لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > قسم الارشيف والمواضيع القديمة > الارشيف
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الارشيف يحتوي على مواضيع قديمة او مواضيع مكررة او محتوى روابط غير عاملة لقدمها


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 25-07-08, 07:34 PM   المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
كاتب
عضو قمة


البيانات
التسجيل: Jan 2008
العضوية: 61073
المشاركات: 2,843
الجنس ذكر
معدل التقييم: شرف عبد العزيز عضو على طريق التحسين
نقاط التقييم: 52

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شرف عبد العزيز غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : شرف عبد العزيز المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

معلومات عن المجلة

فكرة المجلة استوحتها من قرائتي المستمرة في الابحاث ، رأيت انه هناك ابحاث بها معلومات قيمة وفي ذات الوقت قصيرة ، ففكرت في ان نضع مجلة في منتدى البحوث الاكاديمية تشمل هذه الابحاث ، بحيث تكون مستمرة ، لان بعضا من الاعضاء لا بفضل الابحاث الطويلة التى تشتمل على معلومات كثيرة وتأخذ وقت في عرضها ، في ذات الوقت هذه الفكرة ستتيح لباقي الابحاث التي تشتمل على معلومات بها نقاش من اخذ فرصة اكثر من نقاشها وعرض نظريات خاصة بها ، لذلك فمن شروط الابحاث التى تضع فيها :

وهذا اهم شرط انه يجب ان يكون البحث شامل ، غير قابل للنقاش فيه ، اي لا يكون مفتوح للمناقشة .


يفضل ان يكون البحث قصير ، لكن طالما ان البحث مهم ومفيد وفي نفس الوقت طويل لا يوجد مانع عرضه .


فكرة المجلة هي ليست مجلة كما نراها في المكتبات والشوارع لكن هي ممكن نقول عليها موسوعة او فكرة جديدة من المجلات الثقافية ، لذلك فهي مفتوحة لاي بحث مقدم طالما انه مفيد وبه معلومات قيمة .


اكرر مرة اخرى يجب ان يكون البحث شامل ومنتهي ، وغير قابل للنقاش .


هناك بحث انا عرضته اسمه حدث في مثل هذا اليوم ، هذا البحث متروك للجميع ، من يريد المشاركة به فليتفضل ومرحبا به ، وايضا هو متجدد ومستمر ومحل بحث ، لانه اولا غير قابل للنقاش كذلك هو مفيد بالمعلومات القيمة الشاملة كافة العلوم ، ثانيا عالمنا مليئ بالاحداث والتطورات والتواريخ الهامة التى تغير العالم كله .


من يريد الاستفسار عن اي معلومات ، فاليتفضل .


اتمنى ان الفكرة تنول اعجابكم


تحياتي للجميع




 
 

 


التعديل الأخير تم بواسطة شرف عبد العزيز ; 25-07-08 الساعة 07:40 PM
عرض البوم صور شرف عبد العزيز  
قديم 25-07-08, 07:48 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
المبدعة الصغيرة



البيانات
التسجيل: Aug 2006
العضوية: 10339
المشاركات: 2,342
الجنس أنثى
معدل التقييم: Gon405 عضو على طريق التحسين
نقاط التقييم: 88

االدولة
البلدJapan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
Gon405 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : شرف عبد العزيز المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


مرحباً اخي شرف ^^ ..

كيف الحال ؟؟؟
إنـ شــاء الله بخيــر ^.^ ..

كالعادة متميــز في مـواضيعكـ يـا أخي ،،

فكرة جميلة جداً جداً جداً ،،
و في المستقبل القريب بإذن الله سوف تمتلئ صفحاتـ هذا الموضوع بالبحوث المميزة و المفيدة ،،

صراحة أنــا إلى الآن لم أقرأ أي بحثـ من البحوثـ التي قمتـ بوضعها أخي ،،
و لكني سوف أقوم بقراءتها إنـ شــاء الله ^^ ،،

الموضوع رااااااائع ^^ ،،

فعلاً مجهود يستحق الثنــاء و الشكر و التقديــر ،،

شــكراااا لكـ أخي على المجلة ^^ ،،

و تقبل فااائق احترامي و تقديري ..

تحياتي ...

 
 

 

عرض البوم صور Gon405  
قديم 25-07-08, 10:17 PM   المشاركة رقم: 8
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
كاتب
عضو قمة


البيانات
التسجيل: Jan 2008
العضوية: 61073
المشاركات: 2,843
الجنس ذكر
معدل التقييم: شرف عبد العزيز عضو على طريق التحسين
نقاط التقييم: 52

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شرف عبد العزيز غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : شرف عبد العزيز المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

اهلا ومرحبا بك استاذة gon
شكرا لكي على كلماتك الرقيقة ، اتمنى ان تشاركي في المجلة ............... تحياتي لكي

 
 

 

عرض البوم صور شرف عبد العزيز  
قديم 25-07-08, 10:36 PM   المشاركة رقم: 9
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
كاتب
عضو قمة


البيانات
التسجيل: Jan 2008
العضوية: 61073
المشاركات: 2,843
الجنس ذكر
معدل التقييم: شرف عبد العزيز عضو على طريق التحسين
نقاط التقييم: 52

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شرف عبد العزيز غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : شرف عبد العزيز المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

البحث الثالث


المدن المصرية القديمة




منف (من نفر ) :



مدينة المدائن فى مصر القديمة واول عاصمة لمصر الموحدة يعتقد انها شيدت فى عهد الملك "نعرمر "
عرفت باسماء رئيسية ثلاث وهى :
1- انب حج (الجار الابيض)
2- من نفر (ثابت وجميل )
3- ميت رهين(طريق الكباش)
ووصفت بالكثير من الصفات واستمرت عاصمة لمصر منذ الاسرة الاولى وحتى الثامنة ومنها خرجت احدى نظريات خلق الكون (نظرية بتاح صاحب الارض البارزة ) وفيها عبد الثالوث الشهير (بتاح - سخمت - نفرتوم )
ترتبط باسمها اشهر واكبر جبانات مصر (جبانة منف) واليها سعى ملوك مصر ليتركوا فيها أثرا تخليد لذكراهم
زارها الاسكندر الاكبر واستقرت مومياءه فيها لعام او اكثر انتظارا لاعداد مقبرته فى الاسكندرية
استحب معظم ملوك البطالمة ان يكون اسم الهها بتاح جزء من اسمائهم ومنها خرج تمثال رمسيس الثانى الذى يزهو به ميدان رمسيس وزواره وعشق الاغريق اسمها فأسموها "ممفيس "واطلقه احفاد الاغريق فى العالم الغربى على اسماء بعض مدنهم
وعلى ارضها اجتمع الكهنة عام 196 ق.م ليسجلوا الشكر للملك بطليموس الخامس تقديرا لما اغدق عليهم وعلى معابدهم وسجلوا قرارهم بالهيروغليفية والديموطيقية واليونانية وهو القرار الذى سجل على عشرات النسخ وشاء حسن حظنا ان تعثر الحملة الفرنسية عام 1799 فى رشيد على هذا الحجر الذى بفك رموزه بدأعلم المصريات
تتبع منف (التى تعرف حاليا بميت رهينة ) مركز البدرشين ورغم ان المدينة ظلت طوال التاريخ المصرى القديم تتبوأ مكانة مرموقة الا انها دخلت فى بعض الفترات فى دائرة النسيان واصابها الزحف العمرانى والزراعى وعبث الانسان
ولايمكن للمرء ان يتصور ان مدينة بهذه الاهمية وبهذا التاريخ الطويل لم يتبق فيها سوى اطلال لبعض المنشآت تتناثر هنا وهناك
ولعل بعض ضربات الاحتلال الاجنبى لمصر القدينة قد اصاب منف اصابات مباشرة فاحتلال الملك "بعنخى" (احد ملوك مملكة نباتا بالسودان القديم ) وسيطرة الاشوريين على المدينة على يد "اسر حدون" ثم "اشور بانيال" ادت الى تدمير ونهب المدينة ثم كانت الضربة القاضية على يد الملك الفارسى "قمبيز " الذى خرب المدينة وقتل كهنة الاله بتاح بل وقتل العجل ابيس
ورغم من ان المدينة استردت انفاسها فى العصر البطلمى وفى اوائل العصر الرومانى الا ان المرسوم الذى اصدره الامبراطور الرومانى "ثيودسيوس"بتخريب المعابد وتحطيم تماثيل الالهه قد حول المدينة الى حطام
وفى العصور التالية اصبحت المدينة بمثابةمحجر تنقل احجار منشآتها لتشيد بها منشآت اخرى لاغراض اخرى
تضمنت المدينة مجموعة من المعابد المكرسة للاله "بتاح"ولبقية الثالوث منها ذلك المعبد الشهير الذى يعرف ب "حت كابتاح"
ولم يتبق من هذه المعابد سوى اطلال معبد بتاح الكبير الذى كان يضم التمثال الواقف حاليا فى ميدان رمسيس للملك رمسيس الثانى شيد هذا المعبد فى عهد" رمسيس الثانى" واضاف اليه الملك" مرنبتاح" وملوك اخرين وهناك معبد اخر شيد ايضا فى عهد نفس الملكين وكان يتضمن مقصورة شيدت فى عهد الملك سيتى الاول
وكانت المدينة تضم مجموعة من القصور احدهما للملك "مرنبتاح "والثانى للملك "واح ايب رع"(ابريس) من الاسرة 26 ولاتزال اطلال المدينة تضم ذلك التمثال الضخم الراقد والمنحوت من الجرانيت الوردى والذى يعتبر آيه فى فن النحت فى مصر القديمة ومجموعة من تماثيل واقفة تحمل اسم "رمسيس الثانى" لكنه بعد دراسة متأنية اتضح انها تخص الملك
"سنوسرت الاول " من ملوك الاسرة12
وتضم المنطقة كذلك ثانى اضخم تمثال لابى الهول بعد تمثال الجيزة وهو منحوت من حجر الالبستر ويرجع للدولة الحديثة وهناك لوحة من عهد الملك "ابريس"
ومن آثار المنطقة معبد التحنيط الذى كان مخصصا لتحنيط العجل ابيس قبل دفنه فى سرابيوم سقارة ويؤرخ المعبد للاسرة 26 ولا يزال يضم بعض مناضد واوانى التحنيط والى الجنوب من معبد التحنيط عثر على مقبرة للامير "شاشانق" من الاسرة 22 كما عثر على جبانة من الدولة الوسطى وفى احد التلال المنطقة عثر على اطلال معبد حاتحور شيد فى الاسرة 19


2 - أبو سمبل

---------------------


أبو سمبل (Abu simbul) هو موقع أثري يوجد ببطن الجبل جنوبي أسوان. ويتكون من معبدين كبيرين نحتا في الصخر . وقد بناه الملك رمسيس الثاني عام 1250 ق.م. وواجهة المعبد تتكون من أربعة تماثيل كبيرة . تمثل الملك بارتفاع 67 (20 متر) قدما وباب يفضي الي حجرات طولها 180 قدما. توجد ستة تماثيل في مدخل المعبد الآخر أربعة منها لرمسيس الثاني واثنتين لزوجته نفرتاري
مشروع انقاذ معبدي أبي سمبل من الغرق
وكانت هذه الآثار مهددة بالغرق بسبب تكون بحيرة ناصر وراء السد العالي. فقامت الحكومة المصرية بالتعاون مع منظمة اليونسكو عام 1965 بنقل المعبد إلى مكان قريب ذو منسوب عالي لا تصله مياه بحيرة ناصر. المشروع تضمن تقطيع المعبد إلى أحجار كبيرة زنة 1-2 طن ثم رفعها ثم تجميعها في المكان الجديد.



3-


أبيدوس
--------



أبيدوس (بالهيروغليفية: "أب-ب-دجو" و بالإنجليزية: Abydos) مدينه بغرب البلينا سوهاج وقد كانت احد المدن القديمة بمصر العليا يجمع معظم العلماء على أنها عاصمة مصر الأولى في نهاية عصر ما قبل الأسر والأسر الأربع الأولى ويرجع تاريخها الي 5 آلاف سنة . و تقع بين أسيوط و الأقصر بالقرب من قنا. وكانت مدينة مقدسة أطلق عليها الاغريق تنيس. وحاليا يطلق عليها العرابة المدفونة بجرجا. وتبعد عن النيل 7 ميل . ويوجد بها معبد سيتي الأول و معبد رمسيس الثاني وهما يتميزان بالنقوش الفرعونية البارزة. وهذه المدينة كانت المركز الرئيسي لعبادة الاله أوزوريس. وكان يحج اليها قدماء المصريين ليبكوا الاله اوزوريس حارس الحياة الأبدية واله الغرب. و اكتشف فيها أقدم القوارب في التاريخ في المقابر القديمه الى الغرب من معبد سيتي الأول ابن رمسيس الأول مؤسس الأسره 18 و التي اشتهرت بتسمية الكثير من ملوكها برمسيس على أسم مؤسس الأسره




4-

أخت أتون

أخيتاتون (Akhetaton


)
أي أفق قرص الشمس.وهي مدينة قديمة يطلق عليها حاليا تل العمارنة بالمنيا بمصر . وتقع شرق النيل . بناها عام 1365 ق.م. الملك أخناتون لتكون العاصمة ومقر عقيدة آتون التوحيدية .وبعد وفاته هدمت ونهبت قصورها. ونقل توت عنخ آمون خلفه العاصمة ثانية لطيبة لاحياء عقيدة آمون.




5-

أون



أون هي مدينة الشمس او هليوبوليس كما اسماها اليونانيون وتقع في ضاحية بشمال شرق القاهرة حيث تقف مسلة من الجرانيت الاحمر خلف المنازل . وهي المعلم الوحيد الظاهر من مدينة عمرها سبعة آلاف سنة .ومدينة اون كانت مركز عبادة الشمس وهي مدفونة تحت ضاحية عين شمس ومنطقة المطرية القريبة منها . ففي غرب عين شمس حيث تقع معابد مدينة أون يجري التنقيب في منطقة تبلغ مساحتها 26800 متر مربع . وتضم أثارمعابد ومكتبات للفلسفة وعلوم الفلك والرياضيات. ووفقا للمعتقدات المصرية القديمة تقوم المدينة على الموقع الذي بدأت فيه الحياة . تسجل عصور العديد من الاسر وتعطي صورة اوضح لمدينة أون من الصورة التي اظهرتها المقابر التي عثر عليها في شرق عين شمس والتي لا تشير سوى الى من اقاموها . حيث عثرعن كنوز عديدة يجري ترميمها مثل مقبرة كاهن من الاسرة السادسة والعشرين ( ما بين عامي 664 و 525ق م) او يجري ردمها اذا وجدت في حالة غير قابلة للاصلاح .والموقع أرض غير مستوية تتناثر فوقها التوابيت الحجرية




6- إدفو



إدفو هي مدينة في شمال محافظة أسوان. جنوبي الأقصر بمصر . اكتشف بها جبانات من عصر الدولة القديمة . وبها معبد إدفو الذي شيد في العصر الأغريقي للإله حورس عام 237 ق.م.


هي عاصمة المركز وتقع غرب نهر النيل وتتوسط المركز وتبعد عن مدينة أسوان حوالي 100 كم شمالا وهي أكبر الوحدات المحلية من حيث عدد السكان وبها أهم الآثار ( معبد حوري البطلمي ) ويبلغ عدد سكانها 60,285 نسمة .





 
 

 

عرض البوم صور شرف عبد العزيز  
قديم 25-07-08, 10:58 PM   المشاركة رقم: 10
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
كاتب
عضو قمة


البيانات
التسجيل: Jan 2008
العضوية: 61073
المشاركات: 2,843
الجنس ذكر
معدل التقييم: شرف عبد العزيز عضو على طريق التحسين
نقاط التقييم: 52

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شرف عبد العزيز غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : شرف عبد العزيز المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

البحث الرابع


مقتطفات من عظماء الاسلام








العز بن عبد السلام
كان "العز بن عبد السلام" واحدًا من أشهر الشخصيات التي عرفها الناس في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) كان إمامًا فقيهًا وعالمًا متبحرًا في علوم الشريعة من فقه وحديث، ومؤلفًا عظيمًا له كتب قيمة .. لكن ذلك لم يكن وحده هو السبب في أن يلتف الناس حوله وأن يمنحوه حبهم وإعجابهم وتقديرهم .

إنما أحبه الناس لأنه عاش من أجلهم يعلمهم أمور دينهم .. يحارب البدع والخرافات .. ينصح الحكام، ويخوض ميادين الجهاد، ويواجه الظلم والطغيان .

طفولة ونبوغ

ولد "عبد العزيز بن عبد السلام" ، المعروف بالعز في مدينة "دمشق" سنة (577 ﻫ =1181م) وبها نشأ وتعلم، وكانت آنذاك تمتلأ بحلقات العلم في المساجد والمدارس، وقد تأخر "العز" عن زملائه في طلب العلم، لكنه نجح في تعويض ما فاته بالانتظام في حلقات الدرس، والمواظبة على المذاكرة بحب شديد وهمة عالية، وساعده ذكاؤه وفهمه العميق على إتقان الفقه والتفسير وعلوم القرآن والحديث، والتبحر في تحصيل اللغة والأدب والنحو والبلاغة. وبعد أن انتهى من دراسته اتجه إلى التدريس في بيته وفى مساجد دمشق ومدارسها التي كانت الدولة تنفق عليها وتجعلها تحت إشرافها .. واستطاع المدرس الشاب أن يجعل الطلاب يلتفون حوله بسبب غزارة علمه وإتقانه لدروسه، وبراعته في الشرح بالإضافة إلى حبه للدعابة وذكره للنوادر والفكاهات التي يلطف بها درسه، وتزيل الملل من نفوس طلابه .. وبهذه الطريقة أقبل عليه الطلاب وامتلأت حلقاته بهم .

خطيب الجامع الأموي بدمشق

كان "العز عبد السلام" خطيبًا بارعًا، يؤثر في مستمعيه بصدق عاطفته وغزارة علمه، وسلاسة أسلوبه، ووضوح أفكاره، وهذه المؤهلات جعلته جديرًا بأن يكون خطيب الجامع الأموي في دمشق وكانت خطبه في الجامع مدرسة يتلقى الناس فيها أمور دينهم، ويستمعون منه القضايا التي تهمهم، ويحل لهم المشكلات التي تعترض حياتهم.
وعرف عن الشيخ "العز بن عبد السلام" أنه كان لا يسكت عن خطأ أو تهاون في حق الأمة والوطن ..

فإذا علم أن هناك تجاوزات كشفها في الحال وبين موقف الإسلام منها .. وكانت هذه المواقف تسبب له مضايقات، لكنه لم يهتم بها ما دام قد أدى واجبه.

وفى إحدى خطبه أفتى بحرمة بيع السلاح للفرنج الصليبيين، وكانوا لا يزالون يحتلون أجزاء من بلاد الشام، بعد أن ثبت عنده أن هذه الأسلحة يستخدمها الفرنج في محاربة المسلمين.

وكان قد علم أن وفدًا من الصليبيين قد سمح لهم سلطان "دمشق" الصالح "إسماعيل" بدخول "دمشق" لشراء سلاح لهم من التجار المسلمين.

وكان لهذه الخطبة أثر كبير في الناس، فتناقلوها فيما بينهم، وأعجبوا كلهم بها إلا السلطان وحاشيته، فقام بعزل الشيخ عن الخطابة والإفتاء، وأمر بحبسه، لكنه أطلق سراحه بعد مدة خوفًا من غضب الناس وثورتهم و ألزمه بألا يغادر منزله.

الرحيل إلى "القاهرة"

سئم الشيخ "العز بن عبد السلام" العزلة التي فرضت عليه، ومنعه من إلقاء الدروس وإفتاء الناس، وكان يستشعر أن قيمة الإنسان فيما يعطى، وأن قيمته هو أن يكون بين الناس معلمًا ومفتيًا وخطيبًا لذلك قرر الذهاب إلى القاهرة، ورفض أن يتودد للسلطان ويستعطفه حتى يرضى عنه.

وصل الشيخ إلى "القاهرة" سنة (639 ﻫ = 1241 م) واستقبله سلطان "مصر" الصالح "أيوب" استقبالاً عظيمًا، وطلب منه على الفور أن يتولى الخطابة في جامع "عمرو بن العاص"، كما عينه في منصب قاضى القضاة، وجعله مشرفًا على إعادة إعمار المساجد المهجورة في "مصر"، وهذه الوظيفة أقرب ما تكون الآن إلى منصب وزير الأوقاف .

"العز بن عبد السلام" يبيع الأمراء

قبل الشيخ الجليل منصب قاضى القضاة ليكون مدافعًا عن الناس محافظًا على حقوقهم، حاميًا لهم من سطوة الظالمين وأصحاب النفوذ .. وفى أثناء عمله اكتشف أن الأمراء المماليك الذين يعتمد عليهم الصالح "أيوب" لا يزالون من الرقيق، لم يتحرروا بعد؛ لتذهب عنهم صفة العبودية، ورأى "العز بن عبد السلام" أن هؤلاء الأمراء لا يصح تكليفهم بإدارة شؤون البلاد ما داموا عبيدا أرقاء, وعلى الفور قام الشيخ الشجاع بإبلاغهم بذلك، وأوقف تصرفاتهم في البيع والشراء وغير ذلك من التصرفات التي يقوم بها الأحرار، وترتب على ذلك أن تعطلت مصالحهم، وكان من بين هؤلاء الأمراء نائب السلطان .

وحاول هؤلاء الأمراء أن يساوموا "العز بن عبد السلام"، ويجعلوه يرجع عما عزم عليه من بيعهم لصالح بيت مال المسلمين حتى يصيروا أحرارًا وتعود لهم كامل حقوقهم، لكنه رفض مساوماتهم وإغراءاتهم وأصر على بيعهم، ولما كان الموقف صعبًا على المماليك فإنهم رفضوا الامتثال لرأى الشيخ وفتواه، ورفعوا الأمر إلى السلطان الصالح "أيوب" ، فطلب السلطان من الشيخ التراجع عن فتواه فرفض، فأغلظ السلطان القول للشيخ واحتد عليه فانسحب الشيخ وترك السلطان وقد عزم على الاستقالة من منصبه.

مزاد لبيع الأمراء

ولما انتشر خبر استقالة الشيخ "العز" ومغادرته "القاهرة" حتى خرج الناس وراء الشيخ يرجونه في العودة، وفى الوقت نفسه أدرك السلطان خطأه فخرج هو الآخر في طلب الشيخ واسترضائه، وأقنعه بالعودة معه، فوافقه على أن يتم بيع الأمراء.
وكم كان المشهد مهيبًا جليلاً والشيخ "العز بن عبد السلام" واقف ينادى على أمراء الدولة واحدًا بعد آخر ويغالي في ثمنهم، والسلطان الصالح "أيوب" يدفع الثمن من ماله الخاص إلى الشيخ الشجاع الذي أودع ثمنهم بيت مال المسلمين. وكانت هذه الوقعة الطريفة سببًا في إطلاق لقب "بائع الملوك" على الشيخ "العز بن عبد السلام".

الأمراء أولاً في دفع الضرائب

وطالت إقامة الشيخ في "القاهرة" حتى شهد ولاية السلطان "سيف الدين قطز" سنة ( 657 ﻫ =1258 م)

وفى عهده أرسل المغول رسلاً إلى "القاهرة" تطلب منها التسليم دون قيد أو شرط، وكان المغول على أبواب "مصر" بعد أن اجتاحوا مشرق العالم الإسلامي، لكن سلطان "مصر" رفض هذا التهديد وأصر على المقاومة والدفاع، وكان الشيخ "العز بن عبد السلام" وراء هذا الموقف، يهيئ الناس للخروج إلى الجهاد .

واحتاج السلطان إلى أموال للإنفاق على إعداد المعركة، فحاول فرض ضرائب جديدة على الناس، لكن "العز بن عبد السلام" اعترض على ذلك وقال له : قبل أن تفرض ضرائب على الناس عليك أنت والأمراء أن تقدموا ما تملكونه من أموال لبيت مال المسلمين، فإذا لم تكف هذه الأموال في الإعداد للمعركة، فرضت ضرائب على الناس، واستجاب السلطان لرأى "العز بن عبد السلام"، وقام بتنفيذه على الفور ... وخرج المسلمون للقاء المغول في معركة "عين جالوت" وكان النصر حليفهم .

مؤلفات الشيخ ومكانته العلمية

كان الشيخ "العز بن عبد السلام" متعدد المواهب في الإفتاء والخطابة والقضاء والتدريس، وله مؤلفات كثيرة في التفسير والحديث والفقه والأصول والسيرة النبوية، ومن أشهر كتبه : "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، و"الغاية في اختصار النهاية" في الفقه الشافعي، و"مختصر صحيح مسلم"، و"بداية السول في تفضيل الرسول"، و"تفسير القرآن العظيم" .

شخصية الشيخ "العز"

كان الشيخ "العز" عالمًا حقيقيًّا يدرك أن دور العلماء لا يقتصر على إلقاء الدروس والخطابة وتعليم الطلاب، فاشترك في الحياة العامة مصلحًا يأخذ بيد الناس إلى الصواب، ويصحح الخطأ لهم ولو كان صادرًا من أمير أو سلطان، ولما كانت نفسه قوية امتلأت بحب الله ولم يعد فيها مكان للخوف من ذوى الجاه والسلطان، فهو لا يخاف إلا الله، ومن خاف الله هابه الناس واحترموه.

عاش الشيخ من أجل الناس وإصلاح حياتهم ودنياهم ، فعاش في قلوبهم ووجدانهم .. أحب الناس فأحبه الناس .

وفــــــــــاته

وقد امتدت الحياة بالشيخ الجليل فبلغ الثالثة والثمانين قضاها في خدمة الإسلام، والجهاد باللسان والقلم، وحمل السلاح ضد الفرنج ، حتى لقي ربه في (10 من جمادى الأولى 660 ﻫ = 2 من مارس 1261م) .

"العز بن عبد السلام" في سطور

* ولد "العز بن عبد السلام" في "دمشق" سنة (577 ﻫ = 1181 م) .

* تلقى تعليمه في "دمشق" ودرس الفقه والحديث والتفسير واللغة والأدب .

* بعد الانتهاء من دراسته جلس للتدريس في مساجد "دمشق" ومدارسها .

* عُين خطيبًا للجامع الأموي في "دمشق"، واشتهر بجراءته في قول الحق .

* ترك "دمشق" وانتقل إلى "القاهرة" سنة( 639 ﻫ = 1241 م) واستقبله السلطان "محمد الصالح أيوب" أحسن استقبال، وعينه في منصب قاضى القضاة.

* وفى أثناء توليه القضاء أفتى بضرورة بيع الأمراء المماليك لصالح بيت المال، لأنهم أرقاء وتصرفاتهم غير جائزة .

* ألف "العز بن عبد السلام" مؤلفات كثيرة في الفقه والحديث، من أشهرها.. "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" ، و"مختصر صحيح مسلم" ، و"بداية السول في تفضيل الرسول" .

* توفى في (10 من جمادى الأولى 660 ﻫ = 2 من مارس 1261 م) .





محمد الفاتح ... صاحب البشارة النبوية
ظل حلم فتح مدينة "القسطنطينية" (مدينة إستانبول الآن بتركيا) يداعب خيال الفاتحين المسلمين ثمانية قرون كاملة ، وجرت محاولات عديدة لفتحها لكنها لم تتم وذلك منذ عهد الصحابي الجليل "معاوية بن أبى سفيان" ، كلهم كان يود أن يكون هو صاحب البشارة النبوية التي بشر بها النبي – صلى الله عليه وسلم- بقوله :

" لتفتحن القسطنطينية ، فلنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش" ، فمن هو صاحب تلك البشارة ؟...إنه "محمد الفاتح" ابن السلطان العثماني "مراد الثاني".

طفولة "محمد الفاتح" .. والإعداد الجيد

ولد "محمد" ابن السلطان "مراد الثاني" في (27من رجب 835 ﻫ = 30 من مارس 1432م)
ونشأ تحت رعاية أبيه السلطان "مراد الثاني" سابع سلاطين الدولة العثمانيةالذي عمل على تعليمه وإعداده ليكون جديرًا بمنصب السلطان ، والقيام بمسئوليته ، فأتم "محمد الفاتح" حفظ القرآن ، وقرأ الحديث النبوي ، وتعلم الفقه الإسلامي .

ودرس "محمد الفاتح" الرياضيات والفلك وفنون الحرب والقتال ، وإلى جانب ذلك تعلم اللغات العربية والفارسية واللاتينية واليونانية ، وخرج مع أبيه في معاركه وفتوحاته .

ثم ولاه أبوه إمارة صغيرة ؛ ليتدرب على إدارة شئون الدولة تحت إشراف عدد من كبار علماء عصره ، وهو ما أثر في تكوين شخصية الأمير الصغير ، وبناء تفكيره بناءً إسلاميًّا صحيحًا .

وقد نجح الشيخ "آق شمس الدين "- وكان واحدًا ممن قام على تربية "محمد الفاتح" وتعليمه – في بث روح الجهاد والتطلع إلى معالي الأمور في نفس الأمير الصغير، وأن يلمح له بأنه المقصود ببشارة النبي – صلى الله عليه وسلم- .. وكان لهذا الإيحاء دور كبير في حياة "محمد الفاتح" فنشأ محبًّا للجهاد ، عالي الهمة والطموح ، واسع الثقافة ، وعلى معرفة هائلة بفنون الحرب والقتال .

توليه الحكم .. والعمل على تحقيق البشارة

وبعد وفاة أبيه السلطان "مراد الثاني" في (5 من المحرم 852 ﻫ = 7 من فبراير 145 م) تولى "محمد الفاتح" عرش الدولة العثمانية ، وكان شابًّا فتيًّا في العشرين من عمره ، ممتلأ حماسًا وطموحًا ، يفكر في فتح مدينة "القسطنطينية" عاصمة الدولة البيزنطية .. وسيطر هذا الحلم على مشاعر "محمد الفاتح" ، فأصبح لا يتحدث إلا في أمر الفتح ، ولا يأذن لأحد ممن يجلس معه أن يتحدث في موضوع غير هذا الموضوع .

وكانت الخطوة الأولى في تحقيق هذا الحلم هو السيطرة على مضيق "البسفور" حتى يمنع "القسطنطينية" من وصول أية مساعدات لها من أوروبا ، فبنى قلعة كبيرة على الشاطئ الأوروبي من مضيق "البسفور" ، واشترك هو بنفسه مع كبار رجال الدولة في أعمال البناء ، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى تم بناء القلعة التي عرفت بقلعة "الروم" ، وفى مواجهتها على الضفة الأخرى من "البسفور" كانت تقف قلعة "الأناضول" ، ولم يعد ممكنًا لأي سفينة أن تمر دون إذن من القوات العثمانية .

وفى أثناء ذلك نجح مهندس نابغة أن يصنع للسلطان "محمد الفاتح" عددًا من المدافع ، من بينها مدفع ضخم عملاق لم يُرَ مثله من قبل ، كان يزن (700) طن، وتزن القذيفة الواحدة (1500) كيلو جرام، وتسمع طلقاته من مسافات بعيدة ، ويجره مائة ثور يساعدها مائة من الرجال الأشداء وأطلق على هذا المدفع العملاق اسم المدفع السلطاني .

فتح "القسطنطينية" .. وتحقق البشارة

وبعد أن أتم السلطان "محمد" استعداداته زحف بجيشه البالغ (265) ألف مقاتل من المشاة الفرسان ومعهم المدافع الضخمة حتى فرض حصاره حول "القسطنطينية" ، وبدأت المدافع العثمانية تطلق قذائفها على أسوار المدينة الحصينة دون انقطاع ليلاً أو نهارًا ، وكان السلطان يفاجئ عدوه من وقت لآخر بخطة جديدة في فنون القتال حتى تحطمت أعصاب المدافعين عن المدينة وانهارت قواهم .

وفى فجر يوم الثلاثاء الموافق (20من جمادى الأولى 827 ﻫ = 29 من مايو 1453 م) نجحت القوات العثمانية في اقتحام الأسوار ، وزحزحة المدافعين عنها بعد أن عجزوا عن الثبات ، واضطروا للهرب والفرار ، وفوجئ أهالي "القسطنطينية" بأعلام العثمانيين ترفرف على الأسوار ، وبالجنود تتدفق إلى داخل المدينة كالسيل المتدفق .

وبعد أن أتمت القوت العثمانية فتح المدينة دخل السلطان "محمد"- الذي أطلق عليه من هذه اللحظة "محمد الفاتح" – على ظهر جواده في موكب عظيم وخلفه وزراؤه وقادة جيشه وسط هتافات الجنود التي تملأ المكان :

"ما شاء الله ، ما شاء الله ، يحيا سلطاننا ، يحيا سلطاننا "

ومضى موكب السلطان حتى بلغ كنيسة "آيا صوفيا" حيث تجمع أهالي المدينة ، وما إن علموا بوصول السلطان "محمد الفاتح" حتى خرُّوا ساجدين وراكعين ، ترتفع أصواتهم بالبكاء والصراخ لا يعرفون مصيرهم وماذا سيفعل معهم السلطان "محمد الفاتح" .

ولما وصل السلطان نزل عن فرسه ، وصلى ركعتين شكراً لله على توفيقه له بالفتح ، ثم توجه إلى أهالي المدينة ، وكانوا لا يزالون على هيئتهم وقال لهم :

قفوا ... استقيموا .. فأنا السلطان "محمد" أقول لكم ولجميع إخوانكم ولكل الموجودين إنكم منذ اليوم في أمان على حياتكم وحرياتكم .. .

ثم أمر السلطان "محمد الفاتح" بتحويل الكنيسة إلى مسجد ، وأذن فيه بالصلاة لأول مرة ، ولا يزال يعرف حتى الآن بجامع "آيا صوفيا" ، وقرر اتخاذ "القسطنطينية" عاصمة لدولته ، وأطلق عليها اسم "إسلام بول" آي دار الإسلام ، ثم حرفت بعد ذلك واشتهرت بإستانبول .

وسلك السلطان مع أهالي المدينة سلوكًا به رحمة وتسامح يتسم مع ما يأمرنا به الإسلام ، فأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم ، وقام بنفسه بفداء عدد كبير من الأسرى من ماله الخاص ، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار إلى منازلهم .


ما بعد فتح "القسطنطينية"

حقق "محمد الفاتح" هذا الإنجاز الكبير وهو في الثالثة والعشرين من عمره ، وكان هذا دليلاً على نبوغه العسكري المبكر ، واستحق بذلك بشارة النبي – صلى الله عليه وسلم- لمن يفتح هذه المدينة العريقة .

وبعد هذا اتجه "محمد الفاتح" إلى استكمال فتوحاته في بلاد "البلقان" ، فتمكن من فتح بلاد "الصرب" و"المورة" و"رومانيا" و"ألبانيا" وبلاد "البوسنة والهرسك" ، ثم تطلعت أنظاره إلى أن يكون إمبراطورًا على "روما" وأن يجمع فخارًا جديدًا إلى جانب فتحه "القسطنطينية" .

ولكي يحقق هذا الأمل الكبير كان عليه أن يفتح "إيطاليا" ، فاستعد لذلك وجهز أسطولاً عظيمًا ، ونجح في إنزال قواته وأعداد كبيرة من مدافعه بالقرب من مدينة "أوترانت" الإيطالية ، وتمكن من الاستيلاء على قلعتها ، وذلك في (جمادى الأولى 885 ﻫ = يوليو 1480م) .

وعزم "محمد الفاتح" على أن يتخذ من مدينة "أوترانت" قاعدة يزحف منها شمالاً حتى يصل إلى "روما" ، وفزع العالم الأوروبي من هذه المحاولة ، وانتظر سقوط مدينة "روما" العريقة في يد "الفاتح" ، لكن الموت هاجمه فجأة وهو يستعد لتحقيق هذا الحلم في (4 من ربيع الأول 886 ه = 3 من مايو 1481م) ، وابتهجت أوروبا كلها بعد سماعها نبأ الوفاة ، وأمر بابا "روما" أن تقام صلاة الشكر في الكنائس ابتهاجًا بهذا النبأ .

"محمد الفاتح" .. رجل دولة وراعى حضارة

اتسعت رقعة الدولة العثمانية في عهد "الفاتح" اتساعًا كبيرًا لم تشهده من قبل بفضل قيادته الحكيمة وسياسته الرشيدة .. ولم يكن ذلك كل إنجازات الفاتح ، فقد استطاع بمساعدة بعض رجاله الأوفياء من وضع دستور للدولة مستمد من كتاب الله تعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، والتزمت به الدولة العثمانية ما يقرب من أربعة قرون .

واستطاع على الرغم من انشغاله من إنشاء أكثر من (300) مسجد ، منها في العاصمة "إستانبول" وحدها (192) مسجدًا وجامعًا ، بالإضافة إلى (57) مدرسة ، ومن أشهر آثاره المعمارية مسجد "السلطان محمد" ، وجامع "أبى أيوب الأنصاري"، وقصر "سراي طوب قبو".

واشتهر "محمد الفاتح" بأنه كان محبًّا للأدب ، وكان شاعرًا مجيدًا يحب القراءة ويداوم عليها ، ويصاحب العلماء والشعراء ، ويولى بعضهم مناصب الوزارة ، وكان إذا سمع بعالم كبير في فن من الفنون قدم له العون والمساعدة ، أو يطلب منه أن يأتى إلى "إستانبول" للاستفادة من علمه .

شخصية "محمد الفاتح"

كان "محمد الفاتح" مسلمًا ملتزمًا بأحكام الشريعة الإسلامية ، ورجلاً صالحًا بفضل نشأته التي أثرت فيه تأثيرًا عظيمًا ، أما سلوكه العسكري فكان سلوكًا متحضرًا لم تشهده أوروبا في عصورها الوسطى .

وقد حقق "الفاتح" أعظم إنجازاته بفتح مدينة "القسطنطينية" العريقة بفضل طموحه القوى الذي زرعه فيه أساتذته ، والإيحاء له بأنه البطل الذي ستفتح على يديه " القسطنطينية" .

وسعى "الفاتح " إلى تحقيق أحلامه بالسعي الجاد والعمل المستمر والتخطيط المنظم، فقبل أن يحاصر "القسطنطينية" استعد لذلك بصب المدافع وإنشاء الأساطيل والاستفادة من كل الإمكانيات التي تساعده في النصر .

بالطموح العالي ، والعزيمة والإصرار ، والسعى إلى الهدف ، نجح "الفاتح" في جعل الحلم حقيقة ، والأمنية واقعًا ، وأن يكون واحدًا من أبطال الإسلام والفاتحين الكبار .




طارق بن زياد ... فاتح الأندلس
"طارق بن زياد" من القادة البارزين الذين سجلوا أسماءهم في صفحات تاريخ المسلمين المجيدة، مثل "خالد بن الوليد" و"سعد بن أبى وقاص" و "عمرو بن العاص" ، و"صلاح الدين الأيوبي" و"محمد الفاتح" .

وعلى يد "طارق بن زياد" قامت دولة للمسلمين في بلاد "الأندلس" المعروفة الآن بإسبانيا و"البرتغال" ، وقد ظلت تلك الدولة قائمة هناك ثمانية قرون .

هذا البطل العظيم ليس من أصل عربي ، ولكنه من أهالي البربر الذين يسكنون بلاد "المغرب" العربي ، وكثير من هؤلاء البربر دخل في الإسلام ، منهم "عبد الله" جد "طارق بن زياد" ، وهو أول اسم عربي إسلامي في نسبه ، أما باقي أجداده فهم من البربر الذين يتميزون بالطول واللون الأشقر .

بدايته

نشأ "طارق بن زياد" مثلما ينشأ الأطفال المسلمون ، فتعلم القراءة والكتابة وحفظ سورًا من القرآن الكريم وبعضًا من أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم- ، ثم ساعده حبه للجندية في أن يلتحق بجيش "موسى بن نصير" أمير "المغرب" ، وأن يشترك معه في الفتوح الإسلامية ، وأظهر شجاعة فائقة في القتال ، ومهارة كبيرة في القيادة لفتت أنظار"موسى بن نصير" ، فأعجب بمهاراته وقدراته ، واختاره حاكمًا "طنجة" المغربية التي تطل على البحر المتوسط .

التفكير في فتح بلاد "الأندلس"

كانت بلاد "الأندلس" يحكمها ملك ظالم يدعى " لذريق" ، كرهه الناس وفكروا في خلعه من الحكم والثورة عليه بالاستعانة بالمسلمين الذي يحكمون الشمال الإفريقي بعد أن سمعوا كثيرًا عن عدلهم ، وتوسط لهم الكونت "يوليان" حاكم "سبتة" القريبة من "طنجة" في إقناع المسلمين بمساعدتهم ، واتصل بطارق بن زياد يعرض عليه مساعدته في التخلص من "لذريق" حاكم الأندلس ، وقد رحب "طارق" بهذا الطلب ، ووجد فيه فرصة طيبة لمواصلة الفتح والجهاد ، ونشر الإسلام وتعريف الشعوب بمبادئه السمحة ، فأرسل إلى "موسى بن نصير" أمير "المغرب" يستأذنه في فتح "الأندلس" ، فطلب منه الانتظار حتى يرسل إلى خليفة المسلمين "الوليد بن عبد الملك" بهذا العرض ، ويستأذنه في فتح "الأندلس" ويشرح له حقيقة الأوضاع هناك ، فأذن له الخليفة ، وطلب منه أن يسبق الفتح حملة استطلاعية يكشف بها أحوال "الأندلس" قبل أن يخوض أهوال البحر .

حملة "طريف" الإستطلاعية

واستجابة لأمر الخليفة بدأ "طارق" يجهز حملة صغيرة لعبور البحر المتوسط إلى "الأندلس" بقيادة قائد من البربر يدعى "طريف بن مالك" ، وتضم خمسمائه من خير جنود المسلمين وذلك لاستكشاف الأمر ومعرفة أحوال "الأندلس" ، وتحركت هذه الحملة في شهر رمضان من سنة (91 ه = يوليو 710 م) فعبرت في أربع سفن قدمها لها الكونت "يوليان" ، ونزلت هناك على الضفة الأخرى في منطقة سميت بجزيرة "طريف" نسبة إلى قائد الحملة ، وقامت هذه الحملة الصغيرة بدراسة البلاد وتعرفوا جيدًا عليها ، ولم تلق هذه الحملة أية مقاومة وعادت بغنائم وفيرة.

حملة "طارق بن زياد"

وقد شجعت نتيجة هذا الحملة أن يقوم "طارق بن زياد" بالاستعداد لفتح بلاد "الأندلس" ، وبعد مرور أقل من عام من عودة حملة "طريف" خرج "طارق بن زياد" في سبعة آلاف جندي معظمهم من البربر المسلمين ، وعبر مضيق البحر المتوسط إلى " الأندلس" ، وتجمع المسلمون عند جبل صخري عرف فيما بعد باسم جبل "طارق" في (5 من شهر رجب 92 ه = 27 من إبريل 711 م) .

وأقام "طارق" بتلك المنطقة عدة أيام ، وبنى بها حصنًا لتكون قاعدة عسكرية بجوار الجبل ، وعهد بحمايتها إلى طائفة من جنده لحماية ظهره في حالة اضطراره إلى الانسحاب .

ثم سار "طارق بن زياد " بجيشه مخترقًا المنطقة المجاورة بمعاونة الكونت "يوليان" ، وزحف على ولاية "الجزيرة الخضراء" واحتل قلاعها ، وفى أثناء ذلك وصلت أنباء الفتح إلى أسماع "لذريق" ، وكان مشغولاً بمحاربة بعض الثائرين عليه في الشمال ، فترك قتالهم ، وأسرع إلى "طليطلة" عاصمة بلاده ، واستعد لمواجهة جيش المسلمين .

كان "طارق بن زياد" قد سار بجيشه شمالاً إلى "طليطلة" وعسكرت قواته في سهل واسع ، يحدها من الشرق نهر "وادي لكة" ، ومن الغرب نهر "وادي البارباتى" ، وفى الوقت نفسه أكمل "لذريق" استعداداته ، وجمع جيشًا هائلاً بلغ مائة ألف مقاتل مزودين بأقوى الأسلحة ، وسار إلى الجنوب للقاء المسلمين ، وهو واثق كل الثقة من تحقيق النصر .

ولما علم "طارق" بأنباء هذه الحشود بعث إلى "موسى بن نصير" يخبره بالأمر ، ويطلب منه المدد ، فبعث إليه بخمسة آلاف جندي من خيرة الرجال ، وبلغ المسلمون بذلك اثني عشر ألفًا.

اللقاء المرتقب

رحل "لذريق" إلى بلدة "شذونة" وأتم بها استعداداته ، ثم اتجه إلى لقاء المسلمين ، ودارت بين الفريقين معركة فاصلة بالقرب من "شذونة" وكان اللقاء قويًّا ابتدأ في

(28 من رمضان 92 ﻫ = 18 من يوليو 711م ) وظل مستمرًّا ثمانية أيام ، أبلى المسلمون خلالها بلاء حسنًا ، وثبتوا في أرض المعركة كالجبال رغم تفوق عدوهم في العدد والعدة ، ولم ترهبهم قوته ولا حشوده ، وتفوقوا عليه بالإعداد الجيد ، والإيمان القوى ، والإخلاص لله، والرغبة في الشهادة في سبيل الله.

وتحقق لهم النصر في اليوم الثامن من بدء المعركة ، وفر "لذريق" آخر ملوك القوط عقب المعركة ، ولم يعثر له على أثر ، ويبدو أنه فقد حياته في المعركة التي فقد فيها ملكه .

ما بعد النصر

وبعد هذا النصر العظيم طارد "طارق بن زياد" فلول الجيش المنهزم ، وسار بجيشه يفتح البلاد ، ولم يجد مقاومة عنيفة في سيرة تجاه الشمال ، وفى الطريق إلى "طليطلة" عاصمة القوط كان "طارق" يرسل حملات عسكرية صغيرة لفتح المدن ، مثل "قرطبة" ، و"غرناطة" و"ألبيرة" و"مالقة" .

وواصل "طارق" سير شمالاً مخترقًا هضاب "الأندلس" حتى دخل "طليطلة" بعد رحلة طويلة شاقة بلغت أكثر ما يزيد على (600) كيلومتر عن ميدان المعركة التي انتصر فيها .

ولما دخل "طارق" مدينة "طليطلة" أبقى على من ظل بها من السكان ، وأحسن معاملتهم ، وترك لهم كنائسهم , وتابع زحفه شمالاً حتى وصل إلى خليج "بسكونيه" ، ثم عاد ثانية إلى "طليطلة" ، وكتب إلى "موسى بن نصير" يحيطه بأنباء هذا الفتح وما أحرزه من نصر ، ويطلب منه المزيد من الرجال والعتاد لمواصلة الفتح ونشر الإسلام في تلك المناطق وتخليص أهلها من ظلم القوط .

"موسى بن نصير" والمشاركة في فتح "الأندلس"

كان "موسى بن نصير" يتابع سير الجيش الإسلامي بقيادة "طارق بن زياد " في "الأندلس" ، وأدرك أنه في حاجة إلى عون ومساندة ، بعد أن استشهد كثير من المسلمين في المعارك التي خاضوها ، فعبر إلى "الأندلس" في ثمانية عشر ألف جندي في (رمضان 93 ﻫ = يونيه 712 م) ، وسار بجنوده في غير الطريق الذي سلكه "طارق بن زياد" ، ليكون له شرف فتح بلاد جديدة ، حتى وصل إلى "طليطلة" والتقى بطارق بن زياد .

وبعد أن استراح القائدان قليلاً في "طليطلة" عاودا الفتح مرة ثانية ، وافتتحا "سرقسطة" و"طركونة" و"برشلونة" وغيرها من المدن ، ثم افترق الفاتحان ، وسار كل منهما في ناحية حتى أتما فتح "الأندلس" .

العودة إلى "دمشق"

بينما القائدان يفتحان البلاد وصلت رسالة من الخليفة "الوليد بن عبد الملك" يأمرهما فيها بالتوقف عن الفتح ، والعودة إلى "دمشق" لتقديم بيان عن أخبار الفتح، وكان القائدان قد نظما شئون البلاد، واتخذا من "إشبيلية" عاصمة جديدة للأندلس لقربها من البحر .

وبعد ذلك غادر القائدان "الأندلس" وواصلا السير إلى "دمشق" عاصمة الدولة الأموية ، فوصلاها بعد تولية "سليمان بن عبد الملك" الخلافة بعد وفاة أخيه "الوليد"، وقدما له تقريرًا وافيًا عن الفتح ، فاستبقاهما الخليفة إلى جواره وأقام "طارق بن زياد" هناك ، مكتفيًا بما حققه من فتوحات عظيمة خَّلدت اسمه بين الفاتحين العظام من المسلمين .

شخصية "طارق بن زياد"

كان "طارق بن زياد" قائدًا عظيمًا استطاع بإيمانه وصبره وعزيمته وإصراره أن يصل إلى هذه المكانة العظيمة .

ونجح في تحقيق هذه الانتصارات لأنه كان يفكر في كل خطوة يخطوها ، ويتأنى في اتخاذ القرار، ويجمع المعلومات قبل التحرك ، فقبل أن يعبر إلى "الأندلس" أرسل حملة استطلاعية كشفت له أحوال "الأندلس" .

كما كان مؤمنا صادق الإيمان على يقين من نصر الله حتى في أحرج الأوقات ، فظل ثمانية أيام يحارب عدوه في لقاء غير متكافئ من حيث العدد والعدة ، لكنه تمكن من تحقيق النصر في النهاية بفضل الله تعالى .

"طارق بن زياد" في سطور

- قائد عظيم من أصول غير عربية ، فهو من أبناء قبائل البربر في بلاد "المغرب" التي فتحها المسلمون .

- مكنته مواهبه العسكرية من الترقى في جيش "موسى بن نصير" حتى وصل إلى أرفع المناصب .

- ولاه "موسى بن نصير"إمارة مدينة "طنجة" تقديرًا لكفاءته .

- اتصل به الكونت "يوليان" وطلب منه المساعدة في فتح "الأندلس" وتخليص أهلها من ظلم القوط .

- عبر "طارق بن زياد" بجنوده البحر المتوسط إلى بلاد "الأندلس" ، وتجمعوا عند جبل لا يزال يعرف إلى الآن بجبل طارق .

- دخل في معركة حاسمة مع "لذريق" ملك القوط في "شذونة" ، ونجح في تحقيق نصر عظيم بعد ثمانية أيام من القتال العنيف .

- نجح بعد ذلك في مواصلة الفتح والاستيلاء على "طليطلة" عاصمة القوط .

- ذهب إليه "موسى بن نصير" ، وقام القائدان باستكمال فتح "الأندلس" .

- بعد إتمام الفتح ذهب إلى "دمشق" حيث مقر الخلافة الأموية ، وقدم تقريرًا عن الفتح للخليفة الأموي ، وأقام هناك ولم يعد لمواصلة الفتح .






صلاح الدين الأيوبي ... قاهر الصليبيين
بطل من أبطال الإسلام ظهر في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادى) ، استطاع أن يوحد الأمة ويجمع شمل "مصر" و"الشام" و"العراق" في يوم من أعظم أيام الإسلام ، وقد بهر هذا البطل أعداءه قبل أنصاره بسماحته وأخلاقه الكريمة ..
ولا يزال التاريخ يشهد له بذلك، وكانت سماحته سماحة القوى المنتصر لاسماحه الضعيف المغلوب .. فقد كان فارسًا نبيلاً وبطلاً شهمًا وقائدًا إنسانًا، التزم بأخلاق الإسلام وشريعته السمحة التي تدعو إلى العفو والإحسان .


مولده في بيت إمارة

ولد "صلاح الدين الأيوبي" في قلعة "تكريت" بالعراق سنة (532ﻫ = 1138م) ، وفى الليلة التي ولد فيها غادرت أسرته "تكريت" إلى "الموصل" ، وبعد عام أنتقل إلى مدينة "بعلبك" ، حيث عُيِّن أبوه حاكمًا عليها .

وفى هذه المدينة التي تقع الآن في "لبنان" عاش "صلاح الدين الأيوبي" طفولته وتلقى تعليمه بها ، فحفظ القرآن ودرس الحديث والفقه واللغة والتاريخ ، وتعلم فنون الفروسية والقتال .

وبعد أن صار شابًّا سافر إلى "حلب" والتحق بعمه "أسد الدين شيركوه" وكان بطلاً ماهرًا ، ومن رجال "نور الدين محمود" سلطان "حلب " و"دمشق" .

"صلاح الدين" وزيرًا

وفى أثناء هذه الفترة كانت الدولة الفاطمية في "مصر" تمر بلحظات ضعف شديد، في ظل الخليفة "العاضد" الذي لم يكن يسيطر تمامًا على البلاد، وشهدت صراعًا بين اثنين من كبار أمرائها هما "شاور" و"ضرغام" على منصب الوزارة ، ولم يستطع أحدهما أن ينتصر على الآخر .. فلجأ كل منهما إلى الاستعانة بقوى خارجية تساعده في تحقيق هدفه ، فاستعان "ضرغام" بالصليبيين الذين كانوا يحتلون ساحل الشام ، ويستولون على بيت المقدس ، واستعان "شاور" بنور الدين محمود ، وكان يقود حركة الجهاد ويقاوم الصليبيين .

أرسل "نور الدين محمود" إلى "مصر" "أسد الدين شيركوه" على رأس حملة عسكرية، وبصحبته ابن أخيه "صلاح الدين" الذي كان عمره آنذاك سبعة وعشرين عامًا .

واستطاعت هذه الحملة بعد عدة محاولات سنة (564ﻫ = 1168م) أن تسيطر على "مصر" ، بعدها تولى "أسد الدين شيركوه" قائد الحملة منصب الوزارة للعاضد آخر خلفاء الدولة الفاطمية ، ثم لم يلبث أن تُوفي "شيركوه" بعد شهرين ، فخلفه في الوزارة ابن أخيه "صلاح الدين" .

مصر تعود إلى أحضان الخلافة العباسية

كانت مصر آنذاك تحت حكم الدولة الفاطمية التي تدين بالمذهب الإسماعيلي الضال، وفى الوقت نفسه كان "صلاح الدين" من أهل السنة ويدين بالولاء لنور الدين محمود سلطان حلب التابع لدولة الخلافة العباسية السنية . وكان على "صلاح الدين" أن يقضى على الدولة الفاطمية التي كانت تقترب من النهاية ، ويعود بمصر إلى أحضان الخلافة العباسية .

وفضل " صلاح الدين " الوسائل السلمية ، فقام بعزل القضاة الشيعة ، وعيَّن مكانهم قضاة من أهل السنة ، وبدأ في إنشاء سلسلة من المدارس التي تدرس مذاهب الفقه الحنفي والشافعي والمالكي .

وبعد ثلاث سنوات كانت الأجواء مهيأة للتغيير بعد أن ساد مذهب أهل السنة .

صلاح الدين والوحدة الإسلامية

كان "صلاح الدين" يحزن للوجود الصليبي في بلاد الشام ، ويبكى ألمًا لأن مدينة القدس لا تزال محتلة .. ولكن كيف السبيل إلى إخراج هؤلاء المحتلين ؟ كان "صلاح الدين" يعرف الإجابة التي تتلخص في عبارة واحدة هي "الوحدة الإسلامية".

وقد بدأ "صلاح الدين" حكمه بالعدل بين الناس , وبإعداد الجند وتدريبهم أحسن تدريب , وبث فيهم روح الجهاد والثقة في نصر الله لتحقيق حلم الوحدة الإسلامية.. وكانت البداية أن استنجدت به مدينة "دمشق" ، فتحرك إليها ، وتمكن من السيطرة عليها وضمها إلى" مصر" كما ضم "حماة" و"بعلبك" و"حلب" وهذه الوحدة الإسلامية استغرقت من "صلاح الدين الأيوبي" أكثر من عشر سنوات من الجهد الشاق والعمل الجاد من سنة (570ﻫ = 1174م) حتى سنة (582ﻫ = 1186م) ، وفى أثناء ذلك لم يدخل في حروب مع الصليبيين حتى تكتمل خطته في الإعداد لمحاربتهم .

من "حطين" إلى فتح بيت المقدس

بعد أن أقام "صلاح الدين" دولة قوية واطمأن إلى وحدتها وتمسكها بكتاب الله وسنته انتقل إلى الخطوة الأخرى وهى قتال الصليبيين وطردهم من البلاد ، وبدأ في سلسلة من المعارك انتصر فيها ، ثم حقق النصر العظيم على الصليبيين في معركة "حطين" سنة 583ﻫ = 1187م)
خسر فيها العدو زهرة شباب جنوده ، ووقع في الأسر ملك القدس وكبار قادة الصيلبيين . وترتب على هذا النصر العظيم أن سقطت المدن والقلاع التي أقامها الصليبيون في يد "صلاح الدين" ، مثل "طبرية" و"عكا" و"قيسيارية" و "نابلس" و"يافا" و"بيروت" .

وأصبحت الطريق ممهدة لأن يفتح "القدس" التي ظلت تحت أيدي الصليبيين لمدة تزيد على تسعين عامًا، فتقدم "صلاح الدين" إلى مدينة "القدس" وحاصرها حصارًا شديدًا حتى استسلمت وطلب حكامها الصلح ، ودخل "صلاح الدين" "القدس" في مشهد عظيم وفى يوم من أعظم أيام الإسلام ، وفرح المسلمون في كل مكان بهذا النصر العظيم الذي أعاد لهم بيت المقدس: أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى نبينا "محمد" -صلى الله عليه و سلم- ليلة الإسراء والمعراج في (27 من رجب 583 ﻫ = 2 من أكتوبر 1187م) .

عفو "صلاح الدين" عن الصليبيين وسماحه لهم بالمغادرة

وتجلت سماحة "صلاح الدين" في دخوله مدينة القدس ، فلم يثأر للمذابح التي ارتكبها الصليبيون عندما احتلوا المدينة ، ولكنه سمح لكل صليبي أن يفتدى نفسه، كما أعفى أكثر من ألفين من الأسرى من دفع الفدية ؛ لأنهم لم يكن معهم مال ليفتدوا به أنفسهم ، كما أطلق سراح كل شيخ وامرأة عجوز ، ومنح الأرامل واليتامى والمحتاجين أموالا، كلُّ حسب حاجته .

أوربا تدعو للثأر والانتقام

ارتجت أوربا لاسترداد المسلمين لمدينتهم المقدسة ، وتعالت الصيحات تدعو للثأر والانتقام من المسلمين ، فأرسلت حملة من أقوى الحملات الصليبية وأكثرها عددًا وأعظمها سلاحًا ، وتكونت هذه الحملة من ثلاثة جيوش: ألمانية وفرنسية وإنجليزية ، نجح جيشان منها في الوصول إلى مواقع الأحداث ، لكن ملك ألمانيا غرق هو وجيشه في أثناء عبوره أحد الأنهار بآسيا الصغرى .

واستطاع الجيش الفرنسي بقيادة "فيليب أغسطس" من أخذ مدينة "عكا" من المسلمين ، واستولى الجيش الإنجليزي بقيادة "ريتشارد قلب الأسد" على بعض المدن الساحلية من "صور" إلى "حيفا" .. وتصدى "صلاح الدين" لهؤلاء، وصمد صمودًا عظيمًا أمام جيوش الصلبيين التي كانت تهدف إلى احتلال بيت المقدس؛ مما اضطر "ريتشارد قلب الأسد "إلى طلب الصلح مع "صلاح الدين" والرجوع إلى بلاده ، ثم لحق به ملك فرنسا.

"صلاح الدين" .. من دعاة الحضارة والإصلاح

كان"صلاح الدين" سياسيًّا قديرًا ومن دعاة الحضارة و الإصلاح ، فاهتم بالمؤسسات الاجتماعية التي تساعد الناس وتخفف عنهم عناء الحياة ، وتعهد بالإنفاق على الفقراء والغرباء الذين يلجؤون للمساجد للعيش فيها ، وجعل من مسجد "أحمد بن طولون" في "القاهرة" مأوى للغرباء الذين يأتون إلى "مصر" من بلاد "المغرب".
ومن أشهر أعماله التي أقامها في "القاهرة" قلعة الجبل لتكون مقرًّا لحكومته ، وحصنًا منيعًا يمكنه من الدفاع عن "القاهرة" ، كما أحاط "الفسطاط" و"العسكر" و"القاهرة" بسور طوله (15كم) وعرضه ثلاثة أمتار ، وتتخلله الأبراج ، ولا تزال أجزاء منه قائمة حتى اليوم في جهات متفرقة .

وفاة "صلاح الدين"

وفى أثناء مفاوضات صلح "الرملة" التي جرت بين المسلمين والصليبيين مرض السلطان "صلاح الدين" ولزم فراشه ، ثم توفي في (27 من صفر 589ﻫ = 4 من مارس 1193 م) .

ولما توفى لم يترك مالاً ولا عقارًا ، ولم يوجد في خزانته سوى دينار واحد وسبعة وأربعين درهمًا ، فكان ذلك دليلاً على زهده وطهارة يده .

شخصية صلاح الدين

جمع "صلاح الدين" في شخصيته أخلاق الفارس النبيل ، ومواهب رجل الدولة ، فهو شجاع لا يهاب أعداءه ، لكنه في الوقت نفسه يستعد لهم أحسن استعداد؛ لذلك لم يدخل معاركه ضد الصليبيين قبل الإعداد لهم ، وهو يدرك أن النصر لا يأتى إلا مع الاتحاد ووحدة الصف ، وأن عدوه لم يتفوق إلا بسبب تفرق المسلمين ؛ لذلك عمل على جمع شمل "مصر و"الشام" و"العراق" تحت قيادته .

واشتهر بسماحته وحبه للسلام حتى صار مضرب الأمثال ، فعامل الصلبيين بعد استسلام مدينة "بيت المقدس" معاملة طيبة ، وقبل الفداء من أسراهم ، وأطلق سراح نسائهم وأطفالهم .

"صلاح الدين" في سطور

* ولد في قلعة "تكريت" بالعراق سنة (532ﻫ = 1138م) .

* نشأ وتعلم في مدينة "بعلبك" اللبنانية .

* عاد إلى "حلب" بعد أن صار شابًّا والتحق بخدمة عمه "أسد الدين شيركوه" .

* خرج مع عمه لاسترداد "مصر" وحمايتها من الوقوع في أيدى الصليبيين .

* تولى الوزارة في "مصر" وعلى يديه سقطت الدولة الفاطمية .

* عمل "صلاح الدين " أكثر من عشر سنوات متصلة من (570 ﻫ– 582 ﻫ) من أجل الإعداد لمواجهة الوجود الصليبي .

* دخل في معارك مع الصليبيين وتوج انتصاراته في "حطين" واسترد بيت المقدس.

* تصدى للحملة الصليبية التي قدمت من أوربا لاستعادة بيت المقدس .

* عقد مع تلك الحملة صلحًا اشتهر بصلح الرملة .

* قام بإنجازات حضارية، مثل : إنشاء المساجد والمدارس وبناء القلاع ، ومن أشهرها قلعة "الجبل" التي أقامها بالقاهرة .

* تُوفي "صلاح الدين" بعد حياة حافلة بالجهاد في (27 من صفر 829 ﻫ= 4 من مارس 1193م) .





الحسن البصري ( من كبار التابعين )

كبار التابعين، وعلم بارز من أعلام المسلمين، كان فقيهًا عالمًا، وعابدًا تقيًّا ورعًا، عرف بفصاحة اللسان، وروعة البيان، والحكمة، والزهد، وغزارة العلم، إنه التابعى الجليل شيخ أهل البصرة "أبو سعيد الحسن بن أبى الحسن بن يسار البصري" .

مولده ونشأته

ولد "الحسن البصري" بالمدينة المنورة فى خلافة أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" – رضى الله عنه – سنة (21 ﻫ) الموافق (642 م)، لأبوين من الرقيق، وكان أبوه قد وقع فى أسر المسلمين عند فتح منطقة "ميسان" الواقعة بين "البصرة" و "واسط" بأرض "العراق"، فأسلم، وسكن "المدينة"، وتزوج من جارية تسمى "خيرة"، وكانت مولاة لأم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أعتقتها أم المؤمنين – رضى الله عنها – بعد أن ولدت "خيرة" ولدها "الحسن". نشأ "الحسن" مع أسرته فى "وادى القرى" بالقرب من "المدينة المنورة"،
واستطاع أن يحفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ الرابعة عشرة من عمره، كما تعلم القراءة والكتابة والحساب، وسمع كثيرًا من أقوال الصحابة – رضى الله عنهم – وكان يسمع أمير المؤمنين "عثمان بن عفان"، وهو يخطب "الجمعة"، وكان عمر "الحسن" – يومئذٍ - أربع عشرة سنة .

الذهاب إلى البصرة وطلب العلم

انتقل "الحسن" إلى مدينة "البصرة" بالعراق عام (36 ﻫ) الموافق (656 م)، وكان عمره – حينئذٍ- نحو (15) عامًا، وبدأ يتلقى العلم من فقه وحديث ولغة على عدد كبير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -الموجودين بالبصرة، كما قرأ القرآن الكريم على "حطان بن عبد الله الرقاشي"، وأخذ طريقة الوعظ والتذكير والقص (حكاية القصص) عن الشاعر "ابن سريع التميمي"، وقد أعجب "الحسن" بالوعظ والقص فاتخذ لنفسه مكانًا فى مسجد "البصرة" ليعلم الناس فيه، وكان كثير من رواة القصص - فى ذلك الوقت - قد ابتعدوا عن النهج السليم فى القص، وجنحوا إلى المبالغة والتهويل، فمُنِعوا – جميعًا- من القص فى "جامع البصرة" إلا "الحسن البصري"؛ فقد كان يتكلم فى أحوال الآخرة والتذكير بالموت، والتنبيه على عيوب النفس وكيفية علاجها بما تعلمه من كتاب الله – عز وجل – وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وصحابته الكرام – رضوان الله عليهم أجمعين .

مجلسه

كانت للحسن البصري حلقة علم كبيرة فى جامع "البصرة"، يعلم الناس فيها الحديث النبوي الشريف، والفقه، والقرآن، واللغة، والبلاغة، كما كانت له حلقة علم خاصة فى منزله، يعلم الناس فيها الزهد والرقائق .
وقد كان "الحسن" من أفقه الناس، وأعلمهم بالحلال والحرام، كما كان تقيًّا ورعًا محبًّا لدين الله – عز وجل – منتهجًا صراطه المستقيم فى جميع أموره، آخذًا على عاتقه مسئولية إرشاد الناس ونصحهم، وإنقاذ المجتمع من حوله مما أخذ ينتشر بينهم من انحرافات وابتعاد عن دين الله، فقد كان"الحسن البصري" على عقيدة سلف الأمة الصالح، تتلمذ عليهم، وسعد بصحبتهم، وتأثر بهم، وانتهج منهجهم، واهتدى بهديهم .

قاضى البصرة

كان "الحسن البصري" كثير النصح للحكام والأمراء لا يخشى فى الله لومة لائم، وقد علت شهرته وزادت كثيرًا فى أواخر زمن الخليفة الأموي "معاوية بن أبى سفيان"، وقد عاصر "الحسن" "الحجاج بن يوسف الثقفي" حاكم "العراق"، وكان "الحسن البصري" شديد الإنكار لسياسة "الحجاج" القاسية فى الحكم .

وكان "الحسن البصري" من المقربين إلى الخليفة الأموي الراشد "عمر بن عبد العزيز"، وكان – رضى الله عنه – يحبه كثيرًا، ويستشيره فى بعض أمور الحكم، وقد تولى "الحسن" منصب القضاء بالبصرة سنة (102ﻫ) الموافق (720 م) وكان لا يأخذ على منصبه هذا أجرًا .

شخصية الإمام ووصفه

كان الإمام "الحسن البصري" – رحمه الله – عالمًا فذًّا، واسع المعرفة، فصيحًا، بليغًا، عابدًا، تقيًّا، كثير الصيام، زاهدًا، ورعًا، إذا قرأ القرآن يبكى حتى ينحدر الدمع على لحيته، وكان شجاعًا كثير الجهاد فى سبيل الله، وقد كان "المهلب بن أبى صفرة" إذا قاتل المشركين قدم الإمام "الحسن البصري" فى الصفوف الأولى من الجيش، وكان – رحمه الله – موضع إعجاب وتقدير كثير من علماء عصره، فقال "أبو بردة"، عنه : "ما رأيت رجلاً قط لم يصحب النبي -صلى الله عليه و سلم-، أشبه بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -من هذا الشيخ" .

وقال عنه "أبو قتادة العدوي" : "عليكم بهذا الشيخ، فإني والله ما رأيت رجلاً قط أشبه رأيًا بعمر بن الخطاب منه"، وقال عنه أيضًا : "كان الحسن البصري من أعلم الناس بالحلال والحرام" .

وقال "حميد" و"يونس بن عبيد":"ما رأينا أحدًا أكمل مروءة من الحسن البصري".

وقالا- أيضًا- : "قد رأينا الفقهاء فما رأينا منهم أجمع من الحسن البصري ".

وقال "عوف"، "ما رأيت رجلاً أعلم بطريق الجنة من الحسن البصري " .

من أقوال "الحسن البصري"


كان "الحسن البصري" حكيمًا فصيحًا بليغًا يتكلم كلامًا كأنه الدر، ومن أقواله التى أثرت عنه أنه قال : "ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم، ذهب بعضك"

وقال "يا ابن آدم لا ترضِ أحدًا بسخط الله، ولا تطيعن أحدًا فى معصية الله، ولا تحمدن أحدًا على فضل الله، ولا تلومن أحدًا فيما لم يؤتك الله، إن الله خلق الخلق والخلائق فمضوا على ما خلقهم عليه، فمن كان يظن أنه مزداد بحرصه فى رزقه فليزدد بحرصه فى عمره، أو يغير لونه أو يزيد فى أركانه أو بنانه" .

وقال : "ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله" .

وفاتــــه

توفى "الحسن البصري" ليلة "الجمعة" أول شهر "رجب" عام (110 ﻫ) الموافق عام (728م)، وشهد جنازته خلق كثير، وقد أوصى "الحسن" عند موته أن يكتب فى وصيته : "اكتب هذا ما يشهد به "الحسن بن أبى الحسن" ، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، من شهد بها صادقًا عند موته دخل الجنة" .

الحسن البصري فى سطور

- ولد "الحسن البصري" فى "المدينة المنورة" عام (21ﻫ = 642 م)، لأبوين من الرقيق .

- أسلم والده، وسكن "المدينة المنورة"، وتزوج من جارية تسمى "خيرة"، وأنجب منها ولده "الحسن" .

- نشأ "الحسن" فى "وادى القرى" بالقرب من "المدينة"، وحفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ الرابعة عشرة من عمره .

- انتقل إلى مدينة "البصرة" بالعراق عام (36 ﻫ = 656 م)، وبدأ يتلقى العلم على عدد كبير من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بالبصرة .

- كان له فى بداية حياته مكان فى مسجد البصرة، يعظ الناس فيه ويذكرهم عن طريق حكى القصص .

- أصبحت له حلقة درس كبيرة فى جامع "البصرة" يعلم فيها الحديث، والقرآن، واللغة، والفقه .... وغيرها من العلوم .

- تولى منصب القضاء فى "البصرة" عام (102 ﻫ = 720 م) .

- توفى "الحسن البصري" ليلة "الجمعة" أول شهر رجب عام (110 ﻫ = 728م).






البيروني ... العالم الموسوعي
أبو الريحان البيروني" واحد من أعظم من أنجبتهم الحضارة الإسلامية في القرنين الرابع والخامس الهجريين .. نبغ في ميادين مختلفة من فروع العلم والمعرفة .. كالرياضيات والفلك والفيزياء والتعدين والصيدلة، وله في كل هذه العلوم إضافات جديدة كان لها أثر واضح في تاريخ العلم وتقدم مسيرة الحضارة .

مولده ونشأته

ولد "محمد بن أحمد الخوارزمي"، المعروف بأبي الريحان البيروني في (2 من ذي الحجة 362ﻫ = 3 من سبتمبر 973 م) في قرية من ضواحي مدينة "كاث" عاصمة دولة "خوارزم"،
وهى الآن تابعة لجمهورية "أوزبكستان" الإسلامية، وقد أطلق على هذه المدينة اسم مدينة "البيروني" تخليدًا لذكراه .

وقد تلقى "البيروني" تعليمه في بلدته، حيث حفظ القرآن، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وشيئًا من الفقه والحديث مثل غيره من الطلاب الذين يبدؤون حياتهم العلمية .

ثم اتجه "البيروني" إلى دراسة العلوم الطبيعية والرياضيات، بعد أن وجد في نفسه ميلاً إلى ذلك، فتتلمذ على يد "أبى نصر منصور بن على بن عراق"، وكان عالمًا مشهوًرا في الرياضيات والفلك، وعمل تحت إشرافه في مرصده الفلكي .

التنقل بين "الري" و"جرجان"

ظل البيروني في موطنه حتى تجاوز العشرين من عمره، ثم رحل عنها ، واتجه إلى مدينة "الري" سنة (384 ﻫ)، القريبة من "طهران"، وفى أثناء إقامته بالرى التقى بالعالم الفلكي "الخوجندى" المتوفى سنة (390ﻫ)، وأجرى معه بعض البحوث الفلكية على أحد الجبال الموجودة في "الري" .

ثم انتقل إلى "جرجان" وحظى برعاية ملكها "قابوس بن وشمكير"، وكان أديبًا كثير الحفاوة بالعلماء، وفى أثناء إقامته التقى بأكبر أساتذته الطبيب الفلكي "أبى سهل عيسى بن يحيى" المتوفى سنة (389ﻫ)، وشاركه في بحوثه، كما قام بتأليف عدة كتب، أهمها كتاب "الآثار الباقية من القرون الخالية" .

في بلاط الغزنوى

ثم بعد فترة انتقل "البيروني" إلى "غزنة"، وهى الآن "كابل" عاصمة "أفغانستان" وعاش في بلاط السلطان "محمود الغزنوى" مشتغلاً بالفلك والفيزياء والتعدين وغيرها من العلوم .
كما رافقه في معظم فتوحاته العسكرية في بلاد "الهند" التي بلغت سبع عشرة موقعة، وقد اغتنم "البيروني" فرصة وجوده في "الهند" حيث كنوز العلم والمعرفة، فنقل إلينا كثيرًا منها، وضمنها كتبه ومؤلفاته، وبخاصة كتابه الذي أفرده للحديث عن "الهند" باسم "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" .
وبعد وفاة السلطان "محمود الغزنوي" سنة (421ﻫ) خلفه ابنه "مسعود"، وكان محبًّا للعلوم والثقافة، يشجع العلماء ويوفر لهم كل ما يحتاجون إليه، ووجد "البيروني" في بلاطه كل تقدير وثناء، فأكب على التأليف والتصنيف، وأهداه أكبر كتبه في الفلك والرياضيات الذي أطلق عليه "القانون المسعودى" .

وظل "البيروني" محل تقدير الغزنويين حتى بعد وفاة السلطان "مسعود" سنة (439ﻫ) .

وقد توفى "البيرونى" في (3 من رجب 440ﻫ = 13 من ديسمبر 1048م)

بحوثه العلمية

كان للبيرونى أبحاث جديدة في علم الفلك والفيزياء والتعدين والصيدلة والجغرافيا، والجيولوجيا.

ففي مجال الفلك قال بوجود قوى للجاذبية بين الأجسام قبل أن يكتشفها "نيوتن" المتوفى سنة (1727م) .

وابتكر "البيروني" الإسطرلاب الأسطواني الذي لم يقتصر على رصد الكواكب والنجوم فقط، بل كان يستخدم كذلك في تحديد أبعاد الأجسام البعيدة عن سطح الأرض وارتفاعها، ووضع نظرية لحساب محيط الأرض لا تزال تعرف باسمه حتى الآن في الكتب المدرسية .

وفى مجال التعدين ابتكر جهازًا يستخدم في قياس الوزن النوعي للفلزات والأحجار، ويعد أقدم مقياس لكثافة المعادن .

وسبق في علم الجيولوجيا إلى القول بنظريات رائدة في تكوين القشرة الأرضية وما طرأ على اليابسة والماء من تطورات خلال الأزمنة الجيولوجية .

وكتب في الصيدلة موسوعة علمية باسم "الصيدنة" ترشد الصيدلي إلى جميع الأدوية واختيار الأجود منها وتحضير عدد من المركبات الكيمائية، واستخدام الأجهزة في عمليات التقطير والترشيح وغيرها .

وكتب في مجال الاجتماع والحضارة كتابه "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذولة " وهو من أهم الكتب التي تعد مرجعا لكل دارس للثقافة الهندية، وما للهنود من عادات وتقاليد ومعتقدات وشرائع وفلسفة وأدب وتاريخ .

وعلاوة على كل ذلك فإن للبيرونى جهودًا علمية في الترجمة، فقد ترجم اثنين وعشرين كتابًا من التراث العلمي الهندي إلى اللغة العربية، كما ترجم بعض المؤلفات الرياضية من التراث الإغريقي إلى العربية .


مؤلفات "البيروني"

بلغت مؤلفات البيروني أكثر من أربعين كتابًا في مختلف فروع المعرفة، منها :
1- "الآثار الباقية عن القرون الخالية"، وهو يبحث في التقاويم الفلكية والأعياد عند الشعوب والأديان المختلفة في ذلك الوقت، كاليونان والرومان والفرس والقبط، والنصارى واليهود وعرب الجاهلية، والكتاب مطبوع الآن .

2- "الجماهر في معرفة الجواهر"، وهو كتاب يبحث في الفلزات والمعادن وبخاصة الأحجار الكريمة، وطبع الكتاب في "الهند" سنة (1936م) .

3- "القانون المسعودى في الهيئة والنجوم"، وهو يتألف من (12) فصلاً يقدم فيها "البيروني" إسهاماته في علم الفلك كله، مع حساب التوقيت وحساب المثلثات والرياضيات والجغرافيا، وطبع الكتاب بالهند سنة (1924م) .
4- "التفهيم لأوائل صناعة التنجيم"، وهو موسوعة تعرض لمصطلحات الهندسة والحساب والفلك والجغرافيا والأوقات، وتصف الأجهزة الفلكية، و طبع الكتاب مع ترجمة إنجليزية له في" لندن" سنة (1934م) .

5- "تحديد نهاية الأماكن لتصحيح مسافات المساكن"، وهو كتاب في الجغرافيا الرياضية حيث يقوم بتحديد العروض الجغرافية والاختلافات في تحديد أطوال المواضع، و طبع الكتاب في "تركيا" سنة (1958م) .

شخصية "البيروني"

أجمع كل من كتب عن "البيروني" على أنه نبغ في كل علوم عصره، وهو مع تبحره في الأدب واللغة والتاريخ والجغرافيا، كان اهتمامه الأكبر يتجه إلى الرياضيات والفيزياء والفلك والفلسفة، إلى جانب إتقانه للغات كثيرة كاليونانية والفارسية والهندية.

وقد وهب حياته كلها للعلم، ولم تشغله الدنيا في الانصراف عنه، وكان القلم لا يفارق يديه، وكان زاهدًا في المال إلا ما يكفى حاجته، وقد أشاد بمكانة "البيروني" العلمية كبار مؤرخي العلم من أمثال : "سخاو" و "سارتون".

ولمكانته العلمية وبحوثه الرائدة في علوم الفضاء اختير من بين (18) عالمًا إسلاميًّا، أطلقت أسماؤهم على بعض معالم سطح القمر .

"البيروني" في سطور

- ولد "محمد بن أحمد الخوارزمي" المعروف بالبيرونى سنة (362 ﻫ) .

- اتجه "البيروني" إلى دراسة العلوم الطبيعية والرياضيات والفلك .

- انتقل إلى "الري" وعمل مع العالم الفلكي "الخوجندى"، وأجرى معه بعض البحوث الفلكية .

- انتقل إلى "جرجان"، وفى أثناء إقامته التقى بالطبيب الفلكي "أبى سهل عيسى بن يحيى" المتوفى سنة (389ﻫ) وشاركه في بحوثه .

- ضمه السلطان الكبير "محمود الغزنوى" إلى بلاطه، واصطحبه معه في فتوحاته المتعددة إلى "الهند"، وكان موضع تقديره وتقدير ابنه "مسعود" الذي خلفه في الحكم.

- قدم "البيروني" أبحاثًا جديدة في الفلك والفيزياء والرياضيات والتعدين والجيولوجيا والجغرافيا .

- من أشهر مؤلفاته : "الآثار الباقية عن القرون الخالية"، "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، و"القانون المسعودى"، و "الصيدنة"، و"التفهيم لأوائل صناعة التنجيم" .

- توفى "البيروني" في "غزنة" في سنة (440ﻫ ).




سيبويه ..إمام النحاة

واحد من بناة الثقافة العربية وصانعي الحضارة الإسلامية ، وممن شاركوا فى بناء علم النحو العربي وجعلوه صرحًا عاليًّا، وقدم أعظم كتاب تناول فيه كل قواعد اللغة العربية، وسمي كتابه باسم الكتاب .

المولد والنشأة

ولد "عمرو بن عثمان بن قنبر" فى منطقة تعرف "بالبيضاء" من قرى "شيراز" ببلاد "فارس"، واشتهر باسم "سيبويه"، وهى كلمة فارسية تعني رائحة التفاح، وسمي بذلك لأنه كان طيب الرائحة، جميل الصورة والشكل .

وكان مولده تقريبا فى منتصف القرن الثانى الهجرى، ولم تطل إقامته فى بلدته، وانتقل وهو صغير مع أسرته إلى مدينة "البصرة" فى "العراق"، وكانت آنذاك من مراكز العلم الكبرى فى العالم الإسلامى، تمتلأ مساجدها بحلقات العلماء فى الفقه والحديث واللغة والأدب وغيرها من العلوم، ويقصدها طلاب العلم من كل مكان .

وبدأ "سيبويه" فى البصرة يتردد على حلقات الفقهاء والمحدثين، وكان يحب دراسة الفقه والحديث، ولزم حلقة "حماد بن سلمة "، وكان واحدًا من أكبر العلماء فى عصره.. وظل فترة طويلة يتتلمذ على يديه حتى حدثت له حادثة غيرت مجرى حياته، انتقل على إثرها إلى دراسة النحو وبرع فيه، حتى صار واحدًا من أكبر النحاة الذين ظهروا فى تاريخ الثقافة العربية ومن أكثر الأسماء شهرة فى التاريخ العربي .

الانتقال إلى دراسة النحو

كان سبب ترك "سيبويه" لدراسة الحديث أنه وقع فى خطأ نحوي أمام زملائه فصححه له شيخه على الفور، فذات يوم كان "سيبويه" فى حلقه شيخه "حماد بن سلمة" إذ سمعه يملي على تلاميذه قول النبي- صلى الله عليه وسلم- :

"ما من أحد من أصحابي إلا وقد أخذت عليه ليس أبا الدرداء" .

فقال "سيبويه"

ليس "أبو الدرداء"؛ مصححًا لشيخه، ظنًّا منه أن "أبا الدرداء" اسم ليس التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، فقال له "حماد" : لحنت (أخطأت) يا "سيبويه"، إنما "ليس" هنا استثناء، أي بمعنى " إلا " فيكون معنى الحديث : ما من أحد من أصحابي الا وقد أخذت عليه إلا أبا الدرداء"، فقال "سيبويه" : لا بأس، سأطلب علمًا يجعلني لا ألحن أبدًا فى حديثي .

وانتقل "سيبويه" إلى حلقات علماء النحو وأصحاب اللغة يدرس على أيديهم علم النحو واللغة، وكانت البصرة آنذاك تفخر بعلمائها الأفذاذ من النحاة الكبار وعلماء اللغة، من أمثال : " الأخفش الأكبر"، و"يونس بن حبيب"، و"أبى زيد الأنصاري"، وتتلمذ "سيبويه" على يد "الخليل بن أحمد" وكان أعظم شيوخه تأثيرًا فيه.

وظل "سيبويه" ينهل من علم هؤلاء العلماء جميعًا، حتى بلغ مكانة عالية في النحو واللغة ، وشهد له شيوخه بالتفوق والنبوغ فيهما كما شهدوا له بمعرفته الواسعة بالحديث النبوي والقراءات القرآنية .

ولم يتوقف "سيبويه" عند هذا الحد من التعلم من الشيوخ والعلماء، بل رحل إلى البادية وأخذ يتعلم اللغة مشافهة من أفواه فصحاء القبائل العربية الذين يتحدثون لغة عربية صافية لم يدخلها شيء غريب عليها .

شيخ النحاة في الثلاثين

كان "الخليل بن أحمد" إمام النحاة في البصرة، فلما توفى سنة (175 ﻫ = 791 م)
لم يكن من بين تلاميذه من يستطيع أن يملأ مكانه الشاغر، أو يخلفه فى حلقته العلمية سوى "سيبويه"، فاتجهت الأنظار إليه وجلس "سيبويه" مكان شيخه، وكان عمره آنذاك ثلاثين سنة، والتف حوله طلاب العلم، وأقبل على حلقة علمه الطلاب من كل مكان.

كتابه الوحيد

اشتهر "سيبويه" ببراعته الفائقة في النحو والعربية حتى تفوق على زملائه وشيوخه، واعترف
العلماء له بالإمامة في علم النحو، وصار شيخ مدرسة النحاة البصريين . ويعود الفضل إلى "سيبويه" في إرساء قواعد اللغة العربية، ووضع أصولها بين دفتي كتاب، لم يؤلف "سيبويه" غيره، ولم يضع له عنوانًا، فاشتهر بعد وفاته باسم "الكتاب"، وكان لهذا الكتاب أثر كبير فى علم النحو، واعتبره العلماء أهم كتاب ألِّف فى هذا العلم، وأطلقوا عليه "قرآن النحو" .

الذهاب إلى "بغداد"

كانت شهرة "سيبويه" قد عَّمت الآفاق، فأراد الذهاب إلى "بغداد" عاصمة الخلافة العباسية، ليقابل الخليفة "هارون الرشيد" راعى العلم والعلماء، وكانت "بغداد" حينئذ تجذب نوابغ العلماء والفقهاء والنحاة .
وكان "الكسائي" شيخ علماء النحو فى "الكوفة" قد سبقه إلى الاستقرار في "بغداد"، وتمتع بعناية الخليفة "هارون الرشيد"، وحظى "الكسائي" عنده بمكانة كبيرة، ونال ثقته واحترامه فجعله الخليفة مؤدبًا لولده "الأمين" .

وفى بغداد التقى "سيبويه" بالكسائي ودخل معه فى مناظرة شهيرة فى إحدى قضايا علم النحو، وكان مع "الكسائي" عدد من تلاميذه النابغين من أمثال "الفرَّاء" و "ابن سعدان"، وأخذوا يمطرون "سيبويه" بالأسئلة الصعبة، وهو يجيبهم فى براعة واقتدار، ثم طرح "الكسائي" على "سيبويه" مسألة نحوية، ودخل الاثنان فى جدل طويل حولها ، فاحتكم "الكسائى" إلى جماعة من الأعراب كانوا يشهدون المناظرة، فأيدوا "الكسائي"، وانتهت المناظرة بغلبة "الكسائي"، وإن كان الصواب كما قال علماء النحو هو رأى "سيبويه" .

وفاة "سيبويه"

وبعد المناظرة توجه "سيبويه" إلى "البيضاء" مسقط رأسه، حيث أدركته الوفاة هناك سنة (180هـ= 796 م) .

شخصية "سيبويه"

تميز "سيبويه" بأنه كان قوي الإرادة وذا همة عالية، وطموح كبير، دفعه لحن ( خطأ ) وقع فيه إلى دراسة النحو والتبحر فيه، والتعمق في معرفة أسراره، حتى أصبح إمام النحاة في عصره، ووضع كتابًا يعد من أشهر الكتب في تاريخ الثقافة العربية، وارتبط هذا الكتاب باسم "سيبويه"، فإذا ذكر كتابه المعروف باسم "الكتاب" ذكر "سيبويه"، وإذا ذكرت قواعد النحو العربي برز اسم "سيبويه" .

"سيبويه" فى سطور

- ولد في "البيضاء" إحدى قرى "شيراز" بإيران .

- اشتهر بلقب "سيبويه" الذي يعنى بالفارسية رائحة التفاح .

- انتقل مع أسرته إلى "البصرة"، وبدأ في دراسة الفقه والحديث .

- تحول "سيبويه" إلى دراسة النحو واللغة وتتلمذ على "الخليل بن أحمد" .

- خلف شيخه "الخليل بن أحمد" في حلقته بالبصرة، وتتلمذ عليه عشرات النحاة .

- ألَّف أشهر كتاب في علم النحو، المعروف باسم "الكتاب" .

- سافر إلى "بغداد" والتقى بالكسائي إمام نحاة "الكوفة" .

- رحل "سيبويه" إلى مسقط رأسه، حيث توفى هناك سنة (180 ﻫ) .




هارون الرشيد

الخليفة المفترى عليه

و أكثر من تعرض تاريخه للتشويه والتزوير من خلفاء الإسلام، مع أنه من أكثر خلفاء الدولة العباسية جهادا وغزوا واهتماما بالعلم والعلماء، و بالرغم من هذا أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لاهم له سوى الجواري والخمر والسكر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية ومن هنا كان إنصاف هذا الخليفة واجب على كل مؤرخ مسلم.

ومن المؤرخين الذين أنصفوا الرشيد أحمد بن خلكان الذي قال عنه في كتابه وفيات الأعيان: "كان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي"

وكتب التاريخ مليئة بمواقف رائعة للرشيد في نصرة الحق وحب النصيحة وتقريب العلماء لا ينكرها إلا جاحد أو مزور، ويكفيه أنه عرف بالخليفة الذي يحج عاما ويغزو عاما.

نسبه ومولده

و أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، كان مولده بالري حين كان أبوه أميرا عليها وعلى خرا سان في سنة ثمان وأربعين ومائة وأمه أم ولد تسمى الخيزران وهى أم الهادي وفيها يقول مروان ابن أبى حفصة:
يا خيزران هناك ثم هناك *** أمسى يسوس العالمين ابناك

أغزاه أبوه بلاد الروم وهو حدث في خلافته.


توليه الخلافة

ولي الخلافة بعهد معقود له بعد الهادي من أبيهما المهدي في ليلة السبت السادس عشر من ربيع الأول سنة سبعين ومائة بعد الهادي، قال الصولي: هذه الليلة ولد له فيها عبد الله المأمون ولم يكن في سائر الزمان ليلة مات فيها خليفة وقام خليفة وولد خليفة إلا هذه الليلة وكان يكنى أبا موسى فتكنى بأبي جعفر.

وكان ذا فصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة وله نظر جيد في الأدب والفقه، قيل إنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات لا يتركها إلا لعلة ويتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم.. قال الثعالبي في اللطائف قال الصولي خلَّف الرشيد مائة ألف ألف دينار.

وكان يحب المديح ويجيز الشعراء ويقول الشعر، أسند عن معاوية بن صالح عن أبيه قال أول شعر قاله الرشيد أنه حج سنة ولى الخلافة فدخل دارا فإذا في صدر بيت منها بيت شعر قد كتب على حائط.

ألا أمير المؤمنين أما ترى *** فديتك هجران الحبيب كبيرا

فدعا بدواة وكتب تحته بخطه:

بلى والهدايا المشعرات وما *** مشى بمكة مرفوع الأظل حسيرا.

ولداود بن رزين الواسطى فيه:

بهارون لاح النور في كل بلدة *** وقام به في عدل سيـرته النهـج

إمـام بـذات الله أصبح شغله *** فأكثر ما يعنى بـه الغزو والحـج

تضيق عيون الخلق عن نور وجهه *** إذا ما بدا للناس منظره البلج

تفسحت الآمال في جود كفه *** فأعطى الذي يرجوه فوق الذي يرجو

وكان يقتفي آثار جده إلا في الحرص.

وقال محمد بن على الخرساني الرشيد أول خليفة لعب بالصوالجة والكرة ورمى النشاب في البرجاس و أول خليفة لعب بالشطرنج من بنى العباس.

قال الجاحظ اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره وزراؤه البرامكة وقاضيه القاضي أبو يوسف وشاعره مروان بن أبي حفصة ونديمه العباس بن محمد عم والده وحاجبه الفضل بن الربيع أتيه الناس ومغنيه إبراهيم الموصلي وزوجته زبيدة.

حبه للعلماء

وكان الرشيد يحب العلماء ويعظم حرمات الدين ويبغض الجدال والكلام، وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله.

ولما بلغه موت عبد الله ابن المبارك حزن عليه وجلس للعزاء فعزاه الأكابر.

قال أبو معاوية الضرير ما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الرشيد إلا قال صلى الله على سيدي ورويت له حديثه "وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيى ثم أقتل فبكى حتى انتحب"

وعن خرزاذ العابد قال حدث أبو معاوية الرشيد بحديث احتج آدم وموسى فقال رجل شريف فأين لقيه فغضب الرشيد وقال النطع والسيف زنديق يطعن في الحديث فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول بادرة منه يا أمير المؤمنين حتى سكن.

وعن أبي معاوية الضرير قال صب على يدي بعد الأكل شخص لا أعرفه فقال الرشيد تدري من يصب عليك قلت: لا. قال: أنا إجلالا للعلم.

وكان العلماء يبادلونه التقدير، روي عن الفضيل بن عياض أنه قال: ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره، قال فكبر ذلك علينا فلما مات هارون وظهرت الفتن وكان من المأمون ما حمل الناس على القول بخلق القرآن قلنا الشيخ كان أعلم بما تكلم.

بكاؤه عند سماع الموعظة

قال منصور بن عمار: ما رأيت أغزر دمعا عند الذكر من ثلاثة الفضيل بن عياض والرشيد وآخر.

وقال عبيد الله القواريرى لما لقي الرشيد الفضيل قال له يا حسن الوجه أنت المسئول عن هذه الأمة. وتقطعت بهم الأسباب قال: الوصلة التي كانت بينهم في الدنيا فجعل هارون يبكى ويشهق.

روى أن ابن السماك دخل على الرشيد يوما فاستسقى فأتى بكوز فلما أخذه قال على رسلك يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها قال بنصف ملكي قال اشرب هنأك الله تعالى فلما شربها قال أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشترى خروجها قال بجميع ملكي قال إن ملكا قيمته شربة ماء وبوله لجدير أن لا ينافس فيه فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا.

وقال ابن الجوزي قال الرشيد لشيبان عظني قال لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف فقال الرشيد فسر لي هذا قال من يقول لك أنت مسئول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول أنتم أهل بيت مغفور لكم وأنتم قرابة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله.

مواقف لا تنسى

في سنة سبع وثمانين ومائة جاء للرشيد كتاب من ملك الروم نقفور بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة ريني ملكة الروم وصورة الكتاب [من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيذق فحملت إليك من أموالها أحمالا وذلك لضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك]

فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبا حتى ما تمكن أحد أن ينظر إلى وجهه فضلاً أن يخاطبه وتفرق جلساؤه من الخوف واستعجم الرأي على الوزير فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتابه بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه ثم سار ليومه فلم يزل حتى نزل مدينة هرقل وكانت غزوة مشهورة وفتحا مبينا فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يحمله كل سنة.

وأسند الصولى عن يعقوب بن جعفر قال خرج الرشيد في السنة التي ولى الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم وانصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة وفرق بالحرمين مالا كثيرا وكان رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال له إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغز وحج ووسع على أهل الحرمين ففعل هذا كله.

وأخرج ابن عساكر عن ابن علية قال أخذ هارون الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي قال له أريح العباد منك. قال فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به قال فأين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزارى وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا

من أعماله في الخلافه

حج غير مرة وله فتوحات ومواقف مشهودة ومنها فتح مدينة هرقلة،قال المسعودي في "مروج الذهب": رام الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم مما يلي الفرما فقال له يحيى البرمكي كان يختطف الروم الناس من الحرم وتدخل مراكبهم إلى الحجاز.

وزر له يحيى بن خالد مدة وأحسن إلى العلوية وحج سنة 173 وعزل عن خراسان جعفر بن أشعث بولده العباس بن جعفر وحج أيضا في العام الآتي وعقد بولاية العهد لولده الأمين صغيرا فكان أقبح وهن تم في الإسلام وأرضى الأمراء بأموال عظيمة وتحرك عليه بأرض الديلم يحيى بن عبد الله بن حسن الحسيني وعظم أمره وبادر إليه الرافضة فتنكد عيش الرشيد واغتم وجهز له الفضل بن وزيره في خمسين ألفا فخارت قوى يحيى وطلب الأمان فأجابه ولاطفه ثم ظفر به وحبسه ثم تعلل ومات ويقال ناله من الرشيد أربعمائة ألف دينار.

وفي سنة 175هـ ولى خراسان الغطريف بن عطاء وولى مصر جعفرا البرمكي واشتدت الحرب بين القيسية واليمانية بالشام ونشأت بينهم أحقاد وإحن.

وغزا الفضل بن يحي البرمكي بجيش عظيم ما وراء النهر ومهد الممالك وكان بطلا شجاعا جوادا ربما وصل الواحد بألف ألف وولي بعده خراسان منصور الحميري وعظم الخطب بابن طريف ثم سار لحربه يزيد بن مزيد الشيباني وتحيل عليه حتى بيته وقتله ومزق جموعه.

وفي سنة 179هـ اعتمر الرشيد في رمضان واستمر على إحرامه إلى أن حج ماشيا من بطن مكة.وغزا الرشيد وتوغل في أرض الروم فافتتح الصفصاف وبلغ جيشه أنقرة. ثم حج سنة ست وثمانين الرشيد بولديه الأمين والمأمون وأغنى أهل الحرمين.

ثم حدثت نكبة البرامكة إذ قتل الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي وسجن أباه وأقاربه بعد أن كانوا قد بلغوا رتبة لا مزيد عليها.

وفي العام نفسه انتقض الصلح مع الروم وملكوا عليهم نقفور فيقال إنه من ذرية جفنة الغساني وبعث يتهدد الرشيد فاستشاط غضبا وسار في جيوشه حتى نازله هرقلة وذلت الروم وكانت غزوة مشهودة، ثم كانت الملحمة العظمى وقتل من الروم عدد كثير وجرح النقفور ثلاث جراحات وتم الفداء حتى لم يبق في أيدي الروم أسير.وبعث إليه نقفور بالجزية ثلاثمائة ألف دينار.

وفي سنة ست وسبعين ومائة فتحت مدينة دبسة على يد الأمير عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح العباسى

وفي سنة تسع وسبعين ومائة اعتمر الرشيد في رمضان ودام على إحرامه إلى أن حج ومشى من مكة إلى عرفات وفي سنة ثمانين كانت الزلزلة العظمى وسقط منها رأس منارة الإسكندرية وفي سنة إحدى وثمانين فتح حصن الصفصاف عنوة وهو الفاتح له وفي سنة ثلاث وثمانين خرج الخزر على أرمينية فأوقعوا بأهل الإسلام وسفكوا وسبوا أزيد من مائة ألف نسمة وجرى على الإسلام أمر عظيم لم يسمع قبله مثله.


وفاة الرشيد
مات الرشيد في الغزو بطوس من خراسان ودفن بها في ثالث من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة وله خمس وأربعون سنة وصلى عليه ابنه الصالح قال الصولى خلف الرشيد مائة ألف ألف دينار ومن الأثاث والجواهر والورق والدواب ما قيمته ألف ألف دينار وخمسة وعشرون ألف دينار.



وقيل إن الرشيد رأى مناما أنه يموت بطوس فبكى وقال احفروا لي قبرا فحفر له ثم حمل في قبة على جمل وسيق به حتى نظر إلى القبر فقال يا ابن آدم تصير إلى هذا وأمر قوما فنزلوا فختموا فيه ختما وهو في محفة على شفير القبر ولما مات بويع لوالده الأمين في العسكر وهو حينئذ ببغداد فأتاه الخبر فصلى الناس الجمعة وخطب ونعى الرشيد إلى الناس وبايعوه.

ولأبى الشيص يرثى الرشيد

غربت في الشرق شمس فلها عيني تدمع

مـا رأينا قط شمسا غربت من حيث تطلع

وقال أبو النواس:

جـامـع بيـن العـزاء والهناء جترت جـوار بالسعـد والنحـس

فنحن في مأتم وفي عرس القلب ضاحكة فنحن في وحشة وفي أنس

يضـحكنـا القـائـم الأميـن ويبــكينـا وفـاة الإمـام بالأمـس

بدران بدر أضحى ببغداد في الخــلد وبدر بطـوس فـي الرمـس



رباني الأمة

عالم رباني وداعية مجاهد وأديب تميز بجمال الأسلوب وصدق الكلمات، إنه الداعية الكبير ورباني الأمة الشيخ أبو الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ صاحب كتاب من أشهر كتب المكتبة الإسلامية في هذا القرن وهو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"

من هو أبو الحسن الندوي؟

الشيخ أبو الحسن الندوي غني عن التعريف فقد عرفه الناس من خلال مؤلفاته الرائدة التي تعد من المصابيح التي أضاءت الطريق أمام طلاب العلم من جيله والأجيال التي تلته، ونذكر هنا سطورا ومواقف لا تنسى من حياته.

ولد بقرية تكية، مديرية رائي بريلي، الهند عام 1332هـ/ 1913م.

تعلم في دار العلوم بالهند (ندوة العلماء)، والتحق بمدرسة الشيخ أحمد علي في لاهور، حيث تخصص, في علم التفسير، ومن يوم تخرجه أصبح شعلة للنشاط الإسلامي سواء في الهند أو خارجها، وقد شارك رحمه الله في عدد من المؤسسات والجمعيات الإسلامية، ومنها تأسيس المجمع العلمي بالهند، وتأسيس رابطة الأدب الإسلامي كما أنه: عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضو المجلس التنفيذي لمعهد ديوبند، ورئيس مجلس أبناء مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية.

يعد من أشهر العلماء المسلمين في الهند، وله كتابات وإسهامات عديدة في الفكر الإسلامي، فله من الكتب: موقف الإسلام من الحضارة الغربية، السيرة النبوية، من روائع إقبال، نظرات في الأدب، من رجالات الدعوة، قصص النبيين للأطفال وبلغ مجموع مؤلفاته وترجماته 700 عنواناً، منها 177 عنوانا بالعربية، وقد ترجم عدد من مؤلفاته إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والبنغالية والإندونيسية وغيرها من لغات الشعوب الإسلامية الأخرى.

كان سماحة الشيخ كثير السفر إلى مختلف أنحاء العالم لنصرة قضايا المسلمين والدعوة للإسلام وشرح مبادئه، وإلقاء المحاضرات في الجامعات والهيئات العلمية والمؤتمرات تولى منصب رئيس ندوة العلماء منذ عام 1961م وظل فيه حتى وفاته، وقد منح عددا من الجوائز العالمية منها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام.

ثناء العلماء عليه

قال عنه الشيخ الغزالي ـ رحمه الله ـ: هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلقة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظ لها فيه، لقد وجدنا في رسائل الشيخ الندوي لغة جديدة، وروحًا جديدة، والتفاتاً إلى أشياء لم نكن نلتفت إليها، إن رسائل الشيخ هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر -رضي الله عنه- بين رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له، التي لخصت فلسفة الإسلام في كلمات قلائل، وعبرت عن أهدافه بوضوح بليغ، وإيجاز رائع: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. أبو الحسن الندوي - فيما أعلم - هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت.

وقد أصدر الدكتور يوسف القرضاوي بيانا من الدوحة نعى فيه العالم الكبير الشيخ أبا الحسن مؤكدا أن الشيخ الندوي كان يمثل نسيجا مميزا من العلماء المسلمين ينضم إلى العلماء الكبار الذين فقدتهم الأمة الإسلامية خلال العام الأخير من القرن العشرين "ابتداء بعلامة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مرورا بأديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي ومن بعده الفقيه المجدد العلامة الشيخ مصطفى الزرقا وبعده المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني".
وقال الشيخ القرضاوي في نعيه أن الشيخ الندوي كان يتمتع بخمس صفات تميزه عن غيره من العلماء فهو إمام رباني إسلامي قرآني محمدي عالمي.

فأما أنه رباني فلأن سلف الأمة قد أجمعوا على أن الرباني هو من يعلم ويعمل ويعلِّم وهي الصفات الثلاثة التي كان يتحلى بها الشيخ، وأما أنه إسلامي فلأن الإسلام كان محور حياته ومرجعه في كل القضايا والدافع الذي يدفعه إلى الحركة والعمل والسفر والكتابة والجهاد، ساعيا لأن يقوي الجبهة الداخلية الإسلامية في مواجهة الغزوة الخارجية عن طريق تربية الفرد باعتباره اللبنة الأساسية في بناء الجماعة المسلمة، وأما أنه قرآني فلأن القرآن هو مصدره الأول الذي يستمد منه ويعتمد عليه ويرجع إليه ويستمتع به ويعيش في رحابه ويستخرج منه اللآلئ والجواهر، وأما أنه محمدي فليس لمجرد أنه من نسل الإمام الحسن حفيد الرسول (صلى الله عليه وسلم) فكم من حسنيين وحسينيين تناقض أعمالهم أنسابهم [ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه] بل لأنه جعل من الرسول الكريم أسوته في هديه وسلوكه وحياته كلها واتخذ سيرته نبراسا له في تعبده وزهده وإعراضه عن زخارف الدنيا وزينتها فهو يعيش في الخلف عيشة السلف.

مواقف لاتنسى

وفي حياة الشيخ الندوي مواقف كثيرة فيها دروس وعبر للعاملين على طريق الدعوة ومنها ما يرويه الشيخ يوسف القرضاوي فيقول: أذكر أنه حينما زارنا منذ أكثر من ثلاثين عامًا في قطر، وكان يشكو من قلة موارد (دار العلوم) بندوة العلماء، اقترح عليه بعض الإخوة أن نزور بعض الشيوخ وكبار التجار، نشرح لهم ظروف الدار ونطلب منهم بعض العون لها فقال:

لا أستطيع أن أفعل ذلك! وسألناه: لماذا؟ قال: إن هؤلاء القوم مرضى، ومرضهم حب الدنيا، ونحن أطباؤهم، فكيف يستطيع الطبيب أن يداوي مريضه إذا مد يده إليه يطلب عونه؟ أي يطلب منه شيئاً من الدنيا التي يداويه منها؟!

قلنا له: أنت لا تطلب لنفسك، أنت تطلب للدار ومعلميها وتلاميذها حتى تستمر وتبقى. قال: هؤلاء لا يفرقون بين ما تطلبه لنفسك وما تطلبه لغيرك ما دمت أنت الطالب، وأنت الآخذ!! وكنا في رمضان، وقلنا له حينذاك: ابق معنا إلى العشر الأواخر، ونحن نقوم عنك بمهمة الطلب. فقال: إن لي برنامجًا في العشر الأواخر لا أحب أن أنقضه أو أتخلى عنه لأي سبب، إنها فرصة لأخلو بنفسي وربي. وعرفنا أن للرجل حالاً مع الله، لا تشغله عنه الشواغل، فتركناه لما أراد، محاولين أن نقلده فلم نستطع، وكل ميسر لما خلق له.

مآثر الشيخ الشخصية والأخلاقية

يقول ا.د.يوسف القرضاوى: الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي أحد أعلام الدعاة إلى الإسلام في عصرنا، بلا ريب ولا جدال، عبَّرت عن ذلك: كتبه ورسائله ومحاضراته التي شرقت وغربت، وقرأها العرب والعجم، وانتفع بها الخاص والعام.

كما أنبأت عن ذلك رحلاته وأنشطته المتعددة المتنوعة في مختلف المجالس والمؤسسات، وبعض كتبه قد رزقها الله القبول، فطبعت مثنى وثلاث ورباع، وأكثر من ذلك، وترجمت إلى لغات عدة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

والحق أن الشيخ - رحمه الله - قد آتاه الله من المواهب والقدرات، ومنحه من المؤهلات والأدوات ما يمكنه من احتلال هذه المكانة الرفيعة في عالم الدعوة والدعاة.

فقد آتاه الله: العقل والحكمة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] والحكمة أولى وسائل الداعية إلى الله تعالى، كما قال -عز وجل- {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
ولهذا نجده يقول الكلمة الملائمة في موضعها الملائم، وفي زمانها الملائم، يشتد حيث تلزم الشدة، حتى يكون كالسيل المتدفق، ويلين حيث ينبغي اللين، حتى يكون كالماء المغدق، وهذا ما عرف به منذ شبابه الباكر إلى اليوم.

الثقافة الواسعة

ويوضح الدكتور القرضاوي أن الثقافة الواسعة هي أهم جوانب حياة الشيخ الندوي فقد آتاه الله: الثقافة التي هي زاد الداعية الضروري في إبلاغ رسالته، وسلاحه الأساسي في مواجهة خصومه، وقد تزوَّد الشيخ بأنواع الثقافة الستة التي يحتاجها كل داعية وهي: الثقافة الدينية، واللغوية، والتاريخية، والإنسانية، والعلمية، والواقعية، بل إن له قدمًا راسخة وتبريزًا واضحًا في بعض هذه الثقافات، مثل الثقافة التاريخية، كما برز ذلك في أول كتاب دخل به ميدان التصنيف، وهو الكتاب الذي كان رسوله الأول إلى العالم العربي قبل أن يزوره ويتعرف عليه، وهو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" الذي نفع الله به الكثيرين من الكبار والصغار، ولم يكد يوجد داعية إلا واستفاد منه.

وكما تجلَّى ذلك في كتابه الرائع التالي: "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" في جزئه الأول، ثم ما ألحق به من أجزاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن الإمام السرهندي: والإمام الدهلوي، ثم عن أمير المؤمنين علي (المرتضى) رضي الله عنه.

وقد ساعده على ذلك: تكوينه العلمي المتين، الذي جمع بين القديم والحديث، ومعرفته باللغة الإنجليزية إلى جوار العربية والأردية والهندية والفارسية، ونشأته في بيئة علمية أصيلة، خاصة وعامة، فوالده العلامة عبد الحي الحسني صاحب موسوعة "نزهة الخواطر" في تراجم رجال الهند وعلمائها، ووالدته التي كانت من النساء الفضليات المتميزات فكانت تحفظ القرآن، وتنشئ الشعر، وتكتب وتؤلف، ولها بعض المؤلفات، ومجموع شعري. كما نشأ في رحاب "ندوة العلماء" ودار علومها، التي كانت جسرًا بين التراث الغابر، والواقع الحاضر، والتي أخذت من القديم أنفعه، ومن الجديد أصلحه، ووفقت بين العقل والنقل، وبين الدين والدنيا، وبين العلم والإيمان، وبين الثبات والتطور، وبين الأصالة والمعاصرة.

الملكة الأدبية
ووهب الله للشيخ الندوي البيان الناصع والأدب الرفيع، كما يشهد بذلك كل من قرأ كتبه ورسائله، وكان له ذوق وحس أدبي، فقد نشأ وتربي في حجر لغة العرب وأدبها منذ نعومه أظفاره، وألهم الله شقيقه الأكبر أن يوجهه هذه الوجهة في وقت لم يكن يعني أحد بهذا الأمر، لحكمة يعلمها الله تعالى، ليكون همزة وصل بين القارة الهندية وأمة العرب، ليخاطبهم بلسانهم، فيفصح كما يفصحون، ويبدع كما يبدعون، بل قد يفوق بعض العرب الناشئين في قلب بلاد العرب.

يقول الدكتور القرضاوي: لقد قرأنا الرسائل الأولى للشيخ الندوي التي اصطحبها معه حينما زارنا في القاهرة سنة 1951م، ومنها: من العالم إلى جزيرة العرب، ومن جزيرة العرب إلى العالم.. معقل الإنسانية دعوتان متنافستان.. بين الصورة والحقيقة.. بين الهداية والجباية.. وغيرها، فوجدنا فيها نفحات أدبية جديدة في شذاها وفحواها، حتى علّق الشيخ الغزالي -رحمه الله- على تلك الرسالة بقوله: هذا الدين لا يخدمه إلا نفس شاعرة! فقد كانت هذه الرسائل نثرًا فيه روح الشعر، وعبق الشعر. وقرأنا بعدها مقالة: اسمعي يا مصر.. ثم اسمعي يا سورية. اسمعي يا زهرة الصحراء.. اسمعي يا إيران.. وكلها قطرات من الأدب المُصفى.

وقرأنا ما كتبه في مجلة "المسلمون" الشهرية المصرية، التي كان يصدرها الداعية المعروف الدكتور سعيد رمضان البوطي: ما كتبه من قصص رائع ومشوق عن حركة الدعوة والجهاد، التي قام بها البطل المجاهد أحمد بن عرفان الشهيد، وما كتبه من مقالات ضمنها كتابة الفريد "الطريق إلى المدينة" الذي قدمه أديب العربية الأستاذ علي الطنطاوي -رحمه الله-، وقال في مقدمته: يا أخي الأستاذ أبا الحسن! لقد كدت أفقد ثقتي بالأدب، حين لم أعد أجد عند الأدباء هذه النغمة العلوية، التي غنى بها الشعراء، من لدن الشريف الرضي إلى البرعي، فلما قرأت كتابك وجدتها، في نثر هو الشعر، إلا أنه بغير نظام. أ. هـ.

ولا غرو أن رأيناه يحفظ الكثير والكثير من شعر إقبال، وقد ترجم روائع منه إلى العربية، وصاغه نثرًا هو أقرب إلى الشعر من بعض من ترجموا قصائد لإقبال شعرًا.

القلب الحي

و يواصل د. القرضاوي شرح جوانب فقه الدعوة عن الندوي فيقول: آتاه الله القلب الحي، والعاطفة الجياشة بالحب لله العظيم، ولرسوله الكريم، ولدينه القويم، فهو يحمل بين جنبيه نبعًا لا يغيض، وشعلة لا تخبو، وجمرة لا تتحول إلى رماد.

ولا بد للداعية إلى الله أن يحمل مثل هذا القلب الحي، ومثل هذه العاطفة الدافقة بالحب والحنان والدفء والحرارة، يفيض منها على من حوله، فيحركهم من سكون، ويوقظهم من سبات، ويحييهم من موات.

وكلام أصحاب القلوب الحية له تأثير عظيم في سامعيه وقارئيه، فإن الكلام إذا خرج من القلب دخل إلى القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان، ولهذا كان تأثير الحسن البصري في كل من يشهد درسه وحلقته، على خلاف حلقات الآخرين، ولهذا قيل: ليست النائحة كالثكلى!

هذا القلب الحي، يعيش مع الله في حب وشوق، راجيًا خائفًا، راغبًا راهبًا، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، كما يعيش في هموم الأمة على اتساعها، ويحيا في آلامها وآمالها، لا يشغله هم عن هم، ولا بلد عن آخر، ولا فئة من المسلمين عن الفئات الأخرى.

وهذه العاطفة هي التي جعلته يتغنى كثيرًا بشعر إقبال، ويحس كأنه شعره هو، كأنه منشئه وليس راويه، وكذلك شعر جلال الدين الرومي، وخصوصا شعر الحب الإلهي، كما جعلته يولي عناية خاصة لأصحاب القلوب الحية، مثل: الحسن البصري والغزالي والجيلاني وابن تيمية والسرهندي وغيرهم.

الخلق الكريم

وآتاه الله الخلق الكريم والسلوك القويم، وقد قال بعض السلف: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف! وعلق على ذلك الإمام ابن القيم في "مدارجه" فقال: بل الدين كله هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين.

ولا غرو أن أثنى الله على رسوله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وأن أعلن الرسول الكريم عن غاية رسالته، فقال: [إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق]

ومن عاشر الشيخ -ولو قليلاً- لمس فيه هذا الخلق الرضي، ووجده مثالاً مجسدًا لما يدعو إليه، فسلوكه مرآة لدعوته، وهو رجل باطنه كظاهره، وسريرته كعلانيته، نحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا نزكيه على الله -عز وجل-.

ومن هذه الأخلاق الندوية: الرقة، والسماحة والسخاء والشجاعة، والرفق، والحلم، والصبر، والاعتدال، والتواضع، والزهد، والجد، والصدق مع الله ومع الناس، والإخلاص، والبعد عن الغرور والعجب، والأمل والثقة والتوكل واليقين والخشية والمراقبة، وغيرها من الفضائل والأخلاق الربانية والإنسانية.

وهذا من بركات النشأة الصالحة في بيئة صالحة في أسرة هاشمية حسنية، {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ}.

إن الداعية الحق هو الذي يؤثِّر بحاله أكثر ممّا يؤثر بمقاله، فلسان الحال أبلغ، وتأثيره أصدق وأقوى، وقد قيل: حال رجل في ألف رجل أبلغ من مقال ألف رجل في رجل! وآفة كثير من الدعاة: أن أفعالهم تكذب أقوالهم، وأن سيرتهم تناقض دعوتهم، وأن سلوكهم في وادٍ، ورسالتهم في وادٍ آخر. وأن كثيرًا منهم ينطبق عليه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2،3].

العقيدة السليمة
ويتناول الدكتور القرضاوي جانب العقيدة في حياة الندوي فيقول: آتاه الله قبل ذلك كله: العقيدة السليمة: عقيدة أهل السنة والجماعة، سليمة من الشركيات والقبوريات والأباطيل، التي انتشرت في الهند، وكان لها سوق نافقة، وجماعات مروجة تغدو بها وتروح، تأثروا بالهندوس ومعتقداتهم وأباطيلهم، كما هو الحال عند جماعة "البريليوين" الذين انتسبوا إلى التصوف اسمًا ورسمًا، والتصوف الحق براء منهم، وقد حفلت عقائدهم بالخرافات، وعباداتهم بالمبتدعات، وأفكارهم بالترهات، وأخلاقهم بالسلبيات.

ولكن الشيخ تربى على عقائد مدرسة "ديوبند" التي قام عليها منذ نشأتها علماء ربانيون، طاردوا الشرك بالتوحيد، والأباطيل بالحقائق، والبدع بالسنن، والسلبيات بالإيجابيات. وأكدت ذلك مدرسة الندوة - ندوة العلماء - وأضافت إليها روحًا جديدة، وسلفية حية حقيقية، لا سلفية شكلية جدلية، كالتي نراها عند بعض من ينسبون إلى السلف، ويكادون يحصرون السلفية في اللحية الطويلة، والثوب القصير، وشن الحرب على تأويل نصوص الصفات.

إن العقيدة السلفية عند الشيخ هي: توحيد خالص لله تعالى لا يشوبه شرك، ويقين عميق بالآخرة لا يعتريه شك، وإيمان جازم بالنبوة لا يداخله تردد ولا وهم، وثقة مطلقة القرآن والسنة، مصدرين للعقائد والشرائع والأخلاق والسلوك

المشروع الفكري والدعوي للعلامة الندوي

يلخص العلامة القرضاوي أهم جوانب المشروع الفكري والدعوي للعلامة الندوي في ركائز وأسس تبلغ العشرين، منها انطلق، وإليها يستند، وعليها يعتمد، نجملها فيما يلي:

1ـ تعميق الإيمان في مواجهة المادية:

تعميق الإيمان بالله تعالى، وتوحيده سبحانه ربا خالقًا، وإلهًا معبودًا واليقين بالآخرة، دارًا للجزاء، ثوابًا وعقابًا، في مواجهة المادية الطاغية، التي تجحد أن للكون إلهًا يدبره ويحكمه، وأن في الإنسان روحًا هي نفحة من الله، وأن وراء هذه الدنيا آخرة. المادية التي تقول: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع! ولا شيء بعد ذلك. أو كما حكى الله عنهم: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29] وقد تخللت هذه الركيزة الفكرية المحورية معظم رسائله وكتبه؛ وخصوصًا: الصراع بين الإيمان والمادية.. ماذا خسر العالم.. الصراع بين الفكر الإسلامي والفكرة الغربية.

2- إعلاء الوحي على العقل:

بمعنى اعتبار الوحي هو المصدر المعصوم، الذي تؤخذ منه حقائق الدين وأحكامه، من العقائد والشرائع والأخلاق، واعتبار نور النبوة فوق نور العقل، فلا أمان للعقل من العثار إذا سار في هذا الطريق وحده، ولا أمان للفلسفات المختلفة في الوصول إلى تصور صحيح عن الألوهية والكون والإنسان والحياة، حتى الفلسفة الدينية أو علم الكلام حين خاضا هذه اللجة غرقا فيها. وقصور العقل هنا شهد به بعض كبار المتكلمين كالفخر الرازي، والآمدي وغيرهما، وبعض كبار الفلاسفة، وأحدثهم (كانت) وكذلك فلسفات الإشراق لم تصل بالإنسان إلى بر الأمان، وقد بين ذلك الشيخ الندوي في عدد من كتبه، منها: النبوة والأنبياء في ضوء القرآن. ومنها: الدين والمدنية، وأصله محاضرة ألقاها في مقتبل الشباب (في الثلاثين من عمره)

3- توثيق الصلة بالقرآن الكريم باعتباره كتاب الخلود، ودستور الإسلام وعمدة الملة، وينبوع العقيدة، وأساس الشريعة،

وهو يوجب اتباع القواعد المقررة في تفسيره وعدم الإلحاد في آيه، وتأويلها وفق الأهواء والمذاهب المنحولة، ولهذا أنكر على القاديانيين هذا التحريف في فهم القرآن. ومن قرأ كتب الشيخ وجده عميق الصلة بكتاب الله، مستحضرًا لآياته في كل موقف محسنًا الاستشهاد بها غاية الإحسان، وله ذوق متفرد في فهم الآيات، كما أن له دراسات خاصة في ضوء القرآن مثل: تأملات في سورة الكهف -والتي تجلي الصراع بين المادية والإيمان بالغيب- والنبوة والأنبياء في ضوء القرآن.. ومدخل للدراسات القرآنية.. وغيرها من الكتب والرسائل، وقد عمل مدرسًا للقرآن وعلومه في دار العلوم بلكهنو عدة سنوات.

4-توثيق الصلة بالسنة والسيرة النبوية

وذلك أن السنة مبينة القرآن وشارحته نظريًا، والسيرة هي التطبيق العملي للقرآن، وفيها يتجلى القرآن مجسدًا في بشر [كان خلقه القرآن] وتنجلي الأسوة الحسنة التي نصبها الله للناس عامة، وللمؤمنين خاصة، لهذا كان من المهم العيش في رحاب هذه السيرة، والاهتداء بهديها والتخلق بأخلاقها، لا مجرد الحديث عنها، باللسان أو بالقلم. وقد بين الشيخ أثر الحديث في الحياة الإسلامية، كما أبدع في كتابة السيرة للكبار وللأطفال، وهو هنا يجمع بين عقل الباحث المدقق، وقلب المحب العاشق، وهذا يكاد يكون مبثوثًا في عامة كتبه.

5- إشعال الجذوة الروحية (الربانية الإيجابية)

إنه إشعال للجذوة الروحية في حنايا المسلم، وإعلاء "نفخة الروح" على قبضة الطين والحمأ المسنون في كيانه، وإبراز هذا الجانب الأساسي في الحياة الإسلامية التي سماها الشيخ "ربانية لا رهبانية" وهو عنوان لأحد كتبه الشهيرة، وقد سماه بهذا الاسم لسببين: أولهما: أن يتجنب اسم التصوف لما علق به من شوائب، وما ألصق به من زوائد، على مر العصور، وهذا من جناية المصطلحات على الحقائق والمضامين الصحيحة، وما التصوف في حقيقته إلا جانب التزكية التي هي إحدى شعب الرسالة المحمدية، أو جانب الإحسان الذي فسره الرسول في حديث جبريل الشهير. والسبب الثاني: إبراز العنصر الإيجابي في هذه الحياة الروحية المنشودة، فهي روحية اجتماعية، كما سماها أستاذنا البهي الخولي رحمه الله، وهي ربانية إيجابية تعمل للحياة ولا تعتزلها، ولا تعبدها، وتجعل منها مزرعة للحياة الأخرى: حياة الخلود والبقاء. كما وضح الشيخ الندوي الجانب التعبدي الشعائري في حياة المسلم في كتابه المعروف "الأركان الأربعة" وهو يمثل نظرة جديدة في عبادات الإسلام الكبرى: الصلاة والزكاة والصيام والحج، وآثارها في النفس والحياة.

6- البناء لا الهدم

، والجمع لا التفريق فالشيخ الندوي رحمه الله جعل همه في البناء لا الهدم، والجمع لا التفريق وأنا أشبهه هنا بالإمام حسن البنا رحمه الله، الذي كان حريصًا على هذا الاتجاه الذي شعاره: نبني ولا نهدم، ونجمع ولا نفرق، ونُقرّب ولا نباعد، ولهذا تبنى قاعدة المنار الذهبية "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه" وهذا هو توجه شيخنا الندوي فهو يبعد ما استطاع عن الأساليب الحادة، والعبارات الجارحة، والموضوعات المفرقة، ولا يقيم معارك حول المسائل الجزئية، والقضايا الخلافية. ولا يعني هذا أنه يداهن في دينه، أو يسكت عن باطل يراه أو خطأ جسيم يشاهده، بل هو ينطق بما يعتقده من حق، وينقد ما يراه من باطل أو خطأ، لكن بالتي هي أحسن، كما رأيناه في نقده للشيعة في مواقفهم من الصحابة في كتابه "صورتان متضادتان" وفي نقده للعلامة أبي الأعلى المودودي والشهيد سيد قطب، فيما سماه "التفسير السياسي للإسلام" وإن كنت وددت لو اتخذ له عنوانًا غير هذا العنوان، الذي قد يستغله العلمانيون في وقوفهم ضد شمول الإسلام، وقد صارحت الشيخ بذلك ووافقني عليه رحمه الله.

7- إحياء روح الجهاد في سبيل الله

وتعبئة قوى الأمة النفسية للدفاع عن ذاتيتها ووجودها، وإيقاد شعلة الحماسة للدين في صدور الأمة، التي حاولت القوى المعادية للإسلام إخمادها، ومقاومة روح البطالة والقعود، والوهن النفسي، الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت. وهذا واضح في كتابه "ماذا خسر العالم" وفي كتابه "إذا هبت ريح الإيمان" وفي حديثه الدافق المعبر عن الإمام أحمد بن عرفان الشهيد وجماعته ودعوته، وعن صلاح الدين الأيوبي وأمثاله من أبطال الإسلام. ومنذ رسائله الأولى وهو ينفخ في هذه الروح، ويهيب بالأمة أن تنتفض للذود عن حماها، وتقوم بواجب الجهاد بكل مراتبه ومستوياته حتى تكون كلمة الله هي العليا.

8- استيحاء التاريخ

الإسلامي وبطولاته: والركيزة الثامنة: استيحاء التاريخ - ولا سيما تاريخنا الإسلامي- لاستنهاض الأمة من كبوتها، فالتاريخ هو ذاكرة الأمة، ومخزن عبرها، ومستودع بطولاتها. والشيخ يملك حسًا تاريخيًا فريدًا، ووعيًا نادرًا بأحداثه، والدروس المستفادة منها، كما تجلى ذلك في رسالته المبكرة "المد والجزر في تاريخ الإسلام" وفي كتابه: "ماذا خسر العالم" وفي غيره، والتاريخ عنده ليس هو تاريخ الملوك والأمراء وحدهم، بل تاريخ الشعوب والعلماء والمصلحين والربانيين. ليس هو التاريخ السياسي فقط، بل السياسي والاجتماعي والثقافي والإيماني والجهادي. ولهذا يستنطق التاريخ بمعناه الواسع، ولا يكتفي بمصادر التاريخ الرسمية، بل يضم إليها كتب الدين، والأدب، والطبقات المختلفة، وغيرها، ويستلهم مواقف الرجال الأفذاذ، وخصوصًا المجددين والمصلحين، كما في كتابه: "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" الذي بين فيه أن الإصلاح والتجديد خلال تاريخ الأمة: حلقات متصلة، ينتهي دور ليبدأ دور، ويغيب كوكب ليطلع كوكب. والنقص ليس في التاريخ: إنما هو في منهج كتابته وتأليفه.

9- نقد الفكرة الغربية والحضارة المادية أوالجاهلية الحديثة،

ورؤيته في هذا واضحة كل الوضوح لحقيقة الحضارة الغربية وخصائصها، واستمدادها من الحضارتين: الرومانية اليونانية، وما فيهما من غلبة الوثنية، والنزعة المادية الحسية والعصبية القومية، وهو واع تمامًا للصراع القائم بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية وخصوصًا في ميادين التعليم والتربية والثقافة والقيم والتقاليد. وقد أنكر الشيخ موقف الفريق المستسلم للغرب، المقلد له تقليدًا أعمى في الخير والشر، ومثله: موقف الفريق الرافض للغرب كله، المعتزل لحضارته بمادياتها ومعنوياتها.. ونوه الشيخ بموقف الفريق الثالث، الذي لا يعتبر الغرب خيرًا محضًا، ولا شرًا محضًا. فيأخذ من الغرب وسائله لا غاياته، وآلياته لا منهج حياته، فهو ينتخب من حضارته ما يلائم عقائده وقيمه، ويرفض ما لا يلائمه، واهتم الشيخ هنا بشعر د. إقبال باعتباره أبرز ثائر على الحضارة المادية، مع عمق دراسته لها، وتغلغله في أعماقها. وقد تجلى هذا في كثير من كتبه ورسائله، ولا سيما: حديث مع الغرب.. ماذا خسر العالم.. الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية. أحاديث صريحة في أمريكا.. محاضرة "الإسلام والغرب" في أوكسفورد.

10-نقد الفكرة القومية والعصبيات الجاهلية

وهو ما شاع في العالم العربي الإسلامي كله بعد ما أكرم الله به هذه الأمة من الأخوة الإسلامية، والإيمان بالعالمية، والبراءة من كل من دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية أو مات على عصبية، وأشد ما آلمه: أن تتغلغل هذه الفكرة بين العرب الذين هم عصبة الإسلام، وحملة رسالته، وحفظة كتابه وسنته، وهو واحد منهم نسبًا وفكرًا وروحًا. لذا وقف في وجه "القومية العربية" العلمانية المعادية للإسلام، المفرقة بين المسلمين، والتي اعتبرها بعضهم "نبوة جديدة" أو "ديانة جديدة" تجمع العرب على معتقدات ومفاهيم وقيم غير ما جاء به محمد ((صلى الله عليه وسلم) الذي هدى الله به أمة العرب، وجمعهم به من فرقة، وأخرجهم من الظلمات إلى النور. وهو رغم رفضه للقومية، لا ينكر فضل العرب ودورهم وريادتهم، بل هو يستنهض العرب في محاضراته ورسائله وكتبه للقيام بمهمتهم، والمناداة بعقائدهم ومبادئهم في وجه العالم: "محمد رسول الله روح العالم العربي" ويوجه رسالة عنوانها: اسمعوها مني صريحة أيها العرب. ورسائل أخرى: العرب والإسلام.. الفتح للعرب المسلمين. اسمعي يا مصر.. اسمعي يا سورية.. اسمعي يا زهرة الصحراء (يعني: الكويت).. كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب؟.. كيف دخل العرب التاريخ.. العرب يكتشفون أنفسهم: تضحية شباب العرب... إلى آخره.

11- تأكيد عقيدة ختم النبوة

ومقاومة الفتنة القاديانية وختم النبوة عقيدة معلومة من الدين بالضرورة لدى المسلمين طوال القرون الماضية، ولم يثر حولها أي شك أو شبهة، وإنما أوجب تأكيد هذه العقيدة: ظهور الطائفة القاديانية بفتنتهم الجديدة التي اعتبرها الشيخ "ثورة على النبوة المحمدية". ولقد كتب في هذه القضية ما كتب من مؤلفات ومقالات، ولكن الشيخ شعر بمسئوليته الخاصة إزاءها؛ فكتب في بيان أهمية ختم النبوة في اعتبارها تكريمًا للإنسانية بأنها "بلغت الرشد"، وأنها انتهت إلى الدين الكامل الذي يضع الأسس والأصول، ويترك التفصيلات للعقل البشري، الذي يولد ويستنبط في ضوء تلك الأصول ما تحتاج إليه المجتمعات في تطورها المستمر، وهي تغلق الباب على المتنبئين الكذابين، وتمنع فوضى الدعاوى الكاذبة المفترية على الله تعالى. وقد أكد الشيخ ذلك في فصل من كتابه "النبوة والأنبياء" عن محمد خاتم النبيين، ثم ألف كتابًا عن "النبي الخاتم"، وجعل السيرة النبوية للأطفال بعنوان "سيرة خاتم النبيين"، ثم صنف كتابًا خاصًا عن "القادياني والقاديانية" تضمن دراسة وتحليلاً لشخصية "غلام أحمد" ودعوته، ونشأته في أحضان الاستعمار الإنجليزي، واعترافه المتكرر بذلك في رسائله وكتاباته، ودعوته المسلمين إلى طاعة الإنجليز، وإلغاء الجهاد، وبيّن الشيخ الندوي بكل صراحة: أننا -مع القاديانة - في مواجهة دين إزاء دين، وأمة إزاء أمة. كما اشتد نكيره عليهم في تحريفهم للقرآن، وتلاعبهم باللغة العربية، وهذا الكتاب مرجع علمي موثق بالأدلة من مصادرها القاديانية ذاتها.

12-مقاومة الردة الفكرية:

والركيزة الثانية عشرة: هي مقاومة الردة الفكرية التي تفاقم خطرها بين العرب والمسلمين عامة، والمثقفين منهم خاصة. فكما قاوم الشيخ الردة الدينية التي تمثلت في القاديانية، التي أصر علماء المسلمين كافة في باكستان على اعتبارهم أقلية غير مسلمة، لم يألُ جهدًا في محاربة هذه الردة العقلية والثقافية. ولا غرو أن جند قلمه ولسانه وعلمه وجهده في كشف زيفها، ووقف زحفها، ومطاردة فلولها، وقد ألف فيها رسالته البديعة الشهيرة "ردة ولا أبا بكر لها!".

13-تأكيد دور الأمة المسلمة واستمرارها في التاريخ نبراس هداية للبشرية

، والشهادة على الأمم، والقيام على عبادة الله وتوحيده في الأرض، كما أشار إلى ذلك الرسول يوم بدر "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض". وهذه الأمة صاحبة رسالة شاملة، وحضارة متكاملة، مزجت المادة بالروح، ووصلت الأرض بالسماء، وربطت الدنيا بالآخرة، وجمعت بين العلم والإيمان، ووفّقت بين حقوق الفرد ومصلحة المجتمع، وهذه الأمة موقعها موقع القيادة والريادة للقافلة البشرية، وقد انتفعت منها البشرية يوم كانت الأمة الأولى في العالم. ثم تخلفت عن الركب لعوامل شتى، فخسر العالم كثيرًا بتخلفها، وهو ما عالجه كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" الذي عرفت به الشيخ قبل أن ألقاه، والذي استقبله العلماء والدعاة والمفكرون المسلمون استقبالاً حافلاً، وقال شيخنا الدكتور محمد يوسف موسى: إن قراءة هذا الكتاب فرض على كل مسلم يعمل لإعادة مجد الإسلام! ولا زال العلامة الندوي يبدئ ويعيد في تنبيه الأمة المسلمة على القيام بدورها الرسالي، ومهمتها التي أُخرجت لها، فقد أخرجها الله للناس لا لنفسها. وآخر إنتاجه في ذلك محاضرته التي ألقاها في دولة قطر، بعنوان "قيمة الأمة الإسلامية بين الأمم ودورها في العالم"

14- بيان فضل الصحابة ومنزلتهم في الدين:

أي بيان فضل الجيل المثالي الأول في هذه الأمة، وهو جيل الصحابة رضوان الله عليهم، أبر الناس قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأقلهم تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ونصرة دينه، وأنزل عليهم ملائكته في بدر والخندق وحنين، وهم الذين أثنى عليهم الله تعالى في كتابه في عدد من سوره، وأثنى عليهم رسوله في عدد من أحاديثه المستفيضة، وأكد ذلك تاريخهم وسيرتهم ومآثرهم، فهم الذين حفظوا القرآن، والذين رووا السنة، والذين فتحوا الفتوح، ونشروا الإسلام في الأمم، وهم تلاميذ المدرسة المحمدية، وثمار غرس التربية النبوية. وهم أولى من ينطبق عليهم قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وهم طليعة الأمة وأسوتها في العلم والعمل، وأئمتها في الجهاد والاجتهاد، وتلاميذهم من التابعين على قدمهم، وإن لم يبلغوا مبلغهم، [خير القرون قرني ثم الذين يلونهم] فمن شكك في عظمة هذا الجيل وفي أخلاقه ومواقفه، فقد شكك في قيمة التربية المحمدية، وهذه الصورة المعتمة التي رسمها الشيعة لجيل الصحابة، مناقضة للصورة المشرقة الوضيئة التي رسمها أهل السنة والجماعة، وهذا ما وضحه علامتنا في رسالته الفريدة "صورتان متضادتان" لنتائج جهود الرسول الأعظم الدعوية والتربوية، وسيرة الجيل المثالي الأول عند أهل السنة والشيعة الإمامية.

15- التنويه بقضية فلسطين وتحريرها

فقضية فلسطين ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، ولا العرب وحدهم، بل هي قضية المسلمين جميعًا، فلا بد من إيقاظ الأمة لخطرها، وتنبيهها على ضرورة التكاتف لتحريرها، واتخاذ الأسباب، ومراعاة السنن المطلوبة لاستعادتها. وليست هذه أول مرة تحتل فلسطين من قبل أعداء الدين والأمة، فقد احتلت أيام الحروب الصليبية نحو مائة عام، وأسر المسجد الأقصى تسعين سنة كاملة، حتى هيأ الله لهذا الأمة رجالا أفذاذًا، جددوا شباب الأمة بالإيمان، وإحياء روح الكفاح ومعنى الجهاد في سبيل الله، مثل: نور الدين وصلاح الدين، الذي أشاد به الشيخ الندوي كثيرًا في كتبه ورسائله. ولا سبيل إلى تحرير فلسطين إلا بهذا الطريق، وعلى نفس هذا المنهاج تجميع الأمة على الإسلام، وتجديد روحها بالإيمان، وتربية رجالها على الجهاد، وقد كتب في ذلك الشيخ مثالات ورسائل، أظهرها "المسلمون وقضية فلسطين".

16- العناية بالتربية الإسلامية الحرة التي لا تستمد فلسفتها من الغرب ولا من الشرق،

إنما تستمد فلسفتها من الإسلام عقيدة وشريعة وقيمًا وأخلاقًا، في حين تقتبس وسائلها وآلياتها من حيث شاءت، في إطار أصولها المرعية، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. وهو ينكر على التعليم القديم طرائقه في العناية بالألفاظ والجدليات، كما ينكر على التعليم الحديث إغفاله للروح وأهداف الحياة، وينقل عن إقبال قوله: أن التعليم الحديث لا يعلم عين الطالب الدموع، ولا قلبه الخشوع! ولقد أولى شيخنا جانب التربية اهتمامًا بالغًا، لأنها هي التي تصنع أجيال المستقبل، والتهاون فيها تهاون في الثورة البشرية للأمة، وقد نقل الشيخ عن بعض شعراء الهند: أن فرعون كان يكفيه عن تذبيح بني إسرائيل أن ينشئ لهم كلية يكيف عقولهم فيها كما يريد، ولكنه كان غبيًا. كتب الشيخ في ذلك رسائل، أبرزها: التربية الإسلامية الحرة، كما ناقش كثيرًا من قضايا التربية في كتابه: "كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب؟". كما شارك الشيخ بنفسه في هذا المجال علمًا وعملاً.

17- العناية بالطفولة والنشء والكتابة للأطفال والناشئين بوصفهم رجال الغد،

وصناع تاريخ الأمم. وقد التفت الشيخ إلى هذا الأمر الخطير، وهو في الثلاثينات من عمره، وكتب مجموعة من قصص النبيين للأطفال، في لغة سهلة، وأسلوب عذب، وطريقة شائقة، مضمنًا إياها ما يحب من المعاني والقيم، ومن الدروس والعبر، ومن العقائد والمثل، حتى قال بعض العلماء: أنها "علم توحيد" جديد للأطفال، وأثنى عليها أديب كبير كالشهيد سيد قطب مارس هذا العمل أيضا. وبعد ثلاثين سنة أو أكثر عاد فأكمل قصص الأنبياء، وختمها بسيرة خاتم النبيين (صلى الله عليه وسلم) كما أنشأ مجموعة "قصص من التاريخ الإسلامي" للأطفال أيضًا، وقال: أنه يرجو أن ينال بهذه الخطوة تقدير رجال التربية، وأن تليها خطوات، وتؤلف مجموعات.

18- إعداد العلماء والدعاة الربانيين

الذين يجمعون بين المعرفة الإسلامية، والرؤية العصرية، مع الغيرة الإيمانية والأخلاق الربانية، وهذا ما اجتهد الشيخ في أن يسهم فيه بنفسه عن طريق التدريس في "دار العلوم" ثم عن طريق تطوير المناهج، وعن طريق وضع المقررات والكتب الدراسية، ثم عن طريق الاشتراك في مجالس الجامعات والمؤسسات التعليمية في الهند، وفي غيرها، مثل المجلس الأعلى للجامعات الإسلامية بالمدينة المنورة. وهو يرى أن المسلمين أحوج ما يكونون اليوم إلى الداعية البصير، والعالم المتمكن، الذي إذا استقضى قضى بحق، وإذا استفتى أفتى على بينة، وإذا دعا إلى الله دعا على بصيرة.

19- ترشيد الصحوة والحركات الإسلامية التي يشهدها العالم الإسلامي،

بل يشهدها المسلمون في كل مكان، حتى خارج العالم الإسلامي، حيث توجد الأقليات والجاليات الإسلامية في أوربا والأمريكتين والشرق الأقصى وغيرها. وهي صحوة عقول وقلوب وعزائم، ولكن يُخشى على الصحوة من نفسها أكثر من غيرها. فتتآكل من الداخل، قبل أن تضرب من الخارج. وأعظم ما يُخشى على الصحوة: الغلو والتشديد في غير موضعه، والتمسك بالقشور وترك اللباب، والاشتغال الزائد بالجزئيات والخلافيات، وسوء الظن بالمسلمين إلى حد التأثيم والتضليل، بل التكفير. والشيخ بطبيعته رجل معتدل في تفكيره، وفي سلوكه وفي حياته كلها: فهو قديم جديد، وهو تراثي وعصري، وهو سلفي وصوفي، ثابت ومتطور، في لين الحرير وصلابة الحديد. وهكذا يريد لجيل الصحوة أن يكون. لم يقيد الشيخ الندوي نفسه بالالتزام بجماعة معينة، فقد بقى حرًا، يشرف على الجماعات من خارجها، فيرى من نواقصها ما لا يراه أعضاؤها، ويبصر نقاط ضعفها، فيوجه وينصح، وينقد ويسدد، ولعل في ذلك خيرًا. كما لا يدخر وسعًا في النصح لحكام المسلمين وزعمائهم ما وجد إلى ذلك سبيلا. وخصوصًا أنه لا يطمع في شئ من أحد منهم.

20- وآخر هذه الركائز وهي المكملة للعشرين دعوة غير المسلمين للإسلام

، استكمالاً لما قامت به الأمة في العصور الأولى، وقد ساهم الشيخ في ذلك منذ عهد مبكر وهو ابن الثانية والعشرين بدعوة الدكتور أمبيدكر زعيم المنبوذين إلى الإسلام، ورحلته إليه في بومباي. وهو يرى أن فضل الأمة الإسلامية على غيرها في قيامها بواجب الدعوة إلى الله، وأن البشرية اليوم رغم بلوغها ما بلغت من العلم المادي والتطور التكنولوجي أحوج ما تكون إلى رسالة الإسلام، حاجة الظمآن إلى الماء، والسقيم إلى الشفاء، والأمة الإسلامية هي وحدها التي تملك قارورة الدواء، ومضخة الإطفاء. تلك هي الركائز العشرون، التي قام عليها فقه الدعوة عند الإمام الندوي، وكل ركيزة منها تحتاج إلى شرح وتفصيل، اسأل الله تعالى أن يعين عليه، ويوفق لإتمامه. أنه سميع مجيب

وفاة الإمام الندوي

وكان الشيخ أبو الحسن الندوي قد توفاه الله في يوم مبارك وهو يوم الجمعة وفي شهر رمضان المبارك أثناء اعتكافه بمسجد قريته "تكية" بمديرية "راي باريلي" في شمال الهند وجرى دفنه مساء نفس اليوم في مقبرة أسرته بالقرية في حضور الأقارب والأهالي وبعض مسئولي ندوة العلماء التي ظل مرتبطًا بها طيلة حياته الحافلة بالجهاد والدعوة طوال 86 عاماً هي عمر الفقيد رحمه الله.

وقد عم الحزن الأوساط الإسلامية في الهند جمعاء، وصدرت بيانات عن كل الجمعيات والمنظمات والمؤسسات الإسلامية الكبرى تنعي وفاته، وتعتبرها خسارة لا تعوض لمسلمي الهند والعالم الإسلامي، ويصعب تعويضها في المستقبل القريب. وكان في طليعة المعزين أمير الجماعة الإسلامية الهندية الشيخ محمد سراج الحسن، ورئيس جمعية العلماء الشيخ أسعد المدني، وإمام المسجد الجامع بدهلي عبد الله البخاري، وأمين مجمع الفقه الإسلامي الشيخ مجاهد الإسلامي القاسمي، إلى جانب مسئولي الحكومة الهندية، كرئيس الوزراء أتال بيهاري واجباي، ورئيسة حزب المؤتمر سونيا غاندي. وقال رئيس الوزراء الأسبق (في. بي. سينغ): إن وفاة الشيخ أبي الحسن خسارة شخصية له. وقد توالت التعازي من مختلف أنحاء الهند والعالم في الفقيد الكبير، وأقيمت له صلاة الغائب والترحم في مختلف المناطق.






سلمان الفارسي

الباحث عن الحقيقة

سلمان الفارسي رضي الله عنه، يكنى أبا عبد الله، من أصبهان من قرية يقال لها جي وقيل من رامهرمز، سافر يطلب الدين مع قوم فغدروا به فباعوه لرجل من اليهود ثم إنه كوتب فأعانه النبي في كتابته، أسلم مقدم النبي المدينة، ومنعه الرق من شهود بدر وأحد، وأول غزاة غزاها مع النبي الخندق، وشهد ما بعدها وولاه عمر المدائن.

عن عبد الله بن العباس قال: حدثني سلمان الفارسي قال: كنت رجلا فارسيًّا من أهل أصبهان من أهل قرية منها يقال لها جي، وكان أبي دهقان قريته وكنت أحب خلق الله إليه فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة، قال: وكانت لأبي ضيعة عظيمة قال: فشغل في بنيان له يومًا فقال لي يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب فاطلعها وأمرني فيها ببعض ما يريد فخرجت أريد ضيعته فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت هذا والله خير من الذي نحن عليه فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي ولم آتها فقلت لهم أين أصل هذا الدين قالوا بالشام، قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله فلما جئته قال أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت يا أبه مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس قال أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قلت كلا والله إنه لخير من ديننا، قال فخافني فجعل في رجلي قيدًا ثم حبسني في بيته، قال وبعثت إلى النصارى فقلت لهم إذا قدم عليكم ركب من الشام تجارًا من النصارى فأخبروني بهم، قال فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال فأخبروني بقدوم تجار فقلت لهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، قال فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم ألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام فلما قدمتها قلت من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا الأسقف في الكنيسة، قال فجئته فقلت إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك قال فادخل، فدخلت معه، قال فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها فإذا جمعوا إليه منها شيئًا اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب، قال وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع، قال ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه فقلت لهم إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا قالوا وما علمك بذلك؟ قلت أنا أدلكم على كنزه، قالوا فدلنا عليه، قال فأريتهم موضعه، قال فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقا، قال فلما رأوها قالوا والله لا ندفنه أبدًا، قال فصلبوه ثم رجموه بالحجارة ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارًا منه، قال فأحببته حبًّا لم أحبه من قبله فأقمت معه زمانًا ثم حضرته الوفاة قلت له يا فلان، إني كنت معك فأحببتك حبًّا لم أحبه أحداً من قبلك وقد حضرتك الوفاة فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال أي بني، والله ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه فالحق به، قال فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له يا فلان إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أنك على أمره، قال فقال لي أقم عندي، قال فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانًا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال أي بني، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به، قال فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فجئت فأخبرته بما جرى وما أمرني به صاحبي، قال فأقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له يا فلان، إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي وما تأمرني قال أي بني، والله ما أعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته فإنه على مثل أمرنا، قال فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري فقال أقم عندي فأقمت عند رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال وكنت اكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة، قال ثم نزل به أمر الله عز وجل فلما حضر قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان وأوصى بي فلان إلى فلان وأوصى بي فلان إلى فلان وأوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال أي بني، والله ما أعلم أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، قال ثم مات وغيب فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه قالوا نعم فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني لرجل من يهود فكنت عنده ورأيت النخل ورجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق لي في نفسي، فبينا أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي فأقمت بها وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال، فلانُ قاتلَ اللهُ بني قيلة! والله، إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم زعم أنه نبي، قال فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني ساقط على سيدي، قال ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ماذا تقول؟ قال فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة وقال ما لك ولهذا أقبل على عملك، قال قلت لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال، وقد كان شيء عندي قد جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، قال فقربته إليه فقال رسول الله لأصحابه كلوا وأمسك يده هو فلم يأكل، قال فقلت في نفسي هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا وتحول رسول الله إلى المدينة ثم جئته به فقلت إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها فأكل رسول الله منها وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال فقلت في نفسي هاتان اثنتان، قال ثم جئت رسول الله وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة من أصحابه عليه شملتان وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي فلما رآني رسول الله استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، قال فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال رسول الله تحول فتحولت فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا بن عباس فأعجب رسول الله أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله بدر وأحد، قال ثم قال لي رسول الله كاتب يا سلمان فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وبأربعين أوقية فقال رسول الله لأصحابه أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل: الرجل بثلاثين ودية والرجل بعشرين والرجل بخمسة عشر والرجل بعشرة والرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت أكون أنا أضعها بيدي، قال ففقرت لها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته فخرج رسول الله معي إليها فجعلنا نقرب له الودي ويضعه رسول الله بيده فوا الذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة فأديت النخل فبقي علي المال، فأتى رسول الله بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال ما فعل الفارسي المكاتب قال فدُعِيْتُ له، قال فخذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان، قال قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال خذها فإن الله عز وجل سيؤدي بها عنك، قال فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم وعتقت فشهدت مع رسول الله الخندق ثم لم يفتني معه مشهد. رواه الإمام أحمد.

نبذة من فضائله

عن أنس قال: قال رسول الله: السُبَّاق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة.
وعن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله خط الخندق وجعل لكل عشرة أربعين ذراعًا فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان وكان رجلا قويًّا، فقال المهاجرون سلمان منا، وقالت الأنصار لا بل سلمان منا، فقال رسول الله: سلمان منا آل البيت.

وعن أبي حاتم عن العتبي قال: بعث إلي عمر بحلل فقسمها فأصاب كل رجل ثوباً ثم صعد المنبر وعليه حلة والحلة ثوبان، فقال أيها الناس ألا تسمعون؟! فقال سلمان: لا نسمع، فقال عمر: لم يا أبا عبد الله؟! قال إنك قسمت علينا ثوبًا ثوبًا وعليك حلة، فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله، ثم نادى يا عبد الله، فلم يجبه أحد، فقال: يا عبد الله بن عمر، فقالك لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: اللهم نعم، قال سلمان: فقل الآن نسمع.
غزارة علمه رضي الله عنه

عن أبي جحيفة قال: آخى رسول الله بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء مبتذلة (في هيئة رثة) فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: إن أخاك أبا الدرداء ليست له حاجة في الدنيا، قال: فلما جاء أبا الدرداء قرب طعامًا، فقال: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فقال له سلمان نم فنام، فلما كان من آخر الليل قال له سلمان: قم الآن، فقاما فصليا، فقال إن لنفسك عليك حقًّا ولربك عليك حقًّا وإن لضيفك عليك حقًّا وإن لأهلك عليك حقًّا فأعط كل ذي حق حقه، فأتيا النبي فذكرا ذلك له فقال صدق سلمان. انفرد بإخراجه البخاري.

وعن محمد بن سيرين قال: [دخل سلمان على أبي الدرداء في يوم جمعة فقيل له هو نائم فقال: ما له؟ فقالوا إنه إذا كانت ليلة الجمعة أحياها ويصوم يوم الجمعة قال فأمرهم فصنعوا طعامًا في يوم جمعة ثم أتاهم فقال كل قال إني صائم، فلم يزل به حتى أكل، فأتيا النبي فذكرا ذلك له فقال النبي: عويمر سلمان أعلم منك، وهو يضرب بيده على فخذ أبي الدرداء، عويمر، سلمان أعلم منك ـ ثلاث مرات ـ لا تخصن ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصن يوم الجمعة بصيام من بين الأيام]وعن ثابت البناني أن أبا الدرداء ذهب مع سلمان يخطب عليه امرأة من بني ليث فدخل فذكر فضل سلمان وسابقته وإسلامه وذكر أنه يخطب إليهم فتاتهم فلانة فقالوا أما سلمان فلا نزوجه ولكنا نزوجك، فتزوجها ثم خرج فقال له إنه قد كان شيء وأنا أستحيي أن أذكره لك قال وما ذاك فأخبره الخبر فقال سلمان أنا أحق أن أستحيي منك أن أخطبها وقد قضاها الله لك رضي الله عنهما.

نبذة من زهده

عن الحسن قال كان عطاء سلمان الفارسي خمسة آلاف وكان أميرًا على زهاء ثلاثين ألفًا من المسلمين وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها فإذا خرج عطاؤه أمضاه ويأكل من سفيف يديه.

وعن مالك بن أنس أن سلمان الفارسي كان يستظل بالفيء حيثما دار ولم يكن له بيت فقال له رجل ألا نبني لك بيتا تستظل به من الحر وتسكن فيه من البرد فقال له سلمان: نعم فلما أدبر صاح به فسأله سلمان: كيف تبنيه؟ قال أبنيه إن قمت فيه أصاب رأسك، وإن اضطجعت فيه أصاب رجليك، فقال سلمان: نعم. وقال عبادة بن سليم كان لسلمان خباء من عباء وهو أمير الناس. وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن سلمان أنه تزوج امرأة من كندة فلما كان ليلة البناء مشى معه أصحابه حتى أتى بيت المرأة فلما بلغ البيت قال ارجعوا أجركم الله ولم يدخلهم، فلما نظر إلى البيت والبيت منجد قال أمحموم بيتكم أم تحولت الكعبة في كندة، فلم يدخل حتى نزع كل ستر في البيت غير ستر الباب، فلما دخل رأى متاعًا كثيرًا، فقال لمن هذا المتاع؟ قالوا متاعك ومتاع امرأتك، فقال ما بهذا أوصاني خليلي رسول الله، أوصاني خليلي أن لا يكون متاعي من الدنيا إلا كزاد الراكب، ورأى خدمًا فقال لمن هذه الخدم؟ قالوا خدمك وخدم امرأتك، فقال ما بهذا أوصاني خليلي أوصاني خليلي أن لا أمسك إلا ما أنكح أو أنكح فإن فعلت فبغين كان علي مثل أوزارهن من غير أن ينقص من أوزارهن شيء، ثم قال للنسوة اللاتي عند امرأته هل أنتن مخليات بيني وبين امرأتي؟ قلن نعم، فخرجن فذهب إلى الباب فأجافه وأرخى الستر ثم جاء فجلس عند امرأته فمسح بناصيتها ودعا بالبركة فقال لها: هل أنت مطيعتي في شيء آمرك به؟ قالت: جلست مجلس من يطيع قال فإن خليلي أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي أن أجتمع على طاعة الله، فقام وقامت إلى المسجد فصليا ما بدا لهما ثم خرجا فقضى منها ما يقضي الرجل من امرأته، فلما أصبح غدا عليه أصحابه فقالوا كيف وجدت أهلك؟ فأعرض عنهم ثم أعادوا فأعرض عنهم ثم أعادوا فأعرض عنهم ثم قال: إنما جعل الله عز وجل الستور والخدر والأبواب لتواري ما فيها، حسب كل امرئٍ منكم أن يسأل عما ظهر له، فأما ما غاب عنه فلا يسألن عن ذلك، سمعت رسول الله يقول: المتحدث عن ذلك كالحمارين يتسافدان في الطريق.

وعن أبي قلابة أن رجلا دخل على سلمان وهو يعجن فقال: ما هذا؟ قال: بعثنا الخادم في عمل فكرهنا أن نجمع عليه عملين، ثم قال: فلان يقرئك السلام قال: متى قدمت، قال: منذ كذا وكذا فقال أما إنك لو لم تؤدها كانت أمانة لم تؤدها. رواه أحمد.

كسبه وعمله بيده

عن النعمان بن حميد قال: دخلت مع خالي على سلمان الفارسي بالمدائن وهو يعمل الخوص فسمعته يقول: أشتري خوصًا بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم فأعيد درهمًا فيه وأنفق درهمًا على عيالي وأتصدق بدرهم، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهيت. وعن الحسن قال: كان سلمان يأكل من سفيف يده.

نبذة من ورعه وتواضعه

عن أبي ليلى الكندي قال: قال غلام سلمان لسلمان: كاتبني، قال: ألك شيء قال: لا، قال: فمن أين؟ قال: أسأل الناس، قال: تريد أن تطعمني غسالة الناس.

عن ثابت قال: كان سلمان أميرًا على المدائن فجاء رجل من أهل الشام ومعه حمل تبن وعلى سلمان عباءة رثة فقال لسلمان: تعال احمل وهو لا يعرف سلمان فحمل سلمان فرآه الناس فعرفوه فقالوا هذا الأمير فقال: لم أعرفك!! فقال سلمان إني قد نويت فيه نية فلا أضعه حتى أبلغ بيتك.

وعن عبد الله بن بريدة قال: كان سلمان إذا أصاب الشيء اشترى به لحما ثم دعا المجذومين فأكلوا معه.

وعن عمر بن أبي قره الكندي قال: عرض أبي على سلمان أخته أن يزوجه فأبى، فتزوج مولاة يقال لها بقيرة، فأتاه أبو قرة فأخبر أنه في مبقلة له فتوجه إليه فلقيه معه زنبيل فيه بقل قد أدخل عصاه في عروة الزنبيل وهو على عاتقه.

وعن ميمون بن مهران عن رجل من عبد القيس قال: رأيت سلمان في سرية وهو أميرها على حمار عليه سراويل وخدمتاه تذبذبان والجند يقولون قد جاء الأمير قال سلمان: إنما الخير والشر بعد اليوم.

وعن أبي الأحوص قال: افتخرت قريش عند سلمان فقال سلمان: لكني خلقت من نطفة قذرة ثم أعود جيفة منتنة ثم يؤدى بي إلى الميزان فإن ثقلت فأنا كريم وإن خفت فأنا لئيم.

عن ابن عباس قال: قدم سلمان من غيبة له فتلقاه عمر فقال: أرضاك لله عبدًا قال: فزوجني، فسكت عنه، فقال: أترضاني لله عبدًا ولا ترضاني لنفسك، فلما أصبح أتاه قوم فقال: حاجة؟ قالوا: نعم، قال: ما هي؟ قالوا: تضرب عن هذا الأمر يعنون خطبته إلى عمر فقال أما والله ما حملني على هذا إمرته ولا سلطانه، ولكن قلت رجل صالح عسى الله عز وجل أن يخرج مني ومنه نسمة صالحة.

وعن أبي الأسود الدؤلي قال: كنا عند علي ذات يوم فقالوا: يا أمير المؤمنين حدثنا عن سلمان، قال: من لكم بمثل لقمان الحكيم! ذلك امرؤ منا وإلينا أهل البيت، أدرك العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والآخر، بحر لا ينزف. وأوصى معاذ بن جبل رجلا أن يطلب العلم من أربعة سلمان أحدهم.
نبذة من كلامه ومواعظه

عن حفص بن عمرو السعدي عن عمه قال: قال سلمان لحذيفة: يا أخا بني عبس، العلم كثير والعمر قصير فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك ودع ما سواه فلا تعانه.

وعن أبي سعيد الوهبي عن سلمان قال: إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل المريض معه طبيبه الذي يعلم داءه ودواءه فإذا اشتهى ما يضره منعه وقال لا تقربه فإنك إن أتيته أهلكك فلا يزال يمنعه حتى يبرأ من وجعه، وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة مما قد فضل به غيره من العيش، فيمنعه الله عز وجل إياه ويحجزه حتى يتوفاه فيدخله الجنة.

وعن جرير قال: قال سلمان: يا جرير، تواضع لله عز وجل فإنه من تواضع لله عز وجل في الدنيا رفعه الله يوم القيامة، يا جرير، هل تدري ما الظلمات يوم القيامة؟ قلت: لا، قال: ظلم الناس بينهم في الدنيا، قال: ثم أخذ عويدًا لا أكاد أراه بين إصبعيه، قال: يا جرير، لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تجده، قال قلت: يا أبا عبد الله، فأين النخل والشجر؟ قال: أصولها اللؤلؤ والذهب وأعلاها الثمر.

وعن أبي البختري عن سلمان قال: مثل القلب والجسد مثل أعمى ومقعد قال المقعد إني أرى تمرة ولا أستطيع أن أقوم إليها فاحملني فحمله فأكل وأطعمه.

وعن قتادة قال: قال سلمان: إذا أسأت سيئة في سريرة فأحسن حسنة في سريرة، وإذا أسأت سيئة في علانية فأحسن حسنة في علانية لكي تكون هذه بهذه.

وعن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا وإنما يقدس الإنسان عمله وقد بلغني أنك جعلت طبيبًا فإن كنت تبرئ فنعمًا لك وإن كنت متطببًا فاحذر أن تقتل إنسانًا فتدخل النار، فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين فأدبرا عنه نظر إليهما وقال متطبب والله ارجعا إلي أعيدا قصتكما.

عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راض عنه، وثلاث أحزنني حتى أبكينني: فراق محمد وحزبه، وهول المطلع، والوقوف بين يدي ربي عز وجل ولا أدري إلى جنة أو إلى نار.

وعن حماد بن سلمة عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قال: ما من مسلم يكون بفيء من الأرض فيتوضأ أو يتيمم ثم يؤذن ويقيم إلا أمَّ جنودًا من الملائكة لا يرى طرفهم أو قال طرفاهم.

وعن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان فقال أوصني، قال: لا تَكَلَّمُ، قال: لا يستطيع من عاش في الناس ألا يتكلم، قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت، قال: زدني، قال: لا تغضب، قال: إنه ليغشاني مالا أملكه، قال: فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك، قال: زدني قال لا تلابس الناس، قال: لا يستطيع من عاش في الناس ألا يلابسهم ، قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث وأد الأمانة.

وعن أبي عثمان عن سلمان قال: إن العبد إذا كان يدعو الله في السراء فنزلت به الضراء فدعا قالت الملائكة صوت معروف من آدمي ضعيف فيشفعون له، وإذا كان لا يدعو الله في السراء فنزلت به الضراء قالت الملائكة صوت منكر من آدمي ضعيف فلا يشفعون له.

وعن سالم مولى زيد بن صوحان قال: كنت مع مولاي زيد بن صوحان في السوق فمر علينا سلمان الفارسي وقد اشترى وسقا من طعام فقال له زيد: يا أبا عبد الله، تفعل هذا وأنت صاحب رسول الله؟ قال: إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت وتفرغت للعبادة ويئس منها الوسواس.

وعن أبي عثمان عن سلمان قال: لما افتتح المسلمون "جوخى" دخلوا يمشون فيها وأكداس الطعام فيها أمثال الجبال قال ورجل يمشي إلى جنب سلمان فقال يا أبا عبد الله ألا ترى إلى ما أعطانا الله؟ فقال سلمان: وما يعجبك فما ترى إلى جنب كل حبة مما ترى حساب؟! رواه الإمام أحمد.

وعن سعيد بن وهب قال: دخلت مع سلمان على صديق له من كندة نعوده فقال له سلمان: إن الله عز وجل يبتلي عبده المؤمن بالبلاء ثم يعافيه فيكون كفارة لما مضى فيستعتب فيما بقي، وإن الله عز وجل يبتلي عبده الفاجر بالبلاء ثم يعافيه فيكون كالبعير عقله أهله ثم أطلقوه فلا يدري فيم عقلوه ولا فيم أطلقوه حين أطلقوه.

وعن محمد بن قيس عن سالم بن عطية الأسدي قال: دخل سلمان على رجل يعوده وهو في النزع فقال: أيها الملك ارفق به، قال يقول الرجل إنه يقول إني بكل مؤمن رفيق.

وفاة سلمان رضي الله عنه

عن حبيب بن الحسن وحميد بن مورق العجلي أن سلمان لما حضرته الوفاة بكى فقيل له ما يبكيك قال عهد عهده إلينا رسول الله قال ليكن بلاغ أحدكم كزاد الراكب قال فلما مات نظروا في بيته فلم يجدوا في بيته إلا إكافًا ووطاءً ومتاعًا قُوِّمَ نَحْوًا من عشرين درهما.

عن أبي سفيان عن أشياخه قال: ودخل سعد بن أبي وقاص على سلمان يعوده فبكى سلمان فقال له سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الله توفي رسول الله وهو عنك راض وترد عليه الحوض؟ قال فقال سلمان: أما إني ما أبكي جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا ولكن رسول الله عهد الينا فقال لتكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب وحولي هذه الأساود، وإنما حوله إجانة أو جفة أو مطهرة، قال فقال له سعد: يا أبا عبد الله، اعهد الينا بعهد فنأخذ به بعدك، فقال: يا سعد، اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند بذلك إذا قسمت.

وعن الشعبي قال: أصاب سلمان صرة مسك يوم فتح جلولاء فاستودعها امرأته فلما حضرته الوفاة قال هاتي المسك فمرسها في ماء ثم قال انضحيها حولي فإنه يأتيني زوار الآن ليس بإنس ولا جان، ففعلت فلم يمكث بعد ذلك إلا قليلا حتى قبض.

قال أهل العلم بالسير: كان سلمان من المعمرين وتوفي بالمدائن في خلافة عثمان وقيل مات سنة ثنتين وثلاثين.




الإمام مالك

إمام دار الهجرة

يروى في فضله ومناقبه الكثير ولكن أهمها ما روي [عن أبي هريرة يبلغ به النبي (صلى الله عليه وسلم) قال ليضربن الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة]

إنه الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وصاحب أحد المذاهب الفقهية الأربعة في الإسلام وهو المذهب المالكي، وصاحب كتب الصحاح في السنة النبوية وهو كتاب الموطأ. يقول الإمام الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم.



--------------------------------------------------------------------------------

نسبه ومولده

هو شيخ الإسلام حجة الأمة إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك ابن أنس بن مالك بن أبى عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة وهو حمير الأصغر الحميري ثم الأصبحي المدني حليف بني تيم من قريش فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة.

وأمه هي عالية بنت شريك الأزدية وأعمامه هم أبو سهل نافع وأويس والربيع والنضر أولاد أبي عامر.

ولد مالك على الأصح في سنة 93هـ عام موت أنس خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونشأ في صون ورفاهية وتجمل



--------------------------------------------------------------------------------

طلبه للعلم

طلب الإمام مالك العلم وهو حدث لم يتجاوز بضع عشرة سنة من عمره وتأهل للفتيا وجلس للإفادة وله إحدى وعشرون سنة وقصده طلبة العلم وحدث عنه جماعة وهو بعد شاب طري.



--------------------------------------------------------------------------------

ثناء العلماء عليه

عن ابن عيينة قال مالك عالم أهل الحجاز وهو حجة زمانه.

وقال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم.

وعن ابن عيينة أيضا قال كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحا ولا يحدث إلا عن ثقة ما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موته يعني من العلم.

ـ روي عن وهيب وكان من أبصر الناس بالحديث والرجال أنه قدم المدينة قال فلم أرى أحدا إلا تعرف وتنكر إلا مالكا ويحيى بن سعيد الأنصاري.



--------------------------------------------------------------------------------

إمام دار الهجرة

روي عن أبي موسى الأشعري قال [قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخرج ناس من المشرق والمغرب في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة] ويروى عن ابن عيينة قال كنت أقول هو سعيد بن المسيب حتى قلت كان في زمانه سليمان بن يسار وسالم بن عبد الله وغيرهما ثم أصبحت اليوم أقول إنه مالك لم يبق له نظير بالمدينة.

قال القاضي عياض هذا هو الصحيح عن سفيان رواه عنه ابن مهدي وابن معين وذؤيب بن عمامه وابن المديني والزبير بن بكار وإسحاق بن أبي إسرائيل كلهم سمع سفيان يفسره بمالك أو يقول وأظنه أو أحسبه أو أراه أو كانوا يرونه.

وذكر أبو المغيرة المخزومي أن معناه ما دام المسلمون يطلبون العلم لا يجدون أعلم من عالم بالمدينة فيكون على هذا سعيد بن المسيب ثم بعده من هو من شيوخ مالك ثم مالك ثم من قام بعده بعلمه وكان أعلم أصحابه.

ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم والفقه والجلالة والحفظ فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن المسيب والفقهاء السبعة والقاسم وسالم وعكرمة ونافع وطبقتهم ثم زيد بن أسلم وابن شهاب وأبي الزناد ويحيى بن سعيد وصفوان بن سليم وربيعة بن أبي عبد الرحمن وطبقتهم فلما تفانوا اشتهر ذكر مالك بها وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن الماجشون وسليمان بن بلال وفليح بن سليمان وأقرانهم فكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق رحمه الله تعالى.

قال أبو عبد الله الحاكم ما ضربت أكباد الإبل من النواحي إلى أحد من علماء المدينة دون مالك واعترفوا له وروت الأئمة عنه ممن كان أقدم منه سنا كالليث عالم أهل مصر والمغرب والأوزاعي عالم أهل الشام ومفتيهم والثوري وهو المقدم بالكوفة وشعبة عالم أهل البصرة إلى أن قال وحمل عنه قبلهم يحيى بن سعيد الأنصاري حين ولاه أبو جعفر قضاء القضاة فسأل مالكا أن يكتب له مائة حديث حين خرج إلى العراق ومن قبل كان ابن جريج حمل عنه.



--------------------------------------------------------------------------------

قصة الموطأ

يروي أبو مصعب فيقول: سمعت مالكا يقول دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين وقد نزل على فرش له وإذا على بساطه دابتان ما تروثان ولا تبولان وجاء صبي يخرج ثم يرجع فقال لي أتدري من هذا قلت لا قال هذا ابني وإنما يفزع من هيبتك ثم ساءلني عن أشياء منها حلال ومنها حرام ثم قال لي أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس قلت لا والله يا أمير المؤمنين قال بلى ولكنك تكتم ثم قال والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به إلى الآفاق فلأحملهنم عليه.فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول تفرقوا في الأمصار وإن تفعل تكن فتنة!!



--------------------------------------------------------------------------------

مواقف من حياته
روي أن مالكا كان يقول ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني هل تراني موضعا لذلك سألت ربيعة وسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك فقلت فلو نهوك قال كنت أنتهي لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه

وقال خلف: دخلت عليه فقلت ما ترى فإذا رؤيا بعثها بعض إخوانه يقول: رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) في المنام في مسجد قد اجتمع الناس عليه فقال لهم إني قد خبأت تحت منبري طيبا أو علما وأمرت مالكا أن يفرقه على الناس فانصرف الناس وهم يقولون إذا ينفذ مالك ما أمره به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم بكى فقمت عنه.

وروي أن المهدي قدم المدينة فبعث إلى مالك بألفي دينار أو قال بثلاثة آلاف دينار ثم أتاه الربيع بعد ذلك فقال إن أمير المؤمنين يحب أن تعادله إلى مدينة السلام فقال قال النبي (صلى الله عليه وسلم) المدينة خير لهم ولو كانوا يعلمون والمال عندي على حاله.

وقدم المهدي المدينة مرة أخرى فبعث إلى مالك فأتاه فقال لهارون وموسى اسمعا منه فبعث إليه فلم يجبهما فأعلما المهدي فكلمة فقال يا أمير المؤمنين العلم يؤتى أهله فقال صدق مالك صيرا إليه فلما صارا إليه قال له مؤدبهما اقرأ علينا فقال إن أهل المدينة يقرؤون على العالم كما يقرأ الصبيان على المعلم فإذا أخطئوا أفتاهم فرجعوا إلى المهدي فبعث إلى مالك فكلمه فقال سمعت ابن شهاب يقول جمعنا هذا العلم في الروضة من رجال وهم يا أمير المؤمنين سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم وسالم وخارجه بن زيد وسليمان بن يسار ونافع وعبد الرحمن بن هرمز ومن بعدهم أبو الزناد وربيعه ويحيى بن سعيد وابن شهاب كل هؤلاء يقرأ عليهم ولا يقرؤون فقال في هؤلاء قدوة صيروا إليه فاقرؤوا عليه ففعلوا.

يروي يحيى ابن خلف الطرسوسي وكان من ثقات المسلمين قال كنت عند مالك فدخل عليه رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق فقال مالك زنديق اقتلوه فقال يا أبا عبد الله إنما أحكي كلاما سمعته قال إنما سمعته منك وعظم هذا القول.

وعن قتيبه قال كنا إذا دخلنا على مالك خرج إلينا مزينا مكحلا مطيبا قد لبس من أحسن ثيابه وتصدر الحلقة ودعا بالمراوح فأعطى لكل منا مروحة.

وعن محمد بن عمر قال كان مالك يأتي المسجد فيشهد الصلوات والجمعة والجنائز ويعود المرضى ويجلس في المسجد فيجتمع إليه أصحابه ثم ترك الجلوس فكان يصلي وينصرف وترك شهود الجنائز ثم ترك ذلك كله والجمعة واحتمل الناس ذلك كله وكانوا أرغب ما كانوا فيه وربما كلم في ذلك فيقول ليس كل أحد يقدر أن يتكلم بعذره.

وكان يجلس في منزله على ضجاع له ونمارق مطروحة في منزله يمنة ويسرة لمن يأتيه من قريش والأنصار والناس، وكان مجلسه مجلس وقار وحلم قال وكان رجلا مهيبا نبيلا ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ولا رفع صوت وكان الغرباء يسألونه عن الحديث فلا يجيب إلا في الحديث بعد الحديث وربما أذن لبعضهم يقرأ عليه وكان له كاتب قد نسخ كتبه يقال له حبيب يقرأ للجماعة ولا ينظر أحد في كتابه ولا يستفهم هيبة لمالك وإجلالا له وكان حبيب إذا قرأ فأخطأ فتح عليه مالك وكان ذلك قليلا قال ابن وهب سمعت مالكا يقول ما أكثر أحد قط فأفلح.

وقيل لمالك لم لا تأخذ عن عمرو بن دينار قال: أتيته فوجدته يأخذون عنه قياما فأجللت حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن آخذه قائما.

ويروى عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول لرجل سأله عن القدر نعم قال الله تعالى {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}(السجدة:12)
وقال جعفر بن عبد الله قال كنا عند مالك فجاءه رجل فقال يا أبا عبد الله [الرحمن على العرش استوى " كيف استوى فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرضاء ثم رفع رأسه ورمى بالعود وقال الكيف منه غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج]

وفي رواية أخرى قال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه.



--------------------------------------------------------------------------------

من كلماته

العلم ينقص ولا يزيد ولم يزل العلم ينقص بعد الأنبياء والكتب.

والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه إلا نزع الله هيبته من صدري.

أعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما يسمع.

ما تعلمت العلم إلا لنفسي وما تعلمت ليحتاج الناس إلي وكذلك كان الناس.

ليس هذا الجدل من الدين بشيء.

لا يؤخذ العلم عن أربعة سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس وصاحب بدعة يدعو إلى هواه ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به.



--------------------------------------------------------------------------------

صفة الإمام مالك

عن عيسى بن عمر قال ما رأيت قط بياضا ولا حمرة أحسن من وجه مالك ولا أشد بياض ثوب من مالك، ونقل غير واحد أنه كان طوالا جسيما عظيم الهامة أشقر أبيض الرأس واللحية عظيم اللحية أصلع وكان لا يحفي شاربه ويراه مثله.

وقيل كان أزرق العين، محمد بن الضحاك الحزامي كان مالك نقي الثوب رقيقه يكثر اختلاف اللبوس، و قال أشهب كان مالك إذا اعتم جعل منها تحت ذقنه ويسدل طرفها بين كتفيه.



--------------------------------------------------------------------------------

إمام في الحديث

كان الإمام مالك من أئمة الحديث في المدينة، يقول يحيى القطان ما في القوم أصح حديثا من مالك كان إماما في الحديث، قال الشافعي قال محمد بن الحسن أقمت عند مالك ثلاث سنين وكسرا وسمعت من لفظه أكثر من سبعمائة حديث فكان محمد إذا حدث عن مالك امتلأ منزله وإذا حدث عن غيره من الكوفيين لم يجئه إلا اليسير.

قال ابن مهدي أئمة الناس في زمانهم أربعة الثوري ومالك والأوزاعي وحماد بن زيد وقال ما رأيت أحدا أعقل من مالك.


--------------------------------------------------------------------------------

محنة الإمام مالك

تعرض الإمام مالك لمحنة وبلاء بسبب حسد ووشاية بينه وبين والي المدينة جعفر بن سليمان ويروى أنه ضرب بالسياط حتى أثر ذلك على يده فيقول إبراهيم بن حماد أنه كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه حمل يده بالأخرى، ويقول الواقدي لما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا بمالك إليه وكثروا عليه عنده وقالوا لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز عنده قال فغضب جعفر فدعا بمالك فاحتج عليه بما رفع إليه عنه فأمر بتجريده وضربه بالسياط وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه وارتكب منه أمر عظيم فواالله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو، وهذه ثمرة المحنة المحمودة أنها ترفع العبد عند المؤمنين وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير ومن يرد الله به خيرا يصيب منه وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) كل قضاء المؤمن خير له وقال الله تعالى {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} (محمد:31) وأنزل الله تعالى في وقعه أحد قوله {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم}(آل عمران:165) وقال {وما أصابكم من مصيبة فبما كسب أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى:30)

فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظ واستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه فالله حكم مقسط ثم يحمد الله على سلامة دينه ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له.



--------------------------------------------------------------------------------

تراث الإمام مالك
عني العلماء بتحقيق وتأليف الكتب حول تراث الإمام مالك، وما زال العلماء قديما وحديثا لهم أتم اعتناء برواية الموطأ ومعرفته وتحصيله



--------------------------------------------------------------------------------

وفاة الإمام مالك

قال القعنبي سمعتهم يقولون عمر مالك تسعا وثمانين سنة مات سنة تسع وسبعين ومئة وقال إسماعيل بن أبي أويس مرض مالك فسألت بعض أهلنا عما قال عند الموت قالوا تشهد ثم قال {لله الأمر من قبل ومن بعد} (الروم:4)، وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة فصلى عليه الأمير عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي.



الليث بن سعد

الإمام الحافظ

من أشهر الفقهاء في زمانه فاق في علمه وفقهه إمام المدينة الإمام مالك غير أن تلامذته لم يقوموا بتدوين علمه وفقهه ونشره في الآفاق مثلما فعل تلامذة الإمام مالك، وكان الإمام الشافعي يقول: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به.إنه الإمام الليث بن سعد ابن عبد الرحمن الإمام الحافظ شيخ الإسلام وعالم الديار المصرية ولد بقرقشندة وهي قرية من أسفل أعمال مصر في سنة أربع وتسعين للهجرة.


طلبه للعلم

تلقى الليث العلم على عدد من كبار علماء عصره، فسمع من عطاء بن أبي رباح وابن أبى مليكة ونافعا العمري وسعيد بن أبي سعيد المقبري وابن شهاب الزهري وأبا الزبير المكي وغيرهم كثير.

وفي عدة روايات يصف الليث رحلاته في طلب العلم: قال ابن بكير سمعت الليث يقول سمعت بمكة سنة ثلاث عشرة ومائة من الزهري وأنا ابن عشرين سنة.

قال يحيى بن بكير أخبرني من سمع الليث يقول كتبت من علم ابن شهاب علما كثيرا وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرصافة فخفت أن لا يكون ذلك لله فتركته ودخلت على نافع فسألني فقلت أنا مصري فقال ممن قلت من قيس قال ابن كم قلت ابن عشرين سنة قال أما لحيتك فلحية ابن أربعين قال أبو صالح خرجت مع الليث إلى العراق سنة إحدى وستين ومائة خرجنا في شعبان وشهدنا الأضحى ببغداد قال وقال لي الليث ونحن ببغداد سل عن منزل هشيم الواسطي فقل له أخوك ليث المصري يقرئك السلام ويسألك أن تبعث إليه شيئا من كتبك فلقيت هشيما فدفع إلي شيئا فكتبنا منه وسمعتها مع الليث.


مكانته العلمية

يقول الحافظ أبو نعيم: كان الليث رحمه الله فقيه مصر ومحدثها ومحتشمها ورئيسها ومن يفتخر بوجوده الإقليم بحيث إن متولي مصر وقاضيها وناظرها من تحت أوامره ويرجعون إلى رأيه ومشورته ولقد أراده المنصور على أن ينوب له على الإقليم فاستعفى من ذلك.

ولليث أحاديث كثيرة في كتب الصحاح، ومن الأحاديث التي رويت عن الليث ما رواه الترمذي قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) [قال يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا]

قال أبو صالح كان الليث يقرأ بالعراق من فوق على أصحاب الحديث والكتاب بيدي فإذا فرغ رميت به إليهم فنسخوه.

قال ابن سعد كان الليث قد استقل بالفتوى في زمانه.

روى عبد الملك بن شعيب عن أبيه قال قيل لليث أمتع الله بك إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك فقال أو كل ما في صدري في كتبي لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب.

وقال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول أصح الناس حديثا عن سعيد المقبري الليث بن سعد يفصل ما روي عن أبي هريرة وما روي عن أبيه عن أبي هريرة هو ثبت في حديثه جدا.

ومما يروى عنه أيضا عن الليث بن سعد عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معشر قريش والله ما فيكم أحد على دين إبراهيم غيري وكان يحيى الموؤدة يقول الرجل إذا أراد أن يقتل أبنته مه لا تقتلها أنا أكفيك مؤنتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤنتها

ولليث أسانيد إلى أبي هريرة ومنها: عن الليث عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) [قال إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة]


مناقبه وفضائله

قال ابن بكير: كان الليث فقيه البدن عربي اللسان يحسن القرآن والنحو ويحفظ الحديث والشعر حسن المذاكرة.

روي عن شرحبيل بن جميل قال أدركت الناس أيام هشام الخليفة وكان الليث بن سعد حدث السن وكان بمصر عبيد الله بن أبي جعفر وجعفر بن ربيعة والحارث بن يزيد ويزيد بن أبي حبيب وابن هبيرة وإنهم يعرفون لليث فضله وورعه وحسن إسلامه عن حداثة سنة ثم قال ابن بكير لم أر مثل الليث، وروى عبد الملك بن يحيى بن بكير عن أبيه قال ما رأيت أحدا أكمل من الليث.

***

قال عثمان بن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث فحدثهم بفضائله فكفوا وكان أهل حمص ينتقصون عليا حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش فحدثهم بفضائل علي فكفوا عن ذلك، وروي عن حرملة يقول كان الليث بن سعد يصل مالكا بمائة دينار في السنة فكتب مالك إليه علي دين فبعث إليه بخمس مائة دينار فسمعت ابن وهب يقول كتب مالك إلى الليث إني أريد أن أدخل بنتي على زوجها فأحب أن تبعث لي بشيء من عصفر فبعث إليه بثلاثين حملا عصفرا فباع منه بخمس مائة دينار وبقي عنده فضله، قال أبو داود قال قتيبة كان الليث يستغل عشرين ألف دينار في كل سنة وقال ما وجبت علي زكاة قط وأعطى الليث ابن لهيعة ألف دينار وأعطى مالكا ألف دينار وأعطى منصور بن عمار الواعظ ألف دينار وجارية تساوى ثلاث مائة دينار.

قال صالح بن أحمد الهمذاني: قدم منصور بن عمار على الليث فوصله بألف دينار واحترقت دار ابن لهيعة فوصله بألف دينار ووصل مالكا بألف دينار وكساني قميص سندس فهو عندي.

وروي عن محمد بن رمح يقول كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار ما أوجب الله عليه زكاة درهم قط،

***

وروي عن أشهب بن عبد العزيز يقول كان الليث له كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها أما أولها فيجلس للسلطان في نوائبه وحوائجه وكان الليث يغشاه السلطان فإذا أنكر من القاضي أمرا أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل ويجلس لأصحاب الحديث وكان يقول نجحوا أصحاب الحوانيت فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم ويجلس للمسائل يغشاه الناس فيسألونه ويجلس لحوائج الناس لا يسأله أحد فيرده كبرت حاجته أو صغرت وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر وفي الصيف سويق اللوز في السكر

***

وروي عن يعقوب ابن داود وزير المهدي قال:قال أمير المؤمنين لما قدم الليث العراق الزم هذا الشيخ فقد ثبت عندي أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه.

وكان الليث بن سعد يقول بلغت الثمانين وما نازعت صاحب هوى قط، ويعلق الحافظ أبو نعيم على قوله فيقول: كانت الأهواء والبدع خاملة في زمن الليث ومالك والأوزاعي والسنن ظاهرة عزيزة فأما في زمن أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد فظهرت البدعة وامتحن أئمة الأثر ورفع أهل الأهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة ثم كثر ذلك واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول فطال الجدال واشتد النزاع وتولدت الشبة نسأل الله العافية.

***

قال بكر بن مضر قدم علينا كتاب مروان بن محمد إلى حوثرة والى مصر إني قد بعثت إليكم أعرابيا بدويا فصيحا من حاله ومن حاله فأجمعوا له رجلا يسدده في القضاء ويصوبه في المنطق فأجمع رأي الناس على الليث بن سعد وفي الناس معلماه يزيد بن أبي حبيب وعمرو بن الحارث، قال أحمد بن صالح أعضلت الرشيد مسألة فجمع لها فقهاء الأرض حتى أشخص الليث فأخرجه منها.

مواقف من حياته

قال الحسن بن يوسف بن مليح سمعت أبا الحسن الخادم قال كنت غلاما لزبيدة (زوجة الرشيد) وأتي بالليث بن سعد تستفتيه فكنت واقفا على رأس ستي زبيدة خلف الستارة فسأله الرشيد فقال له حلفت إن لي جنتين فاستحلفه الليث ثلاثا إنك تخاف الله فحلف له فقال: قال الله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن:16) فأقطعه الرشيد قطائع كثيرة بمصر.

***

وروي عن الليث قال: قال لي أبو جعفر المنصور تلي لي مصر قلت لا يا أمير المؤمنين إني أضعف عن ذلك إني رجل من الموالي فقال ما بك ضعف معي ولكن ضعفت نيتك في العمل لي.

***

قال وجاءت امرأة إلى الليث فقالت يا أبا الحارث إن ابنا لي عليلاً واشتهى عسلا فقال يا غلام أعطها مرطا من عسل والمرط عشرون ومائة رطل.

***

وعن الحارث بن مسكين قال اشترى قوم من الليث ثمرة فاستغلوها فاستقالوا فأقالهم ثم دعا بخريطة فيها أكياس فأمر لهم بخمسين دينارا فقال له ابنه الحارث في ذلك فقال اللهم غفرا إنهم قد كانوا أملوا فيها أملا فأحببت أن أعوضهم من أملهم بهذا.

***

وروي عن الليث قال لما ودعت أبا جعفر المنصور ببيت المقدس قال أعجبني ما رأيت من شدة عقلك والحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك قال شعيب كان أبي يقول لا تخبروا بهذا ما دمت حيا.

***

قال يحيى بن بكير: قال الليث: قال لي المنصور تلي مصر؛ فاستعفيت قال أما إذا أبيت فدلني على رجل أقلده مصر قلت عثمان ابن الحكم الجذامي رجل له صلاح وله عشيرة. قال: فبلغ عثمان ذلك فعاهد الله ألا يكلم الليث.

***

وروي عن سعيد الآدم قال مررت بالليث بن سعد فتنحنح فرجعت إليه فقال لي يا سعيد خذ هذا القنداق فاكتب لي فيه من يلزم المسجد ممن لا بضاعة له ولا غلة. فقلت: جزاك الله خيرا يا أبا الحارث. وأخذت منه القنداق ثم صرت إلى المنزل فلما صليت أوقدت السراج وكتبت بسم الله الرحمن الرحيم ثم قلت فلان بن فلان ثم بدرتني نفسي. فقلت: فلان بن فلان. قال فبينا أنا على ذلك إذا أتاني آت فقال هالله يا سعيد تأتي إلى قوم عاملوا الله سرا فتكشفهم لآدمي ما الليث وما شعيب أليس مرجعهم إلى الله الذي عاملوه. فقمت ولم أكتب شيئا، فلما أصبحت أتيت الليث فتهلل وجهه فناولته القنداق فنشره فما رأى فيه غير بسم الله الرحمن الرحيم فقال: ما الخبر فأخبرته بصدق عما كان فصاح صيحة فاجتمع عليه الناس من الحلق فسألوه فقال ليس إلا خير ثم أقبل علي فقال يا سعيد تبينتها وحرمتها صدقت ما الليث وما شعيب أليس مرجعهم إلى الله.

***

عن أبي صالح كاتب الليث قال كنا على باب مالك فامتنع عن الحديث فقلت ما يشبه هذا صاحبنا فسمعها مالك فأدخلنا وقال من صاحبكم قلت الليث قال تشبهونا برجل كتبت إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا فأنفذ منه ما بعنا فضلته بألف دينار.

ثناء العلماء عليه

كان الإمام الشافعي يقول: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به.

وقال ابن وهب: لولا مالك والليث لضل الناس.

وقال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس وكان لا يأكل إلا بلحم إلا أن يمرض.

وقال أحمد بن سعد الزهري: سمعت أحمد بن حنبل يقول الليث ثقة ثبت، وقال أيضا: الليث كثير العلم صحيح الحديث

وقال عثمان الدارمي: سمعت يحيى بن معين يقول الليث أحب إلي من يحيى بن أيوب ويحيى ثقة قلت فكيف حديثه عن نافع فقال صالح ثقة.

وعن أحمد بن صالح وذكر الليث فقال: إمام قد أوجب الله علينا حقه لم يكن بالبلد بعد عمرو بن الحارث مثله.

قال ابن سعد: استقل الليث بالفتوى وكان ثقة كثير الحديث سريا من الرجال سخيا له ضيافة

وقال العجلي والنسائي: الليث ثقة.

وقال ابن خراش: صدوق صحيح الحديث.

وروي عن يحيى بن معين قال: هذه رسالة مالك إلى الليث حدثنا بها عبد الله بن صالح يقول فيها وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك واعتمادهم على ما جاءهم منك.

وقال يحيى بن بكير: الليث أفقه من مالك ولكن الحظوة لمالك رحمه الله.

قال علي بن المديني الليث ثبت.

قال العلاء بن كثير الليث بن سعد سيدنا وإمامنا وعالمنا.


وفاته

قال يحيى بن بكير وسعيد بن أبي مريم مات الليث للنصف من شعبان سنة خمس وسبعين ومائة قال يحيى يوم الجمعة وصلى عليه موسى بن عيسى.

قال خالد بن عبد السلام الصدفي شهدت جنازة الليث بن سعد مع والدي فما رأيت جنازة قط أعظم منها رأيت الناس كلهم عليهم الحزن وهم يعزي بعضهم بعضا ويبكون فقلت يا أبت كأن كل واحد من الناس صاحب هذه الجنازة فقال بابني لا ترى مثله أبدا.



















 
 

 

عرض البوم صور شرف عبد العزيز  
 

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم الارشيف
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 09:03 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية