المنتدى :
التحقيقات
دماء في رقبة من؟!
دماء في رقبة من؟!
- علماء الاجتماع: الدولة تعالج هذه الظاهرة بالدوران في حلقة مفرغة
- علماء النفس: ليس هناك توصيف للجرائم بالتافهة والقاتل قد يكون ضحية
- علماء الدين: الإسلام عالج هذه القضايا من منظور اجتماعي وشرعي واقتصادي
تحقيق- خديجة يوسف
تزايد في الآونة الأخيرة ارتفاع معدلات الجريمة في مصر، وخاصةً جرائم القتل، وتطالعنا الصحف ووسائل الإعلام يوميًّا عن جرائم قتل بشعة؛ وصلت لدرجة أن يقتل الأب أبناءه، ويقتل الشقيق شقيقه أو شقيقته، والعكس، وهو ما اعتبره الخبراء مؤشِّرًا خطرًا على الأمن الاجتماعي في مصر.
وكشف تقرير إحصائي مؤخرًا لوزارة العدل المصرية عن تزايد معدلات الجريمة في مصر عامًا بعد عام، مشيرًا إلى أن الجرائم التي تداولتها المحاكم المصرية "رسميًّا" مليون و896 ألفًا و594 قضية؛ تم تداولها خلال عام واحد؛ بزيادة قدرها مليون و326 ألف قضية عن تلك التي نظرتها قبل أقل من عشر سنوات مضت.
الأرقام التي وثَّقها التقرير الإحصائي القضائي بوزارة العدل؛ تكشف بوضوح عن التزايد المرعب في معدلات الجريمة في مصر، وتثير العديد من التساؤلات: من المسئول عن ارتفاع معدلات الجريمة في مصر؟ ومن الذي أدى إلى سهولة القتل لأتفه الأسباب حتى لو كان المقتول ابن القاتل أو السرقة والنهب بالطرق العامة؟ أين الخلل؟ ومن المسئول في المجتمع؟!
بدايةً.. تؤكد الدكتورة عزة كريم أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي
للبحوث الجنائية والاجتماعية بالقاهرة أن تزايد معدلات الجريمة
في مصر يعكس حجم الاضطرابات التي يعاني منها المجتمع
سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وهو الأمر الذي أدَّى إلى تمزُّق
أنظمته الداخلية، وفي مقدمتها الأنظمة الاقتصادية، التي أصبح
الكل يعاني منها، خاصةً بعد أن أطاحت تلك الأنظمة والسياسات
بطبقته المتوسطة، وساهمت في تزايد معدلات البطالة والفقر،
بالإضافة إلى عدم استقرار النظام السياسي، وانتشار الفساد،
وعدم قدرة الفرد على المشاركة فيما يدور حوله من أحداث، وهو
الأمر الذي يجعل الفرد يفقد الشعور بالانتماء للمجتمع الذي يعيش
فيه، ويصاب بالإحباط والتوتُّر اللذَين يحوِّلانه إلى إنسان انفعالي
في جميع تصرفاته وسلوكياته، وغالبًا ما يتحوَّل هذا الانفعال إلى
انفعال هائج؛ يَفقِد فيه الإنسان السيطرة على نفسه؛ ليتحول إلى إنسان عنيف قادر على ارتكاب مختلف الجرائم؛ بهدف التخفيف من حدة الضغوط الواقعة عليه.
وتضيف د. عزة أن الجريمة قد تحدث لأتفه الأسباب كمشادة كلامية مثلاً؛ يتم على إثرها ارتكاب جريمة قتل، وهي أشياء لحظية تحدث نتيجة الانفعال الشديد، وبعد ذلك يحدث الندم وقت لا ينفع الندم؛ فقد تمت الجريمة، مشيرةً إلى أن الضغوط الحياتية جعلت الإنسان في صراع مع أقرب الناس إليه؛ كالزوجة أو الأم أو الأبناء، ولا يستطيع التعامل مع الحياة بشكل متوازن، مؤكدةً أن هذه الضغوط قد تسيطر على الإنسان مما يصيبه بحالةً من فقدان الوعى وتتم عملية القتل.
سير ملطخه بالدماء
وتقول: للأسف الشديد.. السير الذاتية لمعظم الشباب بدلاً من أن تكون معمَّرةً بالدورات التدريبية في نواحٍ مختلفة لكي يحاول خلق فرصة عمل في ظل هذه الصراعات؛ أصبحت ملطخةً بدماء الضياع والإهمال من قِبَل الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، ودائمًا الندم يكون ملازمًا للجرائم غير المخططة، مؤكدةً أنه كلما زادت الفروق الاقتصادية زادت المشاكل والجرائم.
وطالبت د. عزة بضرورة إعطاء الفرد حقه كاملاً في المجتمع؛ لكي نساعده على الإبداع والابتكار، بل والتنمية؛ لأنه إذا سلب حق الفرد فلا تنتظر منه سوى القتل والخراب والتدمير والفساد.
ووصفت جهود الدولة للقضاء على هذه الجرائم بالدوران في حلقة مفرغة، لافتةً النظر إلى أن العلماء يُهلكون أنفسهم لتقديم الحلول للمشاكل ولديهم القدرة والاستعداد للمساهمة في الحل بأبحاثهم وأفكارهم، إلا أن الدولة لا تسمع لهم، وكأنهم يؤذنون في مالطة.
ورغم تزايد معدلات الجرائم بين الأحداث بصورة غير طبيعية؛ فإن الدكتورة عزة تتوقَّع المزيد منها، مؤكدةً أن هذه الفئة تتصرف دائمًا حسبما تدفعهم غرائزهم، مفتقدين المبادئ والأخلاق والضوابط والقيم؛ التي يُفترض أن يتعامل بها الأفراد داخل المجتمع، مستبدلين بهذه القيم السرقة والنهب والقتل كأساس تربوي نشؤوا عليه، ولم يعرفوا غيره؛ وهو الأمر الذي يجعلنا نتنبَّأ بمستقبل سيقوده مجرمون محترفون.
وأكدت د. عزة أن ما تقوم الهيئات والمصالح المختلفة برصده من أرقام ونسب عن معدلات الجرائم في المجتمع المصري لا يعبِّر عن الحجم الحقيقي لهذه الجرائم، وذلك وفقًا لما أثبته بحث أجرته بنفسها بعنوان "ضحايا الجريمة في المجتمع المصري"؛ صدر في أواخر التسعينيات عن المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية؛ قامت بإجرائه على عينة من 1000 فرد ممن تعرَّضوا لمختلف الجرائم، وتوصَّلت من خلاله إلى أن 80% من الأشخاص لا يقومون بالإبلاغ عن الجرائم المرتكبة ضدهم؛ لعدم ثقتهم في الشرطة أو القضاء.
وتتوقع د. عزة أنه إذا ظلت أوضاع المجتمع على هذه الحال؛ فإن الجريمة ستصبح واحدةً من العلامات الأساسية المخيفة لهذا المجتمع، وستظهر أنواع جديدة أكثر خطورةً من الجرائم الحالية.
كليبات الغرائز
وتقول الدكتورة ناجية إسحاق أستاذ علم نفس الجريمة بكلية الآداب جامعة عين شمس: إن الجريمة هي الجريمة مهما كانت الأسباب، والجريمة هي نتاج شخصية مضطربة؛ حيث إن قدرة الموقف على إثارة السلوك الإجرامي تتوقف على الشخصية التي تعرضت لهذا الموقف؛ فنفس الموقف قد يتعرض له أشخاص آخرون ولم يقوموا بارتكاب جريمة، والجريمة ترتكز على شقَّين: الشق الخاص بخصائص الشخصية، والشق الخاص بالعوامل المفجّرة للجريمة، والتي تتمثل في أمور شتى، هي بمثابة القشة التي تجعل الإنسان يسلك سلوكًا إجراميًّا.
وتساءلت د. ناجية: عندما يأتي زلزال من يكون المتضرر؟
عندما يظهر لنا في الأفق فيروس معدٍ ما هي الأجساد
التي يتم انتقال المرض إليها؟! وتضيف د. ناجية أن المنازل
الضعيفة هي التي تتضرر من الزلازل، والأجسام الهزيلة
ذات المناعة الضعيفة هي الأسرع تأثرًا وإصابةً بالفيروسات
المعدية, وبالمثل فإن مرتكب الجريمة هو إنسان مضطرب
وخاوٍ من الداخل ومحطَّم ومحبط.
وتوضِّح أن عوامل الجريمة متغيرة بحسب الظروف والمواقف المتاحة والضغوط التي يتعرض لها الفرد في المجتمع؛ كالضغوط الاقتصادية التي يتعرض لها الإنسان يوميًّا, والتي جعلت الماديات لدى الكثيرين مسألة مصيرية, وأصبح أيضًا الحصول على ما يشبع احتياجات الإنسان أمرًا شديد الصعوبة، وبالتالي أصبحت الضغوط الاقتصادية شديدة الوطأة والتأثير؛ تدفع أحد الأشخاص إلى إهدار أنفسهم بسبب خمسة وعشرين قرشًا!!.
وتستطرد قائلةً إن هناك ضغوطًا أخرى لا تقل أهميةً عن الضغوط الاقتصادية؛ بل تقف جنبًا إلى جنب بجوارها، وهي الضغوط الاجتماعية التي تسبب ضغوطًا قاسيةً على الفرد ومن ثم على المجتمع, مشيرةً إلى العلاقة الوثيقة بين البطالة وارتكاب الجريمة، وهناك ضغوط شخصية تتعلق بعلاقات الفرد مع باقي أفراد المجتمع.
وصمة عار
وتساءلت د. ناجية: لماذا ينظر الكثيرون إلى المرض النفسي على أنه وصمة عار؟ فعندما يشعر أي إنسان بخلل نفسي لا يذهب إلى الطبيب، بل يخفي ذلك عن الجميع حتى نفسه لكي لا يواجهها بالحقيقة المؤلمة، والتي لا يتقبَّلها المجتمع، إلى أن تتفجَّر الأعراض، ويحدث ما لا تُحمد عقباه، مؤكدةً أن التنشئة الخاطئة من المصائب الكبرى التي تؤدي إلى نشأة شخصية مضطربة قد ترتكب العديد من الجرائم؛ مثل التربية على القسوة والعدوان، مشيرةً إلى أن المرضى المضطربين هم نتاج لأسر مضطربة.
وتشير إلى أن هناك قاعدة في علم النفس تقول إن زيادة مؤشر الجريمة دليل قوي على زيادة معدلات الاضطراب من ناحية والضغوط من ناحية أخرى، متسائلةً: أين أموال زكاة المسلمين التي تكفي لحل كافة المشاكل الاقتصادية في مصر؟ وأين دور الحكومة وهيئات المجتمع المدني ضد هذه الجرائم؟ ألا ترى وتسمع ما يحدث حولها؟!
وناشدت د. ناجية القائمين على الأجهزة المرئية؛ كالتليفزيون والسينما وغيرها، قائلةً: "ارحموا شبابنا من كليبات إثارة الغرائز", مطالبةً بتوقيع أقسى العقوبات لكل من تسوِّل له نفسه ارتكاب جريمة في حق هذا الوطن؛ من رشوة وقتل واغتصاب وغيرها؛ كي يكون عبرةً وعظةً لغيره.
انسان الغابه
من ناحيته يرى الدكتور أحمد عبد الرحمن أستاذ الأخلاق والفلسفة الإسلامية أن الوازع الديني عند مرتكبي الجرائم غائب؛ مما أدى إلى تدهور الأسس الدينية والأخلاقية التي أصبحت بهذا المستوى الوضيع، مؤكدًا أن الرجل المسلم الصالح الذي يعرف أصول دينه وأساسياته وتم ترسيخ العقيدة السليمة في قلبه؛ تجده يعطف على الآخرين، ولا تمتد يده بالإيذاء إلى أحد، بل يقدم يد العون لجميع طوائف المجتمع ويكون عنصرًا مفيدًا في المجتمع، وهذا النموذج من المفروض أن يسود مجتمعاتنا الإسلامية.
ويضيف د. عبد الرحمن أن التعليم أصبح محدودَ الأثر؛ لا يصل إلى صياغة الفرد من الداخل كتربية الضمير والبواعث الدينية والاخلاقية وحب العمل الصالح ومساعدة الآخرين، وهذا هو جوهر التعاليم الإسلامية، مؤكدًا غياب تأثير الإعلام الديني في الناس، رغم الكم الهائل الموجود من القنوات الفضائية.
ويشير د. عبد الرحمن أن أغلب المتورّطين في الجرائم هم ممن يطلق عليهم "إنسان الغابة"؛ أي الإنسان الذي لا يتلقى تعليمًا أو يدخل مسجدًا ليتلقى أي نوع من التوجيه منذ الصغر، مشدِّدًا على أهمية التربية الدينية السليمة داخل المدارس.
ويستطرد قائلاً: لا يمكننا إغفال بشكل أو بآخر المشاكل الاقتصادية التي يتعرَّض لها هؤلاء، متسائلاً: كيف لي كعالم دين أن أتوجَّه بالنصح لشاب بأن يرضى وأن يصبر ويحتسب وهو لا تتوافر لديه أدنى معاني الحياة الكريمة؟ فهل تعتقدون أن هذا الشاب سيستمع إلى نصيحتي؟!
خبر البلد
ويضيف أن مناخ الإصلاح لا يشمل الأفراد بمفردهم، ولكن يشمل الدولة ومنظمات الجمعيات الأهلية، مؤكدًا أن أبناء الدولة يجب أن يستنشقوا عبير خير البلد الذي يعيشون على أرضه، مشيرًا إلى أن عصر الصحابة والتابعين كان القاضي لا يجد قضايا يقوم بالفصل فيها، بل كانت المشاكل بسيطة ويتدخَّل علماء الدين لحلِّها، فتنفض المنازعات، وقد حثَّنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على الحب والتراحم والرفق حتى مع الحيوان, وأوصانا بغير المسلمين قائلاً: في حديثه الشريف "من آذى ذميًّا فقد آذاني".
ويوضح د. عبد الرحمن أن تجربة الجماعات الإسلامية رائعة؛ حيث إنهم يقومون بغرس الأخلاق وتعاليم الإسلام السامية في قلوب أبنائها؛ فتجدهم يساعدون الآخرين، ويقدمون إفادة للمجتمع، وينفِّذون وصايا المعلم والمربي الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنهم يكونون حريصين على زرع الحب والخير وعدم الإيذاء؛ فإماطة الأذى عن طريق البشرية، حتى الكلمة الطيبة والابتسامة، صدقة.. وأخلاق كثيرة أُهدرت في ظل غياب الدور الحقيقي للدين.
ويطالب بضرورة البحث عن حلول جذرية كي تختفي هذه الجرائم، وأن تتكاتف كل أجهزة الدولة مع العلماء في كل المجالات الاجتماعية والتعليمية والفلاسفة، وكذلك علماء الدين؛ لكي نسير طبق منهج علمي مدروس، يؤدي إلى حل كل المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، فضلاً عن التخلص من الإعلام المشوَّه الذي يضع إثارة الشهوات نصب عينه والنساء العاريات لتحقيق ذلك، وكذلك الدراما التليفزيونية البعيدة كل البعد عن مشاكل المجتمع, بل تبث نيران الشر ولا تعبأ بنتائج ذلك على المجتمع.
|