كاتب الموضوع :
mallouli
المنتدى :
الارشيف
دانتي الجديد كليطو
دانتي الجديد
بقلم : عبد الفتاح كليطو
يمنح الكاتب خوان غويتيسولو في شجرة أنسابه مكانة مهمة للثقافة العربية.هدا ما تؤكده بعض عناوين مؤلفاته: مقبرة،وقائع عربية ,الممالك الممزقة،ومؤخرا روايته "برزخ" التي تهمني هنا بالخصوص.
صدرت رواية برزخ بالاسبانية تحت عنوان الأربعينية .يلعب رقم أربعين دورا مهما في الرواية.سيغرق موت صديقة السارد - الشخصية في حداد سيدوم أربعين يوما (وهي المدة التي استغرقتها"الغارة الجوية"على بغداد ).يؤلف السارد رواية هي الأربعينية التي تتألف من أربعين فصلا ،وكما يتحتم عليه ككاتب ،فانه يتراجع أمام الحوادث الشخصية والعالمية.بحيث تفرض صورة الحزام الوقائي نفسها عليه"أليس تطور الإبداع الأدبي أربعينية أيضا؟"يتساءل قبل أن يضيف أن القارئ بمجرد أن يستغرق في عمل أدبي، يجد نفسه أيضا في عزلة إلزامية،منقطع عن العالم قلب فقاعته"
إن العنوان المختار للترجمة الفرنسية هو أيضا عنوان سعيد. تعتبر كلمة برزخ في التقليد الإسلامي، الزمن الذي يجري بالنسبة للرجل منذ لحظة وفاته إلى يوم البعث. يتحدد الحدث في رواية غويتيسولو على صعيدين فيصعب الفصل بينهما. ينتقل الراوي بين مشاهد حقيقية. في باريس، مراكش، مصر. يستقل الطائرة، يقوم بجولات في السيارة، يستحم في الحمام، يتحدث بعذوبة إلى زوجته، يشاهد النشرة الإخبارية. يحلم بحياته بينما هو يحياها، بجوار العالم الواقعي، الملموس حيث يتحرك، يمتد آخر، أثيري، البرزخ الذي يصفه ابن عربي :" عندما تحلق الأرواح نحو العالم الوسيط حيث البرزخ، تبقى محتفظة بأجسادها التي تأخذ الشكل اللطيف الذي يظهر عندما نرى أنفسنا في الحلم".
يتحرك الراوي بخفة بين عالم وآخر، تقوده في الآخرة صديقته الجديدة بياتريس (إنها تلمح بحركة اعتباطية مؤثرة إلى بحثها عن سجائر الكولواز الزرقاء، التي كانت معتادة على تدخينها). تتوالى الأحلام، الرؤى، والهلوسات، حيث يمثل ميتا، بصحبة الأرواح التائهة. " مت، في اللحظة التي كنت أتأهب فيها لتحرير كتابي".
من أين تنبعث هذه الصورة؟ من الكتب. يتأثر الراوي بما يقرأه. إلى درجة أن ما يحياه يصبح انعكاسا لما يقرأه، بحيث ينفصل كليا عن هذا العالم. إنه يكرر تجربة دون كشوت. مع اختلاف وهو أنه لا يتعلق الأمر هذه المرة بروايات الفروسية ولكن بنصوص صوفية أو لها علاقة مع الحياة بعد الموت: المرشد الروحي لمولينوس، الكوميديا الإلهية، مؤلفات ابن عربي، أقوال البسطامي، لوحات جروم بوش، منحوتات كوستاف دوري. كافكا أيضا، باعتباره المتخصص في الانتظار الأخروي: يستدعي نكير ومنكر الراوي إلى محكمة المحاسبات (الملاكين "الخبيرين المحاسبين" – "المتفحصين"، "الممتحنين" )، فيجد نفسه في إدارة حيث تنفتح الأبواب وتنغلق. حيث يجعلونه ينتظر، فلا يهتم به أحد، ولا يستقبله هؤلاء الذين استدعوه. في لحظة أخرى، يرن الهاتف، يخبرونه أن نكيرا ومنكرا على الخط، لكن لا يجيبه أحد:" ماذا يجدر به أن يفعل؟أ يقطع المكالمة؟ أم يطعن في شرف ومكانة ممتحنيه مخاطرا بجعلهم ينزعجون منه؟ أم هل كانا يمتحنانه ليختبرا صبره واحترامه لسلطتهما؟
أغنى وعمق غويتيسولو بروايته منظورات ( Asin Palacios) النابغة والعلامة الذي فهرس أفضال الثقافة العربية على دانتي في كتابه علم الأخرويات المسلم في الكوميديا الإلهية، وعلى الخصوص كتاب المعراج (الذي يروي سفر النبي في الماوراء)، وكذلك الرؤى الصوفية لابن عربي، ورسالة الغفران للمعري. كما يعيد غويتيسولو ارتباطه بثقافة قديمة: التساؤل حول مصير الأموات بعد الموت، في جو المنافسة بين نظريات وآراء دينية متشعبة، يتعلق الأمر بمعرفة أية وظيفة للإيمان، وأي عقيدة تحقق الخلاص في العالم الآخر، من هنا تأتي أهمية ما يمكن تسميته: بالحلم البدعي التوضيحي: بمجرد وفاته يتجلى الميت لإنسان حي في الحلم بحيث يشير إلى ما صار عليه، إذا ما هو جوزي أو عوقب. كان الحلم البدعي فرصة لمؤلفه لتصفية حساباته مع خصومه وأعدائه.
يفضل غويتيسولو في الثقافة الصوفية البعد الصوفي ولا يولي أهمية للمعري. الشاعر الأعمى الذي مات سنة 1058م. والذي لم يكن حاضرا في رواية برزخ سوى بهذا البيت:
"دس الأرض بلطف، ستغدو قريبا قبرك"
لكن هل هذا هو بيت المعري؟ أو أن الترجمة المستعملة تقريبية فقط؟ في كل الحالات، فإن نص المعري قوي جدا، وأكثر سخرية: يشير إلى كل الجثث التي تستريح في التراب، يقول الشاعر:
"خفف الوطء، لا أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد"
يحقق هذا البيت انسجاما مع حالة الأرواح في البرزخ، عالم الرقة واللطافة كما يصفه غويتيسولو بعد ابن عربي: تطأ الأشباح بلطف الأرض، تحلق، عصافير رقيقة وحنينية.
ينتاب القارئ العربي وهو يقرأ رواية برزخ إحساس أنه تم إهمال المعري، سوف يقول أن رواية تمتلك تماسكها الخاص، ممتلئة كبيضة لا يمكن أن نضيف إليها أو نحذف منها شيئا دون أن ندمر بنيتها. أن نقول لغويتيسولو، أن روايته تنقصها شخصية أو مرجع، فهذا يعني التلفظ بحماقة. لكن ترتبط الآخرة في متخيل القارئ المشبع بالثقافة العربية بالمعري وبكتابه رسالة الغفران، يصف المعري بتفكه وبتفصيل بعث الموتى، الحساب، والجنة والجحيم. الآخرة كما يصفها مأدبة يتجاور فيها الشعراء والنحاة. فبطله ابن القريح Ibn al- Qarih)) لا يمكن أن يبعث إلا بصحبة الأدباء.
لا يستسيغ غويتيسولو إطلاقا مثل هذه الرؤية،يخاطب بطل روايته:" لا أتخيلك في إحدى هذه الأمسيات النشيطة تلك التي تحلو لمواطنيك، والتي تجمع شعراء، روائيين، نقاد، لغويين، ونحويين، بينما أنت تناقشهم مواضيع أدبية. إلى الأبد! يا له من عقاب قاس أن تجبر على مصاحبة جامعيين، ومتملقين حاملي أوسمة ووسطاء، ، شعراء كافافيين (Cavafiens) ربات فن متحذلقات، وبعض عديمي الشخصية المنتفخين بقناعتهم المتعجرفة والذين تنفر منهم باشمئزاز!"
والباعث أكثر للفضول هو أن المعري وصف الآخرة بينما هو لا يؤمن بالبعث والنشور. ربما لهذا السبب لم يلتقه غويتيسولو في برزخ. أو ربما حددا موعدا في موضع آخر،و في رواية أخرى.
|