كاتب الموضوع :
Rehana
المنتدى :
روايات احلام المكتوبة
5_ رجل كان هناك
خلال الأسبوع التالي، قامت إيبرل بإنهاء كل العقود السابقة مع زبائنها وأبدى جميعهم الأسف لفقدانها. وأمضت الأمسيات توضب
حاجياتها في صناديق كرتونية. وكان برنس ملازماً لها، يدخل ويخرج من بين ساقيها وهي تعمل، يتفحص كل صندوق مفتوح، بحثاً
عن إمكانية وجود حشرة حية.
منتديات ليلاس
السيدة بوكستر لم تكن تتوقع أن تبدأ إيبرل العمل قبل الاثنين المقبل، ورحبت إيبرل بالأيام الفاصلة كي لا تواجه غرايغ.خلال عودتها
ومات من العشاء ليلة الاثنين الفائت. أبدى الأخير ذهوله للطريقة التي هاجمت فيها ريبيكا ماونتن.
_ لم أرك من قبل تنفجرين بأحد هكذا.. وهذا ما أظهر لي جانباً جديداً من شخصيتك.ردت بعنف: لقد استحقت هذا! إنها المرة الثانية
التي ألتقي بها، وأهانتني أربع مرات؟
_ لكن ما همك أنت بما تظن بك؟
_ أنا لا أهتم أبداً بظنونها! لكن يصبح الأمر مزعجاً جدا حين لا تستطيع امرأة في مثل سنها أن تقتنع بأن عملي ليس حكراً على جنس
معين.. ثم لماذا يجب أن أبقى مذعنة وأسمح لأي شخص بأن يهينني؟ قال مات بلهجة ارتياب: حسناً.. أعتقد أنك على حق..لكن مما
عرفته عنك، وإذا كنت لاتمانعين قولي هذا، تساءلت ماإذا كنت غيورة منها. صاحت:أنا لست غيورة! ماهذه الفكرة السخيفة؟
اختلس مات نظرة جانبية إلى وجهها الغاضب وقال ملاطفاً: هذاجيد.. لأنني لا أتمنى لأي صديقة لي أن يميل قلبها نحو غرايغ
بوكستر. فحسب قول الشائعات، إنه ليس من النوع الذي يتزوج. ردت إيبرل بفظاظة:
_ بإمكانك إراحة بالك حول قلبي مات.. لن يهمني أبداً ماإذا كان غرايغ بوكستر يهوي كل نساء كاليفورنيا.. لكنها فكرت في سرها
بحزن أن مات لم يعد محقاً في قوله.. قد يكون غرايغ رجلاً عابثا في الأيام السابقة ، لكن أمه أخبرت إيبرل بصراحة أنه يفكر ًكثيراً
بالزواج.. وهي تتذكر عناقه لها يوم الاثنين الماضي.. أحست برعشة..لكن ذلك العناق لم يكن يعني شيئاً .
كان مجرد فعل من رجل اعتاد أن يتذوق رحيق كل زهرة يصادفها. في الواقع لن يستطيع التخلي عن عادته القديمة حتى بعد زواجه
من ريبيكا .. إيبرل تعرف أن الكثير من الرجال لايحترمون قسم زواجهم، وقد يبرهن غرايغ بوكستر أنه واحد من هؤلاء .. أجل..إنها
متأكدة أنها ستكون أفضل حالاً بكثير من دونه.
خلال توضيبها لأغراضها، اكتشفت إيبرل أن الانتقال من سكن إلى آخر هو أفضل وقت للتخلص من الأشياء الغير ضرورية.
أخرجت من خزانتها وأدراجها أغراضاً من ثياب قديمة لاتتناسب مع الموضة، ولم ترتدها منذ سنوات، وهي الآن ستُرمى كلها .. في
الدرج الأسفل،وجدت الفستان الصيني الطراز الذي أهداه إيان لها يوم حفلة التخرج، والذي اشتراه أثناء رحلته إلى البلدة الصينية في
فرانسيسكو..مع أنه كان يعجبها بجنون، إلاأن حياتها البسيطة لم تعطها الفرصة يوماً لارتدائه.. كان مصنوعاً من حرير طبيعي بلون
الخوخ، مفصلاً على الطريقة الصينية.
فكرت بإيان وهي تعيد لفه بالأوراق بكل حذر، وأملت أنه سيوافق على هذا التفيير في حياتها. حين استيقظت إيبرل صباح السبت..
أحست بارتياح لرؤية الطقس جافاً وبارداً ، طقس ممتاز للانتقال. وصل مات في الثامنة، ومعه شاحنة صغيرة استعارها من صديق
له. وسارعت تساعد مات على حمل ما تستطيع من أغراض : عدة مصابيح، جهاز الستيريو، وخزانة من خشب الجوز، ماكنة
الخياطة، التلفزيون، وكرسي هزاز أثري جميل كان لأمها، وكانت تهدهدها فيه وهي طفلة.
وضبت معظم الأغراض في صناديق، وفي وقت مبكر من الظهر كانت جميعها محمولة في الشاحنة.. وأمن مات مظلة الشاحنة، ثم
عاد إلى الشقة الفارغة ليساعد إيبرل على تنظيفها.. نظرت إيبرل إلى الفراغ حولها، وأحست بالدموع تلسع عينيها. مسحتها، وتقدمت
نحو الجدار الزجاجي تستند إليه وتنظر إلى حديقتها الصغيرة الغالية.
تقدم مات خلفها ووضع ذراعه حول كتفيها:
_ كنت سعيدة هنا.. أليس كذلك؟ تنهدت: كان المكان الأول الذي اعتبرته ملكاً لي .. وهذه الحديقة هي آخر صلة بي مع إيان . وبخها
بلطف وقال: والآن إيبرل ..! ستبقين دائماً على صلة بإيان طالما أنه موجود في أفكارك.. التغيير صعب دائماً.. حتى وإيان كان تغييراً
مفيدا..أليس كذلك؟ هزت رأسها دون كلام واستدارت تبتسم له دامعة. لأخذت نفساً عميقاً، ثم قالت:
_ حسن جداً ياصديقي.. هيا بنا إليهم! بوكستر احذروا..ها قد جاءتكم إيبرل ساوندرز!
ضحكا معاً ثم لاحقا برنس المتردد فجأة،وحشراه أخيراً في زاوية المطبخ.. وبينما كان مات يقفل النوافذ والأبواب راحت إيبرل تدخل
القط قي صندوقه الكرتوني الكريه عليه ووضعته وسط مقعد الشاحنة.. ثم سلمت المفاتيح إلى السيد واتسون وودعته، وماهي إلا
لحظات حتى كانا منطلقين عبر شوارع المدينة نحو الطريق العريضة التي تقود إلى حياة إيبرل الجديدة.
بعد حوالي النصف ساعة أبطأ مات سرعته كثيراً ليتجه نحو الطريق الريفي الوعر الموصل إلى أملاك بوكستر.. وأشارت إيبرل إلى
اللوحة المخيفة عن الأنظار، فوجه مات الشاحنة إلى الطريق الداخلية الكثيرة الحفر.. وحين وصلا فسحة إيقاف السيارات، صفّر
إعجاباً بموقع المنزل.
وترك مات الشاحنة تتهادى على مهل وراح يتفحص حوله مايمكن أن يراه من الخمسة فدادين.. ثم قال ممازحاً: مساحة هائلة إيبرل،
ألاتظنين أنك قضمت لقمة أكبر من أن تستطيعي مضغها؟ كانت الأراضي فعلاً أكبر مما بدت لها يوم الأحد الماضي، وقالت تكشر
وجهها قلقاً: أرجو أن لا..على أي حال، سأبذل قصارى جهدي.
طلبت من مات أن ينتظرها، ونزلت تسير عبر المرجة إلى الباب الأمامي، آملة أن تكون السيدة أغريبا موجودة.. لكنها لم تكن
محظوظة..فقد انفتح الباب بعد قرعها للجرس، ووقفت مدبرة المنزل هناك بعبوسها الذي أصبح مألوفاً.أشارت إيبرل نحو الشاحنة:
_ لقد جئت بأغراضي سيدة أغريبا.. وأتساءل ما إذا كان بالإمكان أن تمر السيارة فوق المرج لتصبح بالقرب من البركة؟
قالت المرأة : لن تفعلي لو كان الأمر يعود إلي.. وأدارت لإيبرل ظهرها لتختفي في الداخل .. فراحت إيبرل تتساءل ماذا تفعل.. هل
الرد"لا" إذن؟ أم أنها تركت الباب مفتوحاً لها وذهبت لتستشير بوكستر؟ لم تدم حيرتها طويلاً إذ سرعان ما وصلت السيدة بوكستر
بابتسامة مرحبة على وجهها اللطيف.
_ أنت هنا عزيزتي!على الموعد تماماً.. كل شيء يسير على ما يرام وهذا بشير جيد .. وأنا واثقة أن عملنا سينجح.. والآن أخبرتني
أغريبا أنك ترغبين في مرور الشاحنة فوق المرج، وأظن هذه فكرة معقولة.. فلاشيء يمكنه أن يسيء إلى منظره أكثر مما هو سيء
الآن. شكرتها إيبرل، ثم عادت لتوجه مات حول حافة المرج حيث لايؤثر ثقل الشاحنة عليها كثيراً .. كان المرج رهيباً فعلاً.. لكن ما
من داع للمخاطرة بأن تعلق إطارات الشاحنة في التراب اللزج.
كانت أولى المهمات إطلاق سراح برنس من صندوقه. ثم أمضت إيبرل ومات الساعات التالية يفرغان الشاحنة ويضعان الصناديق
في الغرف ، بانتظار ترتيبها فيما بعد. كانت غرفة النوم مفروشة بسرير مزدوج.ز وقرب أحد الجدران طاولة ثابتة للزينة، وخزانة
أدراج مثلها بحيث لايستلزم الأمر استخدام خزانة أخرى. كان جدار آخر بأكمله من الزجاج، يطل على الأراضي التي توصل إلى
النهر.. كانت الستائر العاجية الدافئة الملونة بخيوط رمادية وبيج مكملة للسجادة الرمادية السميكة.. وفي هذه الغرفة، وضعت إيبرل
كرسي أمها الهزاز وأحد المصابيح.. ما إن شاهد برنس الكرسي حتى وثب إليه وتكور فيه بارتياح ظاهر ليأخذ قيلوته.
كانت إيبرل ومات، بحلول الساعة الرابعة، يتضوران جوعاً، بعد أن أتما إفراغ الشاحنة تماماً. خاطبته إيبرل: سأفرغ هذه الصناديق
فيما بعد مات.. والآن استرح، بينما أحضر شيئاً نأكله. لحظات، ووجد مات نفسه مسترخياً على أريكة مريحة في غرفة الجلوس، وفي
يده كوب من العصير البارد.. ودخلت إيبرل إلى المطبخ لتنظر حولها، مبتجهة به كطفلة أهديت لعبة بيت. وبعد قليل كانت المائدة
جاهزة.. ونادت مات الذي أعلن أنها ساحرة، وجلس ليأكل بشهية كبيرة.
بعد أن تناول حصته وأكمل على نصف حصتها، استرخى في كرسيه متنهداً: هذه وجبة أفضل من التي تناولناها في"أولد ساكرمنتو"
لوحت إيبرل بيدها تصرف النظر عن مديحه، وقالت: الجوع أمهر الطباخين. تمدد مات ووقف ليذهب إلى غرفة الجلوس:
_ إنه مكان دافئ وحميم إيبرل.. كل مايلزمك لتجعليه مكتملاً هو إشعال نار في المدفئة.
كان الظلام قد حل، والمطر ينهمر في الخارج ووافقت إيبرل على أن النار مناسبة جداً.
_ أظن أنني رأيت بعض الحطب خارج المنزل. ماهي سوى دقيقة حتى أحضر مات ثلاث حطبات، واستخدم جريدة وولاعة ليشعل
ناراً بهيجة في المدفئة ذات الحجر الأبيض.
_ والآن ، أريدك أن تُعدي لنفسك فنجان قهوة وتسترخي هنا قبل موعد النوم . ووقف متحضراً للخروج. حاولت إيبرل إقناعه بالبقاء
للتمتع بالنار وشرب القهوة معها، لكنه امتنع قائلاً: لا.. يجب أن أستيقظ في الغد باكراً.. رافقته إلى الشاحنة تلف ذراعيها حولها بسبب
برودة الهواء.. وقفا قرب باب الشاحنة المفتوح وأحست إيبرل باندفاع عاطفي غامر وعرفان بالجميل نحو صديق عزيز، منحها دون
تذمر يوم راحته من العمل .. لفت ذراعيها حول عنقه: كنت دائماً طيباً معي مات.. ولاتستطيع أن أعبر لك عن امتناني..
وضع ذراعاه حول خصرها وحضنها، ثم همس في أذنها بصوته الخجول: أنا محظوظ بوجود صديقة عزيزة مثلك. حين أدار محرك
السيارة، وانطلق نحو الطريق الداخلية للمنزل، استدارت إيبرل نحو منزلها.. وهناك لمحت طيفاً لرجل يقف بالباب.. الضوء الخافت
يخفي قساماته.. صدرت عنها شهقة حادة، فتقدم منها الرجل سريعاً، ووجدت أنه غرايغ.. فصاحت: لقد أخفتني حتى الموت !أتمنى
من السماء لو تعلن عن وجودك ولو لمرة بدلاً من التسلل هكذا!
قال بتشدقٍ ساخراً: آسف.. لم أرغب بمقاطعة منظر فراق الأحبة الرقيق. إذن لقد رآها تعانق مات، واستخلص بنفسه.. حسن جداً،
ربما أقنعه هذا أن يتركها وشأنها إذا ظن بأنها ملك لرجل آخر.. هكذا، ودون إنكار لظنونه، قالت:
_ أعتقد أن لديك سبباً دفعك للمجيء إلى هنا.. لذا الأفضل أن تدخل لأقفل الباب.
_ هذا إن كان لديك لحظات توفرينها لي. في الداخل،نظر غرايغ حوله، ولاحظ النار الخفيفة ثم سار نحو المطبخ حيث شاهد بقايا
الوجبة، وقال معلقاً: أحد أسباب مجيئي هو أن أستعلم إن كنت بحاجة إلى مساعدة. لكنني أرى الآن أن عرضي سيكون غير
ضروري.. وكان يجب أن أدرك أن امرأة مثلك سيكون لها .. أوه.. مصادر أخرى.
_ أجل.. لدي مصادر أخرى. والآن بما أنك هنا لي أ ن أعرض عليك شراباً؟ هناك عصير، قهوة، أوشاي. وهذا كل شيء كما
أخشى. مدد غرايغ جسمه النحيل الرشيق البارز العضلات فوق الأريكة، حيث أخذت ألسنة النار تنعكس على شعره البني متحولة إلى
وهج نحاسي قاتم.. نظر إليها بابتسامة على شفتيه القاسيتين: أي شيء تقدمينه سيكون جيداً.
وهي تعود إلى المطبخ لتسخن القهوة، كانت تعي تماماً ذلك الانقباض المثير والمقلق معاً في قلبها، والذي تشعر به في كل مرة تكون
فيها في حضرة ذلك الرجل. بعد أن سخنت القهوة، وضعت فنجانين فوق صينية يابانية خشبية وحملتها إلى غرفة الجلوس.. حيث
انحنت لتضعها على الطاولة الصغيرة الموضوعة أمام الأريكة.. وهي تستقيم وقف غرايغ فجأة ليمسك معصمها بيده.. قال وهو
يسحبها حول الطاولة ويجلسها إلى الأريكة بجانبه: اجلسي هنا حيث تدفئك النار. لكنها نهضت بسرعة لتجلس في الطرف الآخر منها.
سألها بابتسامة العارف: هل أحمل شيئاً معدياً؟ ردت بابتسامة أكثر برودة: لاشيء لست منعية ضده.. رفع حاجبه: آه.. ذلك اللسان
اللاذع مرة أخرى.. أتعلمين؟ كان يجب أن أحذر ريبيكا فعلاً من أنك لست ممن يمكن العبث معه. قالت: أجل .. ربما كان يجب عليك
أن تحذرها.. ومن الأفضل أن تتذكر هذا بنفسك. خبا اللمعان الدافئ في عينيه لكلامها ورد: أجل.. تأكدي أنني سأفعل.
خلال الفترة القصيرة التي شرب فيها القهوة، تبادلا حديثاً قصيراً سطحياً. وارتاحت إيبرل لعدم اضطرارها للمواجهة معه، فحضوره
لايشل دماغها فقط بل إنها كذلك مرهقةمن يوم عمل طويل ولاثقة لها بقدرتها العاطفية على مقاومته.. سلامتها الوحيدة تكمن في أن
تتصرف بحذر كي لايدرك الأمر! أعاد غرايغ فنجانه الغارغ، ووقف استعداداً للرحيل.
_ السبب الآخر لحضوري هو إيصال دعوة لك من أمي، تريدك أن تتناولي الغداء معها في الغد بعد أن تنتهي عملك.. قالت إنه لايجب
أن ترهقي نفسك بإعداد الطعام بعد إفراغ أغراضك طوال اليوم. تأثرت إيبرل وابتسمت لغرايغ: هذا لطف من أمك وأنا ممتنة جداً
لهذه الدعوة، لكنني لن أقوم بتوضيب أغراضي في الغد.. أتذكر الفتاة الصغيرة التي التقيتها في شقتي ؟ لقد وعدتها أن آخذها إلى "
سوتر فورت" غداً إذا كان الطقس جيداً.. فإذا لم أستطع رؤية السيدة بوكستر بنفسي فأرجو أن تبلغها شكري وأسفي.
_ طبعاً سأفعل. وأكمل طريقه نحو الباب, ثم سأل: هل تقضين كل أيام الآحاد معها؟ ليز، أليس كذلك؟ قالت: أجل .
قال: ألايعترض صديقك مات على حرمانه من صحبتك يوم الأحد؟ نسيت للحظة أن غرايغ فهم الصورة الخاطئة وردت بحدة: بالطبع
لا. لكنها أضافت بلهجة أكثر نعومة: أحياناً نخرج بها معاً. وأصرّغرايغ قائلاً: على أي حال، أعتقد أنه لن يرافقك في الغد؟
_ لا.. فهو ذاهب للتزلج مع أصحابه. وكانت بهذا تقصد أن تعطي سبباً لعدم مرافقة"حبيبها" لها في الغد.. لكن نظرة الشك على وجه
غرايغ الوسيم قالت لها إن رجلاً يذهب للتزلج مع أصدقائه، بدلاً من قضاء معظم وقته مع "حبيبته" أمر يدعو إلى الشك.. يالها من
متاهة أدخلت نفسها فيها! سارت معه نحو الباب في محاولة منها لاستعادة السيطرة التي فقدتها وطلبت منه مرة أخرى أن يشكر أمه
على لطفها.. قالت وهي تفتح الباب له: وشكراً لك أيضاً.. لسؤالك إن كنت أحتاج إلى مساعدة.
استدار ينظر متفرساً في عينيها.. وبلهجة نادمة لم تفهم إيبرل سببها،قال:أنا آسف لأن مساعدتي ليست مطلوبة. وسمرتها عيناه ، حتى
أنها لم تتحرك حين مد يده يلوي خصلة شعر بين أصابعه.. ثم أمسك مؤخرة رأسها في راحة يده وقرب وجهها منه.. ليضع رأسها
على كتفه.. وبقيت راضية بالعناق، للحظات، تقف مابين النار الذهبية الحمراء المغرية، وهواء الليل البارد الرطب..
ولم تتلاش اللحظة السحرية، إلا بعد أن تسللت يده من رأسها إلى مؤخرة عنقها فاستفاقت من البئر العميق لتجاوبها مع هذا الرجل.
وانفتحت عيناها بتركيز وهي تدفعه في صدره بكل القوة التي استطاعتها ذراعاها، قالت شاهقة: حقاً سيد بوكستر! ظننتك فهمت أنني..
أن مات وأنا.. كم تنسى بسرعة أنني لست من النوع الذي يقبل بالعبث! رد بأدب جاف: بالعكس آنسة ساوندرز.. أنا أحترم علاقتك
هذه.. وهذا العناق ليس سوى إشارة لصداقة، ويعني فقط الترحيب بك في فريق عمل بوكستر.. وكم أنت قاسية لتسميه عبثاً.ثم ،
بابتسامة ماكرة، وتلويحة مرحة، خرج إلى الظلام والليل المبتل.
كان اليوم التالي مشمساً ورائعاً وشعرت إيبرل بالارتياح لأن الطقس لن يمنع ليز من القيام بإحدى نزهاتها المفضلة إلى الحصن الذي
يعود تاريخه إلى أكثر من مئة وخمسين سنة.. كانت الساعة قد تجاوزت الظهر حين كانت إيبرل تلحق بليز فوق المروج الغنية
بالعشب والمزدانة بالأشجار ، ثم عبر الأبواب الضخمة المرتفعة إلى داخل الحصن. كانت تذاكر الدخول تباع في الداخل، وراحت
ليز، التي ارتدت جينزاً وقميصاً بمربعات حمراء وبيضاء وسترة من الجينز، تقفز بنفاد صبر، بينما إيبرل تدفع رسم الدخول البسيط..
في أحد نهايات المساحة المستطيلة، مؤلف من طابقين، من حجر الطين كذلك، يحتوى غرف الاستقبال ومكتب" ساتر" وجناح
السكن.. لكن الغرف العديدة جداً على طول جدار الحصن الداخلي، والتي تنفتح كلها على باحة مشتركة معشوشبة، هي التي تسحر
ليز.وبدأت زيارتها المعتادة لجميع الغرف الصغيرة التاريخية، أيام كانت تمارس المهن اليدوية ببراعة وأهمية في تلك الأيام الخشنة..
كان هناك دكان الحداد، النجار، صانع البراميل، دكان أسرجة، غرفة نسيج، مصنع شمع حيث يحول شحم النيران إلى شموع وهي
المصدر الرئيسي للنور في الحصن ليلاً.. وبالطبع دكان صانع الأسلحة.. بعد أن شاهدت ليز كل هذا، بالإضافة إلى دكان صانع
القبعات والأحذية، والمخزن التجاري أيضاً، أخذت تشد إيبرل من يدها نحو غرفة كانت الأخيرة تتمنى في كل مرة ، وبحرارة، ان
تتجاهلها.
كان هناك غرفة خفية صفيرة سوداء لها باب منخفض جداً لايستطيع سوى طفل أن يمر به دون انخفاض.. من هذه الغرفة القاتمة،
كان المرء ينزل ثلاث درجات حجرية منزلقة بخطورة إلى غرفة أصغر وأكثر عتمةبمدخل واحد.. كانت هذه سجن الحصن. كانت
الغرفة خالية تقريباً ماعدا مدّ خشبي فيها وتمثال من الشمع لسجين مكور في زواية الزنزانة يكاد يظهر حياً. مظهره كمظهر المنبود
الكامل. وكما تفعل في كل زيارة، وقفت ليز مسمرة تنظر إلى الغرفة.. في هذه الأوقات، كان قلب إيبرل يصبح مثقلاً..
قالت ليز وكأنها تكلم نفسها:كانوا يضعون الأشرار هنا.. ربما سرق مال أحدهم أو جواده، ربما كان مشاكساً وافتعل عراكاً.
_ ربما يكون هذا هو السبب عزيزتي. كانا قد تعرضا لمثل هذا الموقف العديد من المرات لدرجة أن إيبرل أصبحت تدرك بأن ليز
لاتظن التمثال حقيقياً حتى وإن كانت تتكلم وكأنه حي.
قطبت ليز: هذا الرجل على الأرجح ضرب زوجته، ولهذا وضعوه هنا.. وضرب ابنته الصغيرة أيضاً. أتظنين أنهما لازالتا تحبانه
إيبرل رغم أنه كان شريراًوهو الآن في السجن؟ وأدارت عينين زرقاوين واسعتين نحو إيبرل. ماذا يمكن لإيبرل أن تقول؟ كيف
يمكنها الإجابة لتنتشل الطفلة من محنتها المؤلمة؟ أرادت أن تبعد الطفلة عن المكان، لكن وبناء على تعليمات مات بترك الفتاة تعبر
عن مشاعرها ومخاوفها المكبوتة متى وأينما أحست بالحاجة، قالت: لست أدري حبيبتي.. مارأيك أنت؟
تنهدت ليز: أعتقد أن الأم والفتاة الصغيرة حزينتان على الرجل لأنه وحيد الآن .. لكنهما لا تستطيعان أن تحباه مجدداً، وستنتقلان
للعيش بعيدا كي لا يجدهما. كانت شمس الشتاء الخفيفة أكثر حدة، مقارنة مع عتمة الغرفة المقبضة للنفس، وأغمضت إيبرل عينيها
وانتظرت إلى أن اعتادتاالنور.. ثم شعرت بليز تشد سترتها وتهمس:
_ انظري! ذلك هو الرجل الذي أحب بسكويتنا.
قبل أن يراهما، تمتعت إيبرل بالتطلع إلى جسد غرايغ الطويل الرشيق المستند إلى شجرة السنديان، في نهاية الباحة المشتركة.. يداه
مسترخيتان في جيبي سترته الصوفية، بينما عيناه تجوبان الساحة بحثاًعن شخص ما.. عن إيبرل؟ على المرء أن يعترف أنه بكل
تأكيد ملح في ملاحقاته.. صحيح أنها انزعجت لكنها أحست بالزهو أيضاً .
_ ها أنتما! وقطع المسافة بخطوات واسعة:
_أفضل صانعة بسكويت في ساكرامنتو. وانحنى إلى مستىوى الطفلة يبتسم لها: سمعت أنك ستكونين هنا اليوم فأردت أن أدعوك إلى
الغداء.. وهاأنذا! رفع عينيه إلى وجه إيبرل، وقال وكأنما بعد تفكير: أوه.. مرحباً "حمراء" وأنت مدعوة أيضاً.. بالطبع.
من يظن أنه يخدع؟ لقد حسبت ليلة أمس حين افترض وجود علاقة حب بينها وبين مات، أنه سيضعها خارج ملاحقاته..لكن من
الواضح أن هذا لم يعن له شيئاً..
فهو لايتأثر إن كانت مشاعرها ليست ملكاً له أو إن كان يتعدى على حق رجل آخر.. فكرت بكل هذا ساخطة.والآن هاهو، لازال
يلاحقها، لكن هذه المرة يستغل طفلة بريئة! ماذا تريد أكثر من هذا ليثبت لها أن غرايغ ليس سوى "دون جواناً" عادياً؟ نظرت ليز
نحو إيبرل متوجهة بالإثارة، يملأ عينيها الزرقاوين رجاء بأن تقبل دعوة الرجل.. بابتسامة خبيثة، قالت إيبرل:
_ إذاكنت تريدين تناول الغداء مع السيد بوكستر، فبالطبع سنقبل دعوته بكل سرور.
أدارت وجهها بابتسامة وقحة صوب غرايغ وأضافت: لكن؟،أولاً، أنا واثقة أنه سيحب أن تصطحبيه داخل الحصن.. أتصور أنه مر
عليه زمن طويل منذ زيارته الأخيرة للمكان. لماذا لا تتمشيان سوية وسأجلس تحت الشجرة بانتظاركما؟ لم يدع غرايغ الصغيرة
تشعر بأن الجولة في الحصن لم تكن تحلو له. لكن عبر ابتسامة خفيفة جافة اعترف لإيبرل أنها كسبت نصراًجديداً.. ونظرت ليز إلى
إيبرل بمزيج من الابتهاج والخوف.. ثم بطريقتها المضحكة التي تشبه طريقة الكبار، بدأت تقول لغرايغ رأيها في السرد المسجل
لتاريخ الحصن.. ورمى غرايغ تحية مرحة نحو إيبرل، ثم قفز برضى خلف الفتاة.
جلست إيبرل تنتظر .. بينما كانت تراقب الزوار بكسل، يسيرون حول المكان، خطر ببالها أنها، بالرغم من عجرفة غرايغ بوكستر،
وتصرفاته غير اللائقة، وعبثه، فهي تشعر نحوه بشيء من مما جعلها تترك ليز في عهدته.. لم تمض ربع ساعة، حتى لمحتهما
يتقدمان من البوابة. اختار غرايغ مطعماً صغيراً قريباًمن الحصن متخصص بتقديم الفطائر المحلاة، والسندويشات الخفيفة، والآيس
كريم الفاخر.
سرّ إيبرل أن تلاحظ بأن الصغيرة كانت في أحسن تصرف لها، تجلس على مقعد جميل قديم الطراز ويداها مضمومتان في
حجرها.خلال الطعام، وجه غرايغ كل اهتمامه إلى ليز، وهذا مافتن إيبرل.. لكن، وفي الوقت ذاته، جعلها تشعر أن لالزوم لها. أخيراً
وبعد انتهاء الوجبة قال غرايغ بعفوية:
_ على فكرة "حمراء" لقد وعدت أن أصطحب ليز إلى كولوما لرؤية المكان الذي وجد فيه الذهب بالضبط، وأخبرتني أنها تريد منك
أن تأتي معنا.
قالت ليز متأثرة بتصرف غرايغ اللطيف طوال بعد الظهر بجرأة لم تعهدها أمام الرجال: لماذاتسمي إيبرل بالحمراء؟ هذا ليس اسماً
جميلاً. قال: أظنك على حق أيتها الصغيرة.. وأوافقك على أن اسم إيبرل أجمل بكثير من الحمراء.
ساد صمت غير مريح بين الثلاثة، وراحت ليز تنقل نظرها من أحدهما إلى الآخر.. تشعر أن هناك شيئاً خاطئاً. لو أن رغبات إيبرل
هي كل ما يهم، فلاشيء يسعدها أكثر من أن تسمع ما سماها به من بين شفتيه .. لكن الاسم المستعار أمر حميم .. ولايتناقله سوى
المقربون.. وهذا الرجل ليس مقرباً لها، ولن يكون أبداً..
وهي لن تجنى سوى تحطيم القلب إن سمحت له بشيء من الحميمية. راحت تشغل نفسها بأخذ حقيبتها وسترة ليز، ثم قالت بصمت
ودي متباعد: لماذا لاتناديني إيبرل؟ على أي حال هو اسمي ويعجبني.
وصلوا إلى الشارع، فتمتمت ليز بخجل شاكرة دعوته، وبدوره ابتسم لها بدفء وانحنى لتقبيلها.. لكن تصرفه مع إيبرل كان مختلفاً..
قل بلهجة باردة: إذا أحببت، يمكننا توصيل ليز في سيارتي ثم نعود معاً إلى المنزل،وفي الغد أرسل من يأخذ سيارتك.
كم أن صحبته مرهقةللأعصاب، لم تدرك أبداًمن قبل إمكانية أن تتشوش عواطفها لوجود رجل: شكراًلك لمنحك ليز هذه الدعوة
الجميلة، لكنني أعتقد أنه من الأفضل أن نودع بعضنا الآن. رد بصوت قاس متوتر: هكذا إذن.. أؤيد اختيارك الجيد.. قودي بحذر إذن..
إيبرل.. ربما نلتقي بين وقت وآخر.
صعد في سيارته وانطلق بها مسرعاً، فقالت إيبرل متنهدة: حسناً.. إذا كانت هذه طريقة قيادية، فأنا مسرورة لأنني لم أسمح له
بتوصيلك! طوت ليز قبضتها الصغيرة في يد إيبرل: أظنك جرحت مشاعره.وقفتا معاً في الشارع المظلم، وراقبتا بصمت السيارة
القوية وهي تختفي بسرعة لكن ليس نحو الطريق الرئيسية التي تعود إلى الأملاك.. بل باتجاه قلب المدينة. منتديات ليلاس
يتبع الجـــــــــــــــــــــــــــــــــزء الســـــــــــــــــــــــــــــــــادس
|