المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
من البيت إلى السفانا، ومنها إليه
من البيت إلى السفانا، ومنها إليه
كان كرير المكيف يعلو عابثا بأطراف الصمت في حين كانت موسيقى ناعمة كبسمات موج ـ تهدهده برقة لتلملم ما انبعثر منه ـ منبعثة من تلفاز ضخم من نوع ( ال. س. د ) متكئ بوقار ملكيّ على حائط منمنم بورق زهري. قبالته، وعلى أرائك وثيرة كان أفراد العائلة جالسين، ينعمون في واحة من الرخاء الصيفي جادت به تكنولوجيا الهايغ تيك !.
الجدة شبه غائبة فاغرة فاها محمولة على جناح وسن عميق. لا شك أنها ـ الآن ـ تجري متحررة من قيود الروماتيزم على ضفاف عالم مجهول الحدود... ! والجد عيناه مسبلتان ويداه ترتعشان تسحب اليمنى حبات السبحة الفوسفورية والصلوات . والابن، ابنه متوسطهما ، تداعب يده شعر ولد له. والزوجة في استرخاء تام على أطراف الجلسة، مرفق على فخدها يُسند راحة تحت الذقن. أمامها منبطحة بطنا طفلة تلعب بجدائلها الشقراء.
منتدى ليلاس الثقافيأخذت الموسيقى تخف رويدا، رويدا بانتهاء الجنريك وطغى عليها صوت رخيم للمعلق وهو يصف المشاهد بلغة راقية وشاعرية من خير ألفاظ موليير .
غطت الشاشة صورة مكبرة لقطيع من الفيلة ترتع على ضفة نهر (مساي ما را) وقت العشي صحبة خليط من قطيع من حمير الزرد وعشرات الغزلان. كانت الفيلة رابطة الجأش واثقة من نفسها في حين كانت تظهر على بقية القطعان نرفزة و رعب شديد تُظهره حركاتُها وعيونها .
وليد غزال جرّئٍ أو غرٍّ ! كان في وضع متقدم، لا مس بخطمه صفحة الماء.بل ما كاد... حتى انبثق من اللّج تمساحٌ كبير وأمسك بالصغير من الرقبة وجره إلى الأعماق ليخنقه غرقا...
ندّت آنها عن البنت الصغيرة صرخة ألم حادة أعادت الجدة النائمة إلى العالم الأرضي. والأم تمتمت: " آه يا صغيري !"
الحدث المأساوي شتت قطعان الغزلان وحمير الزرد فلولا ، وخدش رباطة الجأش لدى الفيلة فتعالى نهيمها . لحظات وسكنت صفحة الماء وعاد الهدوء وعادت الأنعام للورد.
في الأفق الغربي كانت بوادر حمرة أرجوانية تخضب السماء الزرقاء بلون جميل وتلقي بشيء من سربالها على الأرض الجرداء لتكشف عن آية أخرى من آيات الصراع الأبدي بين الحياة والموت تحكيها جثة أسد لفظ أنفاسه صراعا على زعامة ظل أكثر من سنوات يمسك عليها كما يمسك بالجمر بين مخالبه.
الضباع التي كانت حتى وقت قريب تفر عند تحرك ظله وتهتز فرائصها عند زئيره تكر وتفر حوله وتعوي غير مصدقة أن قاهرها البارحة ضعيف، جسده ملكها... اليوم ! حالما وثقت من موته هجمت عليه وشرعت تمزقه وتتقاسم أشلاءه عن رضا وطيب خاطر.أكِل وأضحى أثرا بعد عين بعدما ملأت بقاياه قانصات نسور.
المشهد خلخل شيئا من الصمت والسكون المخيمين على العائلة فجعل الأب يهمهم:
ـ ها أنت أيها الجبار تذوق من نفس الكأس التي أشربت منها أجيالا. لطالما عظاما كسرت وبطونا بقرت، فها قد اسمتعت بلذة البقر لديك، عليك !
ـ نعم هو كذلك، يا عزيزي أتدري؟ بقدر ما آلمني موت وليد الغزال بقدر ما أحس الآن براحة شاملة غسلت بفيضها كدر أعماقي ! ردت الزوجة.
صوت شبيه بحشرجة أردف :
ـ من ركب ينزل ، ومن سمن يهزل ،ومن ادعى القوة يموت بالذل (1)
ـ صدقت يا والدي ، وعين الحكمة ما فحت به.
نكهة طبيخ لذيذ ضاعت في المكان، فصارت الشفاه تتلمظ والأفواه تتحلب والنظرات تتبادل غير أن تعالي الموسيقى الجميلة من جديد يجعل ردة الفعل " البافلوفية "(2) تخبو والانتباه الشارد تأسره لقطة الأفق الدامي وقرص الشمس في أجمل تجلياته تتوسطه جيدان لزرافتين متقاطعين راسمين حرف : ( لا ) وكانهما يقولان لا للعنف !. في أقل من ثواني أضحى الغروب شروقا... فضُحىً وعامت سهول "مساي مارا" في الضياء، وأظهرت لقطة قطيعا من بقر النو يغطي الآفاق عددا،يسير وظل غبار يظلله فوقه سرب من أصناف الجوارح وعلى الجنبات كانت الضباع والكلاب الوحشية تنشر الموت والفزع ، إذ بدهاء كانت تخاتل الأمهات وتسرق منها عجولها وتمزق لحمها الغض في ثواني وتتقاسمه بشراسة،! بيد أن القسوة لم تثن قيد أنملة الموكب عن عزمه،قد ظل ثابتا يسير قدما بين حشائش السافانا وأشجار الأكاسيا نحو النهر ليعبره تطلعا لأرضٍ خضراءَ يانعة العشب، وهروبا من أخرى لوحها اللظى والهجير واستنزفها القضم.
فجأة من بين الشجيرات تنط لبؤتان ضامرتان ويهجمان على دابر القطيع فيرتاع ويتحول تماسكه شيعا.
الضحية حددت سلفا من قبلهما ، كانت عجلا سمينا ،الأولى غرست مخالبها في أردافه فجعلته يسقط قاعيا والثانية أطبقت كملزمة بفكيها على عنقه. خار المسكين وخار، وبكل ما أوتي من القوى حاول النهوض والانفلات من الكماشتين لكن، كان محالا ينشد...لا مفر من قدر مرهونٌ له قضاءً، لحق بالسيدتين ! فحل كان له شرف بداية الأكل وبعده حلت مجموعة أشبال جعلت تلعق الدماء المخضبة للجسد وعلى أمتارغير بعيدة كانت مجموعة من بنات آوى وأعداد من صقور تجوس بالمكان .
القطيع، قطيعه لم يعر اهتماما لخواره تكرم فقط بالتفاتة عند وقوف لبضع ثوان...لكن داخل البيت الصغيـِر بكت الطفلة وانتحبت، والطفل سار نحو التلفزة متوعدا، والأم صاحت وهي تمسح دمعات طفلتها وتهدئ من روعتها: <<أي همجية ذي؟ هذا شيء مقرف يبعث على الغثيان >>. والجدة تمتمت<< لما لا يقتلون كل هذه الوحوش، هذه آلات القتل أو يجعلون بينها وبين تلك المساكين سياجا ؟ >>.
تعالت الموسيقى العذبة لكن، ظل صوت المعلق واضحا ، يقول:<< هذا نموذج من يوم في رحاب (إفريقيا: ذاك العالم المجهول) >> . في اللحظة ذاتها هل وجه جديد وقال:
ـ الغذاء جاهز يا سيدي.
بدون ولا استجابة متأخرة كان الكل واقفا، وعلى مائدة مليئة بالطعام تحلقوا، الطفل الصغير بمجرد ما استوى انقض على سمكة كبيرة وفصل عنها الرأس لكن أباه عالجه بضربة خفيفة على اليد وأنبه قائلا:
ـ هل صلينا ـ أولا يا بطل ـ ؟ ومتى تعلمت الأكل والكبار لم يعطوك إذنا.
ـ عفوا أبي، الجوع أخذ مني كل ما تعلمت ، رد الطفل .
خيم سكون برهة كانت كافية للشيخ أن يجمع سبحته ويرخي راحتيه مضمومتين ليصلي :
ـ"إلهنا بارك في طعامنا ولمن أعده لنا ولينتفع به جسمنا ، وليقو انسنا. الهنا اعطنا السعادة لنحب إخواننا ونحن نقتات من نفس الخبز "
ـ آمين ، رد افراد العائلة بتزامن.
سريعا شرعت الأيادي تنهش والأفواه تمش،
الزوجان استاثرا بفخد حمل حنيذ.
والجد لوى بجسد أرنب مسكر مع زبيب .
والجدة زوجي قطا مبخرتين.
والطفلان كان لهما السمكة المحشوة بالأرز.
ما كان شيء يسمع سوى خرير ماء منبعث من حوض سمك بالقرب تطاول على كل الأصوات.
1ـ زجا ل مغربي قديم شعره كان كله حكما.
2ـ نسبة إلى بافلوف صاحب نظرية الاشراط والاقتران
الكاتب حدريوي مصطفى
في يوليوز 2008
|