الجزء السابع عشر
الفتى و أمي .. مشاحنات لن تنتهي ..
كنا جميعاً جالسون نتأمله .. و هو يحادث أسرته عن طريق الهاتف الخلوي الخاص لوالدي ..
كان يتحدث بهمس .. لكي لا نسمع شيئاً .. حسنٌ .. أتخفي أسرارك عني ..؟!!
هنا انتهى الملك من محادثة أسرته فأغلق الهاتف ..
و اتجه نحو السلم .. فاستوقفه والدي :" إلى أيـن ؟!! "
التفت الملك لوالدي باستغراب .. أردف :" إلى غرفتي .. أهذا ممنوع ؟!! "
نهض والدي من كرسيه و اقترب من الفتى و أمسك ذراعه :
" تعال و أجلس معنا قليلاً .. فأبنائي يودون سماع قصة حياتك و معاناتك .. "
معاناة ؟!! أتعذب و عانى الملك من قبــل ؟!!
رمقنا الفتى بنظرات حادة جداً .. ثم سحب ذراعه من قبضة يد والدي .. و اتجه نحو غرفته ..
ربــاه .. يال جمود هذا الفتى ..
عاد والدي و جلس على مقعده .. فإذا بأمي تصرخ به :" أنت تدللـه كثيراً ..أكثر من أبنائك "
" لا بأس يا أم سامر .. هو ضيف .. و سوف أرسله إلى ... "
قاطعته أمي بغضب :
" ترسله إلى العيادة النفسية ..و لكن متى ؟!! إلى متى سيظل عبئاً علينا .. نحن لا نستطيع الإنفاق على أنفسنا كما يجب .. فكيف يستوجب علينا الإنفاق على فتى جديد ؟!! "
ثم قالت أمي رافعة صوتها أكثر :" و لماذا لا يدفع والده لنا نقوداً جزاء إسكانه معنا ؟!! "
" بلى .. إن والده سيرسل لي مبلغاً نهاية كل شهر .. و هو سيرسل لابنه نقوداً ليشتري مستلزماته .. "
تنهدت أمـــي .. و أنا كنت خائفة .. قد وصلت أصوات أمي العالية لمسامع الفتى ..
+++++
في اليوم التالي .. عدت من المدرسة ( مشياً ) .. مع أخي سامر الذي كان يداعب كلبه ..
هناك كلب يحب سامر كثيراً .. يلاحقه ..و ينتظر منه إطعامه .. سامر لا يملك أصدقاء .. فيعتبر هذا الكلب .. صديقه الوحيد ..و ها هو سامر يخرج من حقيبته قطعة الخبر و يقدمها للكلب .. و هنا يبدأ الكلب بالتهام القطعة .. و يعود لمداعبة أخي ..إلى أن وصلنا للمنزل و لازال الكلب يلاحقنا ..
خاطبني سامر :" سوف أطعمه في المنزل .. يبدو عليه الجوع "
تنهدت :" يا إلهي ؟!! لم أرَ في حياتي شخصاً يحب إطعام الكلاب مثلك "
ضحك .. و ركض نحو المنزل و الكلب يلاحقه .. الكلب ضخم جداً ..
فتح سامر الباب .. فاندفع الكلب راكضاً إلى داخل المنزل ..
كانت أمي تنظف أرضية المنزل بالماء و الصابون .. فانزلق الكلب .. و اندفع اندفاعا قوياً ..
و يال خوفي .. فقد كان ( الملك ) و أبي يتحدثان أمام الكلب مباشرةً ..
ابتعد والدي عندما رأى الكلب يندفع نحوه .. و لكن الملك لم ينتبه إلى الكلب إلا بعد فوات الأوان ..
فقد اندفع الكلب دافعاً الفتى .. فهوى الفتى على الأرض ..و الكلب فوقه ..
هتف بخوف :" رباه .. ما هذا ؟!! "
الكلب بصراحة ضخم و مخيف .. و مؤكد أن الملك سيخافه ..
أغمض عينيه و صرخ بنا :" أبعدوه عني "
أخذ سامر يضحك ضحكاً جنونياً .. و أنا في صمت و خوف من الملك ..
هنا يبعد والدي الكلب عن الفتى .. فينهض .. و يهمس بغضب و هو ينظر إلى الكلب باشمئزاز :
" كيف تدخل الحيوانات منزلكم؟!! "
ضحك سامر و هو يمسح كلبه :" لم أعهدك تخاف الكلاب .. "
قال بغضب :" أنا لا أخاف هذا المخلوق القذر "
و اتجه نحو غرفته بغيظ ..
و هنا ضحكت أمي :" إذاً الفتى المغرور يخاف الكلاب "
و ضحك سامـر :" كاد يموت خوفاً "
حيث اقترب والدي من أمي و خاطبها :" غداً سأصطحب الأطفال للسوق "
" لمـــــــــــــــاذا ؟!! "
" لشراء ملابس خاصة للشتاء .. ففصل الشتاء اقترب .. و بدأ الجو يبرد "
قلت أنا :" و الفتى .. !! "
رفع والدي بيده ظرف و قال :" أرسل لي والده مبلغاً من المال ليشتري ملابساً للشتاء "
لابد بأنه سيشتري من أرقى المجمعات .. و نحن على العكس تماماً ..
+++
خرج والدي من المنزل .. و انشغل سامر بإطعام الكلب ..و الصغيرة نائمة .. و أمي ترتب الصالة ..
لماذا لا أذهب لأطمئن على الملك .. قد لا يزال خائفاً من الكلب ..تسللت إلى غرفته بهدوء ..طرقت الباب .. فسمعته :" أدخل "
فتحت الباب .. لأراه كالمعتاد .. متمدد على سريره .. اقتربت منه باسمة .. و هو عابس بوجهي ..
جلست على السرير و خاطبته مازحة :" لازلت خائفاً من الكلب ؟!! "
رمقني بنظرة حادة .. ثم عدل جلسته .. و عاد ينظر لي ..
فوجدتها فرصةً لأسمع قصة حياته و معاناته .. خاطبته :
" ما الذي جعلك تفترق عن أسرتك و تأتي للعيش معنا ؟!! "
أسند رأسه للخلف و خاطبني بتنهيدة :" آه .. أنها قصة طويلة .. طويلة .. "
اقتربت منه أكثر :" أحكها لي "
كنت أنا في ذهول و دهشة مما يقوله هذا الفتى .. و كأنه يحكي لي قصة خرافية مرعبة ..
غطى وجهه باللحاف .. و قال ..:" كل ذلك حدث لي .. "
صرخت به :" و لكن أنت المسيء .. لماذا فعلت ذلك بابنة عمك و أخيك و لماذا .... "
قاطعني مزيحاً اللحاف عن وجهه :" لا أدري .. كنت بلا إحساس .. كنت حقود جداً .. "
" و هل تشعر أنك أصبحت أفضل الآن "
هزَّ رأسه سلبياً :" لا أعلم "
همستُ :" ما أسمك يا فتى "
نظر لي باستغراب :" و ماذا تريدين من أسمي "
ضحكت مازحة :" لن أخطفه .. لا تخف "
نظر لي.. ثم همس :" خـالـد "
شهقت :" أسم جميـــل .. "
حملق بي :" و أنت ما أسمكِ "
ابتسمت :" زينــة .. "
أغمض عينيه و خاطبني :" أخرجي من الغرفة .. "
ما هذا ؟!! يطردني ؟!!
نهضت و ألقيت نظرة على الفتى الذي يغطي جسده باللحاف ..و خرجت من الغرفة ..
بحــزن كبير .. لم أكـن أتوقع أن حياته كانت تعيسة هكذا..أهذا ما يجعله جاف التعامل مع غيـره ..
ربـاه .. لا أريده أن يذهب ليعالج في المشفى ..هناك لن يهتموا به جيداً .. سوف أصر على بقائه ..
: + . + . + :
أمي كانت تحضر مستلزمات صنع الكعكة و تخاطب أخي سامر :
" سوف أصنع كعكة بالفراولة .. لأجلك و لأجل
زينة و هدى "
" و أبي ؟!! "
" أنه خارج المنزل و لن يعود إلا في المساء "
اقتربت من أمي قائلة :" و الفتى ؟!! "
قال أمي بانزعاج :" أوه .. لا تذكريني به .. دعيه يغرق في أحلامه .. لن يستيقظ أبداً "
قلت باستياء :" ألا تطيقينه يا أمي ؟!! "
تنهدت :" أوه .. لا تتكلمي عنه يا زينة .. أنه يغيظني كثيراً "
جلست بقرب سامر .. و أخذت أداعب أختي الصغيرة هدى .. و سامر يحل واجباته المدرسية ..
فخاطبته :" أين الكلب ؟! "
ابتسم ساخراً :" تركته يخرج من المنزل .. لأن إن بقى الكلب بيننا لن يخرج الفتى من غرفته خوفاً منه "
و ها هو الملك يطل علينا بنظرته تلك .. يرمق أخي سامر بنظرة لا تخلو من الغيظ ..ثم يتجاهله..
و أمي تراقب الفتى بغيظ .. أنها لا تطيقه ..
هو يقترب من إبريق الماء و يحمل كأساً ليصب له شيئاً من الماء .. و لكن كان الإبريق فارغاً ..
تلتفت يمنة و يسرة يبحث عن إبريق آخر ..
فأمسكت أمي بذراعه و سحبته إليها .. و سحبت من يده الكأس .. و أخذت تصب له ماءاً من إبريق بجانبها .. ثم ناولته الكأس ..
أمسك هو بالكأس .. و شرب جرعة منه .. ثم أبعد الكأس ليراقب أخي باحتقار ( أنه لا يطيق أخي )
و في الآن نفسه تراقب أمي الفتى بغيظ .. ثم تحادثه :" ما هو حال والدتك ؟!! هل حادثتها ؟!! "
نظر هو لأمي .. ثم حمل العصا التي بجانبه .. و أردف :" لا .. "
" لماذا ؟!! ألم تتصل بأسرتك ؟!!"
" بلى .. لكني لم أحادثها "
" لمــــــــــاذا ؟!! "
تنهد هو :" أنها لا تريد محادثتي .."
ابتسمت أمي :" هل أغظتها في شيء .."
سرح خالد لأفق بعيد .. فقالت أمي :" يبدو أنك أغظتها كثيراً .. لذلك هي تخلصت منك و أرسلتك لنا "
رمق خالد أمي نظرةً حادة .. ثم نظر للعصا التي بيده .. و همـس :
" يمكنني أن أغادر منزلكم هذا متى أشاء .. "
" إذاً لم لا تغادر الآن .. ؟!!"
نظر لأمي :" أوجودي يزعجكم ؟!! "
" بالتأكيــــد "
آه لقد جرحت أمي مشاعر الفتى كثيراً.. رباه..نظر خالد إلى العصا التي بيده .. و أمي تتابع صنع الكعكة ..
يدفع الفتى العصا ببطء نحو قالب الكعكة ..ترى .. ما الذي ينوي فعله ؟!!يتابع الفتى دفع العصا ببطء نحو القالب في غفلة من أمي ..ثم يدفع الفتى القالب بالعصا .. و أمي تنظر إليه :" مـ... "
و ما كادت أن تكمل جملتها حتى سقط القالب على الأرض و انكسر .. و تناثر خليط الكعك هنا و هناك ..رباه..
نظرت للفتى .. يبتسم .. و يمشي مغادراً المطبخ ..
رأيت في عيني أمي غضباً كبيراً ..
عضّت شفتيها .. و ركضت خلف الفتى .. استوقفته :" انتظر "
استدار و نظر إليها بابتسامة .. فخور بما فعله .. اقتربت منه أمي .. همست في غضب :
" مـن تظن نفســك ؟!! "
تابع مشيه نحو غرفته.. صعد السلم ..فركضت خلفه أمي :" هيه .. لن أدعك هذه المرة "
ركضت خلفه.. فاستدار لها .. و قال بتكبر :" أنا لا أحادث عجوزاً .. مثلك .. "
قبضت على قميصه بغضب .. دفعته نحو الجدار .. صرخت به :" أنا عجوز ؟!! أيها المريض العاق المجرم "
لأول مرة أرى أمي عصبية لهذه الدرجة .. حملق الفتى بأمي بغضب و حاول إبعادها عنه ..
و لكنها عصبية .. و الله الساتر ..( الله يعدي ها الهوشة على خير )
صرخة والدي كانت هي الإشارة المرور الحمراء الوحيدة التي أوقفت اندفاع أمي ..
توقفت أمي عن السب و النطق بالكلمات الجارحة و غيره .. و تركت قميص الفتى الذي كاد أن يمّزق ..
و التفتت لوالدي ببعض الخجل ..و الفتى يرتب قميصه و هو ينظر لأمي بنظرات حادة جداً .. جداً ..
نظر والدي للفتى قائلاً :" بني .. يمكنك دخول غرفتك "
رمق الملك أمي نظراتٍ لا تخلو من الغيظ .. ثم تابع طريقه نحو غرفته ..
و هنا وقفت أمي أمام والدي ( مستعدة للدفاع عن نفسها ),,صرخ والدي بها :" ما الذي فعلته ؟!! "
" أسمع يا أبا سامر .. هذا الفتى أولاً أسقط قالب الكعك عمداً .. ثم دعاني بالعجوز .. أنه يحتقرني و يحتقر ابني .. كيف لي أن أصمت .. أنه عبء علي ... "
" و تقومين بجرحه بهذه الكلمات ؟!! "
" هو جرحني أيضا بقوله أني عجوز .. "
اقترب والدي منها .. و قال :" أنه ضيف .. و إن أخبر والده أننا نسيء المعاملة له .. سيكون موقفي حرجاً جداً .. و خاصة أنني وعدت والده أن أهتم به لأنه مريض .. "
عضّت أمي شفتيها قهراً .. فقال والدي :" أم سامر .. أرجوك .. أذهبي و اعتذري للفتى لأن ... "
قاطعته أمي بغيظ :" أنا أذهب لذلك الفتى لأعتذر .. لا .. لا .."
" أرجوك .. كوني لطيفة مع الفتى أكثر .. تماماً كعمته .. عمته تدعى ذكرى.. و قد كانت لطيفة معه .. حتى أصبح هو الآخر لطيفاً معها .. "
كانت أمي غاضبة جداً .. و لكن والدي أقنعها أخيراً .. فصنعت أمي كعكة أخرى ..
و ها هي تقف أمام غرفة الفتى .. حاملة صحناً لقطعة كعكة ..هي تتظاهر باللطف .. و لكن نيران في قلبها لم تطفأ لحد الآن ..طرقت الباب .. فهتف الملك :" أدخــل "
فتحت أمي الباب .. و ألقت نظرة على الملك المتمدد على سريره ..
رمقها بنظرة احتقار و غيظ .. فاقتربت هي منه .. و وضعت الصحن على الطاولة الصغيرة التي بقرب السرير و قالت بمرح ( مصطنع ) :" صنعت كعكة أخرى .. هيا تذوقها .. و أخبرني برأيك "
و بكل كبرياء يشيح الفتى بوجهه عن والدتي ..
مسحت أمي شعره الكثيف .. و همست :" أنا آسفة يا بني .. "
و لازال الفتى مشيحاً وجهه عن أمي ..
عضت شفتيها قهراً .. ونهضت خارجة من الغرفة ..