ؟؟ وامجد.. اين هو ؟
حدقت دنيا فى الارض ثم قالت بصوت خافت متألم:
-انا اسفة يا غادة
هتفت غادة فى ارتياع:
-ماذا تعنين ؟ ماذا تعنين؟؟
احتضنت يداها وهى تقول والدموع تنساب على خديها:
-لم يكن من نصيبك يا غادة .... ربنا يحتفظ لكى بالافضل
لقد تعرضتى لنزيف حاد اضطر معه الاطباء لاجراء عملية لاجهاضك
انهمرت الدموع من عينى غادة فاخذتها دنيا بين احضانها وهى تربت على
ظهرها وتقول مواسية اياها:
-هذا افضل يا غادة صدقينى.. كيف كنتى ستعتنين به وحدك ؟؟
ابعدتها غادة لتتطلع الى وجهها وتتسع عيناها بحيرة وتهتف بترقب:
-ماذا تعنين !!
تنهدت دنيا بحرارة وعضت على شفتيها باسنانها وهى تقول :
-البقاء لله يا غادة .. لقد كانت اصابات امجد شديدة و......
ظهرت الصدمة على وجه غادة ولم تستطع دنيا اكمال جملتها المؤلمة
وخيم على المكان صمت مطبق مؤلم قاطعه صريخ حاد وصوت عالى ينطق باللوعة:
-لا لا لا .. لا يا ممدوح...لاااااااااااا
امجد لم يمت.. لم يمت ، انه لم يسامحنى قبل موته، لم يغفر لى
صاح ممدوح بغضب:
-ولم يغفر لى انا ايضا
دفعته ناهد بعيدا عنها وهى تصرخ:
-امجد حى.. امجد لم يمت .. امجاااااااااااااااد
تساءلت غادة بلهجة حزينة يغلب عليها الحيرة:
-ما هذه الاصوات ؟ من تلك المرأة ؟؟
قالت دنيا بتهكم:
-ناهد هانم
-ناهد هانم!! وما علاقة ناهد بامجد؟ لم تفعل هذا ؟؟
تطلعت دنيا بحيرة الى غادة وهى تجيبها:
-ناهد هى ام امجد .. الم تسمعينى حينما اخبرتك ان امجد هو ابن عمتى
حدقت فيها بدهشة ثم ابعدت انظارها وتطلعت الى الفراغ وقالت بصوت خافت
ودموعها الحارة تتساقط على وجهها:
-يبدو اننى لا اعرف شيئا عن زوجى
من هو ذلك الشخص الذى اقترن اسمى به والذى
كدت انجب طفله ؟؟
من !!!
**********