إذا اضطر لذلك!لم يكن غابرييل صبورا بطبعه, إلا أنه تعلم أن الصبر مفتاح النجاح.
شعر غابرييل أن ريانون تحاول تأجيل الموضوع إلى أجل بعيد. لكنها سألت وهي تلهو بصحن السلطة:" ما مساحة الحائط؟".
-ثلاثة أمتار ضرب خمسة تقريبا.
اتسعت عيناها:
-أهو حائط كبير إلى هذا الحد؟.
لاحظ نظرة الاهتمام في عينيها وتابع:" إنه صعب, فهو ليس أملس كما أنه نصف دائري. يمكنني أن أريك إياه بعد الغداء إن شئت".
تناولت حب زيتون أخرى, وراحت تحدق إليها كما لو أنها كرة من الكريستال, فقالت:" حسنا, سألقي نظرة عليه".
قادها غابرييل إلى مبنى آنجل إير, ولاحظت أن مكاتب الشركة تقع في الطابق الثالث, في حين تشغل غيرها من الشركات الطوابق الأخرى من المبنى.
-من هنا.
وأشار غابرييل إلى السلالم حيث يظهر حائط نصف دائري من الاسمنت.
-يقع المصعد الرئيسي وراءه والجهة الثانية زجاجية.
تذكرت هذا الحائط بشكل غامض إذ زارت المبنى من قبل, إنه تحفة هندسية.
سأل غابرييل:" هل يسعك صنع لوحة موزاييك تتناسب وهذا الحائط؟".
حذرته ريانون وقد بان عليها بعض الحماس:
-هذا العمل تحد على صعيدي التصميم والتنفيذ, وعلى الصعيد المالي أيضا.
-ما من مشكلة!.
سألت وهي تصعد السلالم:
-أظنك تفضل الحصول على تصميم متعلق بشركتك, لأنكم تملكون المبنى.
اقتربت من الحائط, ورفعت نظرها إلى الأعلى لتكون فكرة واضحة عن مدى ارتفاعه, ثم مررت يدها عليه تتحسسه.
نظر غابرييل إلى يدها, ثم حدق إلى وجهها كالمسحور.
-هذه فكرة جيدة, و لكنني لا أريد أن تكون اللوحة عبارة عن شعار الشركة.
ابتسمت ريانون:" أرحتني بقولك هذا!"
-ألا يعجبك شعار شركتنا؟.
-لم أقصد هذا, كل ما في الأمر أنني لا أريد تكرار تصميم شخص آخر أو نسخه.
-كنت أفكر في شيء أكثر تفردا وإبداعا.
-سيحتاج هذا إلى بعض الوقت, كما أنني لا أستطيع تخصيص وقتي كله لإتمام العمل.
-قلت لك إنني مستعد للانتظار حتى تتفرغي.
ظهر العزم في عينيه, فجعلتها نظرته الثاقبة تتنفس بشكل غير طبيعي. وخيل إليها أنها تقف على حافة هاوية وليس على أرض متينة صلبة. حصرت تفكيرها بالعمل كي تسيطر قليلا على نفسها, ثم قالت بعد أن استعادت رباطة جأشها:
-علي أن أعمل على هذا المشروع بعد ساعات الدوام الرسمي.
-سيكون هذا أفضل, كما أن أفكارك لن تتشتت بسبب المارة والعاملين في المبنى.
-كما سأحتاج إلى سقالة, لكنها ستحتل بعض المكان.
-حسنا!
نظر إلى الحائط وتابع:
-نستطيع تدبر هذا الأمر. سأتحدث إلى العمال الذين وضعوا السقالة في المبنى المجاور حين بدأوا بهدمه, لعلهم يهتمون بعمل صغير.
-ما اسم الشركة التي تقوم بهدم المبنى؟ أود التحدث إليهم والحصول على إذن باستعمال البلاط المكسور.
دون لها اسم الشركة ثم سألها مشيرا إلى الحائط:" إذا, ما رأيك؟".
ما من سبب منطقي يدفعها إلى رفض اقتراحه, فهذا عمل مريح, وغابرييل مستعد لدفع مبلغ كبير من المال. كما أن فكرة العمل مثيرة للاهتمام, وعرض عملها في مكان يزوره مئات الأشخاص يوميا ليس بفكرة سيئة, إذ ستصبح معروفة, وقد تستقطب بهذه الطريقة زبائنا جددا. وفي حال جنت مالا كافيا من عملها الفني, فقد توظف موظفين جددا في صالة العرض وتخصص المزيد من الوقت لفنها.
حسمت الأمر قائلة:
-إن كنت واثقا من رغبتك في تسليمي هذا العمل, فأنا مستعدة لقبوله.
ابتسم كما لو أنها تسليه:" أنا واثق من أنني أريدك يا ريانون".
بدا صوته منخفضا, فأثار فيها شعورا غريبا بالشك, والاستغراب والدهشة والمرح.
حاولت السيطرة على نفسها:" ألديك أفكار محددة؟"
عض على شفته السفلى, ورفع أحد حاجبيه, ثم قال:
-أتعنين بخصوص التصميم؟ لك الحرية المطلقة, ولكنني سأكون ممتنا لك إذا استشرتني.
-طبعا. سأضع بعض الرسومات الأولية, وأحدد التكاليف, والمهلة التي أحتاج إليها لإتمام العمل.
-سأترقب هذا بفارغ الصبر.
رماها بابتسامة ودودة, ساحرة, فانقطعت أنفاسها لبرهة.
وضعت يدها على الحائط الأملس لتحافظ على توازنها, وهبطت السلالم على مهل, وهي تنظر إلى رجليها.
وقف غابرييل بجانبها, وهو يضع يديه في جيبيه من دون توتر:
-لابد أن القدر جمعنا, الثنائي المثالي!
أوشكت أن تتعثر, فاستدار بسرعة نحوها, ومد يده ليمسك بها. وقف أمامها, وتقابلت أعينهما.
-أنت وحائطي! هل أنت بخير؟.
-نعم!.
لكن قلبها كان يقفز من مكانه.
لم يبتعد بسرعة عنها.
-أنت بأمان معي!.
ابتلعت ريانون ريقها:" لم أكن سأقع!".
ابتسم ابتسامة ساحرة صغيرة:" لا أمانع, كما أنني هنا مستعد للإمساك بك".
-لا أحتاج لأن يمسكني أحد.
بدا صوتها وكأن شيئا ما يخنقها.
-ولا تريدين أن يمسكك أحد.
تحدث غابرييل ببطء وهو يتأمل وجهها.
هزت ريانون رأسها, وهي عاجزة عن الكلام, فق غمرتها أحاسيس جديدة, شيء من الحماسة ممزوج بالخوف وبشعور آخر, غريب تماما عنها.
أحست بدفء في رجليها يضعفهما, دفء يرتفع إلى خديها ويجعل حلقها جافا رطبت شفتيها فتسمرت عينا غابرييل عليها. وازدادت نبضات قلبها سرعة فخالة أنها ستختنق.
قال بصوت يرتجف:" يستحسن بنا أن نخرج من هنا!".
مشى أمامها, فأسرعت الخطى وراءه متجاهلة اليد التي مدها لها حين وصلت إلى آخر السلم.
لم يعلق على الأمر, إلا أن الانزعاج ظهر في عينيه, لم تتجرأ ريانون على التكلم إلى أن خرجا من المبنى مستخدمين بابا جانبيا متخصصا للموظفين.
قال وهو يطفئ جهاز الإنذار:" هذه طريق مختصرة إلى صالة العرض خاصتك".
-لا بد أنك تريد إحضار لوحة الموزاييك من صالة العرض؟.
عندما وصلا, فتحت قفل الباب ووقفت تنظر إليه يحمل لوحة الموزاييك.
قال:" سأعلمك بما يستجد عندما يتسنى لي الوقت لدراسة المشروع الذي عرضته علي".
-ألن تغادري الآن؟
-لدي بعض الأعمال التي علي انجازها هنا.
كانت لا تزال تجهز الغرفة الخلفية لكي تتمكن من تنفيذ أعمالها الفنية فيها.
-أراك لاحقا إذا!.
ابتسم غابرييل ووقفت تراقبه يغادر.
مرت ثواني طويلة قبل أن تتمكن من التوجه إلى الغرفة الخلفية لصالة العرض.
في الأيام القليلة التالية, أوشكت ريانون على الاتصال بغابرييل مرات عدة لتخبره بأنها عاجزة عن تسلم المشروع الذي عرضه عليها.
كانت تشعر بالضعف وهي معه, ولقد أيقنت أنها لن تستطيع الحفاظ على الجدار الواقي الذي بنته حول نفسها طالما أنها بقربه.
إنه الرجل الأول الذي يهدد أمنها.
لم تكن تعلم كيف تتعامل مع بريق عينيه, وبسمته عندما يبدي ملاحظة تحمل معنيين, ويتظاهر بأنه لم ينتبه لارتباكها.
ففي تلك الليلة, عندما رافقها إلى سيارتها بعدما تناولا القهوة والحلوى, و أحنى رأسه باتجاهها, عرفت أنه سيعانقها. وقفت مبهورة, ولم تبد أي تجاوب معه, ولم تشجعه, فعاد ولامس وجنتها بخفة.
وبعد مرور ساعات على فراقهما, خيل إليها أنها لا تزال تشعر بدفء أصابعه على خدها.
إنه انجذاب جسدي, هذا ما قالته لنفسها صباح الثلاثاء, وهي تنحني على أرض مشغلها لتوضب آنية زجاجية داخل علبة. إنه انجذاب جسدي ليس إلا, وهو شعور طبيعي, طبيعي للغاية!
جلست على الأرض مذهولة, متفاجئة من التحليل الذي توصلت إليه ومضت دقائق عدة عليها وهي جالسة على الأرض عاجزة عن الوقوف لشدة ذهولها.
بعد أن أقفلت العلبة, تناولت ملصقا لشركة النقل الجوي, وتلمست الجناحين, شعار الشركة, ثم وضعت الملصق على العلبة بكثير من التأني.
غابرييل, هذا اسم ملاك. لكن غابرييل هادسون رجل, رجل بكل ما للكلمة من معنى.
أدركت ريانون هذا منذ أول لقاء لهما. كان رد فعلها إنذارا لها, لكن عندما اهتم بها بعد أن وقعت, تحول شعور الإنذار إلى مشاعر أخرى لم تعرف لها مثيلا قط, مشاعر غريبة عنها إلى حد أنها لم تعرفها ولم تتمكن من تحديدها.
شعرت بانجذاب نحو غابرييل. لم يكن انجذابا عاطفيا رومانسيا أو افتتانا بحسن معاملته بل انجذابا جسديا أيضا.
أما هو فأظهر لها اهتمامه بوضوح.
تذكرت أنها شعرت بالصدمة عندما قال لها إنه سأل عنها, وبضرورة توخي الحذر. تناولت القلم, إلا أنها انتظرت قليلا ريثما تتوقف يدها عن الارتجاف, ثم عادت ودونت العنوان على ملصق شركة آنجل إير.
كانت مخطئة في تحليل السبب الذي دفعه إلى التحري عنها, فقد أراد غابرييل معرفة ما إذا كانت جديرة بإنجاز عمل فني على حائط مبناه. هذا أمر طبيعي للغاية, ومشروع أيضا. فهي لا تستطيع المضي قدما في حياتها, وهي تشكك في دوافع كل رجل يعترض طريقها.
الخوف سجن. لعل ما يجري معها الآن هو فرصتها للخروج من هذا السجن. فنساء كثيرات في سنها عرفن عددا من الرجال ومن العلاقات العاطفية. وانزلق القلم من يدها. العلاقات العاطفية؟
أحكمت الإمساك بالقلم, و أخذت نفسا عميقا, ثم تابعت تدوين العنوان بإتقان إلى أن سمعت جرس المحل يقرع مشيرا إلى دخول زبون, ثم سمعت صوت بيري يعرض المساعدة.
لم يقل لها غابرييل إنه يريد أن يصبح صديقها. أكانت تفسر ابتسامته الدافئة ونظراته الودودة على هواها؟ أتراها تمنح لتصرفه اللائق أبعادا خيالية؟.
هذا تغيير جذري. وضحكت ضحكة متوترة, فعلى أي حال, لا بد أن غابرييل هادسون يصادف نساء رائعات الجمال. وبالرغم من معرفتها أنها جميلة القد والوجه, إلا أنها لا تعير اهتماما كبيرا لمسألة الإيقاع برجل.
تمتمت:" انتظري على الأقل حتى يطلب منك أن تصبحي صديقته".
ضجت الأفكار في رأسها, وشعرت بنوبة من الخوف تجتاحها. ما زال بإمكانها أن ترفض.
وقفت على مهل, فهي لا تزال تشعر بالقليل من الدوار. النساء الحقيقيات, النساء اللواتي يتحكمن بحياتهن تماما كما تريد أن تفعل, لا يهربن عندما تسنح لهن فرصة جديدة.
لقد أثبتت جدارتها عندما خاضت مجال الأعمال. أثبتت لنفسها عندما استأجرت صالة العرض الجديدة أنها قادرة على العمل وخوض التجارب الجديدة. فأيقنت بأن عليها تطبيق هذا على حياتها الشخصية تماما كما طبقته في حياتها العملية.
كانت صالة العرض مكتظة بالزبائن تلك الليلة. وحين خف الضغط, سمحت لبيري بالمغادرة باكرا, كما تفعل دوما عندما لا يتمكن من أخذ فرصة للغداء.
بعد الساعة الخامسة, دخل زبون واحد إلى صالة العرض وغادر من دون أن يشتري شيئا. نظرت ريانون إلى ساعتها. إنها السادسة إلا عشر دقائق, وما من ضير في الإقفال قبل بضع دقائق من الموعد وفيما أوشكت على إغلاق الباب, وجدت غابرييل أمامها.
سأل بعد أن نظر إلى ساعته:" أتقفلين الآن؟".
توقفت ريانون:" أنا لا أصد زبونا أبدا".
-هل لي بالدخول إذا؟
تراجعت ريانون إلى الخلف وتركت الباب مفتوحا.
-وصلتنا مجموعة جديدة من الأواني الزجاجية صممها فنان من إيرلندا.
بالكاد نظر غابرييل إلى حيث تشير وقال:" في الواقع, أردت التحدث إليك".
ما اكتشفته هذا الصباح جعلها تخشى أن يعرف ما يدور في خلدها.
فسألت بسرعة:" أبخصوص العمل الذي أوكلتني به؟"
سألها بعد صمت دام ثوان:" هل تسنى لك أن تفكري في الموضوع؟"
-ليس بعد, إلا أن لدي بعض الأفكار الأولية.
طبعا لم تفكر في العمل, فكل ما يشغل تفكيرها هو غابرييل وحده.
-لا تدعيني أستعجلك.
-أنت لا تفعل.
-أنا أحاول ذلك.
جال بنظره في أنحاء صالة العرض كمن يبحث عن الإلهام, وأردف:
-هل بعت لوحة موزاييك أخرى؟ فالمكان الذي علقت فيه لوحة الموزاييك قد زين الآن بلوحة غريبة.
-كان اليوم يوما حافلا.
-ألهذا تقفلين باكرا, هل أنت متعبة؟.
-نعم, كما أود أن أزور والدي قبل أن أعود إلى المنزل.
-لن أؤخرك إذا.
-أرغب في التحدث إليك, أريد معرفة رأيك في اللوحة قبل أن أسترسل في أفكاري. لذا هلا انتظرت لحظة.
توجهت إلى الغرفة الخلقية, وعادت وهي تحمل في يدها ورقة, وضعتها على المنضدة بينهما.
-وجدت هذه على الانترنت. إنها صورة للملاك جبرائيل مأخوذة من أيقونة روسية.
رماها بنظرة تساؤل قبل أن يتأمل الصورة:
-قلت إنك لا تحبين النقل عن الآخرين.
-لن أنقل شيئا, بل أريد استخدام الألوان وبعض عناصر هذه الصورة كنقطة انطلاق فحسب.
برز الملاك في الصورة أمام خلفية زرقاء ترمز إلى السماء, وضمن إطار أزرق وقرمزي. كان ثوبه الطويل أخضر داكنا, وقد طرز الكمان باللون الذهبي الفاتح.
نظر غابرييل إليها:" الألوان رائعة, مناسبة ولكن غنية".
-يسرني أنها أعجبتك.
ابتسم لها ولمعت عيناه ببريق أخاذ.
-نعم يعجبني ما أرى ريانون, يعجبني كثيرا.
أخفضت ريانون نظرها وتناولت الرسم.
-إذا, سأبدأ العمل مستعينة بهذا الرسم, ولكن علي أن آخذ المقاييس بدقة قبل أن أمضي قدما في عملي.
-طبعا, متى تريدين أخذ المقاييس؟..
-لا يهم, في أي وقت بعد الدوام, وعلي إحضار سلم أيضا.
-سأتكفل بالأمر, أتحتاجين إلى أي شيء آخر؟.
-لا, سأحضر شريط القياس معي.
-غدا, أم الوقت مبكر جدا؟.
-لا, الوقت ليس مبكرا. لا يسعني العمل هنا, ولكن قد أعرض عليك بعض الرسوم الأولية عندما لا تكون منشغلا.
-سأنتظرك بعد السادسة إذا.
**********
لاقاها غابرييل كما اتفقا أمام الباب الجانبي, فدخلا إلى الردهة سويا وصعدا السلالم الأساسية.
كان أحدهم قد وضع سلما على الحائط. وحين وصلا إليه, قال:
-أأستطيع مساعدتك؟
كانت ريانون قد بدلت ملابسها قبل الخروج من صالة العرض, فارتدت سروالا من الجينز, إذ لم تحب فكرة صعود السلم وهي ترتدي تنورة.
-هلا أمسكت شريط القياس عند طرفه.
حين انتهيا, انحنى غابرييل إلى جانب السلم فيما كانت ريانون تدون القياس الأخير. نظرت مطرقة إلى الحائط وهي تضع قلمها بين أسنانها, فسأل:
-أمن مشكلة؟
-أنا أحسب درجة المنحنى, علي أن أحضر نموذجا كي أرى ما الذي يظهر في مختلف الزوايا.
-هل ستفيدك التصميمات الأساسية للمبنى؟ إنها في مكتبي.
-أحقا؟.
-أظن أنه كان علي التفكير في هذا سابقا, فكل القياسات مدونة عليها.
-كنت سأدقق فيها بنفسي, فالتصاميم تتغير عند البناء, لكنني أرغب برؤيتها على أي حال.
-تعالي إذا.
سألته:" الآن؟".
مال غابرييل برأسه قليلا واقترح بلطف, وقد امتلأت عيناه بتساؤلات عن ترددها:" ما من وقت أفضل من اللحظة الحاضرة".
تسمرت ريانون في مكانها وقالت في نفسها إن البقاء معه في مكتبه لا يختلف البتة عن تواجدها معه هنا في هذه الردهة الفسيحة. وقد تصرف معها منذ وصلت بطريقة مهنية صرف, وهي لا تملك سببا يبرر رفضها الذهاب معه.
سمع دوي قوي وترافق الصوت مع اهتزاز تحت أقدامهما جعلهما يستديران ناحية الصوت. يبدو أن الفريق العامل على هدم المبنى المجاور يعمل حتى ساعة متأخرة.
أكد لها غابرييل وهما يصعدان السلالم:" هذا المبنى مضاد للهزات الأرضية, ولن تؤثر فيه بعض أعمال الهدم. هل حصلت على أي بلاط منهم؟".
-اتصلت بالمدير, لا يريد أن يقترب أحد من موقع البناء إلا أنهم أعطوني بضع قطع انتشلوها من بين الأنقاض.
بعد أن مرا في صالة استقبال فسيحة, أرشدها غابرييل إلى مكتبه, فإذا به غرفة كبيرة مزينة باللونين البني و البيج مع بعض لمسات من اللون الذهبي القاتم, يتوسطها مكتب عليه كومبيوتر محمول فوق رزمة من الأوراق .
تذكرت مكتبها, وصالة عملها, والمخزن الذي بدا فسيحا للغاية عندما استأجرت المكان الجديد.
سأل غابرييل:" أثمة ما يضحكك؟".
لم تدرك أن ابتسامتها بادية على وجهها.
-كنت أتأمل مكتبك ليس إلا.
-يعجبني, إنه عملي ومنظم.
نعم وأنيق للغاية أيضا. مشيا فوق سجادة سميكة, واتجها إلى أريكتين مريحتين وضعتا بشكل زاويتين وتتوسطهما طاولة مربعة.
وعوضا عن الجلوس كما طلب منها, جالت بنظرها في أرجاء المكان.
-لابد أنك اخترت مصمم ديكور ممتازا.
-لا أوظف أشخاصا لا يتقنون عملهم.
-أعلي أن أشعر بالفخر؟.
ابتسم غابرييل:
-ما من فخر في اختيار الأفضل لأداء العمل بالطريقة الفضلى.
-آمل ألا أخيب ظنك!.
-أنا على ثقة بأنك لن تخيبي أملي يا ريانون.
نظر إليها نظرة سريعة وسأل:
-أترغبين ببعض القهوة؟
-شكرا لك.
واتجه نحو الآلة لتحضير القهوة موضوعة جانبا في المكتب.
نظرت إلى الحائط فرأت عددا من تصاميم المبنى موضوعة في إطارات. بالإضافة إلى صور ومجموعات من الناس. وفي الممر المواجه للمكتب, رأت لوحة الموزاييك التي اشتراها غابرييل منها.
-ظننتك ستعلق هذه اللوحة في منزلك.
استدار غابرييل نحوها وقال:" أقضي معظم ساعات اليوم هنا".
تناول مجموعة من تصاميم البناء وسواها قبل أن يضعها على الطاولة.
-ستساعدك واحدة من تصاميم البناء هذه حتما.
بعد أن جلست, عاد بكوبين ساخنين من القهوة, وجلس قبالتها على الكنبة الأخرى ينظر إليها بطرف عينه.
ارتشفت ريانون القليل من القهوة وانحنت إلى الأمام لدراسة تصاميم البناء.
ساعدها لتقارن التصميم بالقياسات التي أخذتها, ثم لفا التصاميم. وسأل:
-هل تشعرين بالانزعاج إذا شاهدتك تعملين أحيانا؟ أرغب بمتابعة تقدم العمل عن كثب.
سيزعجها هذا الأمر, لكن عدم رؤيته لأيام لم يمنعها من التفكير فيه بحثا عن الراحة أحيانا. لعل الألفة تولد الرضى, أو شيئا آخر!
كذبت:
-لا, لن يزعجني هذا, فأنت من يدفع ثمن هذا العمل.
لذا لا تستطيع رفض طلبه!!!.
وخطر لها أنه سيسأم بسرعة, فالأمر أشبه بانتظار الطلاء إلى أن يجف.
تناول ممحاة وراح يمررها على الأوراق الملفوفة.
-ألديك فكرة تقريبية عن التكاليف؟.
-بعد أن أخذت القياسات الصحيحة, قد أمكن من وضع كشف حساب لكن الكلفة لن تكون بخسة. كما قد أحتاج إلى شراء بلاط جديد للحصول على الألوان التي أريد عوضا عن الاتكال على ما أجده من بلاط مستعمل.
-لا تهمني الأمور الرخيصة الثمن.
تراجع إلى الخلف وتابع: " لطالما دفعت ما يلزم لأحصل على ما أريد".
بدا مسترخيا. وقد وضع يدا على الكنبة والأخرى بجانبه, إلا أن بريقا ظهر في عينيه, فراح قلبها ينبض بسرعة وقالت:" فلنفرض أنني رفعت السعر؟".
ضاقت عيناه وقطب جبينه:" أنا لست غبيا يا ريانون, كما أنك لن تخدعيني".
لقد استعلم عن خبرتها العلمية. فهل تحقق من أخلاقها أيضا؟ أو لعله يوجه لها إنذارا! ومن دون أن تفكر في الموضوع أكثر, سألته:" هل تثق بي؟".
مرت لحظات قبل أن يجيب:" نعم, وأنت هل تثقين بي؟".
رفت عينا ريانون وارتشفت القليل من القهوة لإخفاء ارتباكها, ثم قالت:" أثق بأنك ستدفع لي أتعابي, فشركة آنجل إير تتمتع بسمعة طيبة".
راقبت حركة شفتيه, فلم تر أي ابتسامة. وبدت عيناه باردتين.
-هذا ليس ما عنيته, بل قصدت على الصعيد الشخصي.
فاجأها كلامه, لا بل صعقها. حاولت جاهدة التوصل إلى جواب, لكنها لم ما تقول سوى:" هل من صعيد شخصي بيننا؟".
-أود لو يكون, ظننتك تعرفين.
نظرت إليه محدقة, وقد تأثرت بتعابير وجهه وبرغبته باستفزازها للتطرق إلى الموضوع. فتح فمه قليلا, وارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة, لا بل دعوة.
ارتعبت, وسألت بعد أن رفعت ذقنها إلى الأعلى:
-أتعني أن عرض العمل مرتبط بالاتفاق بيننا؟
مرت لحظات لم يتفاعل فيها مع كلامها, ثم ضاق فمه واستحالت بشرته شاحبة, ووقف بسرعة فخافت وتراجعت إلى الوراء لكن وبدلا من التوجه نحوها, خطا بضع خطوات بعيدا, ثم استدار نحو مكتبه وهو يضع يديه في جيبيه.
-لم أعتد ابتزاز النساء.
بالرغم من حفاظه على رباطة جأشه, ظهر عليه الغضب وتابع:
-سبق أن اتخذت قراري فيما يختص بالموزاييك وأنوي الالتزام به طالما لا تطالبيني بسعر خيالي.
رماها بنظرة حادة, كما لو أنه يتحداها لاستخدام الكلفة كذريعة للابتعاد عنه, وأردف:" إن شئت يمكننا أن نوقع عقدا".
اتجه إلى الجهة المقابلة من المكتب, وفتح درجا وتناول منه ورقة وقلما.
وضعت ريانون كوب القهوة جانبا ووقفت.
-هذا ليس ضروريا, قلت لك إني سأقدم لك كشف حساب أولا.
للحظة لم يتحرك, وبقي مسمرا على الأوراق الموضوعة أمامه ثم نظر إلى الأعلى وقال:" كما تشائين!"
تلاقت أعينهما, فابتعدت عن طاولة القهوة وراحت تمشي في أنحاء المكتب.
-أعتذر.
بعد لحظات, لانت ملامحه ورقت:" اعتذارك مقبول, ما كان علي أن أفاجئك هكذا. فأنا لا أتصرف بهذه الطريقة عادة. إنني أخرق جدا".
-لست بأخرق.
إنه ليس أخرق بل رجل ذكي كما أدركت أنه يفوقها خبرة بأشواط في مجال الحياة العاطفية.
رفع أحد حاجبيه:
-شكرا لك, سأحاول أن أتذكر هذا في المستقبل. اسمعي ريانون, أحب التواجد برفقتك أكثر, والتعرف إليك, ولكن إن كان شعورك مغايرا.
تستطيع أن تصده وسيتركها وشأنها... أليس كذلك؟.
يا للدهشة! إذ أثارت فكرة خروجه من حياتها انقباضا في معدتها. ففي أعماقها, كانت تعلم أنها برفضها ستفوت على نفسها فرصة لا تعوض.
تدخل غابرييل بعد أن طال الصمت:
-إن كنت تعتبرينني شخصا بغيضا, فالوقت ملائم الآن لقول هذا.
ابتسمت ريانون بجرأة أكبر
-أنا لا أعتبرك شخصا بغيضا.
استرخت تعابير وجهه:
-أحقا؟.
استدار حول المكتب ووقف أمامه, ثم استند إليه, وكتف يديه وسأل:
-إذا, ما المشكلة يا ريانون؟.
نظرت إلى أحد التصاميم المعلقة على الحائط.
-أنا لست ناجحة في العلاقات العاطفية.
-هل مررت بتجربة سيئة؟ أكثر من تجربة سيئة؟.
أجبرت نفسها على النظر إليه, من باب اللياقة وحسب:
-أنا . . . لست مهتمة كثيرا بالرجال.
نظر غابرييل إليها والشك يملأ عينيه: " أنت شابة جميلة, لا بد أن رجالا كثر دخلوا حياتك. . . أو على الأقل حاولوا أن يكونوا جزءا من حياتك".
هزت ريانون كتفيها.
-كنت أؤسس عملا. لم يتسنى لي الوقت للقيام بأي شيء آخر.
قطب من جديد.
-إذا, هل أنت مهتمة بي؟.
حان وقت الحقيقة. شعرت ريانون بوجهها يشحب, وبوجنتيها تبردان. أحست بدوار, وأيقنت أن هذا الشعور ينتابها كلما تواجدت بقرب غابرييل هادسون. وأخيرا اعترفت:" أنت... تعجبني".
-أعجبك؟.
رفع حاجبيه ثم ضحك.
لابد أنها بدت ساذجة للغاية, لكنه لا يعلم مدى صعوبة هذا الأمر عليها. رفعت ذقنها, وحدقت إليه متحدية. فتوقف عن الضحك وتسمرت عيناه على وجهها, ثم مد يده نحوها ودعاها:
-اقتربي قليلا!.
ابتلعت ريانون ريقها بصعوبة, واتسعت عيناها, وارتجفت شفتاها. كان يطلب منها أن تقوم بالخطوة الأولى. وبعد لحظة تردد, خطت الخطوة الأولى ببطء, وحذر, كما لو أنها تسير على حافة واد سحيق حيث ستودي أي زلة, مهما كانت صغيرة, بحياتها.
بعد أن خطت خطوتين, مدت يدها ولمست يده, فأطبقت أصابعه القوية على يدها. وعوضا عن الشعور بالخوف, غمرها إحساس بالأمان والدفء, شعور جعلها تهتز من الداخل.
توقعت أن يضمها بين ذراعيه, ولكنه فاجأها من جديد, حيث رفع يدها ببطء, وأحنى رأسه ليطبع قبلة ناعمة عليها.
اجتاحتها موجة من الدفء وشعرت برعشة قوية. رفع غابرييل رأسه, ونظر إليها فتسارعت نبضات قلبها. أمسك بيدها الثانية, وشدها نحوه بهدوء إلى أن التصقت به. شعرت يدفئه وحرارة جسمه. حاولت التنفس بهدوء, لكنها عجزت عن ذلك, ولم تتجرأ على النظر إليه, بل سمرت نظرها على الستائر خلفه.
-ريانون؟.
شعرت بأن عينيها ستغمضان, إلا أنها أرغمت نفسها على النظر إليه. نظرت إليه عن كثب إلى حد أنها رأت انعكاسها في بؤبؤي عينيه.
قال مجددا:" ريانون؟ أتريدين أن أعانقك؟".
تلاشى الحذر, وباتت الآن هادئة, واثقة بشكل غريب.
وضعت رأسها قرب قلبه وهمست:" نعم".
☺☻☺☻☺☻☺