الليل في آخره.
الظلمة تلفّ هذا الجزء من الحيّ بعد أن انتحر فانوس الشارع من مدّة غير قصيرة فلم تأبه له البلديّة, ولا أعارته بقية الفوانيس شيئا من نورها.
بعض قطط سمينة تجمّعت حول الحاوية وداخلها تنهش بقايا ما خلّفته الأفواه, وما بقي على مائدة الأكل.
فجأة.
منتدى ليلاس الثقافيانتفضت القطط وفزعت. صرخت ونطّت من كل جانب هاربة لا تلوي على شيء, بعد أن فرّق شملها الذي قفز من على السور, فزاد خوف هذه الحيوانات من رعبه. فبقي للحظات مكبوبا على وجهه يتألم من صدمة الوقوع على ركبتيه. ثم نسي ألمه تحت وطأة الخوف, وتحامل على نفسه وهرول يجرّ قدمه المتألّمة فبدا كضبع يطارد فريسة, ودخل زقاقا ينام في العتمة, متجنّبا الشارع الرئيسي حتى لا تفضح إنارته رعبه وغنيمته التي استحوذ عليها من البيت الذي اقتحمه في غفلة من صاحبته التي خرجت أوّل الليل في سيارة توقّفت للحظات, فلم يلمح صاحبها وسمع ضحكاتهما التي علت على صوت المحرّك.
دخل الزّقاق نصف مهرول, وهو يلهث ويشدّ بيده على قلبه الذي يدقّ بشدّة محاولا تحطيم ضلوعه, ويستجدي الهواء كي يدخل رئتيه ويزوّده بالقوّة. كان يلتفت إلى الظلام الذي يخلّفه وراءه لعلّ هناك من يتبعه, فلا يرى إلاّ بصيص نور بدأ يغيب من الشارع الذي خلّفه وراءه. ولا يسمع إلاّ وقع أقدامه غير المتوازنة, وحشرجة صدره الذي أنهكه التعب والخوف. ووسط الفوضى التي وقع فيها لم يلمح الحجارة التي خلّفها أطفال النّهج وراءهم في النهار فاصطدم بواحدة وسقط يتلوّى, يعضّ على شفتيه ألما. ثم تذكّر ما يحمله بين طيّات ثيابه فنسي حاله وصار كالمجنون يفتّش من حواليه عمّا يمكن أن يكون قد سقط منه, ويتحسّس ثيابه حتى يطمئنّ على ما تحويه. وفجأة فزعت وطاويط الرّعب في رأسه لمّا فتح أحدهم باب منزله وأطلّ في حذر ليجده على تلك الحال. فقال له دون أن يتجاوز رأسه فتحة الباب.
- ألا تستحي على نفسك؟ ألا تخجل وأنت هكذا ممدّد في هذا الوقت لا تعي شيئا؟ رجل في مثل سنّك كان الأجدر به أن يكون في المسجد, لا مخمورا لا يقوى على الحراك.
ثمّ صَفَقَ الباب وراءه ودخل, بعد أن تفل وهو يردّد:
- تفوه عليك, وعلى رجولتك الزائفة.
تصبّب عرق بارد على جبينه, وصُبِغت سحنته بلون الموت. وكاد يُشَلّ عن الحركة. وظنّ أن تلك ستكون نهايته وفضيحته. ثم تنفّس الصعداء لمّا دخل الرجل وأغلق بابه, فقفز غير مهتمّ بما اعتمل فيه من ألم وسار سريعا يلوي الطريق, يطويه طيّا ليخرج من ذلك النّهج الذي لا يعرف فيه أحدا, ولن يرحمه واحد منهم لو قبضوا عليه.
" أحسبتني مخمورا يا من لا أعرفه؟ أظننت أنّي قد أمضيت ليلي أحضن طاولة وقواريرها؟ لم أظنّ أنك أبله وغافل عمّن هم مثل حالي. يا أنت. يا من عدت لفراشك يحضنك من جديد. قد نسيت أنا النوم منذ دهر, أثقلت الأيام كاهلي وزادت عليّ.. أنت لا تعرفني وقد حسبتني سكرانا. فماذا لو عرفت ما أعانيه, فممّن ستحسبني؟ لو رأيت ابني الممدّد على السرير ينهشه المرض ويأكل من طفولته. لو رأيته المحروم من اللعب والدراسة, وحتى البسمة لا يقوى عليها. لو سمعت الأطباء بعد أن نظروا فحوصاته وتحاليله يطلبون منّي ضرورة الإسراع بإجراء عملية لتوسيع شرايين قلبه الصغير وإلاّ فإني سأفقده آجلا أم عاجلا. لو سألت عنّي, وأخبروك أني ألهث من الصباح إلى الليل, أبحث عن أيّ عمل يزوّدني بلقمة تسدّ الأفواه الجائعة التي تنتظرني. لو..ولو...ماذا ستقول عنّي؟ لا تقل شيئا. سأخبرك. أنا لست سكرانا لأني لم أعرف للخمر طعما. أنا لصّ تسلّقت سور منزل وحطّمت نافذته ودخلت, وسرقت ما وجدته من مصوغ ومال. وها إني أهرب خوفا من أن أقع في يد أحدهم, أو يشي بي واحد مثلك."
وتجاوز النهج أخيرا بعد أن مرّ في تعرّجاته وضيق ممرّاته, وقابله الشارع الآخر واسعا ومضيئا وآمنا, تعبره السيارات من حين لآخر, وتفتح مقاهيه لاستقبال فجر جديد, وينتشر عمّال الليل لتنظيفه لروّاد النهار.
اِتّخذ له مكانا قصيّا, بعيدا عن الأنظار. وتحت الضوء الخافت الذي يصله, أخرج ما سرقه. تحسّس المصوغ فوجده ثقيلا ينمّ عن يسر صاحبته وقدرتها على الشراء, وعدّ المال فتبسّم لما عرف أنه مبلغ كاف سيساعده كدفعة أولى للأطبّاء, إلى أن يتصرّف في الذهب الذي معه.
التفت يمنة ويسرة, وأرجع كلّ شيء إلى مكانه وواصل سيره, وقد اطمأن باله بعض الشيء. وتخيّل ابنه وقد شفي من مرضه وعادت إليه صحّته ونضارته, ورجع إلى دراسته, وإلى الحيّ يشارك أنداده لعبهم ومرحهم. ثم توقّف فجأة لمّا تحرّك واعز الضمير يخزه في كلّ جانب, وكلّ عصب من أعصابه التي ما كادت تهدأ قليلا.
" أنت لست ممّن يُقدِم على مثل هذا الفعل الشّنيع. قد عهدتك شهما, تؤثر الخصاصة على أن تمدّ يدك لما ليس لك. كادح, تزرع يومك تعبا وتسقيه بسيل من عرقك المالح حتى تجنيَ في آخره كسرة خبز تهنأ لها البطون. قد حسبتك ثابتا لا تهزّك رياح الخصاصة, ولا تقدر عليك مخالب الحاجة..خسارة يا أنا. قد هويت في مستنقع لا مخرج لي منه,شربت منه حتى الثمالة, وغصت فيه حتى صرت عبدا له.خسارة. حين تهوي لتصير لصّا."
صاح دون صوت يسكت الصّوت النّافر فيه:
-" وهب أنّي سرقت. هل أُعلِنت نهاية العالم بما فعلت؟ هل نُفِخ في الصّور؟ هل انشقّت السماء وسُوّيت الجبال وفاضت البحار؟ هل أترك ولدي يموت بين يديّ وأنا أتلوّى أمامه مغلول اليدين, منفطر القلب؟ وهب أني سرقت. أكنت قد اقتلعت البيت من جذوره وقتلت صاحبته وأنا لا أعلم؟ ماذا فعلت؟ ألم آخذ ما يكفي لعلاج بنيّ ورحلت؟. ولتعلم أن من اقتحمت منزلها قد خرجت مع من سيعوّضها أضعاف ما وقعت عليه. اطمئنّ, لا تحنق عليّ كثيرا فلست أول من مدّ يده لما عند غيره, بل ربما أكون من القلائل الذين سرقوا بدافع الحاجة."
ويسكت, ويضع يده الباردة على جبينه الذي ترسّبت عليه مخاوفه وندمه. مسح بها كامل جبهته ونزل حتى لامست ذقنه. وابتسم, وسار في طريق العودة, ثم توقّف ليعضّ أصابعه ندما على ما فعل.
" لو ضبطتك تلك المرأة وأنت في غرفة نومها, ماذا كنت تفعل؟ تهرب؟ تضربها؟ تقتلها لتستطيع الهرب؟ وماذا ستكون بعدها؟ لصّ وقاتل؟! ياه..يا لهذا الجحيم الذي سرت إليه دون أن تخمّن عواقبه..ألم تفكّر لحظة أنّ ما تحمله بين طيّات ثيابك مزهوّا به يمكن أن يكون ثمرة تعبها وعملها, وأن الرجل الذي ركبت معه زوجها قد حملها لتزور أمها المريضة؟ ألم يخطر ببالك مرّة أن هذه النقود التي سرقتها قد تكون في أمسّ الحاجة لها أكثر منك؟ عار عليك, تنهش من بقايا غيرك لترتق بقايا ابنك."
وندم. عضّ أصابعه وكاد يأكلها, فقرّر أن يعود أدراجه ويطرق بابها ويعيد لها ما أخذه, ويطلب منها الصفح. فمن يعترف بذنبه قد يجد من يرحمه.
" وابنك الذي تلهث روحه, تبحث لها عن مستقرّ, ماذا ستفعل به؟ ترميه للمرض ينهشه؟ وما أدراك أنها ستعفو عنك؟ هل تعرفها؟ هل لك علم بطبائعها؟ ألا يمكن أن تكون قد عادت وعلمت بما وقع وأخبرت الشرطة, وهم الآن ينتظرونك. تريّث, ولا تكن متسرّعا. قدّر تعبك وخوفك ورعبك حتى وصلت لما هو ملك لك الآن. لا تجعل العاطفة تجرفك إلى حتفك وحتف ابنك. سر بخطى ثابتة نحو بيتك, حيث الأمان ينتظرك, واغنم ساعة نوم قبل أن تحمل ابنك إلى المستشفى."
وتوقّف مرة أخرى عن السير. التفت إلى كلّ الإتجاهات. وأخيرا استقرّ نظره على طريق منزله, فثبّت خطواته عليه ودسّ يديه في ثيابه, وأسرع متحاملا على نفسه عاضّا على الألم الذي زاد في ركبته, وغير مبال بما حوله, ولا بالسيارات التي زاد عددها مع تنفّس الصبح وصارت تنهش الطريق نهشا. زاد من سرعته لمّا بدأت الأقدام تنتشر هنا وهناك, خوفا من أن يلحظ أحدهم حالته المزرية فيشكّ به. ولما قابلته كوكبة من العمال تعترض سبيله في الإتجاه المقابل, راوغ خطواته وغيّر اتجاهه للطرف المقابل, وقفز قفزة مفاجئة ليقطع الإسفلت نحو الممرّ الآخر.
- انتبه يا هذا. حاذر السيارة القادمة, إنها قريبة جدا فلا تجازف.
صاح عليه أحد المارة فلم يسمعه ونطّ كأرنب ليتعثّر ويسقط في اتجاه السيارة القادمة بسرعة يدفعها في ذلك خلوّ الطريق.
وضع رأسه بين يديه يخبّؤه, ولثم الإسفلت البارد قبل أن يسيل دمه الفائر من رأسه ومن أذنيه وفمه, ويغرق في بركة من الدماء جثّة قد رحل عنها الخوف من الآتي, والرعب من القادم, والهوس بما ينتظر.
- يا إلهي لقد مات.
ردّد أحد القريبين منه في شفقة, ثم جثا على ركبتيه يتحسّسه عسى مازالت فيه بقيّة من روح. و ولما حرّكه, سقط ما كان يخبّؤه بين جنبات ثيابه, فارتعب الرجل أول مرة, ثم التفت جانبه فلمح بعض الرجال يهبّون نحوه فلم يترك فرصة للقادمين أن يشاركوه0 كنزه, فلفّه بين ثيابه, وصرّ على نفسه ووقف ينفض يديه من آثار الدم وما اعتمل فيها من رهبة. وهتف يخاطب القادمين.
- مات المسكين. كانت الصدمة قويّة على رأسه فانفجر دماغه..فليسرع أحدكم بإعلام الإسعاف.
ثم تركهم وأخذ طريق الظلمة يمنّي النفس بالكثير.