كاتب الموضوع :
hend
المنتدى :
المخابرات والجاسوسية
الحلقة الخامسة : الغضب الهادر
أسفرت عملية تجنيد مارون الحايك عن فائدة عظيمة لإسرائيل . . إذ أن التجسس المستمر على مكالمات القادة وزعماء الجبهات الفلسطينية، كشف نواياهم تجاه الدولة العبرية، وخططهم الفدائية للضرب داخل الأراضي المحتلة. ولم تكن الأحاديث التليفونية المتداولة من خلال التليفونات السرية أحاديثاً مكشوفة تماماً، يستطيع المتنتصت عليها إدراك مضامينها بسهولة، إنما اعتمدت على أسلوب التمويه والشفرة الكلامية التي تتطلب مهارة عبقرية لفهمها. وثقة في اللبنانيين، كان زعماء الجبهات أحياناً كثيرة ينسون أنفسهم ويتحدثون علانية فيما بينهم صراحة، أو مع مساعديهم ظناً منهم - وهذا خطأ كبير - أن التجسس على محادثاتهم أمر مستحيل. فالدوائر التليفونية المغلقة كانت محددة بكل منظمة، والاتصال بالمنظمات الأخرى في بيروت نفسها يتم بواسطة خطوط شبكة المدينة. وكذا الاتصال بخارج المدينة، وكانت السرية خاضعة للخدش عن طريق زرع أجهزة التنصت . . أو استراق السمع بأسلوب مارون الحايك، من خلال الغرفة السرية التي أقامتها الميليشيا المسيحية في لبنان للتجسس على المسلمين . . وعلى الفلسطينيين أيضاً الذين اتخذوا من حي الفكهاني مقراً لهم، فكان بمثابة عاصمة فلسطينية وسط بيروت وجنوبها. فبالحي الذي يقع بالقرب من مخيمي صبرا وشاتيلا، أعدت منظمة التحرير مكاتبها بطريقة عشوائية حول مبنى جامعة الدول العربية. وأقام قادتها في مبان مجهولة تحت حراسات مشددة. فالمنظمة التي أسسها عرفات - خريج هندسة القاهرة 1956 - أكثر من مجرد مقاومة شعبية . . بل جيش مسلح مدرب، يتربص بإسرائيل لضربها في الأعماق.
كانت أمينة المفتي تدرك ذلك جيداً . . وترى بنفسها الرقابة القوية الصارمة التي تفرضها كبرى المنظمات الفلسطينية - فتح - على منشآتها في حي الفكهاني. . والحراسة المكثفة التي حول مقر عرفات كلما ذهبت لمقابلته. وعندما اتصل بها مارون الحايك قبل الفجر بقليل، فتحت على الفور جهاز اللاسلكي صباح يوم 23 مايو 1974، وبثت الى الموساد رسالتها الخطيرة: (آر. كيو. آر. بعد 37 دقيقة من الآن - سيهاجم ثمانية من الفدائيين المتسللين مستعمرة زرعيت . . تسليحهم رشاشات كلاشن وقنابل 57 ملم/ م.د. نفيه شالوم) وبالفعل . . صدقت المعلومة تماماً . . وأطبق الاسرائيليون على الفدائيين الثمانية، فقتلوا ستة منهم وأسروا اثنين. وعندما كانت أمينة المفتي تتجسس بنفسها على مكالمات القادة الفلسطينيين، اقتحمت الخط السري الخاص بمكتب جورج حبش (1). لاحظت بعد عدة مكالمات له، أن هناك ترتيبات عسكرية يتم إعدادها بشكل سري، حتى انفجر الحوار ساخناً جداً بينه وبين أحد مساعديه في صيدا. حيث بدا جورج حبش منفعلاً أشد الانفعال، وهو يأمر مساعده بإتمام العملية يوم 13 يونيو. وفي غمرة انفعاله نطق اسم كيبوتز شامير (2) سهواً. لم تهمل عميلة الموساد الأمر. وأبلغت رؤسائها على الفور بما سمعته. وبعد ثلاثة أيام كان هناك خمسة من الفدائيين القتلى على مشارف قرية كيبوتز شامير، بوغتوا قبلما يستعملوا رشاشاتهم الآلية. وفي 27 يونيو 1974 - لقى ثلاثة فدائيين آخرين مصرعهم، بعدما قتلوا أربعة من الجنود الإسرائيليين في نهاريا.
لقد كانت الطائرات الاسرائيلية ترد بوحشية إثر كل عملية فدائية. فتدك المواقع الفلسطينية في الجنوب، من معسكرات ومخيمات ومحطات تموين ومراقبة. وتضرب كل ما هو فلسطيني على أرض لبنان. وكانت المعلومات التي أمدت بها أمينة الموساد، تلك التي تكشفتها من خلال غرفة السنترال السرية، هي بلا شك معلومات حيوية للغاية، لا تحتمل التأويل أو الشك. . تجيء عبر أحاديث صاعنعي القرار أنفسهم . . من أعلى مستويات القيادة الفلسطينية. إنها سلسلة طويلة من التبليغات التي أودت بحياة العشرات من الشباب الفدائي المكافح أشعرت أمينة بأهمية دورها . . وقوة مركزها، دون إحساس ولو ضئيل بالندم . . بل ازدياد مستمر في حدة الغضب . . لضراوة الثأر لفقد زوجها الحبيب موشيه.
الأصدقاء الجدد
كانت الحكومة الاسرائيلية مصممة على تدمير البنية العسكرية الفلسطينية في جنوب لبنان، وكانت جهودها لمتابعة مصالحها في لبنان تشمل دبلوماسية سرية. فقد حدث اتصال وثيق بين الموساد وميليشيات لبنان المسيحية - الكتائب - منذ ذلك العام - 1974 - حين كان الزعماء المسيحيون يخشون فقدان السيطرة التي يتمتعون بها، عندما شكل منافسوهم المسلمون اللبنانيون ائتلافاً مع الفلسطينيين الكثيرين في لبنان، فزادوا بذلك قوة . . ونفوذاً. وبدأوا يطالبون بنصيب أكبر في الفطيرة السياسية. لكن السياسيين المسيحيين رفضوا أية إصلاحات في نظام يناسبهم كثيراً (1). من هنا .. تم إقناع زعيمي الميليشيا المسيحية، كميل شمعون وبيار الجميل، بالدخول في اتصالات سرية مع الدولة اليهودية. وقد عقد شمعون - الذي كان رئيس جمهورية سابق، والجميل - وكان وزيراً - محادثات سرية مطولة مع إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل، بغية الحصول على مساعدات عسكرية وتدريبية لميليشيات الكتائب، للوقوف أمام قوة المسلمين والفلسطينيين.
ومنذ منتصف ذلك العام - 1974 - دعمت الموساد الاتصالات مع الكتائب على اعتقاد بأنها ستوفر مزايا هامة لإسرائيل، أهمها إسكات المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، والتجسس على الجيش السوري. لذلك .. كانت صفوف طويلة من عملاء الموساد تعمل في لبنان باطمئنان، وبلا خوف من السلطات اللبنانية. لكن الخوف كان منبعه جهاز المخابرات الفلسطيني برئاسة علي حسن سلامة، الذي استطاع بنفسه كشف أكثر من عشرين عميلاً للموساد بين صفوف المقاومة . . أعدمهم بنفسه، وأحاط كل غريب بدوائر من الشكوك والريب.
وقد كان من الطبيعي أن يصبح زعماء الميليشيا المسيحية في لبنان أصدقاء إسرائيل، وذراعها القوية لضرب الفلسطينيين بعد ذلك . . وارتكاب أبشع المذابح بحق الشعب المقهور.
انتهزت أمينة المفتي هذا التقارب اللبناني / الإسرائيلي، وسعت خلف بشير الجميل - ابن بيار - الذي كان محامياً في بلد لا قانون فيها، فجمعت عنه حصيلة هامة من المعلومات أمدت بها الموساد.
وعرف عن بشير أنه جريء . . وماكر . . وإجرامي. فرغم كونه أصغر ستة أبناء لبيار، تقدم بسرعة . . ولم يبد أي تردد في قتل حلفائه المسيحيين - أفراد أسرتي شمعون وفرنجية - حتى أصبح مسؤولاً عن أكبر ميليشيا مسيحية في لبنان.
رأس الحية
وفي الأول من أكتوبر 1974 عندما كانت بغرفة المراقبة السرية بالسنترال، صعقت وهي تستمع الى حوار ساخن بين علي حسن سلامة وأحد مساعديه، وأدركت أنها النهاية المؤكدة للملك حسين. بل ولمؤتمر القمة العربي في الرباط. ولنقرأ معاً ما كتبته في مذكراتها عن أحداث ذلك اليوم. تقول أمينة:
(كنت بالغرفة السرية منهمكة في عملي، تمتد أسلاك جهاز التسجيل الى جواري، وعلى كرسيه يقبع خلفي مارون الحايك، تلفح جسدي نيران نظراته برغم هواء الغرفة المكيف اللطيف. كان الغرفة الواسعة ذات بابين، أحدهما مغلق دائماً ولا يفتح إلا بإذن خاص وهو يؤدي الى الممر الرئيسي، أما الباب الآخر فسري ويشكل جزءاً من دولاب حائط كبير، ويتصل بسلم خلفي صاعد. كنت أنصت الى حوار هادئ بين عبد الوهاب الكيالي زعيم جبهة التحرير العربية التي ترتبط بحزب البعث العراقي، وأحمد جبريل زعيم جبهة التحرير الشعبية التي نفذت عملية فدائية ناجحة في إسرائيل منذ فترة وجيزة. وأصابني الملل لتفاهة الحوار بينهما، فالتفت الى مارون الذي انتبه اليّ وسألته عمن يعرف سر هذه الحجرة المثيرة، فأجابني بأنهم نفر قليل، وإجراءات دخولها تخضع لتعقيدات وقيود كثيرة. وأنه لولا الأربعين ليرة التي دفعها للحارس الخاص للغرفة، ما استطاعا الدخول أبداً. كان مارون يحدثني بنبرة مليئة بالثقة بما يدل على أنه قام بعمل بطولي لأجلي، لذلك ترك مقعده واقترب مني مبتسماً، فقبلته . . وأحسست وهو يخاصرني بأنه هدأ كثيراً من ناحيتي .. ويريد مني الكثير فنهرته بلطف، واقتحمت خطوط عرفات وحواتمة وأبو إياد فوجدتها مغلقة. وحينما فكرت في إيقاف جهاز التسجيل طرأة ببالي فكرة التجسس على تليفون سلامة.
لقد كان الوقت قبل منتصف الليل بقليل، وسلامة يتحدث مع أحد رفقائه ويدعى أبو نضال (1). ضغطت على زر التسجيل وأحكمت السماعتين فوق أذني وانتبهت للحوار بينهما. كان مارون ما يزال ملتصقاً بي من الخلف يثيرني بقبلاته المجنونة حول رقبتي، عندما اقشعر بدني كله وبدأ شعر رأسي كأنه يتصلب . . وينتصب، وأنا أستمع الى سلامة يقول في ثورة (التل (2) وحده لا يكفي . علينا برأس الحية صديق اليهود، ومؤتمر الرباط فرصتنا الأكيدة فلنكن حذرين . . وشجعان . الله معك يا أبو نضال). هناك إذن تخطيط لاغتيال الملك حسين في الرباط . . وتبنت العملية منظمة أيلول الأسود.
وحين نزعت الأسلاك كانت رأسي تدور وتدور يد مارون المثار حول مؤخرتي، فسألته أن يؤمن الطريق لأخرج. وفي شقتي لم أقو على الانتظار لأبدل ملابسي، فأرسلت على الفور برسالتي الخطيرة الى الموساد. وبعد ست وثلاثين دقيقة جاءتني رسالة تطلب مني إعادة البث. فأيقنت أن القلق ركب رؤوس القيادة في إسرائيل، خوفاً على صديقهم العربي الأوحد. . الملك حسين. . ومرت ثلث الساعة إلا دقيقة واحدة، وجاءتني رسالة أخرى تحمل أمراً هو غاية في العجب. . والدهشة. إذ أمرت بالبحث عن وسيلة لدخول شقة علي حسن سلامة بحجة تطبيب عياله. فحتى تلك اللحظة. . لم أكن أعلم أن لسلامة أولاد . . وزوجة أخرى تمت بصلة قرابى لمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني. وقلت في نفسي: أترضى ملكة جمال الكون - جورجينا رزق - بدور الزوجة الثانية؟؟ يا لسلامة المحظوظ . . الهانئ . . السعيد. .
|