رأت نظرة التساؤل في عينيه مجددا, وبذلت جهدا كبيرا كيلا تشيح بنظرها.
-وعرض جدي, باركه الله, أن يكفلني لأحصل على القرض من المصرف.
إذا, فهو متعلق بجده!لعل الأمر ساعده عند انفصال والديه.
تناول قطعة حلوى, وأردف مطرقا:" لقد رحل جدي الآن. كان يملك كرة أرضية كبيرة في صالة الجلوس, وقد شرح لي مبدأ السفر حول العالم والانطلاق من نقطة ما والعودة إليها".
-كم كان عمرك حينذاك؟.
-حوالي خمس سنوات. ومنذ ذلك الحين, أتذكره كلما رأيت كرة أرضية. ولعله السبب في اختياري النقل الجوي.
رفع فنجان القهوة إلى شفتيه, فحدقت إلى عنقه وراقبت نزول القهوة في حلقه, ثم راقبته مأخوذة حتى أخفض الفنجان من يده, فركزت انتباهها بسرعة على صحنها وعلقت:
-لم يكن سهلا عندما بدأت, أليس كذلك؟.
-كان تحديا.
وراح يقص عليها قصة مهنته, وكيف انطلق بالعمل, والعقبات التي واجهها, وكيف صار النجاح حليفه. شعرت باندهاش لحماسته وأسرها حديثه.
توقف عن الكلام:
-أظنك ما كنت تريدين معرفة هذا القدر من المعلومات.
-إن كلامك مثير للاهتمام.
رفع حاجبيه ولوى شفتيه قليلا:" أهذا ما يثير اهتمامك؟ الحديث عن الأعمال؟".
ارتبكت ريانون لهذا التلميح فضحكت عيناه, فيما علا الاحمرار وجنتيها.
شعر بالتسلية, فقال:" أعتبر التزحلق على الجليد, والهبوط بالمظلة والقفز من الطائرة نشاطات مثيرة للاهتمام, لكن الكلام عن الأعمال لا يندرج حتما في هذه الفئة".
وهز رأسه ثم أضاف:" أنت لا تعرفين معنى الحياة يا صغيرتي".
شددت ريانون على الكلمة الأخيرة:" أنا لست بطفلة صغيرة!".
ذكرها:" أنا أكبر منك بتسع سنوات".
-نعم, يا جدي!!!
وبخها مازحا:" وأنا لست بجدك أيضا".
ارتشفت ريانون رشفة كبيرة من قهوتها. لا, إنه لا يبدو جدا!
-هل مارست ما تحدثت عنه؟ أعني التزحلق على الجليد, والهبوط بالمظلة, والقفز من الطائرة...
-وغيرها!
بدا أنه يحاول ألا يضحك. تسمرت ريانون بفعل نظرته الثاقبة وتحديه الواضح, وباتت عاجزة عن التنفس. إلا أنها لم تخف.
لم يضغط عليها أكثر, وقد سرت بذلك, فهذا جديد عليها ويجب ألا تستعجل الأمور. لم يقل المزيد إلى أن أنهى قطعة الكاتو, ورجع إلى الوراء ينتظر ريثما تنهي صحنها ثم سأل:
-ماذا فعلت بقطع البلاط تلك؟.
أخبرت9 عن طلبية الكنيسة, وأجابت عن أسئلته عن الأدوات والتقنيات المستخدمة في صنع الموزاييك. وحين ذكرت أنها تستخدم بلاط ألابنيه التي تهدم, قال:
-المبنى المجاور لي يهدم الآن.
-أحقا؟
مضى وقت طويل لم تذهب فيه إلى تلك المنطقة.
فقال وهو يبعد فنجان القهوة الفارغ:" ربما عليك الذهاب إلى هناك علك تجدين ما يثير اهتمامك. هل تريدين فنجانا آخر من القهوة؟".
رفضت, فهي لا ترغب بمزيد من القهوة, لكنها لا تريد المغادرة أيضا, وقد دهشت لهذا, وأيقنت أنها تمضي وقتا ممتعا. إلا أنهما لا يستطيعان قضاء الليل بطوله في هذا المكان فحملت حقيبتها وارتدت سترتها.
-شكرا على دعوتك, كان هذا لطفا منك.
فيما هما في المطعم, انهمر المطر. وما إن خرجا من المطعم حتى شعرا بالأرض الرطبة, وكان البخار يتصاعد فليلا من الإسفلت الدافئ بسبب أشعة الشمس في النهار.
قال غابرييل, وهو يضع يده خلف ظهرها:" حذار, قد تكون الأرض زلقة! هل سيارتك مركونة في الموقف؟".
نعم, ولكن لا داعي لمرافقتي.
-أنا ذاهب لإحضار سيارتي, كما أنني لن أتركك بمفردك في الشارع ليلا.
كانت تشعر بيده خلف ظهرها, ولم يزعجها هذا, كما لم تبتعد عنه إلى أن وصلت إلى سيارتها, وأطفأت جهاز الإنذار. وقبل أن تصعد إلى السيارة, استوقفها وأدارها نحوه, وجال بنظره على وجهها. أحست بانقباض في معدتها لم تعهده من قبل, وعجزت عن الحراك فتسمرت في مكانها تصارع شعورا من القلق والفضول. قطب غابرييل حاجبيه, ثم لامس خدها بخفة:
-عمت مساءا ريانون.
فتح لها باب السيارة وتراجع إلى الخلف بعد أن أدارت المحرك وقف ينظر إليها تختفي وهو لا يزال يشعر بحرارة جسمها على يده وبدأ يتخيل ملمس بشرتها الناعمة.
لقد بذل الكثير من الجهد لئلا يقربها منه ويعانقها. شعر بارتجافتها الصغيرة حين وضع يده على ظهرها, ما منعه من التصرف بجسارة أكبر. فلو كان برفقة امرأة أخرى, لأدرك أن هذا الارتجاف دليل على الرغبة, ولكن ليس مع ريانون...
لقد بدت جامدة جدا وباردة منذ دخل إلى صالة العرض.
اتجه إلى المصعد, وضغط على الزر.
تبا, لقد بدت باردة, باردة للغاية! باردة وخدرة. لم تفصح عن الكثير إلا حين أبدى تلك الملاحظة المستترة, فاحمرت وجنتاها كفتاة مراهقة.
هل البرودة غطاء وواجهة؟ واجهة لتخفي ماذا؟ الخوف! نعم الخوف.
ما كان ليشتبه بالأمر لو لم يفاجئها في لقائهما الأول, وقد بدت مرتعبة عندما عرض عليها المساعدة بشكل بريء خال من أي نية سيئة لم تستطع تمالك نفسها, وقد تجردت من سلاحها فورا. فتح باب المصعد, وفي الداخل, رأى فتاة جميلة ابتسمت له ابتسامه عريضة وهو يضغط على الزر. شعر بنظراتها تراقبه إلا أنه لم يبادلها النظر.
حين تواجد مع ريانون في الوضع نفسه, تراجعت تلك الأخيرة ووقفت في الزاوية.
أما المرأة التي شاركها المصعد الآن. فتقدمت حين توقف المصعد ورمته بنظرة إعجاب وخرجت, كان لديه متسع من الوقت ليتبعها قبل أن يقفل المصعد أبوابه إلا أنه لم يفعل.
في صالة العرض, بدت ريانون واثقة تماما من نفسها, إلا أنها تغيرت كليا حين اقترب غابرييل منها, بالرغم من محاولتها الحفاظ على هدوئها بارتدائها قناعا تختبئ خلفه.
سقط القناع حين تحدثت عن عملها, إلا أنها عادت ولبسته كلما لمح إلى أمر يتعلق بالمشاعر والأحاسيس. بدا وكأنها لا تجيد التعامل مع هذه المواقف.
فتح باب المصعد وخرج منه ثم ابتسم من دون أن يعي السبب. لعله يستطيع أن يلقنها الغزل.
شكل شراء اللوحة حجة اغتنمها غابرييل ليزور صالة العرض في نهار السبت قبل إقفال الأبواب بعشر دقائق.
وجد ريانون واقفة وراء الصندوق, تدقق في دفتر موضوع أمامها.
-مرحبا!
نظرت إلى الأعلى وتسمرت عيناها عليه للحظات, ثم ابتسمت بتردد:
-أهلا!
ونظر إلى لوحة الموزاييك ورأى عليها ملصقا أحمر.
-لقد تذكرت.
حاولت ريانون تمالك أعصابها, والظهور بمظهر شخص محترف.
-كنت سأتصل بك يوم الاثنين لأسألك إن كنت تريد أن نوصل اللوحة إليك.
-سآخذها بنفسي.
-الآن؟ طبعا.
سمعت صوت جرس الباب, فالتفتت وإذا بثنائي ياباني متوسط العمر يدخل. عندئذ, استدارت إلى الباب المفتوح جزئيا خلف الصندوق ونادت:" بيري؟".
ظهر شاب عريض الكتفين, بشرته داكنة ناعمة, وعيناه واسعتان سوداوان, وشعره مربوط إلى الخلف. كان يرتدي قميصا ضيقا. يبرز عضلاته, وسروالا من الجلد بنفسجي اللون. رمى ريانون بنظرة ساحرة وسأل:" نعم, سيدتي؟".
-سيشتري السيد هادسون لوحة الموزاييك تلك, فهلا وضبتها له من فضلك؟
-طبعا!.
تقدم بيري من اللوحة وحملها بسهولة وحذر, ثم اتجه من جديد إلى الباب الذي خرج منه.
تنحنحت ريانون ثم نظرت إلى غابرييل فرأته مقطب الجبين, وسألت:
-كيف تريد أن تسدد ثمن اللوحة؟.
مد يده إلى محفظته ليخرج بطاقة اعتماده, وقد شعر بالانزعاج لأنها تعامله كشخص غريب. كما أن رؤية بيري أزعجته قليلا أيضا. فحين تحدثت ريانون عن مساعد في صالة العرض, توقع أن يرى رجلا مسنا, وليس شابا مفتول العضلات, يفعل كل ما بوسعه ليظهر مفاتنه.
وراحت أفكار غريبة تدور في خلده, إن كانت لا تمانع في رؤية هذا الشاب يوميا, فهي حتما لا تخجل من الرجال.
لعلها تخجل من بعض الرجال فحسب, منه على سبيل المثال.
رآها تحمل بطاقة الاعتماد لإتمام عملية البيع, وقد أحنت رأسها قليلا, ثم تذكر أنها قالت له إنها ليست مرتبطة.
كان الثنائي الياباني يتجادل حول إناء خشبي يحملانه, ويدققان فيه. أعادت ريانون بطاقة الاعتماد إلى غابرييل, وقالت:" لن يتأخر بيري في إحضار اللوحة".
ثم اتجهت نحو الثنائي الياباني.
لف بيري لوحة الموزاييك وأحسن توضبيها.
-تفضل يا رجل! أعني يا سيدي!
رمى ريانون بنظرة مرح إلا أنها كانت تركز على السائحين, فهما لا يجيدان الانكليزية.
-أتريدني أن أوصل اللوحة إلى سيارتك؟.
-لا, شكرا, دعها هنا. فأنا أنتظر لأتحدث إلى ربة عملك.
جاء رد غابرييل مختصرا وحازما فهو لا ينوي أن يمشي برفقة كتلة العضلات هذه في الشارع.
-طبعا.
وضع بيري اللوحة أسفل الصندوق ونظر إليه نظرة حادة.
قرر الثنائي شراء الإناء الخشبي, وفيما كانا يقتربان من الصندوق ليسددا ثمنه طلبت ريانون من بيري توضيب الإناء في علبه وتحضيره للشحن.
حمل بيري الإناء إلى الغرفة الخلفية ليوضبه, فوقفت ريانون بهدوء تنتظر ريثما يعطيها الزوجان العنوان. وبقي غابرييل واقفا في مكانه.
بعد رحيل الثنائي, استدارت ريانون إلى غابرييل وسألته مشيرة إلى اللوحة:
-هل سيوصل بيري لوحتك إلى السيارة؟.
واستدارت لتنادي بيري, لكن غابرييل مد يده ليمسكها ثم انتبه فأسدل يده وقال:
-لا أحتاج بيري.
وصمت لبرهة, ثم أردف:" هل تناولت الطعام؟"
-غالبا ما يكون المعرض مكتظا يوم السبت, لذا لا أتناول الطعام حتى أعود إلى المنزل.
-إذن تناولي الطعام معي!
-لم؟.
ألا تعرف معنى الخروج في موعد؟ رفع حاجبه, وبدت ريانون مرتبكة وهي تعض شفتها السفلى, وقد احمرت وجنتاها.
عندئذ, انتقل غابرييل إلى الخطة البديلة.
-أريد أن أتحدث إليك بخصوص بعض الأعمال!.
اتسعت عيناها:" أي نوع من الأعمال؟".
-اسمحي لي أن أدعوك لتناول غداء متأخر, وسأخبرك بذلك.
أخفضت ناظريها, فرأى قميصها يهتز وهي تأخذ نفسا عميقا. ثم رفعت رأسها والتقت أعينهما و أجابت:" حسنا".
لم يكن غابرييل مستعدا للحظة الانتصار هذه, ولشدة فرحه, تمنى لو يضمها إلى صدرها بكل حنان وحب. إلا أنه أومأ وقال:" يمكننا أن ننصرف متى شئت".
اختار طاولة تظللها شمسية وقد سرت ريانون لأنهما جلسا خارجا.
وفيما كانت تتناول السلطة, وغابرييل يأكل الدجاج المحمر, سألها:
-منذ متى يعمل لديك بيري؟
-منذ أن انتقلت إلى صالة العرض الجديدة. لقد بعت بعض أعماله في السنتين الماضيتين وكان يحضر لمساعدتي في فترة عيد الميلاد:
-أهو نحات؟.
-علمه عمه فن النحت النيوزيلندي, إلا أنه مهتم بشكل خاص بالمزج بين هذا الفن والفن الحديث. عمله هذا لا يدر عليه ما يكفي من المال ليقتات, وبما أنني كنت أحتاج إلى مساعد عندما انتقلت إلى هنا عرضت عليه الوظيفة.
فرح بيري كثيرا بعرض العمل الذي قدمته له ريانون, وهي لم تندم يوما على ما فعلته.
جاءت نظرات غابرييل حادة, ثاقبة.
-أراهن على أنه مفيد لصالة العرض.
-إنه متوقد الذكاء وقوي البنية.
بعض الأعمال الفنية المعروضة في صالة العرض ثقيلة ودقيقة جدا كاللوحة التي اختارها غابرييل, لذا ترتاح ريانون لوجود بيري للمساعدة, فأردفت:
-وقد نال شهادة في الفنون.
أومأ غابرييل وتناول حبة بطاطا. من جهتها, تناولت ريانون قطعة زيتون أسود ووضعت البذرة في جوار الصحن بتأن:
-ما هو العمل الذي أردت أن تحدثني عنه؟
عندئذ, تذكر أنه دعاها لغداء عمل قال:
-ثمة حائط إسمنتي فارغ في مبنى ((آنجل إير)).
في الواقع, أصبح هذا الحائط فارغا منذ الأمس فقط حين قرر أن السجادة الموضوعة عليه قديمة الطراز ومليئة بالغبار, وأمر بنزعها. وتابع:
-يحتاج هذا الحائط إلى عمل فني لتزيينه, كلوحة موزاييك على سبيل المثال.
لو ظن أنها ستقفز فرحا لمجرد أنه عرض عليها تزيين حائط في شركته, فهو مخطئ تماما.
بدت هادئة جدا, وتناولت بشوكتها حبة زيتون أخرى, وسألت:" لم أنا؟".
لأنني عاجز عن إبعادك عن فكري!
لأنه يريد أن يتعرف إليها عن كثب, وأن يتأكد من أنها لن تفلت منه بسهولة فيما يزيل القناع الذي تضعه أمام الناس, ليكتشف جوهرها. لأنه يريد أن يضمن عدم هروبها منه إذا عرفت كم يرغب في التعرف إليها, التعرف إلى كل جزء منها, بكل ما للكلمة من معنى.
لأن سحره الذي لا يقاوم لم ينجح مع هذه المرأة. قال:" أحب عملك!".
بدت مشككة.
-أتريد أن تقوم فنانة غير معروفة بهذا العمل؟.
-لقد عرفت الكثير عنك, و...
-ماذا؟.
أخفضت الشوكة من يدها, واستحال وجهها شاحبا, ثم سألت:
-كيف؟.
رد عليها, وهو ينظر إلى عينيها اللامعتين:" سألت عنك في الوسط الفني".
ارتاب من رد فعلها, لذا لم يخبرها عن عدد الأشخاص الذين سألهم عنها.
-قالوا إنك فنانة واعدة, ومن الممتع رؤية أعمالك.
هذه هي المعلومات التي تمكن من معرفتها.
بدت متفاجئة, وعاد اللون إلى وجهها تدريجيا. نظرت إلى صحن السلطة وأبعدت قطع الخس.
-ألا تفضل أن يعمل لديك شخص ذائع الصيت؟.
-أشعر بسرور أكبر عندما أدعم فنانا ناشئا.
ابتسم وتابع:" وهكذا عندما تصبحين معروفة, يسعني أن أقول إنني كنت من أوائل الذين تنبهوا إلى موهبتك".
-وماذا لو لم أصبح مشهورة أبدا؟.
-ألا تعتقدين أنك ستصبحين مشهورة يوما؟.
-لم أفكر يوما في هذا, فأنا أستمتع بالقيام بعملي الآن.
قالت له إنها ليست طموحة بالرغم من نجاحها النسبي. ترى ما الذي يسيرها؟ أهو حبها للفن أم حاجتها إلى المال؟ لعله قادر على الاستفادة من هذه النقطة الأخيرة.
-هل ستفكرين في اقتراحي؟ أنا مستعد لأن أدفع لك مبلغا كبيرا من المال.
-لا أملك الكثير من الوقت حاليا مع افتتاح صالة العرض الجديدة. كما يتوجب علي إنها العمل الذي أقوم به حاليا.
بدت صعبة المنال.
-أنا مستعد للانتظار.