مال الفتى بجسده إلى خارج النافذة الكبيرة تلك .. و ها هو يغمض عينه و يهذي بكلمات لا أفهمها ..
و بعد ذلك .. أنه يسقط من الطابق الثاني إلى الأرض .. أنه ينتحر .. أنه يقوم بجريمة شنيعة ..
وجدت نفسي ممسكة بالفتى .. أغلفه بذراعي .. أصرخ :" أرجوك لا ! .. كفاك جرماً .. لا تفقد أملك في الحياة "
أجبرته على الابتعاد عن النافذة .. و عندما استلقى على سريره .. أحكمت أنا إغلاق النافذة .. النافذة .. خطر كبير على خالد ..
جلست بقربه حيث كان يتحاشى النظر إلي .. وجدت نفسي أصرخ به :" مجنون .. مجنون .. ما الذي يجبرك على فعل هذا بنفسك .. فلتعلم ..! أنك تعذب نفسك بكل ما تفعله من إساءة للآخرين .. أراك كئيباً لأنك تفعل هذا .. لو نفضت هذه الأفكار السوداء .. لشفيت من مرضك النفسي هذا .."
همس :" أخرجي "
صرخت :" لا ! لن أخرج .. لأنك مجنون .. سأخبر والدي بما تفعله يا هذا "
اقتربت منه و صرخت :" و سوف أخبره أنك آذيت أخي .. و سأخبره أنك تشاجره دائماً و سأخبره .... ... "
صمتت .. فقد رأيت شيئاً جديداً في خالد .. دموع ؟!! هل يملك هذا الملك دموعاً ..
اقتربت منه أكثر .. حيث كان يشيح بوجهه عني .. خاطبته بلطف :
" أرجوك لا تبكي .. لن أخبر والدي بشيء فقط لا تبكي "
=
بعد أيام من صمت الفتى المتواصل .. و بعد أن عاقبتنا أمي بعدم مشاهدة التلفاز بسبب درجاتنا المتدنية ..
ها قد عاد والدي من سفره .. رميت بجسدي في حجره .. كم اشتقت له ..هذه المرة بالذات .. اشتقت لوالدي كثيراً أكثر من كل مرة ..لأن حدثت أحداث كنا بحاجة لوجود أبي معنا ..
و لكني أخبرته بمحاولة انتحار الفتى .. فكان ذلك خطيراً جداً عليه ..
ها هو والدي ينطلق نحو غرفة الفتى .. النافذة مفتوحة .. و لا أحد على السرير ..رباه ..
بعد ثوان مملوءة بالخوف همس والدي :" أين هو ؟!! "
تقدمنا نحو النافذة .. طللنا للخارج .. و هنا شهقت أنا .. أيمكن أنه .. انتحر ؟!!
بعد فترةٍ مليئة بالخوف .. سمعنا صوتاً جافاً :" ماذا هناك ؟!! "
التفتنا إلى مصدر الصوت .. كان هو .. يخرج من الحمام و يضع على كتفيه الفوطة ..
آه .. الحمد لله ..
هنا يقترب والدي منه .. و يضمه إليه ..
=
أبي الآن يجر سرير الفتى لينقلـه إلى غرفة سامر .. طبعاً .. لقد خاف على خالد كثيراً .. لذلك قرر أن ينقل سريره إلى غرفة سامر .. ذلك أفضل .. رغم أن سامر و الفتى يتشاجران دائماً ..
يقف الفتى بجانبي و هو ينظر لوالدي بغيظ .. لأنه سيرغم على مشاركة سامر غرفته ..و لا تنسوا أنه غاضب مني كثيراً .. لأني أخبرت والدي بالحقيقة..
و عندما انتهى والدي من نقل السرير اقترب من الفتى ليسحبه من يده متجهاً نحو الغرفة ..أدخله والدي الغرفة و أجلسه على سريره و قال له :" هنا ستنام من الآن فصاعدا .. و سوف أنقل خزانتك قريباً "
أدار الفتى برأسه لجهة سامر و أشار إليه بسبابته و قال مخاطباً والدي باستنكار :" أنا سأنام مع هذا ؟!! في غرفة واحدة ؟!! "
و هنا صرخت أمي :" و ماذا في ذلك؟! ألا يعجبك ابني ؟!! إذ كان لا يعجبك فأخرج من منزلي فوراً "
و خاطبها والدي :" هدئي من روعك عزيزتي .. الفتى لا يقصد ذلك "
أشارت أمي إلى وجه الفتى المستغرب و صرخت بوالدي :" هذا الفتى متكبـر .. "
تنهد الفتى بملل .. و استلقى على سريره و كالعادة يطردنا قائلاً :" أخرجوا "
فخرجنا تاركين أخي و الفتى ينامان في غرفة واحدة ..
=
في منتصف الليل أيقظني ضجيج في الخارج ..نهضت بسرعة .. و فتحت الباب لأرى أخي سامر يخرج من غرفته مسرعاً .. راكضاً نحو غرفة والدي و والدتي .. ركضت خلفه ..
طرق هو الباب بقوة .. فخرجت أمي و هي تفرك عينيها و تقول بقلق :" ماذا ؟!! ما بك ... "
قال أخي بخوف :" الفتى .. لا أعلم ماذا حدث له .. "
صرخت أمي :" ما به ؟!! انتحر ؟!! "
" لا ! لا !... اتبعيني أمي "
و هنا خرج والدي من غرفته قائلاً:" ماذا هناك "
" أبي الفتى .. "
و ما كاد أن يكمل جملته .. حتى اندفع والدي إلى تلك الغرفة و ركضنا نحن جميعاً وراءه ..فتح والدي الباب و انطلق نحو سرير الفتى و نحن خلفه ..
على السرير الفتى مستلقٍ .. يقبض بيديه الاثنتين على رأسه و يتوجع ..وجهه محمر جداً ..
اقترب والدي منه بخوف .. همس :" ما بك ؟!! "
و يزداد توجعاً ... يعض على شفتيه ألماً .. ما به ؟!!
ينظر والدي إلينا بوجل ثم يعود يغلف الفتى بذراعيه و يمسح شعره :" ما بك ؟!! "
يعض الفتى على شفتيه و يهمس بألم :" رأسي ...!!! "
و هنا يسرع والدي بمساعدة على النهوض ..يساعده على ارتداء قميصه .. ثم معطفه .. و يخرجان من المنزل فتوقفهما أمي :" إلى أين ؟!! "
" إلى المشفى "
و الفتى لازال يقبض بيديه على رأسه .. و يتوجع كثيراً .. لا أتحمل رؤيته هكذا ..
=
اتجه أخي لغرفته و النعاس بادٍ على وجهه .. أما أنا تسمرت على المقعد في الصالة .. فصرخت بي أمي :
" أذهبي و اخلدي للنوم "
" لا .. سأنتظر عودة الفتى .. "
" لن يعود الآن .. قد ينام في المشفى .."
" و ما أدراكِ أمي ؟!! الفتى لا يعاني أي أمراض جسدية "
تنهدت أمي و جلست بجانبي .. و قالت في قلق :" ماذا جرى له يا ترى ؟!! "
قلت :" أجبرتموه على النوم مع أخي .. "
ابتسمت هي بسخرية :" أتعتقدين أنه يمثل دور المريض لكي يعود ينام وحيداً ؟!! "
ماذا ؟!!!
=
بعد فترة طويلة .. كانت أمي تكاد تنام .. مسكينة هي .. مجبرة على انتظار والدي..
لقد تأخروا !!
فجأة يفتح الباب الرئيسي للبيت و يدخل والدي ممسكاً بالفتى .. نهضت و نهضت أمي..
يبدو على وجه الفتى الإرهاق .. و ها هو أبي يخاطبه بلطف :" أصعد للغرفة لتنام .. استرح و لا تفكر بشيء "
هزّ هو رأسه ايجابيا.. و اتجه نحو الغرفة .. و دخلها ..
فسألت أمي والدي قائلة :" ما به ؟!! "
جلس والدي على المقعد و أردف :
" قال لي الطبيب أن هذه نوبات تواتيه بسبب مرضه النفسي .. ربما تذكر شيئاً أثار حزنه .. و غيظه .. "
قالت أمي :" و لكنها نوبات حادة جداً .. كان يتوجع كثيراً "
" نعم .. كلما تذكر الفتى شيئاً يحزنه أكثر .. سوف يتألم أكثر.. لذلك نصحني الطبيب بعدم إغاظته "
و قال والدي موجهاً الحديث لأمي بالذات :" لذلك يا أم سامر .. كوني ألطف معه .. فما هو إلا طفل مريض "
نكست أمي رأسها .. ثم رفعته و قالت :" ماذا فعل له الطبيب ؟!! "
" لم يفعل شيئاً سوى أنه أعطاه بعض المهدئات .. و لازال رأسه يؤلمه قليلاً "
نهض والدي و خاطبني :"
زينة ! أذهبي للنوم .. الساعة متأخرة .."
نهضت و قبلت والدي و والدتي و ركضت نحو غرفتي .. استلقيت على سريري ..
ترى هل لازالتِ تتوجع أيها الملك ؟!!
=
في صباح اليوم التالي .. تجمعنا حول طاولة الطعام لتناول الإفطار ..
ها هو الفتى بيننا .. تظهر هالات سوداء تحت عينيه .. المسكين .. لم ينم البارحة جيداً بسبب آلامه ..
أضحكني مظهره هذا.. شعره غير مرتب كلياً.. و من أين سيجد له وقتاً ليرتب شعره و هو تحت ضغوط كثيرة؟!
يتناول فطوره بهدوء شديد .. أمي وضعت أمامه طبقاً .. فرفع هو رأسه و نظر لها .. هي ابتسمت له و مسحت شعره .. أظن أنها أدركت أنه مسكين .. يحتاج لمن يساعده .. لا يعاكسه ..
عندما انتهينا من تناول الطعام .. نهض سامر و قال لي :" زينة دعينا نلعب قليلاً "
هززت رأسي ايجابياً .. ثم قلت :" و لكن لماذا لا يشاركنا الفتى اللعب ؟!! "
و أشار أخي إليه و قال :" أطلبي منه ذلك "
اقتربت منه حيث كان يراقب والدي كيف يداعب الصغيرة هدى في صمت ..
أمسكت يده و قلت في مرح :" هيا .. تعال ألعب معنا "
نظر لي بانزعاج شديد .. و حاول سحب يده من قبضة يدي .. و لكني سحبتها قائلة :" هيا ! أنهض .. "
همس منزعجاً :" أوه.. اتركيني "
و لكني كنت مصرة .. فسحبت يده أكثر حتى صرخ بي أبي بقوة :" زينــة ..! "
تسمرت بخوف .. و صرخ والدي بي :" الفتى متعب ألا تفهمين ؟!! دعيه هيا "
تركت يد الفتى ( المتعب ) .. و ركضت مع أخي سامر خارج المنزل لنعلب ..
و لأننا في إجازة .. فلا شيء يوقفنا .. نلعب و نلعب و لا نتعب .. حتى الكلب تعب .. و نحن لم نتعب بعد ..
حتى خاطبني أخي و هو ينظر لساعة يده :" أوه .. زينة .. لقد استغرقنا وقتاً طويلاً في اللعب "
" هيا .. ألن تكمل ؟!! "
قال مشيراً برأسه بالنفي :" لا .. لقد تعبت ..! "
و مشى متجهاً نحو المنزل .. ركضت خلفه و خاطبته :" هل أصبحت بخير ؟!! "
ابتسم في وجهي :" نعم .. لم أعد أشعر بأي ألم "
ركضنا نحو المنزل و دخلنا مصدران ضجيجاً .. فخرجت أمي من المطبخ و وضعت سبابتها أمام فمها عمودياً :
" شششش .. الفتى نائم "
أشارت إلى الفتى المستلقي على الأريكة و غاط في نوم عميق .. و ها هي تقترب منه حاملة لحاف و غطته جيداً و خاطبتنا بهمس :" الفتى متعب .. ألا تفهمان ؟!! "
نظرت له و قلت :" و لكن لماذا ينام هنا ؟!! "
اقتربت أمي منا و همست :" نام هنا و انتهى الأمر .. هيا ابتعدا و ألعبا في مكان آخر .."
=
الإجازة هي جميلة أحياناً .. و لكنها مملة أحياناً أخرى ..
ها هو والدي يعود من عمله و يجلس على أحد المقاعد ليتأمل النائم على الأريكة .. أنه إن نام لا يستيقظ أبداً..
جلست بجانب والدي و همست :" أبي ! "
التفت لي :" ماذا "
" ملل .. "
ابتسم و قال :" عزيزتي .. سوف يقام مهرجان غداً .. و لن تشعرين بالملل .."
قلت بفرح :" مهرجان ؟!! أين ؟!! "
" في الساحة المقابلة لمتجر الحلوى .. سوف تلعبون و تمرحون و تشترون و كل شيء .. "
أشرت للفتى :" و الفتى ؟!! سيأتي معنا ؟!! "
" بالطبع عزيزتي .. جميعنا سنستمع في المهرجان "
قفزت من الكرسي و أسرعت لإخبار أخي ..
في المساء ..يغطي والدي الفتى جيداً و يقبل جبينه و يقول له :" لا تفكر في شيء .. نم بهدوء .."
في طرف آخر أخي غارق في النوم .. يخرج والدي من الغرفة .. فيستوي الفتى على سريره و يسند رأسه للخلف و يغمض عينيه و يعود ليفتحها .. و الحزن باد على ملامحه .. اتجهت نحو غرفتي خلدت للنوم ..
في اليوم التالي ها هي الاستعراضات و الألعاب و الفرح و المرح في تلك الساحة .. ينطلق أخي بفرح نحو أحدى الألعاب الالكترونية .. و والدي و أمي يقلبون في الحاجات المعروضة للبيع ..
آه مهرجان رائع .. هناك من يعزف ..و هناك من تنثر الورد علينا و هناك و هناك ..كم هذا رائع ..
" الدنيا تغرق ..! "
التفت إليه .. الفتى .. يقف يحملق بالناس بنظرة غريبة .. خاطبته :" ماذا تقصد ؟!! "
تنهد بعمق و أشار لجميع الناس :" أنهم يغرقون و هم لا يعلمون ؟!! "
قلت مستغربة :" يغرقون ؟!! "
تقدم هو نحو بائع الحلوى .. الذي يوزع الحلوى على الأطفال ..أبعد الفتى الأطفال عن طريقه و عندما بلغ البائع ..ضرب بقبضة يده الطاولة فسقطت علبة الحلوى على الأرض و تناثرت الحلوى هنا و هناك ..
همس بغيظ موجهاً حديثه للبائع :" توقف عن هذا "
البائع يشتعل غيظاً .. أمسك بذراع الفتى و صرخ به :" كيف تجرؤ ؟!! "
ردد ذلك المجنون عبارته بنظرة عميقة :" توقف عن هذا "
" و من أنت أيها الفتى .. أذهب و ألعب بعيداً .. "
و ها هو سامر ينطلق نحوه ليسحبه.. و لكنه مصر على مشاجرة الرجل .. همس و هو يعض شفتيه :
" أنت لا تفهم "
صرخ البائع :" و من الذي يفهم أيها العبقري ؟!!"
و هنا أخرج البائع علبة حلوى أخرى ليوزعها على الأطفال .. فأوقفه الفتى :" توقف .. قلت لك توقف عن هذا "
صرخ الرجل موجهاً حديثه للناس :" من والد هذا الفتى ؟!! فليأتِ و يأخذه و إلا.... "
نكس الفتى رأسه و همس :" لن يأتِ .. لأنه مات .."
صُدم البائع .. و هنا ابتعد الفتى عن حشد الناس و جلس على العشب مبتعداً عن موقع المهرجان ..
ركضت نحوه .. جلست بجواره .. نظرت له .. ينكس رأسه بحزن ..خاطبته بحيرة :
" ما بك ؟!! أحياناً جنون و أحياناً حزن .. أحياناً غضب و أحياناً تعب .. "
نظر لي بابتسامة ساخرة .. ثم همس :
" من حقكم أن تلقوا بي في تلك العيادة النفسية .. لأنكم لا تفهموني و لن تفهموني "
" ما الذي لا نفهمه .. وضح لي .. "
تنهد بعمق .. ثم استلقى على العشب و أغمض عينيه ..
=
في اليوم التالي .. اصطحبنا والدي إلى أحد الأسواق لشراء ما نحتاجه ..و تركنـا أمـي و الفتى في المنزل .. لم ننتهي من التسوق إلا في وقت متأخر .. الساعة التاسعة ليلاً.. عدنا للمنزل بينما كان البرد قارصاً ..
دخلت المنزل .. و أخذ أبي ينادي أمي .. خرجت أمي من المطبخ باسمة :" العشاء جاهز "
جلست على مقعدي و جلس سامر على مقعده و هدى اختارت مقعدها بقرب والدتي و بدأنا في تناول العشاء ..
و سامر أخذ يحدثني عن الفتيان الذين يتعرضون له في المدرسة .. بدت لي حياته في المدرسة كئيبة فهي شبيهة بحالي أنا ..طبعاً .. إذ كنت طالباً موضع سخرية .. ستتألم جداًَ ,,
المدرسات تسخرن مني.. و الطالبات أكثر .. يحاولن إحراجي قدر الإمكان ..
سامر يتألم جداً عندما يظهر ضعيفاً أمام حشد الطلاب الذين يندفعون نحوه لضربه .. و ليثبتون له أنهم أقوى منه و هو ضعيف .. و لكني أتألم عندما تقف الطالبات و يرمقوني بنظرات و ضحكات ساخرة .. و أتعذب من حديثهن ( وشوتهن ) فيما بينهن عني ..
ترى إلى متى سأظل هكذا ؟!! موضع سخرية الجميع ..!
قطع سرحاني سؤال والدي الموجه لأمي :" أين الفتى ؟!! "
" لا أعلم ! ربما نائم "
تركت أنا الملاعق .. و نهضت قائلة :" شبعت و الحمد لله .. "
و ركضت خارجة من المطبخ .. اليوم لم أرى وجه الملك بتاتاً .. ركضت نحو غرفته ..عندما بلغتها طرقت الباب .. فلم أسمع أي صوت .. أيمكن أنه نائم ؟!!فتحت الباب بهدوء .. و ألقيت نظرة على الغرفة .. لا أحد !!
أغلقت الباب و رحت أبحث عنه في أرجاء المنزل .. رغم أن الفتى لا يمكث إلا في غرفته و أحياناً قليلة إذ شعر بالعطش يطل على المطبخ ..
فتشت كل ركن و زاوية من المنزل و لكـن لم أجد الملك !!ربما هو خارج المنزل .. أيمكن أنه .. فرَّ هارباً ؟!!
ركضت بخوف نحو باب المنزل .. خرجت من المنزل و أنا أرتعش برداً .. البرد يتضاعف آلاف المرات في الليل .. لا أعتقد أن الفتى يستطيع المشي وسط هذا البرد القارص .. أنه ليس معتاداً على البرد ..كان المطر يتساقط بغزارة .. فاستعرت مظلة والدي و اندفعت أبحث عن الفتى .. هنا و هناك ..آه أكاد أجن .. لا أحد يسير في الشوارع في هذا الوقت .. برد قارص و أمطار غزيرة .. ركضت بسرعة .. و أخذ أدير عيني أبحث عنه بقلق .. و لكن لا جدوى ..يستوجب علي البحث أكثر ..أخذت أمشي و أنا أبحث عنه هنا و هناك .. أين هو ..
ابتعدت عن المنزل كثيراً .. و لكني لم أجده لحد الآن !! شعرت بالبرد .. يجب أن أعود للمنزل قد يقلق والدي علي .. و لكـن ! ماذا عن الفتى ؟!!
أدرت رأسي للخلف .. ربـاه .. الليل مخيف .. الظلام موحش .. و لا أحد يسير في الشوارع غيري ..
عدت أنظر للأمام .. لحظة .. كأني رأيت شبح خالد ..
دققت أكثر في ذلك الشيء المتكوم على نفسه بقرب إحدى الأشجار .. رباه .. خالد ..
اقتربت أكثر .. أكثر.. لأراه أمامي يخبأ رأسه بين ركبتيه .. و يغلف جسده بذراعيه و يرتعش برداً ..
يرتدي قميصاً قصير الأكمام و ليس سميكاً أبداً .. يتجمد برداً .. أنحيت له .. فشعر بي .. رفع رأسه ببطء ..
ثم نظر لي .. رباه وجهه ازداد احمراراً من شدة البرد .. يرتعش برداً ..المطر يبلل جسده بأكمله ..
ظللته بالمظلة .. و صرخت به :" ماذا تفعل هنا ؟!! "
كان ينظر لي بنظرات غريبة جداً .. و كأن هموم الدنيا كلها انصبت على رأسه ..
همست بلطف أكبر :" ألا تشعر بالبرد "
هزّ رأسه ايجابياً ..فقبضت على يديه فإذاً بهما جليد صلب .. همست به بقلق :" أنك تكاد تتجمد حتى الموت "
همس هو :" أرسلوني إلى العيادة النفسية "
" لماذا ؟!! هل فعلت أمك مالا يرضيك ؟!! هل قالت لك شيئاً "
عاد يقول و هو يعض شفتيه :" أرسلوني إلى العيادة النفسية.. لا أريد البقاء بينكم "
قلت بانفعال :" لماذا ؟!! أرجوك أخبرني ما الذي حدث .. ! "
نكس رأسه و بحشرجة أردف :" المريض النفسي لا يستطيع العيش بين بقية الناس العاديين .. "
رفع رأسه فإذا بوجهه أكثر احمرار .. و عينيه تلمعان .. و كأن سيلاً من الدموع على وشك التدفق ..
يا إلهي لأول مرة أراه بهذا الشكل .. قبضت على كتفيه و قلت بترجي :" أرجوك لا ! .. "
حدق بي طويلاً بتلك النظرة الكئيبة .. فضغطت على ذراعيه و قلت بهمس و كلي قلق :
" خالد .. دعنا نعود للبيت "
نكس رأسه :" دعيني أبقى هنا قليلاً "
" لا ! .. ستتجمد .. أنك تتجمد ! سوف نعود للمنزل و يمكنك أن تطلب من والدي أن يرسلك إلى العيادة النفسية .. فقط لا تبقى هنا .. المكان موحش و بارد .. ستمرض ..! "
نظر لي بنظرته الكئيبة تلك .. ثم بدا متقبلاً الفكرة .. مددت يدي له و أعنته في النهوض .. لاسيما أنه متعب جداً .. و مشينا معاً عائدان إلى المنزل .. نظرت له .. مرهق جداً ..
عدت أمشي و هو بجانبي يمشي .. حتى بلغنا المنزل .. تصلبت نظراته عند المنزل عندما رأى والدي يحوم بقرب الباب .. و سامر بجانبه ..
وقف دون أن يتحرك خطوة واحدة للأمام .. و نظراته مركزة على والدي ..
خاطبته :" هيا بنا "
نظر لي .. ثم عاد ينظر لوالدي .. حتى واصل مشيه نحو والدي و أنا بجانبه أظلّه بالمظلة ..
رأيت على والدي ملامح الصدمة لرؤية الفتى يمشي نحوه .. اقترب منه بسرعة و هتف :
" ماذا كنتما تفعلان في الخارج ؟!! "
نظر لي الفتـى .. ثم نظر لوالدي مرة أخرى .. فعاد والدي يسأله :
" و لمَ أنت مبلل هكذا ؟!! و كيف تخرج بملابس صيفية و البرد قارص "
نظر الفتى لوالدي نظرات عميقة .. ثم همس :" أرسلوني إلى العيادة النفسية .. "
" و لكـن يجـب .... "
قاطعه الفتى بزمجرة و بصوت غاضب :
" ليس من حقك أن تبقيني هذه المدة كلها في منزلك .. أنا جئت هنا لأعالج فقط .. "
تقدم الفتى بخطوات إلى الأمام صاعداً عتبات البيت .. و والدي يراقبه .. دخل المنزل .. فنظر لي والدي :
" ماذا حدث ؟!! "
" لا أعلم .. كان مصراً على ألا يخبرني بشيء "
دخلت أنا المنزل و لحق بي والدي .. انطلق والدي نحو غرفة الفتى..و أنا وقفت أمام أمي متسائلة :
" أمي .. ماذا حدث بينك و بين الفتى ؟!! "
قالت مستغربة :" لا شيء جديد .. أهناك شيء ؟!! "
يبدو أن أمي صادقة !
تركتها و انطلقت نحو غرفة الفتى .. فتحت الباب ! .. كان يضع حقيبته الكبيرة الخاصة للسفر على سريره ..
و يبقى ينقل ملابسه و حاجياته من خزانته إلى الحقيبة .. و هو يشتعل غيظاً ..
و والدي يحاول إقناعه :" ماذا تفعل !.. ألا تعلم أي حياة ستعيشها هناك .. سيعاملونك كالمجنون .. يصعقونك بالكهرباء و ستدمن على الحقن المهدئة .. "
وقف الفتى أمامه .. :" لا ! .. أظن أن الطب متطور في هذه البلاد .. و هناك أطباء و خبراء نفسيين "
و واصل عمله .. فوقف والدي أمامه يصدّه .. حملق به بحيرة و قال :" ما الذي حدث ؟!! "
عضّ شفتيه .. ثم واصل عمله :" انتهى الأمر .. و لا مجال لمناقشة الموضوع "
ابتعد والدي عنه قليلاً .. و هكذا أكمل الفتى عمله .. و خاطب والدي بجدية أكبر :
" غداً أرسلني إلى العيادة النفسية .. فلم أعد أستطيع البقاء "
ثم خلع قميصه المبتل ذاك ..و حمل الحقيبة من السرير إلى الأرض .. ثم استلقى على سريره و غلف نفسه باللحاف .. و أغمض عينيه و الغضب يتفجر من رأسه ..
و هنا أطفأ والدي النور .. و خرج من غرفة الفتى و اقترب من أمي الجالسة في الصالة و خاطبها :
" أظن أن الحق مع الفتى .. ليس من حقنا إبقائه هنا أكثر.. "
اقترب والدي منها أكثر و جلس بجانبها قائلاً :" غداً سوف أرسله للعيادة .. "
قالت أمي مستغربة :" ما به ؟!! لماذا يريد الذهاب للعيادة ؟!! "
التفت لها والدي :" لا أعلم أصر على عدم البوح بشيء .. و هذا ما يحيرني .. ما الذي جرى ؟!!! "
أشاحت أمي بوجهها إلى التلفاز .. فنهض والدي حائراً ..!
في صباح اليوم التالي يجر الفتى حقيبة ليغادر المنزل .. حتى دون أن يلقي نظراته الأخيرة علينا ..نحن سنزوره بالطبع في المشفى و لكنه أتى للمنزل و أضاف جواً جديداً و ها هو الجو سيختفي لمغادرته ..استوقفه والدي :
" ألن تسلم على سامر و زينة و أم سامر .. لا تنس أنك ستغادر منزلنا و لن تعود إلا بعد خمس سنوات "
توقف الفتى قليلاً لينظر لسامر .. ثم ينقل نظراته لي .. ثم لأمي .. و تراءى لي شبح ابتسامة .. يبتسم لي ؟!! اقترب مني قليلاً تاركاً حقيبته .. و هو يبتسم لي ..
توقف عند بعد خمس خطوات .. ثم همس :" سأشتاق لكم .. "
شعرت بالسعادة .. ممزوجة ببعض الحزن .. الفتى سيغادر منزلنا و لن يعود إلا إذ بلغ الخامسة عشر ..
ابتسمت في وجهه .. و ها هو سامر يرد نيابة عني :
" و نحن أيضاً سنشتاق لك و سنزورك بين فينة و أخرى .. أليس كذلك أبي "
( ما دخلك أنت ؟!! الحديث موجه لي أنا )
و ها هو الفتى يدير رأسه للخلف ليرى والدي يهز رأسه ايجابياً ..و يعود ليحملق بي ..
ثم مد يده لأخي بابتسامة رائعة قائلاً :" وداعاً ! يا صاحب الكلاب .. "
و انفجر أخي ضحكاً قابضاً على يد الفتى بيديه الاثنتين :" وداعاً ! وداعاً "
سحب الفتى يده بلطف من قبضة أخي .. ثم مدها نحوي .. و بدعابة خاطبني :" و أنت أيتها المرحة الماهرة "
مددت يدي لأسلم عليه .. و ضحكت قائلة :" وداعاً .. أيها الملك !! "
ثم تركت يده ليبتعد عني متجهاً نحو والدي .. فيخاطبه أبي :" ألن تسلم على أم سامر ؟!! "
أدار هو برأسه نحو أمي حيث كانت ترسم على شفتيها ابتسامة صغيرة ..
اقترب الفتى من أمي و بقي يحملق بها .. فارتسمت على وجهها ابتسامةً حنونة ..
و أنحت جذعها لتضمه إلى صدرها ..
هنا يغادر الملك .. و لكننا لم نتركه .. بل نظل نزوره بين فينة و فينة في المشفى .. بصراحة مظهره على السرير الأبيض و بملابس المرضى يشعرني بأنه ضعيف .. أمي تحسنت علاقتها معه .. فبدأت تعامله كابن لها .. و خصوصاً بأنه مريض .. أخبرنا الطبيب أن خالد يتحسن بسرعة .. و يتقبل العلاج النفسي رغم أنه أحياناً قليلة يضجر و يثور .. و يحتاج الطبيب لتهدئة أعصابه بالمسكنات .. و لكن هذه الحالة لا تواتيه إلا نادراً ..
يقول الملك .. أن بعض الممرضات لا يحسنون معاملته و هذا ما يجعله يكره المشفى ..,
طبعاً ! فبعض الممرضات المبتدئات لا يدركون أحاسيس المرضى النفسيين و يظنون أنهم مجانين بلا عقول ..
استمر الحال هكذا .. كل يوم نذهب لزيارة الفتى لتقديم طعام الغداء له .. و كل يوم أتلقى منه شكوى من جميع المحيطين به .. حتى زملائه المرضى النفسيين .. فهل يا ترى سيتقبل خالد هذا الحال ؟!!
=
مـر من الزمان الكثير .. حتى استطاع خالد الخروج من المشفى ليعيش عشر سنوات معنا ..
أصبحت متحجبة .. و هذا ما يجعله ينام في الملحق التابع للمنزل ..و لكنه بدا مهتماً لأمري كثيراً ..
فقد رأيته رجلاً ناضجاً واعياً .. و قد بلغ ما فوق العشرين .. يخاف علي من الشبان التافهين المتناثرين في الشوارع ..يحاول قدر الإمكان حمايتي حتى من أي نظرة من أي شاب ..
في الفترة الأخيرة يزورنا والد خالد و عمه الذي يصغره بسنتين .. و أسمه على ما أظن ( إياد ) ..
و عمته الكبرى " ذكرى" .. و أحياناً يصطحبون معهم عمته الأخرى التي تدعى سمية ..بدت لي أسرته في غاية اللطف .. و لاسيما أنهم يكثرون المدح فيا ..
و لكن الذي يحيرني ! .. أن خالد لم يرَ أمه لحد الآن ! و لم يسمع صوتها ..!و كل ما سألته عنها يقول لي أنها لا تريد التحدث معه ..!! أيعقل ؟!! ألازالت لا تطيق سماع صوته .. قلبها حجري و قاسٍ جداً ..
من الذي يكره سماع صوت خالد ؟!! أنه أصبح ملاكاً .. يزداد إشراقاً يوماً بعد يوم ..
بعد أن أكمل دراسته .. و ها هو يدرس دراسات عليا .. و لكنه لن يباشر بالبحث عن وظيفة ..لأن والده أخبره الوظائف أصبحت متوافرة في بلده الأصلي .. و لا داعٍ للبحث عن وظيفة ..
و لكني فرحةٌ جداً .. لاسيما أن أبي أكمل بناء بيت آخر في إحدى مدن بلدنا الأصلي و سنهاجر له .. ما إن ستتدبر أمورنا .. و الذي أسعدني أن " خالد " سوف سيعود معنا أيضاً
..