الفصل التاسع عشر ....
(( اعتقد انه لا يحبك )) قالت له فانسيـا , وبدأت تتساءل اذا كان هذا
الرجل حقاً لطيفاُ ويحب الخير .
ضحك الرجل قليلاً رغماً عنه .
(( كل الحيونات هكذا , واخشى ان يكون كلبك الصغير هذا لا يحب رجال
الكنيسة )).
(( آه , انت كاهن ؟ بهذه الحالة انا اشكرك , بروك تعقل ! ))
لكن بروك كان ذكياً , ويعرف متى يجب ان يطيع ومتى يجب ان لا يطيع ,
فعاد وتعلق بثوب سيدته واخذ بالنباح , وما ان اقترب الغريب من
فانسيـا , حتى هاجمه الكلب , فحاول الذي يدعي انه كاهن ان يهرب
منه , لكن بروك مزق بنطلونه ولم يتركه الا بعد ان سالت الدماء من
يديه , فهرب الرجل.
بهذا الوقت اقترب رجلان من الحمالين يحملان زبوناً عائداً من السهرة ,
لإاسرعا , وانزلا الكرسي الذي يجلس عليها الرجل واشفقا على فانسيـا.
(( ماذا يجري هنا آنسة ؟ هل حاول التعرض اليك ؟ ))
(( اخشى ان يكون العكس صحيحاً , انه كاهن وعرض علي ان يوصلني
الى فندق محترم انام فيه , لكن كلبي هاجمة , وانا متعبة جداً )).
((كاهن ؟ هو كاهن ؟ هيا ذان انه شارلي بوبارلار , ويجب ان تشكري هذا
الكلب كثيراً , والفندق المحترم الذي كلمك عنه هو ..))
انحنى الرجل من الكرسي واراد ان يتكلم عندما رأت فجأة وجهاً اليفاً ,
وتذكر انه سمع هذا الصوت .
(( آه طوني !!! يا الهي , هذا انت ! ايمكنك مساعدتي ؟ انا يائسة , لأن
هذا الرجل لم يكن كاهناً كما ادعى و ... كان يجب ان اشك به عندما
شتم الكلب ببذاءة ! لقد هربت ..))
جحضت عيون طوني , ثم بدأ بالضحك .
(( يالهي , انه ابن عم جيردم ! مثلاً ! .... ياله من شيطان ....))
(( آه سيد الديك منزل وولدة محترمة بإمكانها ان تشفق علي لليلة
واحدة ؟ لست ادري مذا افعل ! )).
نزل طوني من الكرسي , واعطى النقود للحمالين .
(( الافضل ان تأتي معي , لا تخافي ... فأنا لست معتاداً على خداع
اصدقائي ,بجعل الفتيات تتنكرن بزي الرجال , ومن ثم اغري بهن وارميهن
في الشارع )).
(( جيردم لم يفعل ذلك ! هو وجدني في لباسي ذلك و .. وسمح لي
فقط بأن اقضي الليلة عنده , بانتظار ان اتمكن من الذهاب الى
معمدتي )).
((آه , حسناً ..))
فتح طوني باب منزله , وادخلها الى غرفة واسعة مريحة (( والى اين
كنتِ تريدين الذهاب ؟ ))
(( الى ... الى منزلي , ولن اهرب مرة ثانية )).
وكانت فانسيـا صادقة هذه المرة , لقد هربت على أمل ان تعيش مغامرة
رائعة , وضحكت وبكت , ولكن قلبها محطم وكل ماتريده هو ان تبتعد
لكي تنسى ولكي تخفي همومها عن عيون الناس .
(( واين تسكنين ؟ ))
(( في الشمال , واعرف اية عربة استقل , ولكني لا اعرف موعيدها آه ,
سيد اعدك بأن اعيد لك المال اذا اعطيتني ما ادفعة من تكاليف سفري ,
اعدك بذلك ولن انسى طيبتك ابداً )).
(( نعم , بلتأكيد , سأعطيك ماتحتاجين اليه , ولكني اريد معرفة لماذا
ترحلين عن معمدتك , اتمنى ان لا تكوني قد ارتكبتِ حماقات )).
(( اوه , لا ! ولكن والدة جيردم علمت بأنني قضيت ليلة عنده , وجاءت
وتكلمت عني باشياء ليست صحيحية وامرت جيردم ان يتزوجني فوراً )).
نظر طوني اليها بدهشة , وتأمل ثوبها الرث الذي كانت قد استعارته من
احدى الخادمات .
(( ديمتريا قالت هذا ؟ هل انتِ متأكدة ؟ )).
(( انا اعلم بماذا تفكر انت , لكنها اعتقدت انني الآنسة رندولف , الوريثة
الغنية , وكنت اقف بين جيردم وماتيلدا , فاعتقدت انني ... ))
(( آه نعم , فهمت )) وضخك طوني (( اردت ان تفرض هذا الزواج وارتكبت
خطاً كبيراً , يالها من ... ولكني اعتقد ان جيردم اخبرها الحقيقة ))
(( لست ادري , لأنها وقعت فوراً واغمي عليها , فانشغل الجميع بها ,
فهربت انا بسرعة دون ان ينتبهوا لي )).
(نعم , انا لن اقدم لك سريري , لأني لا اريد ان اتسبب بفضائح ولكن
بإمكانك النوم على الكنبة , سأوقضك في الخامسة صباحاً , لا تخلعي
ملابسك ! سنعلم غداً متى تنطلق اول عربة متجهة نحو الشمال )).
كان الطقس جميلاً في شهر ايار هذا , والحدائق مليئة بالازهار , وكانت
ماتيلدا تتنزه في الميدان وهي بكامل اناقتها , وهي تعلم انها جميلة
وفاتنة ..
وكان جيردم يمشي بجانبها , والحزن باد على وجهه , لقد نجح في اقناع
الجميع انه لم يغر الآنسة توريس وانه تصرف معها كرجل نبيل .
وكان والد ماتيلدا قد زارها في هانوفر سكوير , واعجب كثيراً بالسيد
هاركورت المهذب الحيوي الذي لا يهتم سوى بمزرعته , وبسداد ديون
عائلته , ولاحظ والد ديمتريا ان جيردم معجب بابنته .
لكن ماتيلدا ادركت ان جيردم يلاحقها ويتبعها دائماً فقط من اجل ان
يكلمها عن فانسيـا , وكانت ماتيلدا قد علمت ان صديقتها اصبحت في
منزلها , لأنها استلمت منها رسالة مختصرة , بعد ثلاثة ايام من رحيلها ,
وقالت لها فيها (( انا في منزلي , لاتقولي شيئاً فانسيـا ))
لم تقل ماتيلدا شيئاً , لكنها كانت تقاوم كثيراً عندما ترى عيون جيردم
الحزينة .
وهو الآن يسير الى جانبها , لكنه اصبح عبارة عن جسد بلا روح , فكره
بعيداً جداً , وكان عندما تكلمه يجيبها بأدب لكن بإيجاز .
(( انه نهار جميل , سيد هاركورت نعم , باطبع ولكني اعتقد انها ستمطر
هذا المساء )).
تابعت ماتيلدا حديثه وكأنها تحدث نفسها , وتمنت ان يبتسم جيردم , لكنه
لم يفعل .
فتوقفت عن السير , ضربت الارض برجلها , وقد فقدت صبرها .
((جبردم , اريدك ان تعيدني الى المنزل , ارجوك واريد ان تتوقف عن
زيارتي ! هذه الصدقة عبارة عن خداع , انك تبعد عني كل المعجبين بي
بزيارتك المتكررة , لكني لا اهمك ابداً , وانا اتمنى ان اتزوج برجل يعتبرني
جميلة ويشاركني , افراحي واحزاني , انت لا تفكر سوى بمالي , لكي
تعيد الازهار الى مزرعتك , كما وانك لا تفكر سوى بصديقتي فانسيـا
التي الحقت العار بها )).
وقف جيردم واخذ يتأملها.
(( انتِ محقة , ماتيلدا ,لا اريد ان الاحقك , ولا اريد ان اتسبب بإيلامك , كل
ماريده من الحياة , ان اجد فانسيـا , اذا لم اجدها , فأنا سأموت من
الأس )) وابتعد عنها بخطى واسعة .
((اذا كنت مهتماً جداً بفانسيـا , فماذا تنتظر لكي تبحث عنها ؟ )) صرخت
ماتيلدا وركضت لكي تلحق به.
((صدقين , لقد حاولت فأنا اعلم انها تقيم في الشمال الغربي , وقد لا
تكون بعيدة عن مزرعتي , وانا اعلم انها تسمى فانسيـا نوريس , وان
لديها كلب ابيض اسمه بروك , لقد كتبت الى كل اصدقائي , وجيراني
وعدت الى مزرعتي , وسألت كل من وجدته في طريقي , وبحثت في
كل المدارس الدخلية , لأنني علمت انها كانت معك في هاروغرات ,
لكني لم اجد لها اي اثر , وكأنها لم تكن موجودة اصلاً ! )).
((واذا وجدتها ؟ ماذ ستفعل ؟ بامكاني مساعدتك , اذا ..))منتديات ليلاس
وكانا قد خرجا من الميدان واصبحا على الرصيف الذي يعج بالمارة ,
فتوقف جيردم من جديد وامسك يدي ماتيلدا وضغط عليها بقوة .
(( انتِ تعلمين اين هي ؟ ماتيلدا , انا .... انا ...))
(( نعم اعلم , ولكنني اجهل نواياك , فهي قد تكون نسيت الآن , والافضل
لها ان تبق بسلام )).
ورأت في عيون جيردم بريقاً لم تراه منذ اسابيع طويلة .
سأشفيها بسرعة ! يكفي ان اضمها بين ذراعي ..))
(( جيردم ! اسمعني اذا قلت لك انها ابنة مدير مزرعة كبيرة , وانها تربت
في منزل صاحب القصر كي تكون رفيقة لأبنته , اترغب ايضاً بإيجادها
؟ )).
((نعم ! )).
(( حسناً , بهذه الحالة ... آه يالهي ... اتاءل اذا كان يجب علي ....))
((ماتيلدا ارجوك , اذا بقيت على عنادك فأنني ...))
((حسناً , ولكن يجب ان تتصرف معها جيداً )).
((ولكن نعم ! قولي لي اين هي ! ))
(( في بسكومب هال , قرب سد تريوره )).
فأمسكت ماتيلدا بذراعه .
(( اوه , لا ! لا يمكنك ان تتركني هنا في نصف الشارع اعدني اولاً الى
هانوفر سكوير ! )).
كانت فانسيـا تتنزه في الحديقة وبروك يقفز خلفها , واذا سألها احد عما
تفعل , كانت ستجيبه بأنها تنزه كلبها , لكنها للحقيقة كانت تحاول ان
تمضي وقتها , كما تفعل كل يوم , وكانت تحاول ان لا تفكر بجيردم , لكنها
لا تستطيع , وكثيراً مافكرت بماتيلدا التي تقضي موسمها في حفلات
ونزهات بين خطابها الكثيرين .
وكان الطقس جميلاً , فاتجهت فانسيـا نحو المنزل لكن بروك كان يؤخرها
في وقوفه كل قليل لكي يشم كل شيء في طريقه .
وابعدت الازهار البنفسجية عن ثوبها وتأملته قليلاً لقد اصبحت نحيفة
جداً , لأنها لا تنام جيداً , ولأنها فقدت كل شهية للطعام .
عندما سأنساه سأشتري ملابس جديدة , وسأهتم بزينتي اكثر , والسيد
تالبوت سيعطيني المال الكافي , وسأعود لتناول الطعام كالعادة .
لم تكن تجروء على لفظ اسم جيردم حتى بينها وبين نفسها , وعندما
اقتربت من القصر, سمعت وقع حوافر جواد يقترب فالتفتت الى الخلف
ورأت رجلاً على حصانه الاسود يتجه نحوها و وللحظة توقف قلبها في
صدرها و لكنها هزت رأسها وتابعت سيرها , انها ليست المرة الاولى
التي تتوهم فيها انها تراه , ولكنه لم يكن سوى سراب .
توقف الحصان بقربها , وقفز الفارس الى الارض وامسكها وضمها اليه
حتى كاد ان يخنقها , تركته فانسيـا , واغمضت عينيها , ولم تجروء على
تصديق ماتراه ...
(( حبيبتي ! )) واخذ يقبلها بحنان على جبينها , وعلى طرف انفها ,
وترددت شفاهه على شفتيها , عندئذ عقدت فانسيـا يديها حول عنقه ,
وضمته ايضاً وسالت الدموع على وجهها .
وعندما ابعدها قليلاً شعرت بالبرد , فهزت رأسها وكأنها تريد ان تتحقق
مما هي فيه .
(( جيردم ؟ هل جئت من اجلي ؟ أأنا حقاً من تريد ؟ )).
فضمها اليه من جديد.
(( حبيبتي , ماذا حصل لك ؟ ماذا فعلو بك ؟ انتِ نحيفة جداً , لقد ضعفتِ
كثيراً ! ووجهك شاحب جداً ! )).
ثم طبع قبلة على شعرها , وابعدها قليلاً وتأمل وجهها .
(( سأقتل اول~ك الذين عذبوك هكذا )).
(( لم يفعل احد بي شيئاً , لم اكن آكل شيئاً تقريباً , ولكن لماذا عدت
الآن , جيردم ؟ لماذا لم تأتِ من قبل ؟ ))
(( لأنني لم اكن اعلم اين تختبئين ! لقد بحثت عنك في كل مكان ,
ولكني لم اجد اي اثر لك واخيراً اشفقت ماتيلدا علي واعترفت لي بمكانك
وبأنك ابنة مدير مزرعة باسكومب هال )).
((ما ... ماذا ؟ )).
((نعم , لقد اخبرتني , واعتقدت انني سأغير رأي ’ لكنك انتِ , فانسيـا
ياحبيبتي الامرأة الوحيدة التي ارغب بالزواج منها ! فانسيـا , اتقبلين
الزواج مني ؟ )) اشرقت عيون فانسيـا وعادت من جديد الفتاة المرحة
الماكرة التي يعبدها .....
(( نعم , احب ان اكون زوجتك , جيردم ولكني اعتقد ان الوصي علي لن
يسمح بذلك ))
(( سأقنعه ! سأروي له انني امللك ارضي كثيرة ...))
(( لن ينفع ذلك , ياعزيزي , سيقول بأنك تريد الزواج مني من اجل
ثروتي ))
(( ثروتك ؟ لكنك لا تملكين اي ثروة ! وانا ايضاً لكننا لسنا بحاجة لشيْ ,
وهذا ليس مهماً , هيا خذيني اليه وانا سأكلمه )).
(( انك تضيع وقتك , جيردم سيقول سيد هاركورت , انت تطمع بثروة
الآنسة باسكومب , وانا اريدها زوجةلأبني )).
(( الآنسة ... ولكنك الآنسة نوريس ؟ ))
وتوقف وتأملها بذهول , فزت رأسها واشرقت عيونها.
(( لا , لقد كذبت عليك , ياحبيبي , انا فانسيـا باسكومب وكل هذا ملكاً
لي )) واشارت نحوا القصر والحدائق والمزرعة (( كل هذا واكثر منه
بكثير , من المؤكد انك سمعت الكثير عن ثروة , بسكومب جيردم ؟ ))
فهز رأسة تغيرت ملامحه , فتوقفت فانسيـا عن المزاح , ورفعت يديها
وداعبت وجهه بحنان .
(( اتفعلين هذا ؟ اتقبلين بأن تتخطي التقاليد وتجتازي الحدود معي ؟
سيقول الجميع انني كنت اطمع بثروتك ...)) فرمت نفسها بين ذرعيه ,
وقبلته بشوق كبير, وصرخت (( لا يهمني ! لا يهمني من كل هذا العالم
الا انت ! آه جيردم , تعالى لنهرب معاً ! الآن فوراً )).
ظهرت امرأة شقراء امام باحة القصر , واخذت تنظر اليهما بذهول .
ابتعد جيردم عن فانسيـا قليلاُ.
(( هل هذه عمتك ؟ ايجب ان اكلمها ؟ )).
وقفت فانسيـا على رؤوس اصابع قدميها وقبلته الى ان سكت واستجاب
لعناقها بكل شوق الاسابيع الماضية .
((اانتِ جادة فيما تقولين ؟ اذن هيا بنا ! هوب ! )).
ورفعها فوق جواده وركب خلفها .
(( جيردم و احضر بروك ايضاً )).
فانحنى وحمل الكلب ووضعه بين ذراعيها , ثم انطلق تيرور بسرعة غير
مبالِ بحمولته المزدوجة .
وعندما ابتعدا , تنهدت فانسيـا واسندت رأسها على كتفه , وبعد صمت
قصير قالت له فانسيـا.
(( نعم , كانت تلك السيدة عمتي )).
(( حقاً ؟ اتساءل ماذا ستفعل الآن ...))
(( وانا ايضاً , لكني لست مهتمه )) وتنهدت بسعادة كبيرة.
(( وانا ايضاً ! )) ثم تبادلا قبلة حب طويلة .
وتابع الحصان الاسود طريقة نحو الحدود .منتديات ليلاس