كاتب الموضوع :
وداد التميمي
المنتدى :
روايات عبير المكتوبة
ولما كان صوت الحافلة قد تلاشى مبتعداً فقد عاد إلى مسامعها صوت الطائرة المروحية مرة أخرى . لقد اقترب الصوت الآن ورفعت بصرها إلى السماء ...
واهتز قلبها . ما الذي جعل تلك المروحية تبدو وكأنها ستحط في الحقل القريب من منزلها؟ هل ترى حدث خطأ ما؟ ولكن صوت الموتور كان يبدو متزناً . ربما هنالك مشكلات أخرى ربما أصيب الطيار بمرض مفاجئ .
وركضت نيرن نحو السياج الذي يفصل بين قطعتي الأرض ، لتخرج من بين الأسلاك إلى الجهة الثانية راكضة على العشب بخفة وكأنما نبت لها جناحان وفي منتصف الطريق إلى الطائرة المروحية كانت هذه قد توقفت .
وقبل أن تصل إليها بأمتار قليلة فتح بابها وخرج منها رجل . رجل في سترة جلدية سوداء . رجل فارع القامة أسمر اللون وذو جاذبية مدمرة . وكانت تعرفه جيداً .
وقفت نيرن فجأة وكأنها اصطدمت بحائط . لقد عاد لقد عاد أخيراً وأشرقت الدنيا حولها فجأة وتلونت الأشياء جميعاً بصباغ وردي زاه . وهمست : ستروم ...
ولم تستطع أن تتحرك من مكانها ولكن لا بأس لقد قطع هو الطريق إليها ، ليحملها ويدور بها حوله إلى أن شعرت بالدوار وتذكرت كيلتي ، ما أشبه الابن بالأب فهما الاثنان مولعان بأن يرفعا الآخرين ويدورا بهم بسرعة عندما يشعرون بسعادة .
وكان ستروم سعيداً عندما وضعها على الأرض وهو يهمس : لم أكن أدري أنني واقع في غرامك وأنني بحاجة إليك وأنني لا أستطيع العيش من دونك . هل فات الأوان؟ ورأت عيناه الجواب في عينيها.
وأخيراً استطاعت أن تقول : آه يا ستروم لقد كنت أتمنى دوماً لكي تعود عندما أرسل كيلتي ....
فقاطعها قائلاً : كيلتي؟ أين هو؟
فأجابته برقة : لقد ذهب إلى المقبرة ، ان الفرح سيهزه لرؤيتك لماذا لا تذهب لرؤيته هناك؟
فقال : وأنتِ؟
فأجابت : سأنتظر هنا .
وما أن ترك يدها ليذهب حتى انفجر الضحك والصفير والهتاف من ورائها وأدارت نيرن رأسها لترى فتيانها مصطفين على الحاجز يتفرجون عليهما . وهتفوا جميعاً بصوت واحد : هيا يا نيرن لا تتوقفي .
قال لها ضاحكاً : هل هؤلاء الهمجيون فتيانك؟ هل علي أن آخذهم هم أيضاً إذا أنا أخذتك؟
فقالت : نعم فهل هذا كثير عليك؟
فقال : سأشغل وقتهم على الدوام ، لقد تدبرت عملاً لكل شخص هنا في كريجند وسيبدءون في خلال أسبوع . سأبدأ العمل في بناء مشروع الأكواخ الجبلية الذي صممت عليه منذ سنوات .. وسيكون هناك عمل لكل شخص هنا .
فقالت بغبطة عميقة : آه يا ستروم ستبقى بينا إذن مدة طويلة .
فأجاب : بل سأبقى إلى الأبد ثقي بذلك .
كان الفتيان قد ذهبوا جميعاً و نيرن وحدها في المطبخ حيث غسلت الأطباق وابتدأت بتحضير القهوة ولكن ذهنها كان شارداً يفكر باللقاء الذي سيحدث في المقبرة بين الأب وابنه وهما يقفان معاً بجانب ضريح هازيل ، بعد أن تلاشت مرارة عدم التفاهم ذاك. ونظرت من النافذة بعينين لا تريان . ما كان أحسن عودة ستروم العامرة بالحب لها ولكيلتي لو أنها حدثت قبل ، وليس بعدما علم بالحقيقة عن هازيل ، لو أنه فقط حاول الرجوع إلى نفسه ومناقشتها بعد رجوعه إلى لندن فيتغلب على مرارته بنفسه ... ويقتنع بضرورة وضع الماضي خلف ظهره إذا هو أراد أن يعود رجلاً سعيداً ويكون بطلها الفارس المتألق حقاً .
وهزت نيرن كتفيها بأسى ، إن رجلها هذا إذن ليس فارساً متألقاً بكل معنى الكلمة ولا بد لها من أن تعيش بينما يشوب سعادتها شيء من القتامة والنكد
عادت إلى الواقع وهي تسمع الباب الأمامي يفتح فنشفت يديها واستدارت نحو الباب لترى ستروم عائداً ، فاندفعت إلى الأمام وهي تهمس : أين كيلتي؟
فأجاب : لقد نزل إلى الوادي لالتقاط بعض الصور وطلب مني تسليمك هذا .
وحدقت نيرن دون أن تفهم في المغلف الذي ناولها إياه ، المغلف الذي يحمل اسمها في زاويته العليا والذي كان كيلتي عنونه باسم ستروم بخط يده . هذا غير ممكن ، غير ممكن أبداً .. إنها الرسالة التي كانت طلبت من كيلتي كتابتها إلى أبيه ليخبره بحقيقة تصرف هازيل نحوه بزواجها من هوغ بدلاً منه . ولكن الرسالة ما زالت مقفلة بينما كان من المفروض أن تلك الرسالة هي التي جعلته يعود .
وقالت تسأله : إنني لا افهم .
فقال : وأنا لا افهم أيضاً ولكنه قال انك ستفهمين . قال لي بالضبط أخبر نيرن إنني لم أرسلها مطلقاً لقد أردته أن يشعر بالحاجة إلينا إلى حد أن يعود من تلقاء نفسه .
وتفجرت الدموع من عيني نيرن وهي تتناول الرسالة منه قائلة : يا له من غلام حكيم انه يفوقني حكمة بكثير .
فقال ستروم : ولكنه معنون باسمي هل يمكنني أن أقرأه؟
إنها طبعاً ستسلمه إياه ليقرأه . لقد علم الغلام مقدار ما سيصيب أباه من تمزق في المشاعر بعد أن يعلم الحقيقة فلم يحتمل رؤية المشهد.
وأجابته بصوت مختنق بالبكاء : نعم أجلس هنا أما أنا فسأذهب لأضع بعض الخشب في المدفأة .
وسكبت له فنجان قهوة وضعته بجانبه قائلة : هناك المزيد من القهوة إذا شئت أما أنا فسأعود حالاً .
ولكنها طبعاً لم تعد ذلك أنها كانت تعلم أن ستروم بحاجة إلى وقت يخلو به إلى نفسه إلى وقت يتكيف فيه مع الحقيقة ، إلى وقت يقتنع فيه قلبه بأن المرأة التي كان أحبها منذ زمن طويل لم تغدر به كما كان يعتقد ، إلى وقت يتحرر فيه من تلك المرارة إلى وقت يشعر فيه بألم جديد هو ألم الندم لحكمه الظالم ذاك على هازيل ، المرأة التي ضحت بسعادتها وبالرجل الذي أحبت .. وذلك لكي تقف بجانب الرجل الذي هو بحاجة إليها حقاً .
وقفت نيرن إلى نافذة غرفة الجلوس ملصقة جبينها بزجاجها البارد وقد تاهت بها الأفكار . انه حقاً بطلها الفارس المتألق .. ولكن ما زال هناك بعض الشوائب وعليها أن تنتظر أما الآن فعليها أن تفكر في ما عسى أن تكون عليه مشاعر ستروم من عذاب مبرح ونظرت إلى ساعتها ... ها قد مضت أكثر من نصف ساعة منذ تركته مع تلك الرسالة .
- نيرن ... ، تجمدت وهي تسمع صوته ولم تستطع أن تتحرك لم تستطع أن تواجهه لم تستطع التفكير في الألم المدمر الذي ستراه على ملامحه والعذاب في عينيه ...
لم تسمع خطواته على السجادة وشعرت بأنفاسها تختنق وهو يقول : انظري الي يا نيرن .
ما الذي ستراه؟ كانت خائفة من النظر في وجهه واستمدت كل شجاعتها ثم استدارت تنظر إليه .
كانت عيناه صافيتين هادئتين وهو يسألها : ألم يتمكن هوغ من السير بعد ذلك قط؟
فهمست : كلا ، لقد أمضى بقية حياته في كرسي متحرك .
فقال : وذلك الحادث على السفينة ....
فأجابت : لقد حدث في الليلة التي سبقت عودته إلى غلينكريغ ، لقد ترك شخص ما ثغرة في أرض السفينة مفتوحة فسقط هو في الظلام في عنبر السفينة فتهشمت ساقاه الاثنتان .
وساد صمت طويل لم يكن يسمع فيه سوى صوت أزيز نيران المدفأة وكان في صوت ستروم عندما تكلم أخيراً ارتجاف بسيط وهو يقول : انه إذن لا يمكن أن يكون قد عاد إليها صاعداً الطريق بخطواته الواسعة كما قالت في رسالتها تلك لقد تعمدت أن تقول هذا لكي لا أتكهن أنا بالأمر ...
فقالت : هذا صحيح .
لقد لاحظت الآن البقع على وجنتيه والتي كانت العلامة الوحيدة على الدموع التي ذرفها وكادت غصة الألم تخنقها. وقال : كل هذا قد انتهى يا نيرن لقد أصبح في الماضي وأريد منكِ أن تعلمي أنه كان في الماضي قبل أن أحضر إليك اليوم ذلك أنني بعد عودتي إلى لندن ، شعرت وكأنني تركت جزءاً من نفسي هنا .... في غلينكريغ ، معك ومع كيلتي لم يتملكني مثل هذا الشعور من قبل قط في حياتي حتى ولا مع هازيل . شعرت بأن الحب الكبير الذي غمر قلبي لم يدع مجالاً لأية مرارة سابقة . لقد تمكنت من أن أرى إن ما كان بيني وبين هازيل لم يكن سوى سحابة صيف ... وأنا الآن اعتبره لا أكثر من حلم جميل .. فقد انتهى الكابوس ، آه يا نيرن لقد جعلتك تبكين .. مرة أخرى .
فقالت : إنني لا ... لا أستطيع المقاومة ...
أجابها مهدئاً : ذن فلتكن هذه الدموع .... دموع السعادة .
فأخذت نيرن تشهق باكية إلى ان شعرت بالراحة أخيراً عند ذلك نظرت إلى ستروم بابتسامة مرتجفة وهي تقول : لقد كانت فعلاً دموع السعادة ولكنها كانت أيضاً دموع الحزن . الحزن لأجل هازيل لا بد أنها كانت تراك في كل مرة كانت تنظر فيها إلى كيلتي كم كان هذا مؤلماً لقد أحبت الاثنان .
فقال : لقد سألني هذا الصباح عما إذا كنت أمانع في أن يدعوني باسمي ستروم قال أنه دوماً سيفكر في ان هوغ هو والده كما قال أيضاً انه لن يدع أبوتي له سراً إذ ليس هناك الآن من يتضرر من ذلك .. ثم انه ... ، ومسح عينيه بيده متابعاً قوله : وهو أيضاً فخور بي جداً .
ما أكثر هذه المشاعر التي انطلقت في نهار واحد وعادت الدموع تغرق عيني نيرن مرة أخرى ولكنها هذه المرة ابتسمت من خلالها وهي تهمس : إن فخوره بك ليس بمقدار نصف الفخر الذي ستشعر به أنت نحوه .
وتنحنح شخص ما ، فاستدارا هما الاثنان في نفس اللحظة . كان كيلتي واقفاً عند الباب وقد تساقط شعره الأسود فوق جبينه وانزلقت تنورته السوداء إلى وركيه وكانت الابتسامة واسعة تكسو وجهه وتنير عينيه بينما هو مستند إلى الباب . كان مصوباً نحوهما آلة التصوير.
آه ... ها . وانفجر ضاحكاً .
|