الفصل الثاني
النهاية
فصل اللقـاء !!
كان المساء قد حلّ وتسربلت السماء بثوبٍ من تعاسة كانت تلك الـ هي قد اعتادتها منذ ثمانِ سنوات طويلة..
وكان الفضاء والعالم والشمس والقمر والنجوم وسائر كائنات المجرة،، إضافةً إلى الأعشاب والزنابق وورق الورد وماء المطر وقطرات الندى وورق الشجر وأغصان الأشجار وسعف النخيل وأبواب البيوت وطرقات الحي وأزقته،، وكل توابع المجموعة الشمسية وجميع شجيرات الياسمين وصخور التل وعشبه وشجرة اللوز وأرجوحة الطفولة وحتى البحيرة التي خلفها المطر ذات طفولة فخذلته تلك الصبية في أن تقف في صفه،، وحتى الشال الأخضر الذي طار من بين خصلات شعرها ذات صيف ،، والريشة الطاووسية ومحبرة الحبر والجلد الذي سطرا عليه حروفهم وحتى المنحوتة الخشبية التي عمد ألا ينتهي منها حتى يطول فضولها،، والنيزك الذي مر ذات صيف حارق فتمنت ولم يتمنَ ،،كلهم كلهم كل تلك الأشياء حتى أصغرها وحتى حذاءها الذي انحنى يوماً يساعدها في ربطه وظهره الذي انحنى يوماً لتصعد به الأرجوحة كل هذه التفاصيل إضافةً إلى خيوط الشمس التي طالما تدلت نحو الأرض واستمالة غرور تلك الصبية لمعانقتها وسبائك الفضة التي كثيراً ما توهجت من ذلك القمر الذي هرب طويلاً ولا زال في رحلة هرب من جنون تلك الغيمات الشقيات اللواتي أصبنه بالإنهاك لكثرة الهروب...
كلها كل تلك التفاصيل وأدق منها وما حضرني وما لم يحضر كانت شاهدةً على حجم الفجيعةِ التي ألمت بقلب تلك الصبية التي ما عادت سوا بقايا أنثى تفنن الغياب في تقطيعها وبعثرتها،، إلى أن عجزت حتى قوى الطبيعة العظمى أن تعيدها كما كانت..
حتى أبسط الأشياء التي تبعثرت كانت قد انتهت،، فلم يعد بالإمكان أن يلملم شتاتها سوى عودته..
إنه عائد ،، عائدٌ عائد...ولكن كيف ستستقبله عقب هذا اللقاء !!!
كانت خيوط الفجر الأولى قد خرجت لتوها من باطن الفضاء،، وللحظة كانت الأرض والسماء في حالة تمخض لولادة الشمس من جديد،، فآلام الولادة تلك في استمرارٍ كل يوم ،، وقبل أن يظهر الوليد كاملاً كان ظل أحدهم يدفع باب البيت بيديه ،، ولكن الباب كان صامتاً ما عاد يعزف له شيئاً ،، حتى الحزن بعده قد نسيته كل الأشياء...
وكان الباب هو التغير الأول الذي صادف هذا الشاب اليافع الذي وصل للتو للبيوت اللبنية العتيقة التي ضمّتـه...
دخل يسبقة كل الشوق للقاء سيدته الأولى التي سمع وقع أقدامها خارجةً من تلك الغرفة التي توضأت بها استعداداً لصلاة الفجر...
وكان اللقاء الأول ،، فما إن رأته حتى وقفت في مكانها ،، لا هي التي تقدمت ولا هي التي تراجعت...فوقفت تنظر إليه ثم بدأت حبات لؤلؤٍ عذبه بالتجمع بين الهدب والهدب...
أسرع وأسرع نحوها فما عاد به متسعٌ من وقت لكي يقضيه بالنظر إليها..وبعد جزيئاتٍ من لحظات كان يذوب بين يديها...فاختلطت الدموع بالبسمات..وتهللت أساريرها فرحاً..فجلست على الأرض سريعا وهو كذلك..تُمرر كفيها فوق خديه وعلى وجهه تمسح شعره الذي غدا طويلاً ناعماً يتدلى على جبهته ورقبته..
والدته بفرح: متى عدت؟ ولم لم تخبرنا عن موعد عودتك؟
هو يبتسم بحنان وبصوتٍ بدا غليظا: عدت للتو..ولم يكن بالإمكان أن تعلموا موعد حضوري بأي طريقة...( ويبتسم) هكذا أفضل أليست مفاجأة؟
والدته تسحبه بحنان لبحر أحضانها: إنه العيد حضر قبل أوانه...!!
استرسلا بالحديث طويلاً حتى أخذت الشمس من مساحة الممر مفرشاً لخيوطها..كان يحكي لها بكل اللهفة ما صادفه وما رأى وكيف العالم هناك...وكان ينتظر أن تنطق شفتيها بسؤالٍ عن عشقه الأبدي...إلى أن وصل لمبتغاة..!!
والدته: الجميع يسألون عنك..أتعلم أنه بعد رحيلك بأسبوع وضعت جارتنا صبياً صغيراً،، سبحان الله إنه يبلغ من العمر ثماني سنوات...
هو بتملل: جيد..!!!
والدته بنظرةٍ متفحصة لملامح وجهه: إنه بعمر أختــها!!
فارتبك وتغيرت ملامحه ثم ما لبث أن تدارك الأمر سريعاً ولكن بعد أن فضحت ملامحه سره...
هو بلا اهتمام: وكيف هم؟
والدته بهدوء: جميعهم بخير....أ..أأ..( تنهدت) بإستثناءها..
فتلخبطت كل أحاسيسه ورمى بكل الحياء والخوف جانباً...لقد أرعبته وأنهكته وأخافته...رباه،، لقد مسته في مكان الجرح..إنها تضع الملح على الجرح...الجرح الجرح...!!
هو بخوف: ما بها؟
والدته: لا أعلم لم أرها منذ زمنٍ طويل...والدتها تبكيها ليل نهار...يقولون إنها ربما مصابة بالجنون..
وبلا مقدمات وبعيداً عن شعارات تندد بحق الرجل في البكاء..كانت دمعته قريبةً من عينه ثم عانقت بكل الأسى خديه..." رباه أكُنت أنا السبب؟؟،،، طفلتي ما حلّ بها؟ "
والدته: غُض النظر عنها يا بني...!!
هو وبألم: أنتِ تحكمين عليّ بالإعدام...أماه إنها الحياة...لولاها ما عدت..لولاها لم أعش..وقد عاهدتها يوماً أن أعود...ويكفي أنها انتظرتني...
والدته تهز رأسها بأسف: ستغير رأيكـ صدقني...
ونهضت فقد نسيت صلاتها من فرحتها...بينما صعد بحقيبته يحتضن رائحة البيت والمكان والزمان...وبحركةٍ سريعة تفقد غرفته..ثم فتح حقيبته..وأخرج رسائله لها...وابتسم بحزنٍ عميق..
" طفلتي بالله كيف ألقاها !!! "
غير ملابسه ثم ارتدى شيئاً مما اقتناه حديثاً وخرج،، لا يدري إلى أين ولكن حتماً ذاهبٌ بلا وعيٍ إليها...
وسريعاً بخطواتٍ متباعدة وقبله يمشي قلبه ،، والشوق يدفعه دفع الموج لرمل الشاطئ،، مشى سريعاً حتى وقف أمام ذلك البيت..ورفع رأسه ليرى تلك الفتحة الضيقة التي تطل لدارها...
وسرت قشعريرةٌ أليمه في جسده..وتنهد سريعاً وارتجف قلبه خوفاً وألماً..
" أتراها تكون هناك !! "
وبينما همّ بطرق الباب ،، سمع أصواتاً خافته تتهامس خلف إحدى أشجار البيت..تراجع قليلاً واسترق نظرةً وتفاجأ...
بينما تلك العيون الأربعة حدقت فيه...اثنتان منها بخوف واثنتان منها بتعجب...وابتسم سريعاً وخفق قلبه بسرعة.." يـاااه ،، إنها نسخةٌ متفجرة الأنوثةِ منها"
هو بفرح: من أنتِ؟
الطفلة تبتسم: ومن أنتَ؟
هو يبتسم لبراءتها: أين والدتكِ؟
الطفل بنظرةٍ غريبة: ومن تكون أنت؟
هو يبتسم بينما يتجدد الماضي في عينه: بل من أنت؟
الطفل يسرد له التفاصيل ويخبره بأنه ابن جارة تلك السيدة التي سافر ولدها بعيداً...وتسترسل الطفلة في شرح بقية الحكاية بأنها ابنة صاحب هذا المنزل وأخت الشابة التي تفشى خبر مرضها..وهي تعيش وحيدةً مع والدتها ووالدها وشقيقتها...
هو وقلبه قد أعلن التمرد: هلّي أن أدخل؟
الطفلة تعود لإكمال لعبها: لا أحد في المنزل..
هو بخوف: وشقيقتكِ؟
الطفل: مالك ولها؟
هو يكلم الطفلة: أليست في المنزل؟
الطفلة: إنها في الأعلى...كالعادة..!!
هو: وأمكِ؟
الطفلة: في الداخل تغزل الصوف..استعداداً للشتاء ( وتبتسم) إنه قريبٌ جداً..سيهطل المطر..!!
تركهما يلعبان..ووقف أمام ذلك الباب طويلاً...وليس لديه حُجةٌ للدخول..ولا حتى الكلام ولا السلام...خائفٌ راجف..
حتى وردت على باله فكرةٌ بدائية رآها مناسبةً للظرف الذي يمر به...فعاد للطفلة والطفل...وهو متلهف باسم..
هو: أيتها الجميلة الصغيرة هلاّ أسديتِ إليّ معروفاً.؟
الطفل بغضب: كلا..
الطفلة بغنج: وما طلبك؟
هو: تعالي معي سريعاً...
فنهضت الطفلة وتبعها الطفل خلف ذلك الشباب المجنون...وركضوا ثلاثتهم سريعاً نحو بيته..فرأتهم أمه وابتسمت..لا يكف عن ممارسة الجنون حتى ولو كان عائداً للتو..
صعدوا للأعلى...فجر ورقةً صغيره..كتب عليها من الكلام ما استطاع واختصر بها رحلاته وأشواقه وعذاباته ولهفته وحنينه...ووقعها بكل الحب...وبطبيعة الحال..
فقد كانت هي الفتاة الوحيدة بين نساء كل تلك القرية من تستطيع القراءة والكتابة..وحتى شقيقتها الطفلة لم تكن تجيد حتى الإمساك بالورق...
فركضت الطفلة سريعاً...لا تعلم ما تحمل...وكل ما تعيه حولها..هو أنها ستجعل شقيقتها سعيدة وسعيدةً جداً...
وما هي إلا جزيئاتٌ من وقت..حتى كانت ترتجف بخوف..أمام باب تلك الشرسة...وهي مترددة أتدخل أم تبقى بعيدةً عنها....
طرقاتٌ خفيفة على الباب...
هي: أمي؟
الطفلة: بل أنا؟
هي وقد تغيرت نبرتها: وماذا تريدين؟
الطفلة: أحمل شيئاً لكـِ؟
هي: احتفظي بهـِ لنفسكـِ لا أريده...
الطفلة: إنها ورقة..!!
هي بلا مبالاة: لا أريدها..اذهبي لا تثيري غضبي...
الطفلة بإصرار: لقد أعطاني إياها أحدهم...
وبشقاوةٍ غريبة فتحت الباب ووضعت الورقة على فراش شقيقتها...وأغلقت الباب وخرجت مسرعه...
تفحصت بعينيها الورقة الملقاة...ثم سرت فيها غرابةٌ غير مألوفة...وبتفحص فتحت الورقة التي ضمت خطاً لم تره في يوم قبل هذا...
" عاد الربيع يا طفلةً راقصتها تحت المطر
التوقيع/ الشمس التي عادت "
وإن كان للفرح صوت،، وحتى إن كان للأسى دموع..ولو بكت الشمس وسقط القمر...
لخانتها كل تعابير الأرض ولم تسعفها سوى الدمعات الحارقات اللواتي انسبن في وجعٍ على خديّها..فبكت حتى بكت وبكت .. حتى شبعت ولم تشبع منها الدموع...
وسرعان ما استيقظ مارد الغرور في أعماقها وأفاق كبرياءها من غفوته...فصحى فيها صوت الكراهية والحقد والاستبداد..فما كان منها إلا أن بعثت إليه تقول...
" ما كنت في يومٍ إلا خريفا...فحاشى الربيع أن يكون مثلك..
فقد تفننت في إسقاط أوراقي ،،
الورقة تلو الأخرى،،
الورقة تلو الأخرى،،
وفي رحيلك الغادر،،
ما تركت وراءك إلا مساحات لم يتسع لها الكون،،
من الحزن والأسى والعذاب وفواجع الانتظار..!!
وما اتسع الكون لـ دمعي ولا حزني..
ولا أسعفتني بعدكـَ كل كلمات الحب التي تلوتها على مسمعي..!!
ولا شفعتْ لي لقاءاتي بكـَ خلسةً في شتاءات الحب...
فـ بالله يا أيها الذي ،،
خدع،
وغدر،
وخان،
وأوجع،
وترك،
وتفنن في الغياب..
بالله أخبرني كيف أسامحك
التوقيع/ قمرٌ لا تستحق شرف حبه "
ورغم القسوة وعنف الرد..إلا أنه استقبل تلك الرسالة بفرحٍ عارم..هو يعلم كم في قلبها الكبير من مساحاتٍ شاسعة قادرة على الغفران...وليته لم يثق كل هذه الثقة..وليته ما علم يوماً أن الصبية ما انتظرته أبدا إلا لكي تحيك له من العذاب ألواناً..وتتفنن في رسم خريطة الجنون التي ستقوده إليها قريبا...فبعث إليها مازحاً وهو على يقينٍ من الغضب الذي سيحل بها حين تقرأ كلماته..ولكنه آثر المداعبة بعيداً عن كلمات الحب...فهو في يقينٍ مطلق أنها ما صبرت العمر هذا بغير ارتباط إلا في انتظاره...فكيف لها أن تدعي توقف قلبها عن النبض بحبه...
" طفلتي الشرسة/
أهناكـَ من استوطن وطني؟
أهناكـَ من زرع أرضي؟
أهناكـَ من جرعكـِ الحب أكثر مني ؟
بالله أجيبي !!
من انتظرتِ كل هذه السنين حتى يعود!!
أما قلتِ يوماً بأنك ستقضين العمر بانتظاري؟
اعذري في كلماتي غرورها..
ولكنكـِ كنتِ وحدكِ فقط من شحذ هذا الغرور...
طفلتي الأجمل /
أقلبكِ ما زلتُ أسكن فيه !!!
التوقيع/ الشمس "
وصلتها تلكـَ الرسالة..فجُنت غضباً...فأي منطقٍ ذلك الذي يحكم قلب ذلك المتعجرف..وأي مشاعرٍ معتوهة تلك التي يتملكها عقله الفارغ وقلبه المتحجر...
فخطت بغضبٍ إليه تقول...
" أيـها المغرور/
ما ابتسمت هُنا إلا لكي أقتلكـَ عمداً..
علّي بعواصف برودي...أقتلكَ كما قتلتني نيران غيابك...!!
أبعد ألف سنة من الفراق تأتي ؟
تقتلع قلبي من بين أضلعي..
تبحث فيه عن كل بصمة لسواك...
تحاكمه بغرور المستبد..
تستجوبه تفاصيل
قصص الهوى..
وتسأل عيني كم عزيزاً سواك بكت..
أيها المغرور
بعد ألف سنةٍ من الفراق تأتي؟
تبعثر أوراقي..تشرح الجمل..
تحاسب الحروف..تعاقب الكلمات..
تصدر حكمك القاسي بإعدام
كل ما لم يكتب لك..
وإحراق كل ما لم يرسل إليك َ..!!
بعد ألف سنه؟
يااه أبعد ألف سنةٍ تعود ؟!
التوقيع/ القمر "
وختمت على كل أحلامه بالشمع الأحمر...فما خُلق قلبها ليعيش به مغرور غادر...وأثبتت له باستحقاق أنه ما استحق ذلك الذهب ليقتنيه يوما...وما كان لديها متسعٌ من وقت لتسمع تفاصيل رحيله ولا كان لديها الكثير من الوقت لكي تجلس تنتقي من أخطاءه ما يغتفر ثم بغباء
تسامحه بقلب العاشقة الحنون...
فما عاد يليق بها مطلقاً أن تغفر وتسامح...وقد ودعت منذ برهة دور البريئة التي أخذت وقتاً
طويلاً تتقمصه...